الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما يحتاج إليه نديم الملك، وما يأخذ به نفسه، وما يلزمه
.
قالوا: مما يزيد النديم فى المحلّ تقدّما، وعند ملكه تمكّنا، أن يكون عالما بكل ما يتنافس الملوك ويتغالون فيه، من الرقيق المثمّن، وقيمة الجوهر النفيس، والآلات المحكمة، وأنواع الطيب والفرش، إلى غير ذلك من معرفة الخيل والسلاح. ولذلك قال الواصف نفسه [1] للفضل بن يحيى بن خالد يرغّبه فى اختصاصه بمنادمته فى شعر طويل:
لست بالناسك المشمّر ثوبي
…
هـ ولا الفاتك الخليع الوقاح
أبصر الناس بالجواهر [2] والخي
…
ل وبالخرّد الحسان الملاح
قالوا: ومن أبرد من النديم مجلسا وأكسف منه بالا إذا عرض على الملوك شىء من هذه الأعلاق فلم يحر جوابا ولا وجد عنده منه علما!.
ويستظرف من نديم السلطان أن يصف اللون الغريب من الطعام، والصوت البديع من الشعر، واللحن الشجى من الغناء. وقالوا: من لم يدر عشرة أصوات من الغناء ويحسن من غرائب الطبيخ عشرة ألوان، لم يكن عندهم ظريفا [3] كاملا، ولا نديما جامعا [4] .
وأما ما يأخذ به نفسه- فقد قالوا: ينبغى أن يكون نديم السلطان معتدل الأخلاق، سليم الجوارح، طيّب المفاكهة والمحادثة، عالما بأيام الناس ومكارم
[1] الواصف نفسه: هو أبان بن عبد الحميد اللاحقّى.
[2]
فى ديوان أبى نواس (طبع المطبعة العمومية بمصر سنة 1898 م) : «أبصر الناس بالجوارح
…
» .
[3]
فى الأصل: «ظرفا» .
[4]
فى الأصل: «خائعا» وهو تحريف.
أخلاقهم، راوية للنادر من الشعر والمثل السائر، متصرّفا فى كل فنّ، قد أخذ من الخير والشر بنصيب؛ فإن مالت شهوة الملك إلى ضرب ما وجد عنده منه علما.
ويلزمه أيضا أن يحضر فى الزىّ الظاهر الذى يعرف به، ويشهد فيه المجالس الحافلة من غير أن يتشهر [1] . فإن شاء الملك أن يغيّر حاله وزيّه ويكرمه بشىء من ثيابه، حسن أن يلبس ذلك من وقته حتى ينقضى المجلس، ولم يحسن أن يجلس فيه ظاهرا فى مجلس ثان؛ لأنه شىء اختاره الملك فى ساعة بعينها لا فى كل أوقاته. وأما العمامة والخفّ فلا يخلو منهما. والغرض من ذلك إجلال السلطان عن مشاركته فيما اتسع له من التبدّل والتخيّر فى الزىّ الذى لا ثقل عليه منه، والانفراد به عمن هو دونه. وهذه كانت عادة ملوك الأعاجم؛ لأنهم رسموا لكل طبقة من طبقات أهل مملكتهم برسم من الزىّ ليتميزوا به، ولا يتشبه سوقة بملك، ولا مشروف بذى الشرف، ولا تابع برئيس [2] .
ومما يجب أن يأخذ به نفسه الإسراع فى الخطو إذا كان بحيث يراه الملك، ليكون مشيه إرقالا ولا يكون اختيالا.
ومما يلزمه أن يتحفّظ منه ويروض به نفسه ألّا يصبّحه ولا يمسّيه ولا يشمّته ولا يستخبره. وإنما ترك ذلك كله لما فيه من تكلّف الجواب. وأوّل من سنّ ذلك وحمل الناس عليه الفضل بن الربيع.
[1] يتشهر: من الشهرة وهى ظهور لشىء فى شنعة. ولم نجد هذا الفعل الذى ورد بالأصل فى كتب اللغة التى بين أيدينا، فلعله تحريف عن «يشتهر» أو «يشهر» .
[2]
الذى فى الأصل: «ولا يتشبه سوقة بملك ولا مشروف بذى الشرف ولا تابع بدنىء الشرف ولا تابع برئيس» والذى ظهر لنا أن «ولا تابع بدنىء الشرف» زيادة وقعت سهوا من الناسخ.
وأما الآداب فى محادثة السلطان- فقد قالوا: من حق الملك إذا حضر سمّاره ومحدّثوه ألّا يبتدئه أحد حديثا. فإن بدأ هو بالحديث صرف من حضره ذهنه وفكره نحوه. فإن كان يعرف الحديث الذى حدّث به الملك استمعه استماع من لم يدره [1] ولم يعرفه، وأظهر السرور بفائدة الملك والاستبشار بحديثه؛ فإن فى ذلك أمرين:
أحدهما ما يظهر من حسن أدبه. والآخر أن يعطى الملك حقه بحسن الاستماع. وإن كان لم يعرفه فالنفس إلى فوائد الملوك والحديث عنهم أتوق [2] منها إلى فوائد السّوقة ومن أشبهها. وقد كان روح بن زنباع يقول: إذا أردت أن يمكنك الملك من أذنه فأمكن أذنك من الإصغاء إليه إذا حدّث. وكان أسماء بن خارجة يقول: ما غلبنى أحد قطّ غلبة رجل يصغى إلى حديثى.
ومن حق الملك إذا قرّب إنسانا أو أنس به حتى يهازله ويضاحكه، ثم دخل عليه، أن يدخل دخول من لم يجر بينهما أنس قط، وأن يظهر من الإجلال والتعظيم أكثر مما كان عليه؛ فإن أخلاق الملوك ليست على نظام. ومجالستهم ومحادثتهم تحتاج إلى سياسة وتحفّظ من [3] وضع الحديث والمثل والشعر فى موضعه. وإذا حدّث الملك بحديث وفرغ منه فنظر إلى بعض جلسائه، فقد أذن له أن يحدّثه بنظير ذلك الجنس من الحديث، وليس له أن يأخذ فى غير جنس حديثه. فإذا فرغ من ذلك الحديث فليس له أن يصله بحديث آخر وإن كان شبيها للحديث الأوّل. فإن رأى الملك قد
[1] الذى فى التاج (طبعة المطبعة الأميرية ص 53) : «استماع من لم يدر فى حاسة سمعه قط ولم يعرفه» .
[2]
فى «التاج» : «أقرم وأشهى منها
…
» .
[3]
من وضع الحديث
…
الخ: «من» بيانية، وليست متعلقة ب «تحفظ» فان ذلك يؤدى الى خطأ فى المعنى.
أقبل عليه بوجهه وأصغى إلى حديثه فليمض فيه حتى يكمله ويأتى على آخره. وليس له- إن قطع الملك استماع حديثه بشغل يعرض له- أن يمرّ على كلامه، ولكن ينصت مطرقا. فإن اتصل شغل الملك، ترك الحديث. فإن فرغ ونظر إليه، فقد أذن له فى إتمامه وإعادته، وإلّا فلا.
ومن حق الملك ألّا يضحك بحضرته، لأن الضحك جرأة عليه؛ وألّا يعاد عليه الحديث مرتين وإن طال بينهما الدهر، إلا أن يذكره الملك، فإن ذكره فقد أذن له فى إعادته. وكان روح بن زنباع يقول: أقمت مع عبد الملك بن مروان سبع عشرة سنة من أيامه ما أعدت عليه حديثا. وكان الشّعبىّ يقول: ما حدّثت بحديث مرتين لرجل بعينه قط. وكان أبو العبّاس السفّاح يقول: ما رأيت رجلا أغزر علما من أبى بكر الهذلىّ لم يعد علىّ حديثا قط. وكان أبو بكر الهذلىّ يقول:
حدّثت المنصور بأكثر من عشرة آلاف حديث، فقال لى ليلة- وقد حدّثته عن يوم ذى قار وقد اضطررت إلى التكرار-: أتعيد الحديث؟ فقلت: ما هذا مما مر يا أمير المؤمنين؛ فقال: أما تذكر ليلة الرعد والأمطار وأنت تحدّث بحديث يوم ذى قار فقلت لك: ما يوم ذى قار بأصعب من هذه الليلة؟
ومن حق المحادثة وواجب المؤانسة ترك المراء؛ هذا مع الأكفاء فكيف مع الملوك والرؤساء! وقالوا: المماراة تفسد الصداقة القديمة، وتحلّ العقدة الوثيقة وتكسب الإحنة والبغضاء. وقال الصاحب بن عبّاد: للمحدّث على السامع ثلاث:
كتمان السر، وإصغاء الذهن، وترك التحفّظ. هذا ما يلزم نديم الملك.
وأما مؤاكله، فقد اصطلح الناس على إجلال رؤسائهم وملوكهم عن غسل أيديهم بحضورهم، واستجازوا ذلك مع نظرائهم ومن يسقط التحفّظ بينهم وبينهم.