الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسرّك أنى نلت ما نال جعفر
…
من الملك أو ما نال يحيى بن خالد
فقالت: بلى والله! فقال:
وأن أمير المؤمنين أغصّنى
…
مغصّهما بالمرهفات البوارد
فقالت: لا والله! فقال:
ذرينى تجئنى ميتتى مطمئنّة
…
ولم أتجشّم هول تلك الموارد
فإنّ جسيمات الأمور منوطة
…
بمستودعات فى بطون الأساود
الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الثانى
فى قادة الجيوش، والجهاد، ومكايد الحروب، ووصف الوقائع، والرباط، وما قيل فى أوصاف السلاح.
ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم
قال الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم الحليمىّ الجرجانىّ الشافعىّ فى كتابه المترجم ب «المنهاج» ما مختصره ومعناه: إذا أنفذ الإمام جيشا أو سريّة فينبغى أن يؤمّر عليهم رجلا صالحا أمينا محتسبا، لأن القوم إليه ينظرون.
فإذا لم يكن خيّرا فى نفسه كانت أعماله بحسب سريرته وكانت أعمال القوم بحسبها مضاهية لها، فإن رأوا منه كسلا كسلوا، وإن رأوا منه فشلا فشلوا، وإن ثبت ثبتوا، وإن رجع رجعوا، وإن جنح إلى السلّم جنحوا، وإن جدّ جدّوا؛ فهم
فى تبعه كالمأموم مع الإمام. والعدوّ إنما يفرق من رئيس القوم، فإذا سمع بذى ذكر كان ذلك أهيب له من أن يسمع بخامل لا صيت له. واذا سمع بشجاع غير فرّار كان آيس من مقاومته، منه إذا سمع بفشئل جبان. وإذا سمع بليّن يطمع فى خداع مثله كان أجرأ [1] على استقباله، منه إذا سمع بصلب فى الدّين شديد فى البأس. فيكون [2] ما يكون من العدوّ من الإقدام والإحجام بحسب ما يبلغه من حال رأس المسلمين.
فلهذين السببين وجب أن يكون الرأس مستصلحا جامعا لأسباب الغناء والكفاية.
والله تعالى أعلم.
واما ما يلزم قائد الجيش- قال أبو الحسن الماوردىّ فى كتابه المترجم ب «الأحكام السلطانية» ما معناه: إن أمير الجيش يلزمه ستة أحكام:
الأوّل منها- مسيره بالجيش. وعليه فى السير بهم سبعة حقوق: أحدها الرّفق بهم فى السير الذى يقدر عليه أضعفهم وتحفظ به قوّة أقواهم. ولا يجدّ السير فيهلك الضعيف ويستفرغ جلد القوىّ.
فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا [3] فيه برفق فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى»
. والثانى أن يتفقّد خيلهم التى يجاهدون عليها وظهورهم التى يمتطونها، فلا يدخل فى خيل الجهاد قحما [4] كبيرا، ولا ضرعا [5] صغيرا، ولا حطما [6] كسيرا، ولا أعجف رازحا [7] هزيلا؛ لأنها لا تغنى، وربما
[1] فى الأصل: «أحرى» والمعنى يقتضى ما أثبتنا.
[2]
فى الأصل: «ليكون» باللام، ولكن الفاء هى المناسبة للسياق.
[3]
فى الجامع الصغير «فأوغل
…
» وبقية الحديث كما هنا.
[4]
القحم (بالفتح) : الكبير السن جدا.
[5]
الضرع: المهر الذى لا يقوى على العدو.
[6]
الحطم: الفرس الذى تهدّم لطول عمره.
[7]
الرازح: الساقط من الإعياء.
كان ضعفها وهنا. ويتفقّد ظهور المطايا والركوب، فيخرج منها ما لا يقدر على المسير ويمنع من أن تحمّل زيادة على طاقتها. والثالث أن يراعى من معه من المقاتلة. وهم صنفان: مسترزقة، وهم أصحاب الديوان من أهل الفىء بحسب الغناء والحاجة؛ ومتطوّعة، وهم الخارجون عن الديوان من البوادى والأعراب وسكّان القرى والأمصار الذين خرجوا فى النّفير الذى ندب الله اليه بقوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا
قيل معناه:
شبّانا وشيوخا، وقيل أغنياء وفقراء، وقيل ركبانا ومشاة، وقيل ذا عيال وغير [ذى [1]] عيال. وهؤلاء يعطون من الصدقات دون الفىء. والرابع أن يعرّف على الفريقين العرفاء وينقّب عليهم النقباء، ليعرف من عرفائهم ونقبائهم أحوالهم ويقربوا [2] عليه اذا دعاهم. وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فى مغازيه. والخامس أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به ليصيروا به مميّزين. فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين:«يا بنى عبد الرحمن» وشعار الخزرج: «يا بنى عبد الله» وشعار الأوس: «يا بنى عبيد الله» وسمّى خيله: «خيل الله» . والسادس أن يتصفّح الجيش ومن فيه، فيخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين وإرجاف بالمسلمين أو عينا عليهم للمشركين. فقد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبىّ بن سلول فى بعض غزواته لتخذيله المسلمين. قال الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
أى لا يفتن بعضكم [3] بعضا. والسابع ألّا يمايل [4] من ناسبه
[1] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[2]
فى الأصل والأحكام السلطانية «ويقربون» والظاهر أنه معطوف على «ليعرف
…
» .
[3]
كذا فى الأحكام السلطانية، وهو المتعين، لأنه تفسير لقوله «وقاتلوا
…
» وهو لمخاطب، فيكون مفسره كذلك. وفى الأصل «بعضهم» .
[4]
يمايل: يمالئ.
أو وافق رأيه ومذهبه على من باينه فى النسب أو خالفه فى رأى ومذهب، فيظهر من المباينة ما تفرّق به الكلمة الجامعة تشاغلا بالتقاطع والاختلاف. فقد أغضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين وهم أضداد فى الدين، وأجرى عليهم حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر بهم العدد وتكاملت بهم العدّة، ووكلهم فيما أضمروه من النفاق إلى الله تعالى. قال الله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
قيل فيه: الدولة، وقيل: القوّة.
والثانى- تدبير الحرب. قال الماوردىّ: والمشركون فى دار الحرب صنفان، صنف منهم بلغتهم دعوة الإسلام فامتنعوا منها وتأبّوا [1] عليها. فأمير الجيش مخيّر فى قتالهم بين أن يبيّتهم ليلا ونهارا بالقتل والتحريق، وبين أن ينذرهم الحرب ويصافّهم فى القتال. والصنف الثانى لم تبلغهم دعوة الإسلام وهم قليل جدّا، إلا أن يكونوا وراء من يلى هذه البلاد الإسلامية من الترك والروم فى مبادئ بلاد المشرق وأقاصى المغرب، فيحرم عليه الإقدام على قتالهم غرّة وبياتا، وأن يبدأهم بالقتال قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوّة وظهور الحجة ما يقودهم إلى الإجابة. فإن أقاموا على الكفر بعد ظهورها لهم، حاربهم وصاروا فيه كمن بلغتهم الدعوة. قال الله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
معناه إلى دين ربّك بالنبوّة والقرآن. فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بحججه وقتلهم غرّة وبياتا، ضمن ديات نفوسهم. وهى على الأصح من مذهب الشافعى كديات المسلمين. وقيل: بل تكون كديات الكفار على اختلافها. وإذا تقابلت الصفوف فى الحرب جاز لمن قاتل من المسلمين أن يعلّم بما
[1] كذا فى الاحكام السلطانية، وفى الأصل:«وقاتلوا عليها» .
يشتهر به فى الصفوف ويتميّز به من بين الجيش، وأن يركب الأبلق إن كانت خيول الناس دهما أو شقرا.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: «سوّموا فإنّ الملائكة قد سوّمت [1] »
. ويجوز أن يجيب إلى البراز إذا دعى إليه؛ فقد دعا أبىّ بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز يوم أحد فبرز اليه فقتله النبى صلى الله عليه وسلم. ويجوز أيضا للمقاتل من المسلمين أن يدعو إلى البراز [2] لما فيه من إظهار القوّة فى دين الله تعالى بعد أن يعلم من نفسه أن لن يعجز عن مقاومة خصمه ويقدر على دفع عدوّه. ولا يجوز ذلك لزعيم الجيش، فإنه إذا طلب البراز وفقد، أثّر ذلك فى المسلمين؛ وربما يفضى بهم عدمه إلى الهزيمة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما برز لثقته بنصر الله وإنجاز وعده، وليس ذلك لغيره. ويجوز لأمير الجيش إذا حضّ على الجهاد أن يعرّض للشهادة من الراغبين فيها من يعلم أنّ قتله فى المعركة مما يحرّض المسلمين على القتال حميّة له.
حكى موسى بن إسحاق أن النبىّ صلى الله عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر فحرّض الناس على الجهاد ونفّل كلّ امرئ [منهم [3]] ما أصاب، وقال:«والذى نفسى بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة»
؛ فقال عمير بن الحمام من بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن: نج نج! ما بقى
[1] اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا. وفى الأصل «تسوّموا
…
» وما أثبتناه رواية النهاية لابن الأثير واللسان.
[2]
كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل: «إلى البراز يوم أحد لما فيه
…
الخ» وظاهر أن كلمة «يوم أحد» زيدت هاهنا سهوا من الناسخ.
[3]
الزيادة عن الطبرى قسم أوّل ج 5 ص 1321 طبع أوربا. ونفل الإمام الجند: جعل لهم ما غنموا.
بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء القوم، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه وتقدّم وقاتل القوم حتى قتل- رحمه الله وهو يقول:
ركضا إلى الله بغير زاد
…
إلا [1] التّقى وعمل المعاد
والصبر فى الله على الجهاد
…
وكلّ زاد عرضة النّفاد
غير التّقى والبرّ والرشاد
ويجوز للمسلم أن يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محاربا وغير محارب.
واختلف فى قتل شيوخهم ورهبانهم من سكان الصوامع والديارات. فمن منع من قتلهم قال: إنهم موادعون. ومن قال بقتلهم وإن لم يقاتلوا [قال [2]] : لأنهم ربما أشاروا برأى يكون فيه إنكاء للمسلمين. وقد قتل دريد بن الصّمّة فى حرب هوازن- وهو يوم حنين- وقد جاوز مائة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراه فلم ينكر قتله؛ وكان يقول حين قتل:
أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى
…
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلمّا عصونى كنت منهم وقد أرى
…
غوايتهم لا أننى غير مهتدى [3]
ولا يجوز قتل النساء والولدان فى حرب ولا غيرها ما لم يقاتلوا؛ لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل العسفاء والوصفاء- والعسفاء: المستخدمون، والوصفاء: المماليك-. فإن قاتل النساء والولدان قوتلوا مقبلين ولم يقتلوا مدبرين. وإذا تترّسوا فى الحرب بنسائهم وأطفالهم عمد قتلهم
[1] فى الأصل: «الى» والتصويب عن الأحكام السلطانية والطبرى.
[2]
زيادة يقتضيها سياق الكلام.
[3]
فى ديوان الحماسة لأبى تمام، شرح التبريزى طبع مدينة «بن» بأوربا: «
…
وقد أرى غوايتهم وأننى غير مهتدى» .
وتوقّى قتل النساء والأطفال، [فان لم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل النّساء والأطفال [1]] جاز، ولو تترّسوا بأسرى المسلمين ولم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسارى لم يجز قتلهم، فإن أفضى الكفّ عنهم إلى الإحاطة بالمسلمين، توصّلوا إلى الخلاص منهم كيف أمكنهم وتحرّزوا أن يعمدوا قتل مسلم؛ ويجوز عقر خيلهم من تحتهم إذا قاتلوا عليها؛ ومنع بعض الفقهاء من عقرها. وليس لأحد من المسلمين أن يعقر فرس نفسه، لأن الخيل من القوّة التى أمر الله تعالى بإعدادها فى جهاد عدوّه. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.
ولا احتجاج بعقر جعفر بن أبى طالب فرسه يوم مؤتة، فإنه اقتحم بفرس له شقراء حتى التحم القتال ثم نزل عنها وعقرها وقاتل حتى قتل رضى الله عنه، وهو أوّل رجل من المسلمين عقر فرسه فى الإسلام، وهو إنما عقر فرسه بعد أن أحيط به، فعقره لها خشية أن يتقوّى بها المشركون على المسلمين، فصار عقرها كعقر خيولهم.
والثالث- ما يلزم أمير الجيش فى سياستهم. والذى يلزمه فيها عشرة أشياء:
أحدها: حراستهم من غرّة يظفر بها العدوّ منهم، وذلك بأن يتتبّع المكامن فيحفظها عليهم ويحوط سوادهم بحرس يأمنون به على نفوسهم ورحالهم [2]، ليسكنوا فى وقت الدّعة ويأمنوا ماوراءهم فى وقت المحاربة. والثانى: أن يتخيّر لهم موضع نزولهم لمحاربة العدوّ، وذلك أن يكون أوطأ الأرض مكانا وأكثرها مرعى وماء [3] وأحرسها أكنافا وأطرافا، ليكون أعون لهم على المنازلة وأقوى لهم على المرابطة. والثالث: إعداد ما يحتاج الجيش [إليه [4]] من زاد وعلوفة تفرّق عليهم فى وقت الحاجة، لتسكن نفوسهم
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.
[2]
فى الأصل «رجالهم» والتصويب عن الأحكام السلطانية.
[3]
فى الأصل «ودماء» وهو تحريف، والتصحيح عن الأحكام السلطانية.
[4]
التكملة من الأحكام السلطانية.
إلى مادة يستغنون بها عن السعى فى تحصيلها، وتتوفّر دواعيهم على منازلة العدوّ. والرابع:
أن يعرف أخبار عدوّه حتى يقف عليها، ويتصفّح أحوالهم [حتى يخبرها [1]] ليسلم من مكرهم ويلتمس الغرّة فى الهجوم عليهم. والخامس: ترتيب الجيش فى مصافّ الحرب، والتعويل فى كل جهة على من يراه كفئا [لها، ويتفقد الصفوف من الخلل فيها، ويراعى كل جهة [2]] يميل العدوّ عليها بمدد يكون عونا لها. والسادس: أن يقوّى نفوسهم بما يشعرهم من الظفر ويخيّل إليهم من أسباب النصر، ليقلّ العدوّ فى أعينهم فيكونوا عليه أجرأ. قال الله عز وجل: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ
. والسابع: أن يعد أهل الصبر والبلاء منهم بثواب الله إن كانوا من أهل الآخرة، وبالجزاء والنّفل من الغنيمة إن كانوا من أهل الدنيا.
والثامن: أن يشاور ذوى الرأى فيما أعضل، ويرجع إلى أهل الحزم فيما أشكل؛ ليأمن الخطأ ويسلم من الزلل. وقد تقدّم ذكر ما فى المشورة من البركة والخير.
والتاسع: أن يأخذ جيشه بما أوجب الله تعالى من حقوقه وأمر به من حدوده، حتى لا يكون منهم تجوّز فى دين الله [ولا تحيف [3] فى حق] ، فإن من جاهد عن الدين كان أحق الناس بالتزام أحكامه.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انهوا جيوشكم عن الفساد فإنه ما فسد جيش قطّ إلا قذف الله فى قلوبهم الرّعب وانهوا جيوشكم عن الزنا فإنه ما زنى جيش قط إلا سلّط الله عليهم الموتان [4]
[1] الزيادة عن الأحكام السلطانية ص 41.
[2]
التكملة عن الأحكام السلطانية.
[3]
التكملة عن الأحكام السلطانية.
[4]
فى الأصل: «
…
إلا سلط الله عليهم الوتان والموتان» ولعل كلمة «الوتان» زيدت سهوا من الناسخ، فإنها كلمة مهملة. وقد ورد الحديث فى الأحكام السلطانية خاليا منها كما أوردناه. والموتان (بالضم ويفتح) : الموت الكثير الوقوع.
وانهوا جيوشكم عن الغلول [1] فإنه ما غلّ جيش قطّ إلا قذف الله الرعب فى قلوبهم»
. وقال أبو الدرداء: يأيها الناس، عمل صالح قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم.
والعاشر: ألّا يمكّن أحدا من جيشه أن يتشاغل بتجارة أو زراعة ليصرفه [2] الاهتمام بها عن مصابرة العدوّ وصدق الجهاد.
روى عن نبىّ من أنبياء الله تعالى أنه قال: «لا يغزون معى من بنى بناء لم يكمله ولا رجل تزوّج امرأة لم يدخل بها ولا رجل زرع زرعا لم يحصده [3] »
. والرابع- ما يلزم المجاهدين معه من حقوق الجهاد. وهو ضربان: أحدهما ما يلزمهم فى حق الله تعالى؛ والثانى ما يلزمهم فى حق الأمير عليهم.
فأما اللازم لهم فى حق الله تعالى فأربعة أشياء. أحدها: مصابرة العدوّ عند التقاء الجمعين بألّا ينهزم عنه من مثليه فما دون ذلك. وقد كان الله عز وجل فرض فى أوّل الإسلام على كل مسلم أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
. ثم خفّف الله عنهم عند قوّة الإسلام وكثرة أهله فأوجب على كل مسلم لاقى العدوّ أن يقاتل رجلين منهم، فقال تعالى:
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
فحرّم على كل مسلم أن ينهزم من مثليه إلا لإحدى حالتين: إما أن يتحرّف لقتال فيولّى لاستراحة أو لمكيدة ويعود الى قتالهم؛ وإما أن يتحيّز الى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم. قال الله تعالى:
[1] الغلول: الخيانة فى المغنم.
[2]
كذا بالأصل، ويظهر أن سياق الكلام يقتضى «فيصرفه» بالفاء.
[3]
كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل:«ولا رجل زرع زرعا ليحصده» .
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
قال: وسواء قربت الفئة التى يتحيز إليها أو بعدت. فقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لفلّ [1] القادسيّة حين انهزموا اليه: أنا فئة كل مسلم. ويجوز اذا زادوا على مثليه ولم يجد الى المصابرة سبيلا أن يولّى عنهم غير متحرّف لقتال ولا متحيّز الى فئة.
هذا مذهب الإمام الشافعى رحمه الله. واختلف أصحابه فيمن عجز عن مقاومة مثليه وأشرف على القتل هل يجوز انهزامه، فقالت طائفة: لا يجوز انهزامه عنهم وإن قتل، للنص. وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يولّى ناويا أن يتحرّف لقتال أو يتحيّز الى فئة ليسلم من القتل ومن إثم الخلاف؛ فإنه إن عجز عن المصابرة فلا يعجز عن هذه النية. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا التفصيل، والنصّ فيه منسوخ، وعليه أن يقاتل ما أمكنه وينهزم إذا عجز وخاف القتل. والثانى من حقوق الله تعالى: أن يقصد بقتاله نصرة دين الله تعالى وإبطال ما خالفه من الأديان، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فيكون بهذا الاعتقاد حائزا لثواب الله تعالى ومطيعا له فى أوامره ونصرة دينه ومستنصرا على عدوّه [ليستسهل ما لاقى [2]] فيكون أكثر ثباتا وأبلغ نكاية. ولا يقصد بجهاده استفادة المغنم فيصير من المتكسّبين لا من المجاهدين. والثالث من حقوق الله تعالى: أن يؤدّى الأمانة فيما حازه من الغنائم ولا يغلّ منها شيئا حتى تقسم بين جميع الغانمين ممن شهد الوقعة وكانوا على العدوّ يدا، لأن لكل واحد منهم فيها حقا. قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
. والرابع من حقوق الله تعالى: ألّا يمايل من المشركين ذا قربى ولا يحابى فى نصرة الله تعالى [ذا مودّة [3]] ، فإن حق الله
[1] قوم فلّ: منهزمون.
[2]
زيادة من الأحكام السلطانية.
[3]
فى الأصل فى مكان التكملة غير واضح، وهى عن «الأحكام السلطانية» .
أوجب ونصرة دينه ألزم. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ
. نزلت الآية فى حاطب بن أبى بلتعة وقد كتب كتابا إلى أهل مكة حين همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم يعلمهم فيه بالخبر وأنفذه مع سارّة- مولاة لبنى المطلب- فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأنفذ عليّا والزبير فى أثرها، فأدركاها وأخذا الكتاب من قرون رأسها، فدعا النبىّ صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال:«ما حملك على ما صنعت» ؛ فقال: والله يا رسول الله إنى لمؤمن بالله ورسوله، ما كفرت ولا بدّلت ولكنى امرؤ ليس لى فى القوم أصل ولا عشيرة وكان لى بين أظهرهم أهل وولد فصانعتهم [1] عليهم؛ فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى مبيّنا فى أثناء السيرة النبوية عند ذكرنا لغزوة الفتح، فتأمله هناك تجده.
وأما ما يلزمهم فى حق الأمير عليهم فأربعة أشياء. أحدها: التزام طاعته والدخول فى ولايته؛ لأن ولايته عليهم انعقدت، وطاعته بالولاية وجبت. والثانى: أن يفوّضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره، حتى لا تختلف آراؤهم فتختلف كلمتهم ويفترق جمعهم. قال الله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
فجعل تفويض الأمر إلى وليّه سببا إلى حصول العلم وسداد الأمر.
فإن ظهر لهم صواب خفى عليه بيّنوه له وأشاروا به عليه. والثالث: أن يسارعوا إلى امتثال أمره، والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من لوازم طاعته. فإن توقّفوا عما أمرهم به أو أقدموا على ما نهاهم عنه ورأى تأديبهم على المخالفة بحسب أفعالهم، فعل.
[1] فى الأصل «فطالعتهم بذلك» وما أثبتناه عن تاريخ الكامل لابن الأثير (ج 3 ص 184 طبع مدينة «ليدن» ) وعن الطبرى (القسم الأوّل ص 1627 طبع أوربا) وعن السيرة النبوية لابن هشام (ص 810 طبع أوربا) وعن شرح القسطلانى فانه بعد أن شرح رواية البخارى للحديث فى كتاب الجهاد قال «وفى رواية ابن إسحاق: وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم» .
ولا يغلّظ فينفّر. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
. والرابع: ألّا ينازعوه فى الغنائم إذا قسمها فيهم، ويتراضوا به بعد القسمة. والخامس من أحكامها: مصابرة الأمير على قتال العدوّ ما صبر وإن تطاولت به المدّة. ولا يولّى عنهم وفيه قوّة. قال الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
. قيل فى تأويل هذه الآية: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدوّ، ورابطوا بملازمة [1] الثغر.
فإذا كانت مصابرة القتال من حقوق الجهاد فهى لازمة حتى يظفر بخصلة من أربع خصال:
إحداهن- أن يسلموا فيصير لهم بالإسلام مالنا وعليهم ما علينا، ويقرّوا على ما ملكوا من بلاد وأموال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقّها»
. وتصير بلادهم إذا أسلموا دار إسلام يجرى عليها حكم الإسلام. ولو أسلم منهم فى معركة الحرب طائفة، قلّت أو كثرت، أحرزوا بالإسلام ما ملكوا فى دار الحرب من أرض ومال. فإن ظهر على دار الحرب لم تغنم أموال من أسلم. وقال أبو حنيفة:
يغنم ما لا ينقل من أرض ودار، ولا يغنم ما ينقل من مال ومتاع.
والخصلة الثانية- أن يظفّره [2] الله تعالى بهم مع مقامهم على شركهم، فيسبى دراريهم ويغنم أموالهم ويقتل من لم يحصل فى الأسر [3] منهم. ويكون مخيّرا فى الأسرى
[1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل:«ورابطوا ملازمة الثغر» .
[2]
كذا فى الأحكام السلطانية، وهو الذى يستقيم به الكلام. وفى الأصل: «ان ظفره الله
…
» .
[3]
كذا فى الأحكام السلطانية، وهو الذى يلتئم مع ما بعده. وفى الأصل: «من لم يحصل فى القتل
…
» .
فى استعمال الأصلح من أربعة أمور. أحدها: أن يقتلهم صبرا بضرب العنق. والثانى:
أن يسترقّهم ويجرى عليهم أحكام الرّقّ من بيع أو عتق. والثالث: أن يفادى بهم على مال أو أسرى. والرابع: أن يمنّ عليهم ويعفو عنهم. قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ
معناه الأسر [1] . ثم قال:
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها.
والخصلة الثالثة- أن يبذلوا مالا على المسالمة والموادعة، فيجوز أن يقبله منهم ويوادغهم عليه. وهو على ضربين. أحدهما: أن يبذلوه لوقتهم ولا يجعلوه خراجا مستمرّا. فهذا المال غنيمة لأنه مأخوذ بإيجاف خيل وركاب، فيقسم بين الغانمين، ويكون ذلك أمانا لهم فى الانكفاف [2] عن قتالهم فى هذا الجهاد، ولا يمنع من جهادهم فيما بعد. والضرب الثانى: أن يبذلوه فى كل عام، فيكون خراجا مستمرّا، ويكون الأمان به مستقرّا. والمأخوذ منهم فى العام الأوّل غنيمة تقسم بين الغانمين، وما يؤخذ فى الأعوام المستقبلة يقسم فى أهل الفىء. ولا يجوز أن يعاود جهادهم ما كانوا مقيمين على بذل المال، لاستقرار الموادعة عليه. وإذا دخل أحدهم إلى دار الإسلام، كان له بعقد الموادعة الأمان على نفسه وماله. فإن منعوا المال زالت الموادعة وارتفع الأمان ولزم [3] الجهاد كغيرهم من أهل الحرب. وقال أبو حنيفة: لا يكون منعهم من مال الجزية والصلح نقضا لأمانهم، لأنه حق عليهم فلا ينتقض العهد بمنعهم منه كالديون.
[1] فى الأصل: «معناه بالأسر، بزيادة الباء.
[2]
كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «فى الانكفاء
…
» .
[3]
فى الأصل: «ولزوم الجهاد
…
» وهو تحريف، والتصويب عن الأحكام السلطانية.
والخصلة الرابعة- أن يسألوا الأمان والمهادنة؛ فيجوز اذا تعذّر الظفر بهم وأخذ المال منهم أن يهادتهم على المسالمة فى مدّة مقدّرة تعقد الهدنة [عليها اذا كان الامام قد أذن له فى الهدنة [1]] أو فوّض اليه الأمر. فقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية عشر سنين. ويقتصر فى مدّة الهدنة على أقلّ ما يمكن، ولا يجاوز بأكثرها عشر سنين. فإن هادنهم أكثر منها بطلت الهدنة فيما زاد عليها، ولهم الأمان فيها الى انقضاء مدّتها لا يجاهدون فيها من غير إنذار. [فإن نقضوه صاروا حربا يجاهدون من غير إنذار [1]] فقد نقضت قريش صلح الحديبية، فسار اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح محاربا. واذا نقضوا عهدهم فلا يجوز قتل من فى أيدينا من رهائنهم. وقد نقض الروم عهدهم فى زمان معاوية وفى يده رهائن فامتنع المسلمون جميعا من قتلهم وخلّوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر.
وإذا لم يجز قتل الرهائن لم يجب [2] إطلاقهم ما لم يحاربوا. فإن حاربونا وجب إطلاق رهائنهم وإبلاغ الرجل منهم مأمنهم وإيصال النساء والأطفال والذرارى الى أهليهم.
ويجوز أن يشترط لهم فى عقد الهدنة ردّ من أسلم من رجالهم اليهم. فإذا أسلم أحدهم ردّ اليهم إن كانوا مأمونين على دمه، ولم يردّ إليهم [3] إن لم يؤمنوا عليه. ولا يشترط ردّ من أسلم من نسائهم، لأنهنّ ذوات فروج محرّمة. فإن شرط ردّهن لم يجز أن يرددن [4] ؛ ودفع الى أزواجهنّ مهورهنّ اذا طلبن.
ولا تجوز المهادنة لغير ضرورة تدعو الى عقدها، وتجوز الموادعة أربعة أشهر فما دونها ولا يزيد عليها.
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.
[2]
فى الأحكام السلطانية «لم يجز إطلاقهم
…
» .
[3]
كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «ولم يردّ عليهم
…
» .
[4]
فى الأصل: «لم يجز أن يردوا» ومرجع الضمير مؤنث.
وأما الأمان الخاصّ فيصح أن يبذله كل مسلم من رجل وامرأة وحرّ وعبد؛
لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمّتهم أدناهم»
يعنى عبيدهم. وقال أبو حنيفة: لا يصحّ أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له فى القتال.
والسادس من أحكامها- السيرة فى نزال العدوّ وقتاله. يجوز لأمير الجيش فى حصار العدوّ أن ينصب عليهم العرّادات [1] والمجانيق. فقد نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف منجنيقا. ويجوز أن يهدم عليهم منازلهم، ويضع عليهم البيات والتحريق. واذا رأى فى قطع نخلهم وشجرهم صلاحا ليظفر بهم عنوة أو يدخلوا فى السلم صلحا لما ينالهم من الضعف، فعل. ولا يفعل إن لم ير فيه صلاحا. فقد قطع النبى صلى الله عليه وسلم كروم أهل الطائف فكان سببا لإسلامهم، وأمر فى حرب بنى النّضير بقطع نوع من النخل يقال له الأصفر يرى نواه من وراء اللّحاء، وكانت النخلة منها أحبّ اليهم من الوصيف [2] ، فحزنوا لقطعها، وجاء المسلمون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [3] أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ
. ويجوز أن يعوّر [4] عليهم المياه ويقطعها عنهم وإن كان فيهم النساء والأطفال؛ لأنه من أقوى أسباب ضعفهم والظفر بهم. واذا استسقى منهم عطشان فالأمير مخيّر فى سقيه أو منعه. ومن قتل منهم واراه عن الأبصار ولم يلزم [5] تكفينه. ولا يجوز أن يحرق بالنار منهم حيّا ولا ميتا.
روى عن النبىّ صلى الله عليه
[1] العرادات: واحدها: عرّادة وهى أصغر من المنجنيق ترمى بالحجارة المرمى البعيد.
[2]
الوصيف: العبد.
[3]
اللينة: واحدة اللين وهو كل شىء من النخل سوى العجوة.
[4]
عوّر الماء: سدّه.
[5]
كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «ولم يكره» .
وسلم أنه قال: «لا تعذّبوا عباد الله بعذاب الله»
وقد أحرق أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه قوما من أهل الردّة. قال الماوردى: ولعل ذلك كان منه والخبر لم يبلغه.
ومن قتل من شهداء المسلمين زمّل فى ثيابه ودفن ولم يغسّل ولم يصلّ عليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شهداء أحد: «زمّلوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدّم والريح ريح المسك»
. وإنما فعل ذلك بهم مكرمة لهم وإجراء لحكم الحياة عليهم. قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
. ولا يمنع الجيش فى دار الحرب من أكل طعامهم وعلوفة دوابّهم غير محتسب به عليهم. ولا يتعدّوا القوت والعلوفة الى ما سواهما من ملبوس ومركوب. فإن دعتهم الضرورة الى ذلك، كان ما لبسوه أو ركبوه أو استعملوه، مسترجعا منهم فى المغنم إن كان باقيا، ومحتسبا عليهم من سهمهم إن كان مستهلكا. ولا يجوز لأحد منهم أن يطأ جارية من السّبى إلا بعد أن يعطاها بسهمه فيطأها بعد الاستبراء. فإن وطئها قبل القسمة عزّر ولا يحدّ، لأنّ له فيها سهما؛ ووجب عليه مهر مثلها يضاف الى الغنيمة. فإن أحبلها لحق به ولدها وصارت أمّ ولد له إن ملكها. وإن وطئ من لم تدخل فى السبى حدّ، لأن وطأها زنا؛ ولم يلحق به ولدها إن علقت.
وإذا عقدت هذه الإمارة على غزاة واحدة، لم يكن لأميرها أن يغزو غيرها سواء غنم فيها أو لم يغنم. واذا عقدت عموما عاما بعد عام لزمه معاودة الغزو فى كل وقت يقدر على الغزو فيه، ولا يفتر عنه مع ارتفاع الموانع إلا قدر الاستراحة. و [أقل ما يجزيه أن [1]] لا يعطّل عاما من جهاد.
[1] زيادة من الأحكام السلطانية.
ولهذا الأمير، اذا فوّضت اليه الإمارة على المجاهدين، أن ينظر فى أحكامهم ويقيم الحدود عليهم وسواء من ارتزق منهم أو تطوّع. ولا ينظر فى أحكام غيرهم ما كان سائرا الى ثغره. فإذا استقرّ فى الثغر الذى تقلّده، جاز أن ينظر فى أحكام جميع أهله من مقاتلة ورعيّة. وإن كانت إمارته خاصة أجرى عليها حكم الخصوص.
وأما وصايا أمير الجيش- قال الحليمىّ: ويوصى الإمام أمير السريّة والجند بتقوى الله وطاعته والاحتياط والتيقّظ، ويحذّرهم الشّتات والفرقة والإهمال والغفلة، ويأخذ على الجند أن يسمعوا ويطيعوا أميرهم ولا يختلفوا عليه وينصحوا له، ولا يخذل [1] بعضهم بعضا، وإن أظفرهم الله على العدوّ لا يغلّوا ولا يخونوا، ولا يعقروا من دوابّ المشركين التى لا تكون تحتهم، ولا يقتلوا امرأة لا تقاتلهم ولا وليدا، وأنهم إن وصلوا إلى قرية لا يدرون حالها، أمسكوا عنها وعن أهلها ولا يبيّتونهم ولا يشنّون الغارة عليهم حتى يعلموا حالهم؛ إلى غير ذلك من الآداب التى يحتاجون إلى معرفتها مما يلزم ويحلّ أو يحرم من أمر القتل والأسر والمغنم والقسم وعزل الخمس ومن يسهم له أولا يسهم ومن يرضخ [له [2]] ، والفرق بين الفارس والراجل ونحو ذلك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الجرّاح أنه
بلغنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشا أو سريّة قال: «باسم الله وفى سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا»
. فإذا بعثت جيشا أو سريّة فمرهم بذلك.
[1] يخذل: يجوز أن يقرأ بتخفيف الذال فيكون من الخذلان، وبتشديدها فيكون من التخذيل.
والخذلان: ترك النصرة. والتخذيل: التثبيط والحمل على ترك النصرة.
[2]
يقال: رضخ له من ماله اذا أعطاه عطية قليلة. فالزيادة التى وضعناها تقتضيها اللغة.
وقال أبو بكر الصّدّيق رضى الله عنه لخالد بن الوليد حين وجّهه لقتال أهل الرّدّة:
سر على بركة الله، فإذا دخلت أرض العدوّ فكن بعيدا من الحملة فإنى لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد، وسر بالأدلّاء، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإنّ فى العرب غرّة، وأقلل من الكلام فإنما لك ماوعى عنك، واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله فى سريرتهم؛ وأستودعك الله الذى لا تضيع ودائعه.
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول عند عقد الألوية: باسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله والنصر ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا فى سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين. ولا تجبنوا عند اللّقاء، ولا تمثّلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وتوقّوا قتلهم إذا التقى الزّحفان وعند شنّ الغارات.
وكتب عمر الى سعد بن أبى وقّاص ومن معه من الأجناد: أما بعد فإنى آمرك ومن معك بتقوى الله على كلّ حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ وأقوى المكيدة فى الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصى منكم من عدوّكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوّة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم. فإن استوينا فى المعصية كان لهم الفضل علينا فى القوّة. وإلّا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوّتنا. واعلموا أن عليكم فى مسيركم حفظة [من [1]] الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم. ولا تعملوا بمعاصى الله وأنتم فى سبيل الله. ولا تقولوا إن عدوّنا شرّ منا فلن يسلّط علينا وإن أسأنا؛ فرب قوم قد سلّط عليهم شرّ منهم كما سلّط على بنى
[1] زيادة من العقد الفريد.
إسرائيل لمّا عملوا بمساخط الله كفرة المجوس (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا)
. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفّق بالمسلمين فى مسيرهم، ولا تجشّمهم مسيرا يتعبهم، ولا تقصّر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوّهم والسفر لم ينقص [1] قوّتهم؛ فإنهم سائرون الى عدوّ مقيم حامى الأنفس والكراع [2] . وأقم بمن معك فى كل جمعة يوما وليلة حتى تكون لهم راحة يجمّون [3] فيها أنفسهم ويرمّون [4] أسلحتهم وأمتعتهم. ونحّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمّة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه ولا يرزأ [5] أحدا من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمّة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها؛ فما صبروا لكم ففوا لهم [6] .
ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أدنى أرض العدوّ فأذك [7] العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق فى بعضه، والغاشّ عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك عند دنوّك من أرض العدوّ أن تكثر الطلائع وتبثّ السّرايا بينك وبينهم [فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم [8]] . وانتق للطلائع أهل الرأى والبأس من أصحابك،
[1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل:«لا ينقص» .
[2]
الكراع: الخيل.
[3]
يجمون أنفسهم: يتركونها لترتاح وتقوى.
[4]
يرمون: يصلحون.
[5]
«ولا يرزأ» فى الأصل غير معجمة، وأثبتناها بالياء طبقا لما فى العقد الفريد، على أن تكون معطوفة على صلة الموصول قبلها. ويحتمل أن تكون بتاء الخطاب.
[6]
فى العقد الفريد: «فما صبروا لكم فتولوهم خيرا» .
[7]
إذكاء العيون والطلائع: بثها.
[8]
- هذه الجملة التى بين القوسين وردت فى الأصل هكذا: «فتنقطع للسرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع بالطلائع عوراتهم» وفى بعض هذه الكلمات تحريف جعل الجملة غير مستقيمة، فأثبتناها كما وردت فى العقد الفريد (ج 1 ص 50) .
وتخيّر لهم سوابق الخيل، فإن [1] لقوا عدوّا كان أوّل ما تلقاهم القوّة من رأيك. واجعل أمر [2] السّرايا الى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخصّ بها أحدا بهوى، فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصّتك. ولا تبعث طليعة ولا سريّة فى وجه تتخوّف عليها فيه ضيعة ونكاية. فإذا عاينت العدوّ فاضمم اليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوّتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال [3] ، حتى تبصر عورة عدوّك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوّك كصنيعه بك. ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتحفّظ من البيات جهدك. ولا تؤتى بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه، لترهب بذلك عدوّك وعدوّ الله. والله ولىّ أمرك ومن معك، وولىّ النصر لكم على عدوّكم؛ والله المستعان.
وأوصى عبد الملك بن مروان أميرا سيّره الى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيّس الذى إن وجد ربحا تجر، وإلّا تحفّظ برأس المال؛ ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة؛ وكن من احتيالك على عدوّك أشد حذرا من احتيال عدوّك عليك.
وكان زياد بن أبيه يقول لقوّاده: تجنّبوا اثنتين لا تقاتلوا فيهما العدوّ: الشتاء، وبطون الأودية.
وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه: اذا غزوتم فأطيلوا الأظفار، وقصّروا الشعور، والحظوا الناس شزرا، وكلّموهم رمزا، واطعنوهم وخزا.
[1] كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل: «وإن لقوا
…
» .
[2]
فى الأصل: «أهل السرايا
…
» والتصويب عن العقد الفريد
[3]
كذا فى العقد الفريد، وفى الأصل:«ما لم يستكرهوك القتال»