الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الشّعبىّ: قال لى ابن عبّاس قال لى أبى: إنى أرى هذا الرجل- يعنى عمر بن الخطاب- يستفهمك ويقدّمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنى موصيك بخلال أربع: لا تفشينّ له سرّا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابنّ عنده أحدا؛ قال الشّعبىّ فقلت لابن عباس:
كلّ واحدة خير من ألف؛ قال: إى والله ومن عشرة آلاف!.
الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثانى فى وصايا الملوك
كتب أرسطا طاليس إلى الإسكندر: أن املك الرعيّة بالإحسان إليها تظفر بالمحبّة منها، فإنّ طلبك الناس بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك؛ [واعلم أنك إنما تملك الأبدان فاجمع لها القلوب [1]] ؛ واعلم أن الرعيّة إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل. وهذا مخالف لما حكى عن معاوية أن رجلا أغلظ عليه فحلم عنه؛ قيل له: أتحلم عن مثل هذا؟ فقال: إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. وكتب إلى الإسكندر: اعلم أنك غير مستصلح رعيّتك وأنت مفسد، ولا مرشدهم وأنت غاو، ولا هاديهم وأنت ضالّ؛ وكيف يقدر الأعمى على الهدى، والفقير على الغنى، والذليل على العزّ!.
وقال أنو شروان: ثمانية أشياء هى أساس الملك، يأتى بأربعة، ويحذر أربعة؛ فالذى يأتى به: النصح فى الدين، وكفاء [2] الأمين، وتقديم الحزم، وإمضاء العزم.
والذى يحذره: غشّ الوزير، وسوء التدبير، وخبث النيّة، وظلم الرّعية.
وقال أردشير لأصحابه: إنى إنما أملك الأجساد لا النيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
[1] زيادة عن العقد الفريد.
[2]
مصدر كافأه: جازاه.
وقال أبرويز لابنه شيرويه: لا توسعنّ على جندك سعة يستغنون بها عنك فيطغوا، ولا تضيّق عليهم ضيقا يضجّون به منك، ولكن أعطهم عطاء قصدا وامنعهم منعا جميلا، وابسط لهم فى الرجاء، ولا تبسط لهم فى العطاء. وكتب إليه أيضا من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما وأخرى تحقن دما، وأن سخط سيفك مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفادة على من رضيت عنه، وأنّ نفاذ أمرك مع ظهور كلامك، فاحترس فى غضبك من قولك أن يخطىء، ومن لونك أن يتغيّر، ومن جسدك أن يخفّ؛ فإنّ الملوك تعاقب حزما وتعفو حلما. واعلم أنك تجلّ عن الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك، فقدّر لسخطك من العقاب كما تقدّر لرضاك من الثواب. وكتب إليه أيضا من الحبس: اختر لولايتك امرأ كان فى وضيعة فرفعته، وذا شرف كان مهملا فاصطنعته، ولا تجعله امرأ أصبته بعقوبة فاتّضع لها، ولا امرأ أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحدا ممن يقع فى خلدك [1] أنّ إزالة سلطانك أحبّ إليه من ثبوته؛ وإيّاك أن تستعمله ضرعا غمرا، كثيرا إعجابه بنفسه، قليلا تجربته فى غيره، ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السّنّ من جسمه.
قال لقيط الإيادىّ:
فقلّدوا أمركم لله درّكم
…
رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
…
ولا إذا عضّ مكروه به خشعا
ما زال يحلب درّ الدهر أشطره
…
يكون متّبعا طورا ومتّبعا
حتّى استمرّت على شزر [2] مريرته [3]
…
مستحصد الرأى لا قحما [4] ولا ضرعا [5]
[1] الخلد: البال والقلب والنفس.
[2]
الشزر: الصعوبة والشدّة.
[3]
المريرة:
العزيمة.
[4]
القحم: الكبير السن جدّا.
[5]
الضرع: الصغير السن.
وكتب سابور بن أردشير فى عهده إلى ولده: ليكن وزيرك مقبول القول عندك، قوىّ المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك وما يثق به من لطافة منزلته، من الخشوع لأحد أو الضراعة أو المداهنة لأحد فى شىء مما تحت يده، لتبعثه الثّقة بك على محض النصيحة لك، والمنابذة لمن أراد غشّك وانتقاصك حقّك. وإن أورد عليك رأيا يخالفك ولا يوافق الصواب عندك، فلا تجبهه جبه الظّنين، ولا تردّه عليه بالتّجهّم فيفتّ ذلك فى عضده، ويقبضه عن إبثاثك كلّ رأى يلوح صوابه، بل اقبل ما ارتضيت من قوله، وعرّفه ما تخوّفت من ضرر الرأى الذى انصرفت عنه، لينتفع بأدبك فيما يستقبل الرأى فيه. واحذر كلّ الحذر أن تنزل هذه المنزلة سواه ممن يطيف بك من خدمك وخاصّتك، وأن تسهّل لأحد منهم سبيل الانبساط بالنطق عندك والإفاضة فى أمور ولايتك ورعيّتك، فإنه لا يوثق بصحّة رأيهم، ولا يؤمن الانتشار فيما أفضى من السرّ إليهم.
وقال ابن المقفّع: عوّد نفسك الصبر على من خالفك من ذوى [1] النصيحة، والتجرّع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهّلن سبيل ذلك إلا لأهل الفضل والعقل [والسّن [2]] والمروءة فى ستر، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه أو يستخفّ به شانئ. واعلم أن رأيك لا يتّسع لكل شىء ففرّغه لمهمّ ما يعنيك، وأن مالك لا يتّسع للناس فاخصص به أهل الحق [3] ، وأن كرامتك لا تطيق العامّة فتوخّ بها أهل الفضل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وإن دأبت فيهما، فأحسن قسمتهما [4] بين عملك ودعتك.
واعلم أن ما شغلت [5] من رأيك بغير المهمّ أزرى بك، وما صرفت من مالك فى الباطل
[1] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل:«من رأى ذوى النصيحة» وظاهر أن كلمة «رأى» مقحمة لغير فائدة.
[2]
الزيادة عن الأدب الكبير ورسائل البلغاء.
[3]
فى رسائل البلغاء:
«وأن مالك لا يغنى الناس كلهم فاختصّ به ذوى الحقوق» .
[4]
كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل «فأحسن قسمتك
…
» .
[5]
فى الأصل: «ما شغلت به الخ» وظاهر أن كلمة «به» مقحمة.
فقدته حين تريده للحقّ، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرّ بك فى العجز عن أهل الفضل.
وكتب عبد الله بن عبّاس إلى الحسن بن علىّ لمّا ولّاه الناس أمرهم بعد علىّ رضى الله عنهما: أن شمّر للحرب، وجاهد عدوّك، واشتر من الضّنين [1] دينه بما لا يثلم دينك، ووال [2] أهل البيوتات تستصلح به عشائرهم.
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: يجب على الوالى أن يتعهّد أموره ويتفقّد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسىء، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسىء، وفسد الأمر وضاع العمل.
وقال بعض الحكماء: الملك المنعم إذا أفاض المكارم [3] واغتفر الجرائم ارتبط بذلك خلوص نيّة من قرب منه وهم الأقل، وانفساح الأمل ممن بعد عنه وهم الأكثر، فيستخلص حينئذ ضمائر الكلّ من حيث لم يصل معروفه إلا إلى البعض.
ولم أر فيما طالعته من هذا المعنى أجمع للوصايا ولا أشمل من عهد كتبه علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه إلى مالك بن الحارث الأشتر حين ولّاه مصر، فأحببت أن أورده على طوله وآتى على جملته وتفصيله، لأن مثل هذا العهد لا يهمل، وسبيل فضله لا يجهل؛ وهو:
هذا ما أمر [به [4]] عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى مالك بن الحارث الأشتر فى عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها، أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتّباع ما أمر به فى كتابه من فرائضه وسننه التى
[1] فى الأصل هكذا: «واستر الصين» وهو محرف عما أثبتناه عن عيون الأخبار والعقد الفريد.
[2]
وال: ناصر وصادق.
[3]
فى الأصل «المكاره» وسياق الكلام يقتضى ما وضعنا.
[4]
زيادة عن نهج البلاغة (طبع بيروت ج 2 ص 50- 68) ، وكذلك كل ما وضع بين هذين القوسين [] فى ثنايا هذا الكتاب.
لا يسعد أحد إلا باتّباعها، ولا يشقى إلا بالعدول عنها؛ وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه، فإنه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره وإعزاز من أعزّه؛ وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات ويزعها [1] عند الجمحات، فإن النفس لأمّارة بالسوء.
ثم اعلم يا مالك أنى قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك فى مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجرى الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحلّ لك؛ فإن الشّحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت [أ] وكرهت.
وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم؛ والطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم [2] ؛ فإنهم صنفان: إما أخ فى الدّين، وإما نظير لك فى الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم فى العمد والخطأ؛ فأعطهم من صفحك وعفوك مثل الذى تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالى الأمر عليك فوقك؛ والله فوق من ولّاك؛ وقد استكفاك أمرهم [3] وابتلاك [بهم] . فلا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنه لا قوّة لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته. ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحنّ [4] بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولنّ: إنى مؤمّر امر فأطاع، فإن ذلك إدغال فى القلب ومنهكة للدّين وتقرّب من الغير. فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته [منك] على ما لا تقدر عليه من نفسك [5] ، فإن ذلك يطامن إليك من
[1] كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «وينزعها
…
» .
[2]
كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «وتغتنم أكلها» .
[3]
كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «استكفاك أمره» .
[4]
بجح: كفرح لفظا ومعنى.
[5]
فى الأصل: «
…
وقدرته على ما لا يقدر عليك من نفسه» ولعل فيه تحريفا جعله غير واضح، وما وضعناه عن نهج البلاغة.
طماحك، ويكفّ عنك من غربك ويفىء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإياك ومساماة [1] الله فى عظمته والتشبّه به فى جبروته، فإن الله يذلّ كلّ جبّار ويهين كلّ مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيّتك، فإنك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجّته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شىء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم [فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد] . وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها فى الحق وأعمّها فى العدل وأجمعها لرضا الرعيّة، فإنّ سخط العامة يجحف برضا الخاصّة، وإن سخط الخاصة يغتفر برضا العامة. وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالى مؤنة فى الرخاء، وأقلّ معونة فى البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمّات الدهر من أهل الخاصة، وإن عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأمة؛ فليكن صغوك لهم وميلك معهم.
وليكن أبعد رعيّتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لعيوب الناس، فإن فى الناس عيوبا الوالى أحقّ بسترها، فلا تكشفنّ عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله حكم على ما غاب عنك منها. فاستر العورة ما استطعت يستر الله ما تحبّ ستره من عيبك. أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصحّ لك. ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع، فإن الساعى غاشّ وإن تشبّه بالناصحين. ولا تدخلنّ فى مشورتك بخيلا فيعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا فيضعفك عن الأمور، ولا حريصا فيزيّن لك الشره بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله. واعلم أن شرّ وزرائك من كان
[1] فى الأصل: «مساومة الله» وما هنا عن نهج البلاغة.
للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم فى الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظّلمة. [وأنت واجد منهم خير الخلف] ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه، أولئك أخفّ عليك مؤنة وأحسن لك معونة [1] ، وأحنى عليك عطفا وأقلّ لغيرك إلفا، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك وحفلاتك. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم للحق، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله تعالى لأوليائه [2] واقعا من هواك [حيث وقع] . ثم رضهم على ألّا يطروك ولا يبجّحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزّهو وتدنى إلى العزّة. ولا يكوننّ المحسن والمسىء عندك بمنزلة واحدة، فإن فى ذلك تزهيدا لأهل الإحسان فى الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنه ليس شىء أدعى إلى حسن ظن وال برعيّته من إحسانه إليهم وتخفيف المؤنات عنهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم. وليكن منك فى ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظنّ برعيّتك، فإنّ حسن الظنّ يقطع عنك نصبا طويلا. وإن أحقّ من حسن ظنّك به من حسن بلاؤك عنده، [وإن أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده] .
ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعيّة، ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشىء من ماضى تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثر [3] مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء فى تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، [ولا غنى ببعضها عن بعض] ، فمنها جنود
[1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «معاونة» .
[2]
كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «مما كره الله لأولئك
…
» وهو تحريف.
[3]
كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «ولكن
…
» وهو تحريف.
[الله] ، ومنها كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من [أهل] الذّمّة ومسلمة [1] الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السّفلى من ذوى الحاجة والمسكنة، وكلّ قد سمّى الله سهمه، ووضع على حدّه فريضته فى كتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم عهدا منه محفوظا. فالجنود بإذن الله حصون الرعيّة وزين [2] الولاة وعزّ الدّين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعيّة إلا بهم. [ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذى يقوون به فى جهاد عدوّهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم] . ثم لا قوام لهذين الصّنفين إلا بالصّنف الثالث من القضاة والعمّال والكتّاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجّار وذوى الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقومون به فى أسواقهم، ويكفونهم من الرّفق [3] بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقّ رفدهم ومعونتهم؛ وفى الله لكلّ سعة؛ ولكلّ على الوالى حقّ بقدر ما يصلحه. [وليس يخرج الوالى من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحقّ والصبر عليه فيما خفّ عليه أو ثقل] . فولّ من جنودك أنصحهم فى نفسك لله تعالى ولرسوله ولإمامك، [وأنقاهم] ، جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب ويستريح الى العذر ويرفق بالضعفاء وينبو عن [4] الأقوياء، [و] ممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.
ثم ألحق بذوى الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة أهل النّجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع الكرم وشعب العرف؛ ثم تفقّد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما. ولا يتفاقمنّ فى نفسك شىء قوّيتهم به، ولا تحقرنّ
[1] مسلمة الناس: المسلمون منهم.
[2]
كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «زى الولاة
…
»
وهو تحريف
[3]
الرفق بالفتح: النفع.
[4]
يقال نبا عنه وعليه: اذا لم ينقد له.
لطفا تعاهدهم به وإن قلّ، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك.
ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم فى معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همّهم همّا واحدا فى جهاد العدوّ، فإنّ عطفك عليهم يعطّف عليك قلوبهم؛ [وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل فى البلاد وظهور مودّة الرعيّة؛ وإنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدرهم] ، ولا تصحّ نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلّة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدّتهم، فافسح فى آمالهم [1] وواصل فى حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذّكر لحسن فعالهم تهزّ الشجاع وتحرّض الجبان إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى.
ولا تضمّنّ [بلاء] امرئ الى غيره، ولا تقصّرنّ به دون غاية بلائه. ولا يدعونّك شرف امرئ الى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما. واردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
؛ فالرادّ الى الله هو الآخذ بمحكم كتابه، والرادّ الى الرسول الآخذ بسنّته الجامعة غير المتفرّقة.
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك فى نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه [2] الخصوم، ولا يتمادى فى الزّلّة، ولا يحصر [3] من الفىء الى الحق إذا عرفه، ولا تشرف [نفسه] على طمع، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم فى الشّبهات،
[1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «وافسح فى أموالهم
…
» .
[2]
أمحكه: أغضبه أو جعله محكان كسكران: عسر الخلق.
[3]
يحصر: يضيق صدره.
وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأصرمهم عند إيضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء؛ وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه؛ وافسح له فى البذل ما يريح علّته وتقلّ معه حاجته الى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.
فانظر فى ذلك نظرا بليغا؛ فإن هذا [الدّين] قد كان أسيرا فى أيدى الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به [1] الدنيا.
ثم انظر فى أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهما جمّاع من شعب الجور والخيانة. وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم فى الإسلام المتقدّمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصحّ أعراضا، وأقلّ فى المطامع إسرافا، وأبلغ فى عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك. ثم تفقّد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك فى السرّ لأمورهم حدوة [2] لهم على استعمال الأمانة والرّفق بالرعيّة. وتحفّظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة فى بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام الذّلة، ووسمته بالخيانة، وقلّدته عار التّهمة.
وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ صلاحهم وصلاحه صلاح لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله.
وليكن نظرك فى عمارة الأرض أبلغ من نظرك فى استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة؛ ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد
ولم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا ثقلا أو علّة أو انقطاع شرب [أو بالّة [1]] أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم؛ ولا يثقلنّ عليك شىء خفّفت به المؤنة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك فى عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجّحك [2] باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك [3] لهم والثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت [فيه] عليهم من بعد، احتملوه طيّبة أنفسهم به، فإن العمران يحتمل ما حمّلته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنّهم بالبقاء وقلّة انتفاعهم بالعبر. واستعمل من يحبّ أن يدّخر حسن الثناء من الرعيّة والمثوبة من الله عز وجل والرضا من الإمام.
ثم انظر فى حال الكتّاب فولّ أمورك خيرهم. واخصص رسائلك التى تدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجود [4] صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك فى خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصّر [5] به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّالك [عليك] وإصدار جوابها على الصواب منها عنك، وفيما يأخذ لك ويعطى منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه [6] فى الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن
[1] أى شكوا ثقل المضروب عليهم من مال الخراج، أو نزول علة سماوية، أو انقطاع شرب (الشرب بالكسر: الماء) فيما يسقى بالأنهار، أو بالّة وهو ما يبل الأرض من مطروندى فيما يسقى بالمطر، وإحالة الأرض: تحولها وتغيرها.
[2]
التبجح: الفرح والسرور.
[3]
إجمامك لهم: تركك إياهم حتى اذا ما استراحوا تقوّوا على معونتك.
[4]
كذا فى الأصل ولعله محرف عن «وجوه» .
[5]
كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «ولا تقصر بك
…
» .
[6]
فى الأصل: «قدر نفسك
…
» وكذلك فعلا يعجز ويجهل بتاء الخطاب، والسياق يقتضى ما وضعناه عن نهج البلاغة.
اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظّن منك، فإن الرجال يتعرّفون [1] لفراسات الولاة بتصنّعهم وحسن خدمتهم؛ وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شىء؛ ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين [2] قبلك، فآعمد لأحسنهم كان فى العامّة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره.
واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتّت عليه كثيرها.
ومهما كان فى كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.
ثم استوص بالتجّار وذوى الصناعات، وأوص بهم خيرا المقيم [منهم و] المضطرب بماله والمترفّق ببدنه، فإنهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلّابها من المباعد والمطارح فى برّك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنّهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته. وتفقّد أمورهم بحضرتك وفى حواشى بلادك. واعلم أن [فى] كثير منهم ضيقا فاحشا وشحّا قبيحا واحتكارا للمنافع فى المبايعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة. فامنع [من] الاحتكار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف.
ثم الله الله فى الطبقة السّفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين و [أهل] البؤسى والزّمنى، فإن [فى] هذه الطبقة قانعا ومعترّا، فاحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلّات صوافى [3] الإسلام فى كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذى للأدنى. وكلّ قد استرعيت حقّه فلا يشغلنّك
[1] قال الأستاذ الإمام: أى يتوسلون إليها لتعرفهم.
[2]
كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل:
«ولكن اختبرهم بهؤلاء الصالحين» .
[3]
صوافى جمع صافية: أرض الغنيمة.
عنهم بطر [1] فإنك لا تعذر بتضييع [ك التافه لإحكامك] الكثير المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم ولا تصعّر خدّك لهم؛ وتفقّد أمور من لا يصل إليك [منهم] ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم؛ ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه وتعالى يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. وكلّ فأعذر إلى الله تعالى فى تأدية حقّه إليه [2] .
وتعهّد أهل اليتم وذوى الرّقّة فى السنّ ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسئلة نفسه. وذلك على الولاة ثقيل؛ [والحق كله ثقيل] وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
واجعل لذوى الحاجات منك قسما تفرّغ لهم [فيه شخصك] وتجلس لهم فيه مجلسا عامّا فتتواضع فيه لله الذى خلقك وتبعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متعتع [3]
فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها [4] [حقّه] من القوىّ غير متعتع»
. ثم احتمل الخرق منهم والعىّ، ونحّ عنك الضّيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع فى إجمال وإعذار.
ثم أمور من أمورك لا بدّ [لك] من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما لا يغنى عنه كتّابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك.
وأمض لكلّ يوم عمله فإن لكلّ يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله
[1] كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «فلا يشغلنك عنهم نظر
…
» .
[2]
كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل: «فى تأدية حقه اليك
…
» .
[3]
التعتعة فى الكلام:
التردد فيه من عجز وعىّ والمراد أنه غير خائف، تعبيرا باللازم.
[4]
كذا فى نهج البلاغة؛ وفى الأصل:
«لم يؤخذ للضعيف منها
…
» الخ.
أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلّها لله إذا صلحت فيها النّيّة وسلمت منها الرعيّة.
وليكن فى خاصّة ما تخلص لله به [دينك] إقامة فرائضه التى هى له خاصّة، فأعط الله من بدنك [1] فى ليلك ونهارك، ووفّ ما تقرّبت به إلى الله تعالى من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت فى صلاتك للناس فلا تكوننّ مفّرا ولا مضيّعا؛ فإن فى الناس من به العلّة وله الحاجة؛
وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجّهنى إلى اليمن كيف أصلّى بهم؟ قال: «كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما»
. وأما بعد هذا فلا يطولنّ احتجابك عن رعيّتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضّيق وقلّة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحقّ بالباطل. وإنما الوالى بشر لا يعرف ما يوارى عنه الناس من الأمور؛ وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصّدق من الكذب. وإنما أنت أحد رجلين:
إما امرؤ سخت نفسك بالبذل فى الحقّ، ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ وإما امرؤ مبتلى بالمنع، فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا يئسوا من ذلك! مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤنة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف فى معاملة.
ثم إن للوالى خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول [وقلة إنصاف فى معاملة] ، فاحسم مادّة ذلك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعنّ لأحد من حاشيتك وخاصّتك
[1] كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل: «من ذلك
…
» .
قطيعة، ولا يطمعنّ [من] ك [فى] اعتقاد عقدة تضرّ [1] بمن يليها من [الناس فى] شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك فى الدنيا والآخرة.
وألزم الحقّ من لزمه من القريب والبعيد، وكن فى ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصّتك حيث وقع؛ وابتغ [2] عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبّة ذلك محمودة. وإن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر [3] لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن فى ذلك إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ.
ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك [و] لله فيه رضا، فإن فى الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك. ولكن احذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإن العدوّ ربما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم واتّهم فى ذلك حسن الظن. فإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة وألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شىء الناس [4] أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود؛ وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا [5] من عواقب الغدر. فلا تغدرنّ بذمّتك ولا تخيسنّ بعهدك ولا تختلنّ عدوّك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقىّ.
وقد جعل الله عهده وذمّته أمنا قضاه بين العباد برحمته، وحرما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة [6] ولا خداع فيه. ولا تعقد عقدا
[1] كذا فى نهج البلاغة: وفى الأصل: «ولا تطمعنّ فيك اعتقاد عقدة فيضر
…
» وهى مضطربة النسج ولا تؤدى المعنى المراد. والعقدة: الضّيعة، واعتقادها: امتلاكها واقتناؤها.
[2]
كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «واتبع
…
» وهو تحريف.
[3]
الإصحار بالأمر: إظهاره.
[4]
كذا فى نهج البلاغة وفى الأصل: «فانه ليس من فرائض الله شىء إلا الناس
…
الخ» .
[5]
كذا فى نهج البلاغة. واستوبل الشىء اذا تركه لو خامنه وان كان محبّا له، وفى الأصل «لما استولوا عليه
…
» .
[6]
كذا فى نهج البلاغة «والمدالسة» : الخيانة، وفى الأصل «مخالة» .
تجوز فيه العلل. ولا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة. ولا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك على ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله طلبة فلا تستقيل فيها [1] دنياك ولا آخرتك.
إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها، فإنه ليس شىء أدعى لنقمة ولا أعظم تبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم [بين العباد] فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة؛ فلا تقوّينّ [2] سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. فلا عذر لك عند الله ولا عندى فى قتل العمد، لإن فيه قود البدن. فإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك [أو سيفك] أو يدك بعقوبة؛ فإن فى الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّى إلى أولياء المقتول حقّهم.
وإيّاك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان فى نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.
وإيّاك والمنّ على رعيتك بإحسانك، والتزيّد فيما كان [من فعلك] ، وأن تعدهم فتتبع موعدك بخلف، فإن المنّ يبطل الإحسان، والتزيّد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس. قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
[1] كذا فى نهج البلاغة وعليه يكون معنى الجملة: لا تطلب أن تقال منها لا فى دنياك ولا فى آخرتك.
وفى الأصل: لا تستقلّ دنياك ولا آخرتك. وهذه العبارة غير واضحة المعنى الا اذا زيدت عليها كلمة بها، والمراد لا تقوم بحملها دنياك ولا آخرتك. والطلبة اسم من المطالبة.
[2]
كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «فلا تقومن» .
وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط [1] فيها عند إمكانها، أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت؛ فضع كلّ أمر موضعه وأوقع كلّ عمل موقعه.
وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة [2] ، والتغابى عما يعنى به مما قد وضح لعيون الناظرين، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم.
املك حميّة أنفك وسورة حدّك وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك [3] حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.
والواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم، أو فريضة فى كتاب الله، فتقتدى بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك فى اتّباع ما عهدت إليك فى عهدى هذا، واستوثقت به من الحجّة لنفسى عليك لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها.
وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كلّ ذى رغبة: أن يوفّقنى [4] وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء فى العباد وجميل الأثر فى البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لى ولك بالسعادة والشهادة. إنّا لله وإنّا إليه راجعون. تمّ العهد بعون الله تعالى.
وقيل: ينبغى للملك أن يسوق العنف باللطف، والتوفير بالتوقير، ولا يتخذ أعوانا إلا أعيانا، ولا أخلّاء إلا أجلّاء، ولا ندماء إلا كرماء، ولا جلساء إلا ظرفاء.
[1] كذا فى نهج البلاغة. وفى الأصل: «التثبت» والمراد بالتسقّط: التهاون.
[2]
أسوة بمعنى سواء، قال فى اللسان: القوم أسوة فى هذا الأمر أى حالهم فيه واحدة.
[3]
كذا فى نهج البلاغة، وفى الأصل «وأن تحكم بذلك فى نفسك» .
[4]
أن يوفقنى، مفعول «أسأل» وفى الأصل: «وتوفيقى
…
» وما هنا نقلناه عن نهج البلاغة.