المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٦

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌القسم الخامس فى الملك وما يشترط فيه وما يحتاج إليه وما يجب له على الرعيّة وما يجب للرعية عليه

- ‌الباب الأوّل من هذا القسم فى شروط الإمامة الشرعيّة والعرفيّة

- ‌الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثانى فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضّل به على غيره، وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدالّة على علوّ هممهم وكرم شميهم

- ‌ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالّة على عظم هممهم، وكرم أخلاقهم وشيمهم، وشدّة كيدهم، وقوّة أيدهم

- ‌الباب الثالث من الفن الثانى فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير

- ‌الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثانى فى وصايا الملوك

- ‌الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثانى فيما يجب على الملك للرعايا

- ‌ذكر ما قيل فى العدل وثمرته وصفة الإمام العادل

- ‌ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته

- ‌ذكر ما قيل فى حسن السّيرة والرّفق بالرعيّة

- ‌الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثانى فى حسن السياسة، وإقامة المملكة، ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام

- ‌ذكر ما قيل فى الحلم

- ‌ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به

- ‌ذكر ما قيل فى العفو

- ‌ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام

- ‌الباب السابع من الفن الثانى

- ‌ذكر ما قيل فى المشورة وإعمال الرأى

- ‌ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته، ويعتضد بفكرته ورويته

- ‌ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته وأمر بالامتناع من مشايعته ومتابعته

- ‌ذكر ما قيل فى الأناة والرويّة

- ‌ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الإشارة

- ‌الباب الثامن من الفن الثانى فى حفظ الأسرار والإذن والحجاب

- ‌ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار

- ‌ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان

- ‌ذكر ما قيل فى الحجاب

- ‌ذكر ما قيل فى النهى عن شدّة الحجاب

- ‌الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الثانى فى الوزراء وأصحاب الملك

- ‌ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج إليه

- ‌ذكر صفة الوزارة وشروطها

- ‌ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه

- ‌ذكر وزارة التنفيذ

- ‌ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه

- ‌ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء

- ‌ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم

- ‌ذكر ما يحتاج إليه نديم الملك، وما يأخذ به نفسه، وما يلزمه

- ‌ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم

- ‌الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الثانى

- ‌ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم

- ‌ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده من حين [1] يشاهد العدوّ الى انفصال الحرب والظفر بعدوّهم

- ‌ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها

- ‌ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها فى القلة والكثرة، وأسماء مواضع القتال، وما قيل فى الحروب والوقائع، وما وصفت به

- ‌وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال

- ‌ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر

- ‌ذكر ما رود فى المرابطة

- ‌ذكر ما قيل فى السلاح وأوصافه

- ‌ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف

- ‌ذكر ما قيل فى تركيب القوس، ومبدإ عملها ومن رمى عنها، ومعنى الرمى

- ‌ذكر ما قيل فى الجنّة

- ‌الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى القضاة والحكام

- ‌ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء، والشروط

- ‌وأما شروطها فأربعة

- ‌ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام

- ‌ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حقّ نفسه اذا دعى الى الولاية أو خطبها، وما يلزم الناس من امتثال أمره وطاعته، وما يعتمده فى أمر كاتبه وبطانته وأعوانه وجلوسه لفصل المحاكمات والأقضية

- ‌ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء والترغيب عنه

- ‌الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل

- ‌ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهليّة والإسلام

- ‌ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها

- ‌وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام:

- ‌ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة

- ‌ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها إليهم، وما يسلكونه من الأحكام فيها، وما ورد فى مثل ذلك من أخبارهم وأحكامهم فيما سلف من الزمان

- ‌ذكر توقيعات متولى المظالم وما يترتّب عليها من الأحكام

- ‌الباب الثالث عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى نظر الحسبة وأحكامها

- ‌[شروط ناظر الحسبة]

- ‌ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوّع

- ‌ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه، وموافقتها لنظر المظالم وقصورها عنه

- ‌وأمّا ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة

- ‌ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام

الفصل: ‌ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها

ويقولوا: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» ، ويقولوا: اللهم إنا نسألك من خير ما تأتى به الرياح، ونعوذ بك من شر المساء والصباح. وإن بارز مسلم مشركا فليقرأ عليه: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ

. وليقل: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ.

وليقل: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا

. وإذا التقى الصفّان فليدع أمير السريّة ويسأل الله النصر والفتح ويؤمّن الناس على دعائه؛ فإنها من ساعات الإجابة.

‌ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها

روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة [1] »

. وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقا وهو يريد أخرى، ويقول:«الحرب خدعة» .

وكان مالك بن عبد الله الخثعمىّ وهو على الصافّة [2] يقوم فى الناس، اذا أراد أن يرحل، فيحمد الله ويثنى عليه، ثم يقول: إنى دارب بالغداة درب كذا؛ فتتفرّق الجواسيس عنه بذلك، فإذا أصبح سلك بالناس طريقا غيرها. فكانت الروم تسميّه الثعلب.

وقال المهلّب لبنيه: عليكم فى الحرب بالمكيدة، فإنها أبلغ من النجدة.

وسئل بعض أهل التمرّس بالحروب: أىّ المكايد فيها أحزم؟ فقال: إذ كاء العيون [3] ، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وإماتة الفرق،

[1] فى النهاية لابن الأثير «

يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح الدال فالأول معناه أن الحرب ينقضى أمرها بخدعة واحدة من الخداع أى أن المقاتل اذا خدع مرة واحدة لم نكن لها إقالة، وهى أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثانى هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تقى لهم كما يقال: فلان رجل لعبة وضحكة أى كثير اللعب والضحك» .

[2]

الصافة: الجماعة تقام وتصف للحرب.

[3]

إذكاء العيون: بث الجواسيس.

ص: 176

والاحتراس من البطانة، من غير إقصاء [1] لمستنصح ولا استنصاح لمستغشّ، وإشغال [2] الناس عما هم فيه من الحرب بغيره.

وقال حكيم: اللّطف فى الحيلة، أجدى للوسيلة. وقيل: من لم يتأمّل الأمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله، والتّثبّت يسهّل طريق الرأى إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة.

ويقال: إن سعيد بن العاص صالح أهل حصن من حصون فارس على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، فقتلهم كلّهم إلا رجلا واحدا.

وقيل: لما أتى بالهرمزان أسيرا الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قيل له:

يا أمير المؤمنين، هذا زعيم العجم وصاحب رستم [3] ؛ فقال له عمر رضى الله عنه:

أعرض عليك الإسلام نصحا لك فى عاجلك وآجلك؛ فقال: إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب فى الإسلام رهبة؛ فدعا عمر بالسيف، فلما همّ بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة من ماء هى أفضل من قتلى على الظمأ؛ فأمر له بشربة من ماء؛ فلما أخذها الهرمزان قال: يا أمير المؤمنين، أنا آمن حتى أشربها؟ قال: نعم؛ فرمى بها وقال:

الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج؛ قال: صدقت، لك التوقّف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف؛ فقال: يا أمير المؤمنين، الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده؛ فقال عمر: أسلمت خير إسلام، فما أخّرك؟

قال: كرهت أن يظنّ بى أنى إنما أسلمت خوفا من السيف؛ فقال عمر: ألا إنّ لأهل فارس عقولا استحقّوا بها ما كانوا فيه من الملك، ثم أمر ببرّه وإكرامه.

[1] فى الأصل: «من غير إفضاء..» .

[2]

فى الأصل: «واشتغال الناس

» .

[3]

هو رستم بن فرخزاد، كان من أعظم رجال فارس وقائد جيوش يزدجرد ملك ساسان فى وقعة القادسية التى انتصر فيها المسلمون حينما أرسل سعد بن أبى وقاص لفتح ايران فى خلافة عمر رضى الله عنه.

وقد قتل رستم فى هذه الوقعة.

ص: 177

ونظير هذه القصة ما فعل الأسير الذى أتى به الى معن بن زائدة فى جملة الأسرى فأمر بقتلهم؛ فقال: أتقتل الأسرى عطاشا يا معن؟ فأمر بهم فسقوا، فلما شربوا قال: أتقتل أضيافك يا معن؟ فخلّى عنهم.

ومن المكايد المشهورة حكاية قصير مع الزّبّاء، وسنذكرها إن شاء الله فى التاريخ فى أخبار ملوك العرب، وواقعة ملك الهياطلة مع فيروز بن يزدجرد، ونذكرها أيضا فى أخبار ملوك الفرس.

ومن المكايد خبر عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة مع معاوية بن أبى سفيان، وكان معاوية قد كتب اليهما واستقدم عمرا من مصر والمغيرة من الكوفة؛ فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت عليه فاشك الضعف واستأذنه أن تأتى الطائف أو المدينة، وأنا اذا دخلت عليه سأسأله ذلك فإنه يظن أنّا نريد أن نفسد عليه. فدخل المغيرة على معاوية فسأله أن يعفيه فأذن له؛ ودخل عليه عمرو وسأله ذلك؛ فقال معاوية: قد تواطأتما على أمر وإنكما لتريدان شرّا، ارجعا الى عمليكما.

وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل: أما بعد، فإنه قد كبرت سنّى، ودقّ عظمى، وقرب أجلى، وسفّهنى رجال قريش، فرأى أمير المؤمنين فى عمله موفّق. فكتب اليه معاوية: أمّا ما ذكرت من كبر سنّك، فإن سنّك أكلت عمرك. وأما اقتراب أجلك، فإنى لو كنت أستطيع أن أدفع المنيّة عن أحد لدفعتها عن آل أبى سفيان. وأما ما ذكرت من العمل ف

ضحّ قليلا يدرك الهيجا [1] حمل

وأمّا ما ذكرت من سفهاء قريش، فإنّ حلماء قريش أنزلوك هذا المنزل. فاستأذن معاوية

[1] وكذا فى اللسان. وضح قليلا: تأنّ قليلا ولا تعجل. وهو شطر بيت ورد فى شرح القاموس هكذا:

لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل

ما أحسن الموت اذا حان الأجل

وقائل البيت حمل بن بدر، وقيل حمل بن سعدانة الصحابى.

ص: 178

فى القدوم فأذن له؛ فلما وصل اليه قال له معاوية: كبرت سنك، واقترب أجلك، ولم يبق منك شىء، ولا أظنّنى إلا مستبدلا بك. قال: فانصرف والكآبة تعرف فى وجهه؛ فقيل له: ما تريد أن تفعل [1] ؟ فقال: ستعلمون ذلك. ثم أتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست فى زمن أبى بكر ولا عمر، وقد اجترح الناس، ولو نصبت لنا علما من بعدك نصير اليه! مع أنى كنت قد دعوت أهل العراق الى يزيد فركنوا اليه حتى جاءنى كتابك؛ قال: يا أبا محمد، انصرف الى عملك فأحكم هذا الأمر لابن أخيك، وأعاده على البريد يركض.

وقيل: جاء بازيار [2] لعبد الله بن طاهر فأعلمه أن بازيا له انحط على عقاب له فقتلها؛ فقال: اذهب فاقطف رأسه، فإنى لا أحبّ الشىء أن يجترئ على ما فوقه.

وأراد أن يبلغ ذلك المأمون فيسكن الى جانبه.

قال الشعبىّ: وجّهنى عبد الملك بن مروان الى ملك الروم، فلما قدمت عليه ودفعت اليه كتاب عبد الملك، جعل يسألنى عن أشياء فأخبره بها، فأقمت عنده أياما، ثم كتب جواب كتابى، فلما انصرفت دفعته الى عبد الملك، فجعل يقرؤه ويتغيّر لونه، ثم قال: يا شعبىّ، علمت ما كتب به إلىّ الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كانت الكتب مختومة ما قرأتها وهى اليك؛ فقال: إنه كتب إلىّ: إنّ العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به إلىّ فيملّكون غيره؛ فقال: قلت يا أمير المؤمنين لأنه لم يرك؛ قال: فسرّى عنه، ثم قال: إنه حسدنى عليك فأراد أن أقتلك.

قال: ولمّا ظفر الجنيد بن عبد الرحمن- وهو يلى خراسان فى أيام هشام- بصبيح الخارجىّ وبعدّة من أصحابه فقتلهم جميعا إلا رجلا أعمى [قال هذا الرجل [3]] أنا أدلّك

[1] تكررت فى الأصل جملة «فقيل له ما تريد أن تفعل» سهوا من الناسخ.

[2]

البازيار: القيم على البزاة أو المتجربها.

[3]

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 179

على أصحاب صبيح وأجازيك على ما صنعت، وكتب له قوما؛ فأمر الجنيد بقتلهم حتى قتل مائة؛ فقال الأعمى عند ذلك: لعنك الله باجنيد! أتزعم أنه يحلّ لك دمى وأنّى ضالّ ثم تقبل قولى فى مائة قتلتهم! لا! والله ما كتبت لك من أصحاب صبيح رجلا، وما هم إلا منكم. فقدّمه الجنيد وقتله.

وكان معاوية بن أبى سفيان من الدّهاة؛ وله أخبار فى الدّهاء تدلّ على بعد غوره وحدّة ذهنه. فمنها [1] أن يزيد ابنه سمع بجمال زينب بنت إسحاق زوج عبد الله بن سلّام القرشىّ، وكانت من أجمل النساء فى وقتها وأحسنهنّ أدبا وأكثرهنّ مالا، ففتن بها يزيد؛ فلما عيل صبره ذكر ذلك لبعض خصيان أبيه، وكان ذلك الخصىّ خاصّا بمعاوية واسمه رفيق، فذكر رفيق ذلك لمعاوية وقال له: إنّ يزيد قد ضاق ذرعه بها. فبعث معاوية الى يزيد فاستفسره عن أمره؛ فبثّ له شأنه؛ فقال: مهلا يا يزيد؛ فقال له:

علام تأمرنى بالمهل وقد انقطع منها الأمل؟ فقال له معاوية: فأين مروءتك وحجاك [وتقاك] ؟ فقال: قد عيل الصبر، ولو كان أحد [ينتفع فيما يبتلى] به من الهوى [بتقاه، أو يدفع ما أقصده بحجاه] لكان أولى الناس به داود حين ابتلى به؛ فقال: اكتم يا بنىّ أمرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره فيك، ولا بدّ مما هو كائن.

وأخذ معاوية فى الاحتيال فى تبليغ يزيد مناه، فكتب الى زوجها عبد الله بن سلّام، وكان قد استعمله على العراق: أن أقبل حين تنظر كتابى لأمر [2] فيه حظّك إن شاء الله تعالى فلا تتأخر عنه. فأغذّ السير وقدم، فأنزله معاوية منزلا كان قد هيّىء له وأعدّ فيه نزله؛ وكان عند معاوية يومئذ بالشأم أبو هريرة وأبو الدّرداء، فقال لهما معاوية: إنّ الله قد قسم بين عباده قسما [ووهبهم نعما] أوجب عليهم فيها شكره وحتّم عليهم حفظها، فحبانى

[1] أورد صاحب «كتاب الإمامة والسياسة» هذه القصة بزيادات كثيرة واختلاف فى العبارات عما هنا. وقد أثبتنا من هذه الزيادات ما يستقيم به الكلام، وهو ما وضعناه بين القوسين.

[2]

فى الأصل: «والأمر

» وما أثبتناه عن كتاب الامامة والسياسة.

ص: 180

منها عز وجل بأتمّ الشرف وأفضل الذكر، وأوسع علىّ الرزق، وجعلنى راعى خلقه، وأمينه فى بلاده، والحاكم فى أمر عباده، ليبلونى أأشكرأم أكفر. وأوّل ما ينبغى للمرء أن يتفقّد وينظر من استرعاه الله أمره، ومن لا غنى به عنه. وقد بلغت لى ابنة أريد إنكاحها والنظر فى اختيار من يباعلها، لعل من يكون بعدى يقتدى فيه بهديى ويتبع فيه أثرى. فإنه [1] قد يلى هذا الملك بعدى من يغلب عليه الشيطان ويرقيه الى تعضيل [2] بناتهم فلا يرون لهم كفؤا ولا نظيرا، وقد رضيت لها ابن سلّام القرشىّ، لدينه وشرفه وفضله ومروءته وأدبه؛ فقالا له: إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها وطلب مرضاته فيما اختصّه منها لأنت؛ فقال لهما معاوية: فاذكرا له ذلك عنى، وقد كنت جعلت لها فى نفسها شورى، غير أنى أرجو ألّا تخرج من رأيى إن شاء الله. فخرجا من عنده وأتيا عبد الله بن سلّام وذكرا له القصة. ثم دخل معاوية على ابنته وقال لها: اذا دخل عليك أبو الدرداء وأبو هريرة فعرضا عليك أمر عبد الله بن سلّام وحضّاك على المسارعة الى اتباع رأيى فيه، فقولى لهما: إنه كفء كريم وقريب حميم، غير أنّ تحته زينب بنت إسحاق، وأخاف أن يعرض لى من الغيرة ما يعرض للنساء فأتناول منه ما يسخط الله تعالى فيه فيعذّبنى عليه، ولست بفاعلة حتى يفارقها. فلما اجتمع أبو هريرة وأبو الدرداء بعبد الله وأعلماه بقول معاوية، ردّهما اليه يخطبان له منه، فأتياه؛ فقال: قد علمتما رضائى به وحرصى عليه، وكنت قد أعلمتكما الذى جعلت لها فى نفسها من الشّورى، فادخلا عليها واعرضا عليها الذى رأيت لها. فدخلا عليها وأعلماها؛ فقالت لهما ما قاله معاوية لها. فرجعا الى ابن سلّام وأعلماه بما قالته.

فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا فراق زينب أشهدهما بطلاقها وأعادهما الى ابنة معاوية.

[1] عبارة الإمامة والسياسة: «فانى قد تخوّفت أن يدعو من يلى هذا الأمر من بعدى زهو السلطان وسرفه الى عضل نسائهم

الخ» .

[2]

تعضيل البنات: حبسهنّ عن الزواج ظلما. وفى الأصل: «الى تعطيل بناتهم» .

ص: 181

فأتيا معاوية وأعلماه بما كان من فراق عبد الله زوجته رغبة فى الاتصال با بنته؛ فأظهر معاوية كراهة فعله وفراقه لزينب وقال: ما استحسنت له طلاق امرأته ولا أحببته، فانصرفا فى عافية ثم عودا إليها وخذا رضاها. فقاما ثم عادا اليه، فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها [1] عن رضاها تبرّيّا من الأمر، وقال: لم يكن لى أن أكرهها وقد جعلت لها الشورى فى نفسها. فدخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله بن سلّام امرأته ليسرّها، وذكرا من فضله وكمال مروءته وكرم محتده؛ فقالت لهما: إنه فى قريش لرفيع القدر، وقد تعرفان أن الأناة فى الأمور أرفق لما يخاف من المحذور، وإنى سائلة عنه حتى أعرف دخلة أمره وأعلمكما بالذى يزيّنه الله لى، ولا قوّة إلا بالله؛ فقالا: وفّقك الله وخار لك. وانصرفا عنها، وأعلما عبد الله بقولها؛ فأنشد:

فإن يك صدر هذا اليوم ولّى

فإنّ غدا لناظره قريب

وتحدّث الناس بما كان من طلاق عبد الله زينب وخطبته ابنة معاوية، ولا موه على مبادرته بالطلاق قبل إحكام أمره وإبرامه. ثم استحثّ عبد الله أبا هريرة وأبا الدرداء؛ فأتياها وقالا لها: اصنعى ما أنت صانعة واستخيرى الله، فإنه يهدى من استهداه؛ فقالت: أرجو، والحمد لله، أن يكون [2] الله قد خار [لى] ، وقد استبرأت [3] أمره وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسى، ولقد اختلف من استشرته فيه، فمنهم الناهى عنه و [منهم] الآمر به، واختلافهم أوّل ما كرهت.

فلما بلّغاه كلامها علم أنه مخدوع، وقال: ليس لأمر الله رادّ، ولا لما لا بدّ [4] منه

[1] فى الأصل: «

وسؤالهما

» .

[2]

فى كتاب الامامة والسياسة: «الحمد لله أرجو أن يكون

» .

[3]

فى الأساس: «استبرأت الشىء: طلبت آخره لأقطع الشبهة عنى» .

والمعنى هنا أنها استقصت جميع أموره حتى عرفته كل المعرفة.

[4]

فى الأصل: «ولا لما لا يدنيه صاد» ولعله تحريف عما وضعناه، وأن الياء والدال من «يدنيه» محرّفتان عن «بد» وبقية الكلمة محرّفة عن «منه» . ويؤيد هذا أن عبارة «الامامة والسياسة» «ولا لما لا بد أن يكون منه صاد» .

ص: 182

صادّ؛ فإن المرء وإن كمل له حلمه واجتمع له عقله واستدّ رأيه ليس بدافع عن نفسه قدرا برأى ولا كيد. ولعل ما سرّوا به واستجذلوا [1][له] لا يدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره. وذاع أمره وفشا فى الناس، وقالوا: خدعه معاوية حتى طلّق امرأته، وإنما أرادها لابنه، وقبّحوا فعله. فتمّت مكيدته هذه؛ لكن المقادير أتت بخلاف تدبيره وبضدّ تقديره. وذلك أنه لما انقضت أقراء زينب، وجّه معاوية أبا الدرداء الى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد؛ فخرج حتى قدم الكوفة، وبها يومئذ الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، فبدأ أبو الدرداء بزيارته، فسلم عليه الحسين وسأله عن سبب مقدمه؛ فقال: وجّهنى معاوية خاطبا على ابنه يزيد زينب بنت إسحاق؛ فقال له الحسين: لقد كنت أردت نكاحها وقصدت الإرسال اليها اذا انقضت أقراؤها، فلم يمنعنى من ذلك إلا تخيّر مثلك [2] ، فقد أتى الله بك، فاخطب- رحمك الله- علىّ وعليه، لتتخيّر من اختاره الله لها، وهى أمانة فى عنقك حتى تؤدّيها اليها، وأعطها من المهر مثل ما بذل معاوية عن ابنه؛ فقال: أفعل إن شاء الله. فلما دخل عليها أبو الدرداء قال: أيتها المرأة، إنّ الله خلق الأمور بقدرته، وكوّنها بعزته، فجعل لكل أمر قدرا، ولكل قدر سببا، فليس لأحد عن قدر الله مستحاص، ولا للخروج عن أمره مستناص؛ فكان مما [3] سبق لك وقدّر عليك الذى كان من فراق عبد الله بن سلّام إيّاك، ولعل ذلك لا يضرّك ويجعل الله فيه خيرا كثيرا؛ وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن ملكها وولىّ عهده والخليفة من بعده

[1] كذا فى «كتاب الامامة والسياسة» وفى الأصل: «ما سوّلوا به واستخذلوا» .

[2]

فى الأصل وفى «كتاب الامامة والسياسة» : «فلم يمنعنى من ذلك الا تخيير مثلك

» وظاهر أن الذى يلتئم مع السياق انما هو التخير وهو الانتقاء، اذ المراد هنا انتقاء الرسول الذى يحسن القيام بهذه السفارة.

[3]

كذا فى كتاب الامامة والسياسة. وفى الأصل: «فكان ما سبق لك

» .

ص: 183

يزيد بن معاوية، والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيّد شباب أهل الجنة، وقد بلغك شأنهما وسناؤهما وفضلهما، وقد جئتك خاطبا عليهما، فاختارى أيّهما شئت؛ فسكتت طويلا ثم قالت: يا أبا الدرداء، لو أن هذا الأمر جاءنى وأنت غائب لأشخصت فيه الرسل إليك واتّبعت فيه رأيك ولم أقتطعه دونك، فأمّا إذ كنت أنت المرسل فقد فوّضت أمرى بعد الله إليك وجعلته فى يديك، فاخترلى أرضاهما لديك، والله شاهد عليك، فاقض فى أمرى بالتحرّى ولا يصدّنّك عن ذلك اتباع هوى، فليس أمرهما عليك خفيّا، ولا أنت عما طوّقتك غبيّا؛ فقال: أيتها المرأة، إنما علىّ إعلامك وعليك الاختيار لنفسك؛ قالت: عفا الله عنك! إنما أنا ابنة أخيك، ولا غنى لى عنك، فلا تمنعك رهبة أحد عن قول الحق فيما طوّقتك، فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حمّلتك؛ والله خير من روعى وخيف، إنه بنا خبير لطيف. فلما لم يجد بدّا من القول والإشارة قال: أى بنيّة، إن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إلىّ وأرضى عندى، والله أعلم بخيرهما لك، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع شفتيه على شفتى حسين، فضعى شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه؛ قالت: قد اخترته وأردته ورضيته. فتزوّجها الحسين وساق لها مهرا عظيما. فبلغ ذلك معاوية فتعاظمه ولام أبا الدرداء شديدا، وقال: من يرسل ذا بله وعمى يركب خلاف ما يهوى. وأما عبد الله ابن سلّام فإنّ معاوية اطّرحه وقطع عنه جميع روافده، لسوء قوله فيه وتهمته أنه خدعه، ولم يزل يجفوه حتى عيل صبره وقلّ ما فى يديه. فرجع الى العراق، وكان قد استودع زينب قبل طلاقه لها مالا عظيما ودرّا كثيرا، فظن أنها تجحده لسوء فعله بها وطلاقها من غير شىء كان منها، فلقى حسينا فسلّم عليه، ثم قال: قد علمت ما كان من خبرى وخبر زينب، وكنت قد استودعتها مالا ولم أقبضه، وأثنى عليها وقال له:

ص: 184

ذاكرها أمرى واحضضها على ردّ مالى. فلما انصرف الحسين إليها قال لها: قد قدم عبد الله بن سلّام وهو يحسن الثناء عليك ويحمل النشر عنك فى حسن صحبتك وما آنسه قديما من أمانتك، فسرّنى ذلك وأعجبنى، وذكر أنه كان قد استودعك مالا، فأدّى إليه أمانته وردّى عليه ماله، فإنه لم يقل إلا صدقا ولم يطلب إلا حقا؛ فقالت:

صدق، استودعنى مالا لا أدرى ما هو، فادفعه اليه بطابعه؛ فأثنى عليها حسين خيرا وقال: ألا أدخله عليك حتى تتبرّئى إليه منه كما دفعه اليك؟ ثم لقى عبد الله وقال:

ما أنكرت مالك، وإنها زعمت أنه بطابعك، فادخل اليها وتسلّم مالك منها؛ فقال:

أو ما تأمر من يدفعه إلىّ؟ قال: لا! بل تقبضه منها كما دفعته إليها. ودخل عليها حسين وقال: هذا عبد الله قد جاء يطلب وديعته؛ فأخرجت اليه البدر فوضعتها بين يديه وقالت: هذا مالك؛ فشكر وأثنى. وخرج حسين عنهما، وفضّ عبد الله ابن سلّام خواتم بدرة [1] وحثى لها من ذلك وقال: خذى فهو قليل منى؛ فاستعبرا جميعا حتى علت أصواتهما بالبكاء أسفا على ما ابتليا به؛ فدخل الحسين عليهما وقد رقّ لهما فقال: أشهد الله أنها طالق ثلاثا، اللهم قد تعلم أنى لم أستنكحها رغبة فى مالها ولا جمالها، ولكنى أردت إحلالها لبعلها. فسألها عبد الله أن تصرف الى حسين ما كان قد ساق إليها من مهر؛ فأجابته الى ذلك؛ فلم يقبله الحسين وقال:

الذى أرجو إليه من الثواب خير لى. فلما انقضت أقراؤها تزوّجها عبد الله، وحرمها الله تعالى يزيد بن معاوية.

ومن مكايد معاوية أن رجلا من قريش أسر فحمل الى صاحب القسطنطينية، فكلّمه ملك الروم، فجاو به القرشىّ بجواب لم يوافقه؛ فقام اليه رجل من بطارقة صاحب القسطنطينية فوكزه، فقال القرشىّ: وا معاوياه! لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا. فوصل

[1] كذا فى كتاب الامامة والسياسة. وفى الأصل: «

خواتم برده

» وهو تحريف من الناسخ.

ص: 185

الخبر الى معاوية فطوى عليه واحتال فى فداء الرجل. فلما وصل اليه سأله عن أمره مع صاحب القسطنطينية وعن اسم البطريق الذى وكزه؛ فلما عرفه أرسل الى رجل من قوّاد صور [1] الذين كانوا قوّاد البحر ممن عرف بالنّجدة وغزو الروم، وقال له:

أنشئ مركبا يكون له مجاديف فى جوفه، واستعمل السفر الى بلاد الروم، وأظهر أنك إنما تسافر لبلادهم على وجه السرّ والاستتار منا، وتوصّل إلى صاحب القسطنطينية ومكّنه من المال واحمل إليه الهدايا والى جميع أصحابه، ولا تعرض لفلان (يعنى الذى لطم الرجل القرشىّ) واعمل كأنك لا تعرفه، فإذا كلّمك وقال لك: لأىّ معنى تهادى أصحابى وتتركنى، فاعتذر إليه وقل له: أنا رجل أدخل الى هذه المواضع مستترا ولا أعرف [إلا [2]] من عرّفت به، فلو عرفت أنك من وزراء الملك لهاديتك كما هاديت أصحابك، ولكنى اذا انصرفت إليكم مرة أخرى سأعرف حقك. ففعل القائد ذلك.

ولما انصرف إليهم ثانية هاداه وألطفه [3] وأربى فى هديته على أصحابه، ولم يزل حتى اطمأن إليه العلج. فلما كان فى إحدى سفراته قال له البطريق: كنت أحبّ أن تجلب إلىّ من بلاد المسلمين وطاء ديباج يكون على ألوان الزهر؛ قال: نعم. فلما انصرف أخبر معاوية بما طلبه البطريق؛ فأمر له ببساط على ما وصف، وقال: اذا دخلت وادى القسطنطينية فأخرجه وابسطه على ظهر المركب وتربّص فى الوادى حتى يصل الخبر الى ذلك العلج، وابعث له فى السرّ وتحيّن خروجه الى ضيعته التى له على ضفّة وادى القسطنطينية، فإذا وصلت الى حدّ ضيعته فابتدئ بها، لعلّ يحمله الشره على الدخول إليك؛ فاذا حصل عندك فى المركب فمر الرجال بإشارة تكون بينك

[1] صور: مدينة عظيمة وكانت ثغرا من ثغور بحر الشام.

[2]

تكملة نرى أن استقامة الكلام تتوقف عليها.

[3]

يقال: ألطفه بكذا اذا برّه به.

ص: 186

وبينهم أن يستعملوا المجاديف التى فى جوف المركب، وكرّبه راجعا الى الشأم. ففعل ما أمره به معاوية. وصادف وصول ذلك القائد وجود البطريق [1] فى ضيعته، فبسط ذلك البساط على ظهر المركب ووصل الى عرض ضيعة العلج؛ فلما عاين البساط حمله الشّره والحرص الى أن دخل المركب، فلما صار فى المركب أشار [القائد] الى رجاله فرجعوا بالمركب بعد أن أوثق البطريق ومن معه، وسار بهم حتى قدم على معاوية. فأحضر معاوية البطريق ووقفه بين يديه، وأحضر القرشىّ وقال: هذا صاحبك؟ قال:

نعم؛ قال: قم فاصنع به ما صنع بك ولا تزد؛ فقام القرشىّ فوكزه كما كان فعل به العلج. ثم قال معاوية للبطريق: ارجع الى ملكك وقل له: تركت ملك الإسلام يقتصّ من أصحاب بساطك، وقال للذى ساقه: انصرف به الى أوّل أرض الروم وأخرجه، واترك له البساط وكل ما سألك أن تحمله اليه من هديّة. فانصرف به الى فم وادى القسطنطينية، فوجد ملك الروم قد صنع سلسلة على فم الوادى ووكّل بها الرجال، فلا يدخل أحد الى الوادى إلا بإذنه؛ فأخرج العلج ومن معه وما معه. فلما وصل الى ملكه ووصف له ما صنع به معاوية قال: هذا ملك كبير الحيلة. فعظم معاوية فى أعينهم وفى نفوسهم فوق ما كان. وهذه الواقعة محاسنها تستر مساوى ما تقدّمها.

وهذا الباب متّسع، ستقف إن شاء الله فى التاريخ الذى أوردناه فى كتابنا هذا [على [2]] ما تكتفى به وتطّلع منه على المكايد.

وحيث انتهينا الى هذه الغاية فى أوصاف قادة الجيوش، فلنذكر الآن فضيلة الجهاد ووصف الجيوش والوقائع.

[1] فى الأصل: «وصادف وصول ذلك القائد والبطريق

» .

[2]

زيادة يقتضيها الكلام.

ص: 187