الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث من الفن الثانى فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير
وأما الطاعة فواجبة على سائر الرعيّة، لأن الله تعالى قرن طاعة أولى الأمر بطاعته وطاعة رسوله، ونصّ على ذلك فى محكم تنزيله فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
، فبأمره تبارك وتعالى وجبت، وبسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم تأكّدت وترتّبت.
روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعنى فقد أطاع الله ومن يعصنى فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعنى ومن يعص الأمير فقد عصانى»
وهذا الحديث ثابت فى صحيح مسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسمعوا وأطيعوا ولو أمّر عليكم بعد حبشىّ كأنّ رأسه زبيبة» . فقد تبيّن بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة الإمام على كلّ مسلم.
وأما النصيحة، فلما
روى عن تميم الدّارىّ رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدّين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة» ؛ قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين» أو قال: «أئمة المسلمين وعامّتهم»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل رضى لكم ثلاثا وسخط لكم ثلاثا رضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا وأن تناصحوا من ولّاه الله عز وجل أمركم»
. وقال أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الخيرىّ رحمه الله: فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد فى القول والعمل، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد والبلاد بصلاحهم، وإيّاك أن تدعو عليهم فيزدادوا شرّا ويزداد البلاء بالمسلمين،
وإيّاك أن تأتيهم أو تتصنّع لإتيانهم أو تحبّ أن يأتوك، واهرب منهم ما استطعت.
وفى كتاب للهند أن رجلا دخل على بعض ملوكهم فقال: أيها الملك، إنّ نصيحتك واجبة فى الصغير الحقير والكبير الخطير، ولولا الثقة بفضيلة رأيك واحتمال ما يسوء موقعه منك فى جنب صلاح العامّة وتلافى الخاصّة لكان خرقا منّى أن أقول، ولكنّا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا مشمول ببقائك، وأنفسنا معلّقة بنفسك لم نجد بدّا من أداء الحقّ إليك وإن أنت لم تسلنى ذلك؛ فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والأطباء مرضه والإخوان بثّه فقد أخلّ بنفسه. وأنا أعلم أنّ كلّ ما كان من كلام يكرهه سامعه، لم يتشجّع عليه قائله إلا أن يثق بعقل المقول له، فإنه إذا كان عاقلا احتمل ذلك، لأنه ما كان فيه من نفع فإنما هو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة فى الرأى وتصرّف فى العلم، وإنما يشجّعنى ذلك على أن أخبرك بما تكره واثقا بمعرفتك بنصحى لك وإيثارى إيّاك على نفسى.
وقال عمرو بن عتبة للوليد بن يزيد حين تغيّر الناس له: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقنى الأمن منك، وتسكتنى الهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعا، أم أقول مشفقا؟ قال: قل، مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه؛ فقتل بعد ذلك بأيام.
وقالوا: ينبغى لمن صحب السلطان ألّا يكتم عنه نصيحته وإن استقلّها، وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويعرّفه بعيب غيره، ليعرف به عيب نفسه.
دخل الزّهرىّ على الوليد بن عبد الملك فقال له: ما حديث يحدّثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدّثوننا أن الله إذا استرعى عبدا
رعيّة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات؛ قال: باطل يا أمير المؤمنين، أنبىّ خليفة أكرم على الله، أم خليفة غير نبىّ؟ قال: نبىّ خليفة؛ قال: فإن الله تعالى يقول لنبيّه داود عليه السلام: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)
؛ فهذا يا أمير المؤمنين وعيده لنبىّ خليفة، فما ظنّك بخليفة غير نبىّ! قال: إن الناس ليعرّوننا من ديننا.
خطب المنصور فقال فى خطبته ما كأنّه تفسير ما أدمجه فيثاغورث وإيضاحه، وهو: معشر الناس، لا تضمروا غشّ الأئمة فإنه من أضمر ذلك أظهره الله على سقطات لسانه، وقلبات أحواله وسحنة وجهه.
قال: خرج الزّهرىّ يوما من مجلس هشام بن عبد الملك فقال: ما رأيت كاليوم ولا سمعت كأربع كلمات تكلّم بهنّ رجل عند هشام بن عبد الملك، دخل عليه فقال:
يا أمير المؤمنين، احفظ عنّى أربع كلمات فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيّتك، قال: هاتهن؛ فقال: لا تعدنّ عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرّنّك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن الأعمال جزاء فاتّق العواقب، وأن الأمور بغتات فكن على حذر؛ قال عيسى بن دأب: فحدّثت الهادى بها وفى يده لقمة قد رفعها إلى فيه فأمسكها، وقال: ويحك! أعد علىّ؛ فقلت:
يا أمير المؤمنين؛ أسغ لقمتك؛ فقال: حديثك أعجب إلىّ.
وقال ابن المقفّع: اعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التّبخيل [1] ويعدّه منهم شفقة ويحمدهم عليه وإن كان جوادا، فإن كنت [2] مبخّلا غششت صاحبك بفساد مروءته،
[1] كذا فى الأدب الكبير ورسائل البلغاء لابن المقفع وفى الأصل «التبخل» . والتبخيل:
المطالبة بالبخل.
[2]
كذا فى الأدب الكبير ورسائل البلغاء لابن المقفع وفى الأصل: «كان
…
» .
وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك؛ فالرأى تصحيح النصيحة على وجهها، والتماس المخرج [من العيب واللائمة فيما تترك [1]] من تبخيل صاحبك، فلا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلا إلى شىء من هواك، ولا طلبا لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه.
وأما تعظيمه وتوقيره والأدب فى خدمته والتمسّك بجماعته، فلما
روى عن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «السلطان ظلّ الله فى الأرض فمن أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله»
. وعن أبى عبيدة بن الجرّاح رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تسبّوا السلطان فإنه [2] فىء الله فى أرضه»
. وعن أبى ذرّ رضى الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه كائن بعدى سلطان فلا تذلّوه فمن أراد أن يذلّه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وليس بمقبول توبته حتى يسدّ الثّلمة التى ثلم ثم يعود فيكون فيمن يعزّه»
. وقد روى عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مررت ببلد ليس فيه سلطان فلا تدخله فإنما السلطان ظلّ الله ورمحه [3] فى الأرض»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهليّة»
وعن أبى رجاء العطاردىّ قال: سمعت ابن عبّاس يرويه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم
[1] الزيادة عن الأدب الكبير.
[2]
فى الأصل: «فانهم فىء الله
…
» بميم الجمع وما ذكرناه عن الجامع الصغير.
[3]
فى الأصل «السلطان ظل وريحه فى الأرض» والتصويب عن الجامع الصغير والنهاية لابن الأثير، ثم شرحه صاحب النهاية بكلام طويل ملخصه: أن الظل يلجأ اليه عند الحر، والرمح يدفع به شر العدوّ وأذاه.
قال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهليّة [1] »
رواه البخارىّ. فقد تبيّن لك من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب تعظيم السلطان وتوقيره.
وقال بزرجمهر: من جالس الملوك بغير أدب فقد خاطر بنفسه. وقال ابن المقفّع: من خدم السلطان فعليه بالملازمة من غير معاتبة. وقال: إن سأل السلطان غيرك فلا تكن المجيب عنه، فإن استلابك الكلام خفّة منك واستخفاف بالسائل والمسئول؛ وما أنت قائل إن قال لك: ما إيّاك سألت! أو قال لك المسئول عند المسئلة [يعاد له بها [2]] : يا هذا، دونك فأجب؟ وإذا لم يقصد الملك بمسئلته رجلا بعينه وعمّ بها جميع من عنده فلا تبادرنّ بالجواب، ولا تسابق الجلساء ولا تواثب بالكلام مواثبة، فإنك إن سبقت القوم الى الجواب صاروا لكلامك خصوما فتعقّبوه بالعيب له والطعن فيه، وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخلّيته للقوم عرضت قولهم على عينك، ثم تدبّرته وفكّرت فيه وفيما عندك، ثم هيّأت من تفكيرك ومما سمعت جوابا مرضيا، ثم استدبرت به أقاويلهم حتى [3] تصغى إليك الأسماع، ويهدأ عنك الخصوم.
فإن لم يبلغك الكلام واكتفى بغيرك وانقطع الحديث فلا يكوننّ من الغبن عند نفسك فوت ما فاتك من الجواب، فإن صيانة القول خير من سوء موضعه. وقال: إذا كلّمك السلطان فاستمع لكلامه واصغ إليه، ولا تشغل طرفك بنظر، ولا أطرافك بعمل،
[1] نص ما فى البخارى: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فانه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية» .
[2]
الزيادة عن الأدب الكبير، والمراد من الجملة: ماذا أنت قائل اذا أعاد السائل السؤال على المسئول الأول دون التفات الى جوابك.
[3]
فى الأدب الكبير «حين» بدل «حتى» .
ولا قلبك بحديث نفس، واحذر هذا من نفسك وتعهدها به. وقال: لا تشكونّ إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطّلعت عليه منه من رأى أنت تكرهه، فإنك تكون قد فطّنتهم لهواه والميل عليك معه. وقال: لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم فى المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى [1] ألّا تكتمهم سرّك ولا تستطلعهم ما كتموك، وتخفى ما أطلعوك عليه عن الناس كلهم [حتى تحمى نفسك الحديث به [2]] ، وعلى الاجتهاد فى طلب رضاهم، والتلطّف لحاجاتهم، والتثبيت لحجتهم [3] ، والتصديق لمقالتهم، [والتزيين [2] لرأيهم] ، وقلّة الامتعاض لما فعلوا إذا أساءوا، وترك الانتحال لما فعلوا اذا أحسنوا [4] ، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن السّتر لمساوئهم، والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيدا، والمباعدة لمن باعدوا وإن كان قريبا، والاهتمام بأمورهم وإن لم يهتمّوا، والحفظ لأمورهم وإن ضيّعوا، والذكر لأمورهم وإن نسوا، والتخفيف بمؤنتك عنهم، والاحتمال لكل مؤنة لهم، والرضا منهم بالعفو، وقلة الرضا من نفسك بالمجهود.
فإن كنت حافظا إذا ولّوك، حذرا إذا قرّبوك، أمينا إذا ائتمنوك، ذليلا إذا صرموك، راضيا إذا أسخطوك، تعلّمهم وكأنّك تتعلّم منهم، وتؤدّبهم وكأنك تتأدّب منهم، وتشكرهم ولا تحمّلهم الشكر، وإلّا فالبعد منهم كلّ البعد.
ومن الآداب العرفية فى صحبة الملوك وخدمتهم، ألّا يسلّم على قادم بين أيديهم، وإنما استسنّ ذلك زياد بن أبيه، وذلك أن عبد الله بن عبّاس قدم على
[1] كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل:«وعلم» بدل «وعلى
…
» وهو تحريف.
[2]
زيادة عن الأدب الكبير.
[3]
كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل:«والتثبت بحجتهم» .
[4]
الجملة من «وقلة الامتعاض
…
اذا أحسنوا» منقولة عن الأدب الكبير، وهى فى الأصل:«وقلة الانتحال لما فعلوا إذا أساءوا» ففيه تحريف شوّه المعنى وأضاعه.
معاوية بن أبى سفيان وعنده زياد، فرحّب به معاوية وألطفه وقرّبه ولم يكلّمه زياد بكلمة، فابتدأه ابن عبّاس وقال: ما حالك يا أبا المغيرة! كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؛ قال: لا، ولكنه لا يسلّم على قادم بين يدى أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عبّاس: ما ترك الناس التحيّة بينهم عند أمرائهم؛ فقال له معاوية:
كفّ عنه يابن عبّاس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
وقالوا: كن على التماس الخطإ بالسكوت بين يدى السلطان أحرص منك على التماسه بالكلام.
وقالوا: مساءلة الملوك عن أحوالهم من تحيّة النّوكى.
وقالوا: لا تسلّم على الملك، فإنه إن أجابك شقّ عليه، وإن لم يحبك شقّ عليك.
وقال الفضل بن الربيع: سنتان مهملتان عند الملوك: السلام والتشميت، لأنهم يصانون عن كلّ ما يقتضى جوابا.
وقيل: لا يقدر على صحبة السلطان إلا من يستقلّ بما حمّلوه، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يغتّر بهم إذا رضوا عنه، ولا يتغيّر لهم إذا سخطوا عليه، ولا يطغى إذا سلّطوه، ولا يبطر إذا أكرموه.
وقال فيلسوف: إذا قرّبك السلطان فكن منه على حدّ السّنان، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصبىّ، وكلّمه بما يشتهى. قال الصاحب بن عبّاد
إذا ولّاك سلطان فزده
…
من التعظيم واحذره وراقب
فما السلطان إلا البحر عظما
…
وقرب البحر محذور العواقب
وقال أبو الفتح البستىّ: أجهل الناس من كان مدلّا على السلطان مذلّا للإخوان.