الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن هلكت برأى أو ظفرت به
…
فأنت عند ذوى الألباب معذور
وإن ظفرت على جهل وفزت به
…
قالوا: جهول أعانته المقادير
ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل، قول السّبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بن الوليد بهم: يا بنى حنيفة بعدا كما بعدت عاد وثمود، والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه، كأنّى أسمع جرسه وأبصر غبّه، ولكنّكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة، وإنّى لمّا رأيتكم تتّهمون النصيح، وتسفّهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم [الله [1]] التوبة ولا أخذكم [على [1]] غرّة، ولقد أمهلكم حتّى ملّ الواعظ وهرأ [2] الموعوظ، وكنتم كأنّما يعنى بما أنتم فيه غيركم، فأصبحتم وفى أيديكم من تكذيبى التصديق ومن نصحى الندامة، وأصبح فى يدى من هلاككم البكاء ومن ذلّكم الجزع، وأصبح ما كان غير مردود، وما بقى غير مأمون.
ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الإشارة
ومن الناس من آثر الاستبداد برأيه وكره أن يستشير. قال عبد الملك بن صالح:
ما استشرت أحدا قطّ إلا تكبّر علىّ وتصاغرت له، ودخلته العزّة ودخلتنى الذّلّة.
فعليك بالاستبداد، فإن صاحبه جليل فى العيون مهيب فى الصدور. واعلم أنك متى استشرت تضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك. وما عزّ سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه، وآراء نصحائه. فإيّاك والمشورة وإن ضاقت عليك المذاهب، واستبهمت لديك المسالك؛ وأنشد:
فما كلّ ذى نصح بمؤتيك نصحه
…
ولا كلّ مؤت نصحه بلبيب
[1] زيادة عن عيون الأخبار والعقد الفريد.
[2]
هرأ فى منطقه كمنع: أكثر فى خطأ، أو قال الخنا والقبيح. وفى الأصل والعقد الفريد:«وهرى الموعوظ» .
وقال المهلّب بن أبى صفرة: لو لم يكن فى الاستبداد بالرأى إلّا صون السّرّ وتوفير العقل لوجب التمسّك به.
وقال بزرجمهر: أردت نصيحا أثق به فما وجدت غير فكرى، واستضأت بنور الشمس والقمر فلم أستضئ بشىء أضوأ من نور قلبى.
وقال علىّ بن الحسين: الفكرة مرآة ترى المؤمن سيئاته فيقلع عنها، وحسناته فيكثر منها، فلا تقع مقرعة التقريع عليه، ولا تنظر عيون العواقب شزرا إليه.
وما زال المنصور يستشير أهل بيته حتّى مدحه ابن هرمة بقوله:
يزرن امرأ لا يصلح القوم أمره
…
ولا ينتجى [1] الأدنين فيما يحاول
فاستوى جالسا وقال: أصبت والله! واستعاده، وما استشار بعدها.
قالوا: وعلى المستبدّ أن يتروّى فى رأيه، فكلّ رأى لم تتمخّض به الفكرة ليلة فهو مولود لغير تمام. قال شاعر:
إذا كنت ذا رأى فكن ذا أناءة
…
فإنّ فساد الرأى أن تتعجّلا
وما العجز إلّا أن تشاور عاجزا
…
وما الحزم إلا أن تهمّ فتفعلا
قال بعض جلساء هارون الرشيد: أنا قتلت جعفر بن يحيى، وذلك أنّى رأيت الرشيد يوما وقد تنفّس تنفّسا منكرا فأنشدت فى إثر تنفّسه:
واستبدّت [2] مرّة واحدة
…
إنما العاجز من لا يستبدّ
وممّا مدح به ذوى الرأى قول بعض الشعراء:
بصير بأعقاب الأمور كأنّما
…
يخاطبه من كلّ أمر عواقبه
وأين مفرّ الحزم منه وإنما
…
مرائى الأمور المشكلات تجاربه
[1] يقال: انتجاه إذا أفضى اليه بسره وخصه به.
[2]
كذا فى ديوان عمر بن أبى ربيعة المطبوع بليبرج. وفى الأصل «فاستبدت» بالفاء.
وقال البحترىّ فى سليمان بن عبد الله:
كأنّ آراءه والحزم يتبعها
…
تريه كلّ خفىّ وهو إعلان
ما غاب عن عينه فالقلب يكلؤه
…
وإن تنم عينه فالقلب يقظان
وقال أيضا:
كأنّه وزمام الدّهر فى يده
…
يرى عواقب ما يأتى وما يذر
وقال آخر:
يرى العواقب فى أثناء فكرته
…
كأنّ أفكاره بالغيب كهّان
وقال آخر:
بديهته وفكرته سواء
…
إذا ما نابه الخطب الخطير
وأحزم ما يكون الدهر يوما
…
إذا عجز المشاور والمشير
ومن الناس من كره أن يشير، فمنهم عبد الله بن المقفّع؛ وذلك أنّ عبد الله ابن علىّ استشاره فيما كان بينه وبين المنصور؛ فقال: لست أقود جيشا، ولا أتقلّد حربا، ولا أشير بسفك دم، وعثرة الحرب لا تستقال، وغيرى أولى بالمشورة فى هذا المكان.
واجتمع رؤساء بنى سعد إلى أكثم بن صيفىّ يستشيرونه فيما دهمهم يوم الكلاب؛ فقال: إنّ وهن الكبر قد فشا فى بدنى، وليس معى من حدّة الذّهن ما أبتدئ به الرأى، ولكن اجتمعوا وقولوا، فإنّى إذا مرّ بى الصواب عرفته. وسيأتى خبر كلامه فى وقائع العرب؛ وإنما أوردناه فى هذا الموضع لدخوله فيه والتئامه به، ومناسبته له، لا على سبيل السهو والتّكرار لغير فائدة.