الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن من الفن الثانى فى حفظ الأسرار والإذن والحجاب
ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار
قال الله تعالى إخبارا عن نبيّه يعقوب بن إسحاق حين أوصى يوسف ابنه عليهم السلام: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»
. وقالت الحكماء: صدرك أوسع لسرّك. وقالوا: سرّك من دمك. يعنون أنه ربما كان فى إفشاء السرّ سفك الدّم.
وقالوا: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه، فلم يبده لصديق فيوشك أن يصير عدوّا فيذيعه.
وقالوا: ما كنت كاتمه عن عدوّك فلا تظهر عليه صديقك.
وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلا سرّا فأفشاه فلمته، لأنّى كنت أضيق صدرا حين استودعته منه حين أفشاه.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه:
إذا كان لى سرّ فحدّثته العدا
…
وضاق به صدرى فللنّاس أعذر
هو السّرّ ما استودعته وكتمته
…
وليس بسرّ حين يفشو ويظهر
وقال آخر:
فلا تودعنّ الدهر سرّك أحمقا
…
فإنّك إن أودعته منه أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن كتم سرّه
…
فصدر الذى يستودع السّرّ أضيق
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج:
لا تفش سرّك إلا إليك
…
فإنّ لكل نصيح نصيحا
فإنّى رأيت غواة الرجا
…
ل لا يتركون أديما صحيحا
وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إنّ أمير المؤمنين أسرّ إلىّ حديثا [ولا [1] أراه يطوى عنك ما يبسطه لغيرك] أفلا أخبرك به؟ فقال: [لا! [1]] ، يا بنىّ إنّه من كتم سرّا كان الخيار له، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تكن مملوكا بعد أن كنت مالكا.
وفى كتاب التاج: أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه، فقال أحدهما: إنّه لا ينبغى للملك أن يستشير منّا أحدا إلا خاليا به، فإنّه أموت للسرّ وأحزم للرأى وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض؛ فإن إفشاء السّرّ إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشاؤه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة؛ لأنّ الواحد رهن بما أفشى إليه، والثانى [2] مطلق عنه ذلك الرهن، والثالث [3] علاوة فيه. فإذا كان السرّ عند واحد كان أحرى ألّا يظهره رهبة ورغبة. وإن كان عند اثنين كان الملك على شبهة، واتسعت على الرجلين المعاريض. فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتّهمهما اتّهم بريئا بجناية مجرم. وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجّة عليه.
وقال علىّ رضى الله عنه: الظّفر بالحزم، والحزم بأصالة الرأى، والرأى بتحصين السرّ.
وقيل: من حصّن سرّه فله من تحصينه إيّاه خلّتان: إمّا الظفر بما يريد، وإما السلامة من العيب والضرر إن أخطأه الظفر.
وقيل: كلّما كثر خزّان السرّ ازداد ضياعا.
[1] زيادة عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 40 طبع دار الكتب المصرية) .
[2]
فى العقد الفريد «والاثنان مطلق عنهما» .
[3]
فى العقد الفريد «والثلاثة» (ج 1 ص 26) .
ويقال: إذا انتهى السرّ من الجنان إلى عذبة اللسان، فالإذاعة مستولية عليه.
وقال عمرو بن العاص [1] : القلوب أوعية للأسرار، والشّفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلّ امرئ مفتاح سرّه. قال شاعر:
صن السرّ عن كلّ مستخبر
…
وحاذر فما الحزم إلا الحذر
أسيرك سرّك إن صنته
…
وأنت أسير له إن ظهر
وكان يقال: الكاتم سرّه بين إحدى فضيلتين: الظّفر بحاجته، والسلامة من شرّ إذاعته.
ويقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه.
وقال آخر: كتمانك سرّك يعقبك السلامة، وإفشاؤه يعقبك الندامة، والصبر على كتمان السرّ أيسر من الندامة [2] على إفشائه. قال شاعر:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها
…
فسرّك عند الناس أفشى وأضيع
وقال آخر:
تبوح سرّك ضيقا به
…
وتحسب كلّ أخ يكتم
وكتمانك السرّ ممن تخاف
…
ومن لا تخافنّه أحزم
إذا ذاع سرّك من مخبر
…
فأنت متى لمته ألوم
وكان يقال: لا تظهر كوامن صدرك بإذاعة سرّك، فيمكربك حاسدك، ويظهر عليك معاندك. قال عمر بن أبى ربيعة:
فقالت وأرخت جانب السّتر إنّما
…
معى فتحدّث غير ذى رقبة أهلى
فقلت لها ما بى لهم من ترقّب
…
ولكنّ سرّى ليس يحمله مثلى
[1] فى كتاب أدب الدنيا والدين (ص 311) تنسب هذه الكلمة الى عمر بن عبد العزيز.
[2]
كذا فى المحاسن والاصاد. وفى الأصل: «من التبذل به على إفشائه» .
ومما قيل فى استراحة الرجل بمكنون سرّه إلى صديقه- قال الله تعالى:
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ
. وقالت الحكماء: لكل سرّ مستودع. قال بعض الشعراء:
وأبثثت عمرا بعض ما فى جوانحى
…
وجرّعته من مرّ ما أتجرّع
فلا بدّ من شكوى إلى ذى حفيظة [1]
…
إذا جعلت أسرار نفسى تطلّع
وقال حبيب:
شكوت وما الشكوى لمثلى عادة
…
ولكن تفيض الكأس [2] عند امتلائها
وقال أبو الحسن بن محمد البصرىّ:
تعب الهوى بمعالمى ورسومى
…
ودفنت حيّا تحت ردم همومى
وشكوت همّى حين ضقت، ومن شكا
…
همّا يضيق به فغير ملوم
ومما وصف به كتمان السرّ- قيل: أسرّ رجل إلى صديق له حديثا، فلما استقصاه قال: أفهمت؟ قال: بل نسيت. وقيل لآخر: كيف كتمانك للسرّ؟ فقال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر.
ومن جيّد ما قيل فى كتمان السرّ قول الأوّل:
تلاقت حيازيمى على قلب حازم
…
كتوم لما ضمّت عليه أضالعه [3]
أؤاخى رجالا لست أطلع بعضهم
…
على سرّ بعض، إنّ قلبى واسعه
[1] الحفيظة: اسم من المحافظة والحفاظ.
[2]
- هذه هى الرواية المشهورة فى البيت، وفى الأصل «تفيض النفس» .
[3]
فى الأصل: «أصابعه» والسياق يقتضى ما وضعنا.
قال قيس بن الخطيم:
إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه
…
بنثّ [1] وتكثير الحديث قمين
وإن ضيّع الإخوان سرّا فإنّنى
…
كتوم لأسرار العشير أمين
يكون له عندى إذا ما ضممته
…
مكان بسوداء الفؤاد مكين
وقال أبو إسحاق الصابى:
لسرّ صديقى مكمن [2] فى جوانحى
…
تمنّع أن تدنو إليه المباحث
تغلغل منّى حيث لا تستطيعه
…
كؤوس النّدامى والأنيس المحادث
إذا الفحص آلى جاهدا أن يناله
…
تراجع عنه وهو خزيان حانث
فقل لصديقى اذا [3] لم السّر آمنا
…
إذا لم يكن ما بيننا فيه ثالث
وهذا البيت مأخوذ من قول جميل:
ولا يسمعن سرّى وسرّك ثالث
…
ألا كلّ سرّ جاوز اثنين ضائع [4]
وقال الصابى أيضا:
وللسرّ فيما بين جنبىّ مكمن
…
خفى قصىّ عن مدارج أنفاسى
أضنّ به ضنّى بموضع حفظه
…
فأجميه عن إحساس غيرى وإحساسى
فقد صار كالمعدوم لا يستطيعه
…
يقين ولا ظنّ لخلق من الناس
كأنّى من فرط احتياطى أضعته
…
فبعضى له واع وبعضى له ناسى
[1] النثّ: الإفشاء.
[2]
فى الأصل «ممكن» وهو تحريف.
[3]
كذا فى الأصل، وفيه تحريف واضح، ولم نوفق الى أصل هذا الشعر فى مصدر آخر. ولو قيل:
قل لصديقى كن على السر آمنا
لاستقام به الوزن والمعنى.
[4]
فى حماسة البحترى طبع «ليدن» ص 217. «ذائع» وفيها ينسب الشعر الى قيس بن منقلة الخزاعىّ.