الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حقّ نفسه اذا دعى الى الولاية أو خطبها، وما يلزم الناس من امتثال أمره وطاعته، وما يعتمده فى أمر كاتبه وبطانته وأعوانه وجلوسه لفصل المحاكمات والأقضية
قال الحليمىّ: واذا دعا الإمام رجلا الى القضاء، فينبغى له أن ينظر فى حال نفسه وحال الناس الذين يدعى الى النظر فى مظالمهم. فإن وثق من نفسه بالاستقلال والكفاية والاقتدار على أداء الأمانة، وعلم أنه إن لم يقبل صار الأمر الى من لا يكون للمسلمين مثله، فأولى به أن يجيب الى ما يدعى اليه ويقبله ويحسن النية فى قبوله؛ ليكون عمله لوجه الله تعالى. وإن وجد من يقوم مقامه ويسدّ مسدّه فهو بالخيار؛ والتمسّك أفضل. فأمّا إن لم يعلم من نفسه الاستقلال، أو لم يأمن أن يكون منه سوء التمسّك وقلة التمالك، فلا ينبغى له أن يجيب. وهكذا إن كان هناك من هو خير منه علما وعقلا وخلقا. وإن عرض الأمر عليه فلا ينبغى له أن يتسارع الى ما يدعى اليه، لينظر ما الذى يكون من الآخر.
قال: واذا دعا الإمام رجلا الى عمل من أعماله، قضاء أو غيره، والرجل ممن يصلح له، فأبى، فإن وجد الإمام من يقوم مقامه فى ذلك أعفاه، وإن لم يجد من يقوم مقامه أجبره عليه اقتداء بعمر بن الخطّاب رضى الله عنه؛ فإنه دعا سعيد بن عامر الجمحىّ فقال: إنى مستعملك على أرض كذا وكذا؛ فقال: لا تفتنّى؛ فقال عمر: والله لا أدعك، قلّدتموها [1] عنقى وتتركونى! قال: واذا كان عند الرجل أنه يصلح للقضاء فأراد أن يطلبه، أو دعاه الإمام إليه فأراد أن يجيبه، فلا ينبغى له أن يبادر بما فى نفسه من طلب أو إجابة حتى يسأل
[1] فى الأصل: «تقلدتموها» .
أهل العلم والفضل والأمانة ممن خبره وعلم حاله، ويقول: إنى أريد القضاء، فما ترون فى أمرى؟ وهل تعرفون صلاحى لذلك أولا؟ فإن ذلك من المشورة التى أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بها، فقال تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.
وقد قدّمنا فى باب المشورة من فضيلتها ما فيه غنية عن تكراره.
قال: وإذا سأل عن نفسه فينبغى للمسئول أن ينصح له ويصدقه،
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ الدّين النّصيحة» قيل: لمن يا رسول الله؟ قال:
«لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم»
ولأن المستشار مؤتمن، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«من غشّنا فليس منّا» .
واذا أراد تقلّد القضاء فليستخر الله تعالى ويسأله التوفيق والتسديد. فإذا تقلّد فينبغى أن يوكّل المتميّزين الثّقات الأمناء من إخوانه وأهل العناية بنفسه، ويسألهم أن يتفقّدوا أحواله وأموره، فإن رأوامنه عثرة نبّهوه عليها ليتداركها.
قال: وأيّما حاكم نصب بين ظهرانى قوم فينبغى لهم أن يسمعوا له ويطيعوا، ويترافعوا اليه اذا اختلفوا وتنازعوا، ليفصل بينهم؛ فإذا فصل انقادوا لفصله واستسلموا لحكمه. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
. وقال تعالى:
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ
. وذمّ الله تعالى قوما امتنعوا من الحكم فقال:
ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
…
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
قال: واذا ارتفع أحد الخصمين الى حاكم وسأله إحضار خصمه فدعاه الحاكم فعليه أن يجيبه؛ فإذا حضرا فلا يخرجا عن أمر الحاكم؛ فأيّهما خرج فهو عاص؛ فإنما يقضى الحاكم بحكم الله. وللحاكم أن يؤدّبه بما يؤدّيه اجتهاده. وأيّما حاكم أو وال دعا رجلا من رعيّته ولم يعلم لم يدعوه، فعليه إجابته؛ وإن علم أنه لدعوى رفعت عليه من مدّع، فإن كان ذلك المدّعى حضر مع رسول الحاكم فأرضاه، سقط عنه الذّهاب الى الحاكم، وإن كان لم يحضر [هو] ولا وكيل له، فليذهب ليجيب؛ ولا يسعه التخلّف مع ترك الدّفع إلا فى حالة واحدة وهى أن يكون المدّعى كاذبا وقد أعدّ شهودا زورا لا يقدر على دفع شهادتهم، فخشى إن حضر أقيمت الشهادة عليه فحبس وأخذ منه المال قهرا، أو يفرّق بينه وبين امرأته، فله أن يهرب أو يتوارى؛ فهذا موضع عذر وضرورة فلا يقاس عليه غيره. والله تعالى أعلم.
وأما كاتب القاضى وبطانته- قال الحليمىّ: وإذا افتتح القاضى عمله واحتاج الى أعوان يعملون له من كاتب وأصحاب مسائل وقاسم، فلا يتّخذنّ إلا كاتبا مسلما عدلا أمينا فطنا متيقّظا؛ لأنه بطانته ولا يغيب عنه من أمره وأمر المترافعين اليه شىء، وأمينه وأمين المتخاصمين على ما يثبته ويخطّه. ولا يجوز أن يكون من غير أهل الدين، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.
وكذلك القاسم ينبغى أن يكون أمينا بصيرا بالفرائض والحساب، لأنّ القاسم شعبة
من شعب الحكم، فينبغى أن يكون من يتولّاه فى العدالة والأمانة والعلم الذى يحتاج اليه كمن يتولّى جميع شعبه. وكذلك أصحاب المسائل هم أمناء القاضى على الشهادات التى تتعلّق بها حقوق المسلمين، فلا ينبغى أن يأمن عليها إلا المستحقّ لأن يؤتمن، ولا يثق فيها إلا بمن يستوجب بحسن أحواله الثقة به.
وينبغى للقاضى أن ينزّه نفسه ومن حوله ويشدّد عليهم ولا يرخّص لهم فى أمر ينقمه منهم أو يخشى أن يتطرّقوا به الى غيره ويرتقوا الى ما فوقه. وقد كان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شىء، جمع أهله فقال: إنى نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنّ الناس ينظرون اليكم نظر الطير الى اللحم النّىء، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة.
قال: ولا ينبغى للإمام ولا القاضى أن يقدّم أقاربه على عامّة المسلمين، ولا يسوّغهم ما لا يسوّغ غيرهم، ولا ينظر لهم بما لا ينظر به لغيرهم، ولا يستعملهم ويولّيهم.
وأما ما يعتمده فى جلوسه- فقد قال الحليمىّ أيضا: واذا أراد الحاكم الجلوس للحكم فليجلس وهو فارغ القلب لا يهمّه إلا النظر فى أمور المتظلّمين. وإن تغيّرت حاله بغضب أو غمّ أو سرور مفرط أو وجع أو ملالة [1] أو اعتراء نوم أو جوع فليقم الى أن يزول ما به ويتمكّن من رأيه وعقله ثم يجلس.
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضى [2] القاضى بين اثنين وهو غضبان»
؛ وعنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضى القاضى إلّا وهو شعبان ريّان»
. هكذا نقل الحليمىّ فى «منهاجه» ، وهذه سنّة السلف.
قال: والقاضى فى جلوسه بالخيار: إن شاء أن يخرج بالغداة اذا طلعت الشمس فيقضى حوائج الناس أوّلا فأوّلا حتى لا يزد حموا على بابه، فعل؛ وإن شاء أقام فى [1] بيته يتأهّب ويستعدّ بمطالعة بعض الكتب أو بالاجتهاد والتأمّل الى أن يجتمع الخصوم ثم يخرج، فعل. وينبغى أن يكون عند الحاكم من يحفظ نوب الناس فيقدّم الأوّل فالأوّل، ويجلسهم مجالسهم.
وإن رأى القاضى أن يحضر مجلسه درّة تطرح على أعين الناس لينتهوا بها فإن استوجب أحد من الخصوم تعزيرا أقيم عليه بها، فعل. روى عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنّ درّته كانت تكون معه، وكذلك جماعة من قضاة السّلف رحمهم الله.
وأمّا فى عصرنا هذا فقد كان شيخنا الإمام العلّامة القدوة مفتى الفرق بقيّة المجتهدين تقىّ الدّين أبو الفتح محمد ابن الشيخ الإمام مجد الدّين أبى الحسين علىّ بن وهب ابن مطيع القشيرىّ المعروف بابن دقيق العيد- رحمه الله منع نوّابه من أن يضربوا بالدّرّة فى أثناء ولايته قاضى القضاة بالديار المصريّة، وقال: إنه عار يلحق ولد الولد. وكان سبب منعه- رحمه الله ورضى عنه- لذلك أن بعض نوّابه بالأعمال عزّر بعض أعيان البلاد التى هو ينوب بها بالدرّة فى المسجد الجامع وقال له عقيب ضربه وإسقاطه: قد ألحقتك بأبيك وجدّك، وكانت هذه الحادثة فى سنة سبع وتسعين وسمائة أو ما يقاربها، ففارق ذلك الرجل بلاده ووطنه؛ فلما اتّصل الخبر بقاضى القضاة شقّ عليه ومنع نوّابه من الضرب بها.
[1] كذا بالأصل، والمناسب «أن يقيم» بدل «أقام» ليست جواب الشرط بل هى متعلق المشيئة.