الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفكرك فيها اعتبارا، وسعيك لمعادك ابتدارا. وقال عبد الحميد: طالب الدنيا عليل، ليس يروى له غليل.
اجعل صالح عملك ذخرا لك عند ربك، وجميل سيرتك أثرا مشكورا فى الناس بعدك، ليقتدى بك الأخيار، ويزدجر بك الأشرار، تكن بالثواب حقيقا، وبالحمد جديرا. فقد قيل: الاغترار بالأعمار من شيم الأغمار. فلن يبقى بعدك إلا ذكرك فى الدنيا، وثوابك فى الآخرة؛ فاظفر بهما تكن سعيدا فيهما؛ فإنّ الدنيا كأحلام النائم يستحليها فى غفوته، ويلفظها بعد يقظته. وقد قيل فى بعض الصحف الأولى:
احرص على العمل الصالح لأنه لا يصحبك غيره.
انتهى كلام الماوردىّ. وقد بالغ- رحمه الله فى عهده، وجاد بعظيم برّه وجزيل رفده؛ وأوضح ما إن استمسك به الوزير كفاه، وإن حذا على مثاله كان ذخيرة لدينه ومعونة لدنياه. فليتمسّك به من رفل من الوزارة فى حللها، وارتقى من الرياسة الى شواهقها المنيعة وقللها؛ وأفاضت عليه السياسة برودها، وطوّقته السعادة عقودها.
وليأخذ نفسه به ويرضها عليه؛ وليجعله نصب عينه فيما فوّض من أمور العالم اليه؛ ليفوز بسعادة الدنيا وثواب الآخرة، ويلتحق غدا بذوى الوجوه الناضرة، التى هى إلى ربها ناظرة. وإن عدل عنه وعمل بضدّه فوا خيبة مسعاه، وسوء منقلبه ومثواه، وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ.
ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم
أما صفاتهم فقد ذكر «الحمدونىّ» فى «تذكرته» ما لا بدّ منه لصاحب السلطان وجليسه، ومحادثه وأنيسه؛ ولا يستغنى عنه وزراؤه وندماؤه، وخواصّه وأولياؤه؛ فقال:
من صحب الملوك وقرب منهم فينبغى أن يكون جامعا للخلال المحمودة. فأوّلها العقل،
فإنه رأس الفضائل. والعلم، فإنه من ثمار العقل ولا تليق صحبة الملوك بأهل الجهل.
والودّ، فإنه خلق من أخلاق الناس يولّده العقل فى الإنسان لذوى ودّه. والنصيحة، وهى تابعة للودّ وهو الذى يبعث عليها. والوفاء، فلا تتم الصحبة إلا به. وحفظ السرّ، وهو من صدق الوفاء. والعفّة عن الشهوات والأموال. والصرامة، وهى شدّة القلب فإن الملوك لا يجوز أن يصحبهم أولو النّكول، ولا ينال الجسيم من الأمور إلا الشجاع النّدب [1] النجد. والصدق، فإنه من لا يصدق يكذب، ومضّرة الكذب لا تتلافى. وحسن الزىّ والهيئة، فإن ذلك يزيد فى بهاء الملك. والبشر فى اللقاء، فإنه يتألّف به قلب من يلاقيه، وفى الكلوح تنفير عن غير ريبة. والأمانة فيما يستحفظ. ورعاية الحق فيما يستودع. والعدل والإنصاف، فإن العدل يصلح السرائر ويجمّل الظواهر، وبه يخاصم الإنسان نفسه اذا دعته الى أمر لا يحسن ركوبه. وينبغى له أن يجانب أضداد هذه الخلال؛ وألّا يكون حسودا فإنّ الحسد يفسد ما بينه وبين الناس؛ وليفرّق بين الحسد والمنافسة فإنهما يشتبهان على من لا يعقل؛ وأن يخلو من اللّجاج والمحال فإن ذلك يضرّ بالأفعال اذا وقع فيها اشتراك؛ وألّا يكون بذّاخا ولا متكبرا، فإن البذخ من دلائل سقوط النفس، والكبر من دواعى المقت؛ وألّا يكون حريصا، فإن الحرص من ضيق النفس وشدّة البطش والبعد عن الصبر. وينبغى ألّا يكون فدما [2] وخما [3] ولا ثقيل الروح، فإنها صفة لا تليق بمن يلاقى الملوك، وأبدا تكون صفة للمقت من غير جرم. وينبغى لمن صحب السلطان أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه، لا كما يفعل الأعمار الجهّال بخدمة الملوك، فإن
[1] الندب: الخفيف فى الحاجة. والنجد (بفتح أوّله وتثليث ثانيه) الشجاع الماضى فيما يعجز غيره.
[2]
الفدم: الغنىّ عن الكلام فى ثقل ورخاوة وقلة فهم، أو الأحمق الجافى.
[3]
الوخم: الرجل الثقيل.
أحدهم كلما ازداد عملا نقص من ساعات نصبه [1] وعمله فزادها فى ساعات شهوته وعبثه.
فهذه الصفات، فلنذكر الوصايا.
وأما وصايا أصحاب السلطان- فهى متقاربة من وصايا الوزراء غير متفاوتة. وفيها ما يضطرّ الوزير إليه، على ما تقف إن شاء الله تعالى عليه.
قالت الحكماء: إذا نزلت من الملك بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر من الدعاء له فى كلّ كلمة، فإن ذلك يشبه حال الوحشة والغربة، إلا أن تكلّمه على رءوس الناس فلا تأل عما وقّره وعظّمه. وإذا أردت أن يقبل قولك فصحّح رأيك ولا تشوبنّه بشىء من الهوى، فإن الرأى يقبله منك العدوّ، والهوى يردّه عليك الصديق.
وتبصّر ما فى الملك من الأخلاق التى يحبّ ويكره، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحبّ ويكره إلى ما تحب وتكره [2] ، فإنها رياضة صعبة قد تحمل على التنائى [3] والقلى.
فقلما تقدر على ردّ رجل عن المكابرة والمناقضة وإن لم يكن جمع به عزّ السلطان، فكيف إذا جمح به! ولكن تعينه على أحسن رأيه وتزيّنه له وتقوّيه عليه؛ فإذا قويت المحاسن كانت هى التى تكفيك المساوى. وإذا استحكمت منه ناحية [4] من الصواب
[1] فى الأصل: «نصيبه» وما وضعناه هو المناسب للسياق. فلعل ما فى الأصل تحريف.
[2]
وردت هذه الجملة فى الأصل هكذا: «وتبصر فان فى الملك من الأخلاق التى يحب ويكره، ثم لا تكاثره بالتحول عما..» وفيها تحريف. وقد أثبتنا ما ترى استنادا الى ما فى الأدب الكبير.
[3]
كذا فى الأدب الكبير، وهو المناسب للسياق، وفى الأصل: «
…
على الإباء
…
» .
[4]
كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل «واذا استحكمت منه ما أحب من
…
» .
كان ذلك الصواب هو الذى يبصّره [مواقع الخطإ [1]] بألطف من تبصيرك وأعدل من حكمك فى نفسه؛ فإنّ الصواب يؤيّد بعضه بعضا ويدعو بعضه إلى بعض. وإذا كنت له مكابرا لحقك الخطر ولم تبلغ ما تريد.
ولا يكونن طلبك ما عند السلطان بالمسألة! ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما عنده بالاستحقاق له والاستيناء به وإن طالت الأناة، فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإذا لم تستبطئه كان أعجل له.
ولا تخبرنّ الملك أنّ لك عليه حقا، وأنك تعتدّ [2] عليه بلاء. وإن استطعت ألّا ينسى حقك وبلاءك فافعل. وليكن ما تذكّره به تجديدك له النصيحة والاجتهاد، وألّا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره الأوّل؛ فإنّ السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسى الأوّل؛ فإنّ أرحامهم منقطعة وحبالهم منصرمة إلا عمن رضوا عنه فى يومهم وساعتهم.
واعلم أن أكثر الناس عدوّ لصاحب السلطان ووزيره وذوى المكانة عنده، لأنه منفوس عليه مكانه كما ينفس [3] على الملك ملكه، ومحسود كما يحسد عليه؛ غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على الملك، لأن حسّاده أحباء [4] الملك الذين يشاركونه فى المنزلة والدخول، وهم حضور، وليسوا كعدوّ الملك النائى عنه الكاتم لعداوته؛ فهم لا يغفلون عن نصب الحبائل له. فالبس لهؤلاء الاعداء كلهم سلاح الصحّة والاستقامة ولزوم المحجّة [5] فيما تسرّ وتعلن. ثم روّح عن قلبك حتى كأنك لا عدوّ لك ولا حاسد. جانب
[1] زيادة عن الأدب الكبير.
[2]
كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل:«وأن تعتدّ عليه بلاء» .
[3]
نفس عليه مكانه من باب «فرح» لم يره أهلاله.
[4]
أحباء (جمع حبأ كسبب) : جلساء الملك وخاصته.
[5]
كذا فى بعض نسخ الأدب الكبير. والمحجة: جادّة الطريق أى معظمه ووسطه. وفى الأصل:
«ولزوم الحجة» والسياق يعين ما اخترناه.
المسخوط عليه والمظنون به عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرنّ له عذرا ولا تثنينّ عليه خيرا. فإذا رأيته قد بلغ فى الإعتاب مما [1] سخط عليه [فيه [2]] ما ترجو أن يلين له الملك، واستيقنت أن الملك قد تحقق مباعدتك إياه وشدّتك عليه، فضع عند ذلك عذره عند الملك، واعمل فى إرضائه بالرفق واللطف.
وإذا أصبت الجاه عند الملك وكانت لك خاصة منزلة، فلا يحدثن لك ذلك تغيّرا على أهله وأعوانه واستغناء عنهم، فإنك لا تدرى متى [3] ترى أدنى جفوة فتذلّ لهم [4] . وإن استطعت أن يعرف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلا عن صوابه فتسند ذلك إليه وتزينه به، فإن الذى أنت بذلك آخذ أفضل من الذى أنت به معط.
(واعلم أن السلطان يقبل من الوزراء التبخيل ويعدّه منهم شفقة ونظرا ويحمدهم عليه وإن كان جوادا. فإن كنت مبخّلا فقد غششت [5] صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك. فالرأى لك تصحيح النصيحة والتماس المخرج، بألا يعرف منك ميلا إلى شىء من هواك [6] ) .
فهذه نبذة من وصايا أصحاب السلطان يكتفى بها اللبيب، ويتمسك بها الأريب.
وقد قدّمنا فى شروط الوزارة ما يحتاج صاحب السلطان إلى استعما فى خدمته.
فلنذكر ما يحتاج إليه نديم الملك ومؤاكله.
[1] كذا فى الأدب الكبير. والإعتاب: رجوع المعتوب عليه الى ما يرضى العاتب، كالعتبى، وفى الأصل: «
…
فى الإعتاب فيما
…
» .
[2]
زيادة من الأدب الكبير.
[3]
كذا فى الأدب الكبير. وفى الأصل: «فانك لا تدرى حتى ترى
…
» .
[4]
كذا فى الأدب الكبير، وفى الأصل:«فتذل له» .
[5]
فى الأدب الكبير: «شنت صاحبك
…
» .
[6]
وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى صفحة 11 من هذا الجزء بتغيير يسير عما هنا.