الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استعطف قلوب العامّة على الطاعة لملكه، وفيما قوّم أمر الملك والمملكة من تدبير، حتى يجمع إلى أخذ الحق وتقديمه عموم الأمن والسلامة، ويجمع إلى صلاح الملك صلاح أتباعه. وإذا تطرّقت الحوادث ودهمت العظائم كان للملك عدّة وعتادا، وللرعيّة كافيا محتاطا، ومن ورائها ذابّا ناصرا، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه [1] من صلاح نفسه دونها.
ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج إليه
أما اشتقاقها فقد اختلف فى معناه على ثلاثة أوجه: أحدها أنه مشتقّ من الوزر وهو الثّقل، لأنه يحمل عن الملك أثقاله. والثانى أنّه مشتقّ من الأزر وهو الظّهر، لأن الملك يقوى بوزيره كقوّة البدن بظهره. والثالث أنه مشتقّ من الوزر- وهو الملجأ- ومنه قوله تعالى: كَلَّا لا وَزَرَ
أى لا ملجأ؛ لأن الملك يلجأ الى وزيره ومعونته.
وأما صفة الوزير وما يحتاج إليه، فقد قال أقضى القضاة أبو الحسن على ابن محمد بن محمد بن حبيب الماوردىّ فى كتابه المترجم «قوانين الوزارة» ما معناه:
إن الوزير فى منصب مختلف الأطراف، يدبّر غيره من الرعايا ويتدبّر بغيره من الملوك، فهو سائس ومسوس يقوم بسياسة رعيّته وينقاد لطاعة سلطانه، فيجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكره جاذب لمن يسوسه، وشطره مجذوب بمن يطيعه؛ لأن الناس بين سائس، ومسوس، وجامع بينهما، و [له [2]] هذه المرتبة الجامعة؛ فهو يجمع ما اختلف من أحكامها، ويستكمل ما تباين من أقسامها؛ وبيده تدبير مملكة صلاحها
[1] فى الأصل: «يعينه فى صلاحها ما لا يعينه من
…
» وظاهر أنه تحريف.
[2]
زيادة أصلها فى قوانين الوزارة: «ولك هذه الرتبة الجامعة» والكلام هناك لمخاطب وهاهنا لغائب.
مستحقّ [1]] عليه، وفسادها منسوب إليه؛ يؤاخذ بالإساءة ولا يعتدّ له بالإحسان، تلان له المبادئ [بالإرغاب [1]] وتشدّد [2] عليه الغايات بالإعتاب [3] ، مستظهرا ليكفى [4] اعتداد الإحسان إليه، ويسلم من غبّ المؤاخذة له، ويلزمه ضدّها فى حقّ سلطانه ألّا يعتدّ عليه بصلاح ملكه، لأنّه للصلاح مندوب، ولا يعتذر إليه من اختلاله [5] ، لأن الاختلال إليه منسوب.
والوزير مباشر لتدبير ملك له أسّ هو الدّين المشروع، ونظام هو الحقّ المتبوع.
فإن جعل الدّين قائده، والحقّ رائده؛ تذلّل له كلّ صعب، وسهل عليه كلّ خطب؛ لأن للدّين أنصارا وأعوانا، إن قعدت عنه أجسادهم لم تقعد عنه قلوبهم. وحسبه أن [تكون [6]] القلوب معه، فإن للدّين سلطانا قد انقادت اليه إمامته، واستقرّت عليه زعامته [7] . فإن جعله ظهيرا [8] له فى أموره، وعونا له على تدبيره، يجد من القلوب خشوعا، ومن النفوس خضوعا؛ فما اعتزت مملكة إليه إلا صالت، ولا التحفت بشعاره إلا طالت. ولن يستغزر الوزير موادّه إلا بالعدل والإحسان، ولن يستنزرها بمثل الجور والإساءة؛ لأن العدل استثمار دائم، والجور استئصال منقطع.
وليس يختصّ بالأموال دون الأقوال والأفعال؛ فعدله فى الأموال أن تؤخذ بحقّها وتدفع إلى مستحقّها؛ لأنه فى الحقوق سفير مؤتمن، وكفيل مرتهن؛ عليه غرمها، ولغيره غنمها. وعدله فى الأقوال ألّا يخاطب الفاضل بخطاب المفضول، ولا العالم بخطاب الجهول؛ ويقف فى الحمد والذّمّ على حسب الإحسان والإساءة، ليكون
[1] الزيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2]
فى الأصل «تشد» وما أثبتناه عن قوانين الوزارة.
[3]
كذا فى قوانين الوزارة وهو ما يقتضيه السجع. وفى الأصل: «بالإعنات» .
[4]
فى هذه الجملة كلها شىء من الغموض.
[5]
كذا فى «قوانين الوزارة» وفى الأصل: «ولا يعتذر إليه من إضلاله لأن الإضلال
…
الخ»
[6]
فى قوانين الوزارة: «دعامته» .
[7]
الزيادة عن «قوانين الوزارة» .
[8]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «ظهرا» .
إرغابه وإرهابه وفق أسبابهما من غير سرف ولا تقصير؛ فلسانه ميزانه، فليحفظه من رجحان أو نقصان. وعدله فى الأفعال ألّا يعاقب إلا على ذنب، ولا يعفو إلا عن إنابة، ولا يبعثه السّخط على اطّراح المحاسن، ولا يحمله الرضا على العفو عن المساوئ.
وليكن وفاؤه بالوعد حتما [1] ، وبالوعيد حزما؛ لأن الوعد حقّ عليه لغيره يسقط فيه اختياره، والوعيد حقّ له على غيره فهو فيه على خياره. فمن أجل ذلك لم يجز إخلاف الوعد وإن جاز إخلاف الوعيد. قال بعض الشعراء:
وإنى إذا أوعدته أو وعدته
…
لمخلف إيعادى ومنجز موعدى
لكن ينبغى أن يقرن بخلف الوعيد عذرا حتى لا يهون وعيده؛ ليكون نظام الهيبة محفوظا، وقانون السياسة فيه مضبوطا؛ وليظهره إن خفى ليكون بإخلاف وعيده معذورا، وبعفوه عنه مشكورا. ولتكن أفعاله أكثر من أقواله؛ فإن زيادة القول على الفعل دناءة وشين، وزيادة الفعل على القول مكرمة وزين. ولا يجعل لغضبه سلطانا على نفسه يخرجه عن الاعتدال الى الاختلال؛ فلن يسلم بالغضب رأى من زلل، ولا كلام من خطل؛ لأن ثورته طيش معرّ، ونفرته بطش مضرّ؛ لأنه يخرج عن التأديب الى الانتقام، وعن التقويم الى الاصطلام [2] .
قال ابن عبّاس: لم يمل إلى الغضب إلّا من أعياه سلطان الحجّة. وقال بعض السّلف: إيّاك وعزّة الغضب، فإنها تفضى بك الى ذلّ الاعتذار. وقال بعض الحكماء: من كثر شططه، كثر غلطه. قال بعض الشعراء:
ولم أر فى الأعداء حين اختبرتهم
…
عدوّا لعقل المرء أعدى من الغضب
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل:«جسيما» .
[2]
الاصطلام: القطع والاستئصال.
وليكن غضبه تغاضبا يملك به عزمه، ويقوّم به خصمه، فيسلم من جور غضبه ويقف على اعتدال تغاضبه. فقد قيل فى بعض صحف بنى إسرائيل: إذا كان الرجل ذا غضب تواترت عليه الوضائع [1] ، فكلّما اشتدّ غضبه ازداد بلاء. وقد يقترن بالغضب لجاج يساويه فى معرّته، ويشاركه فى مضرّته؛ لأن فى اللّجاج التزام الخطأ واطّراح الصواب. فليدع عنه لجاج الخصم الألدّ، وليتجنّب عواقب المدل الفدم [2] .
وليتابع الرأى فيما اقتضاه؛ فلأن ينتفع بالرأى خير من أن يستضرّ بالّلجاج. فقد قال بعض الحكماء: من استعان بالرأى ملك، ومن كابر الأمور هلك. وقال ابن المقفّع:
دع اللّجاج فإنه يكسر عزائم العقول. وقيل: الظّفر لمن احتجّ، لا لمن لجّ.
وليأخذ الوزير أموره بالجدّ دون الهزل. فالجدّ والهزل ضدّان متنافران؛ لأن الجدّ من قواعد الحقّ الباعث على الصلاح، والهزل من مرح الباطل الداعى إلى الفساد؛ فصار فرق ما بين الجدّ والهزل هو فرق ما بين الحقّ والباطل. وتنافر الأضداد يمنع من الجمع بينهما [3] ؛ فمتى انفرد بأحدهما كان للآخر تاركا.
وقد روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: العقل حسام قاطع، والحلم غطاء ساتر، فقابل هواك [4] بعقلك، واستر خلل خلقك بحلمك، واستعمل الجدّ ينقد إليك الحقّ ويفارقك الباطل. ولا تعدل إلى الهزل فيتبعك الباطل وينافرك الحقّ. وقلّما انثلمت هيبة الجدّ أو تكاملت هيبة الهزل. والهيبة أسّ السلطنة.
[1] الوضائع: الأثقال.
[2]
الفدم: الغليظ الأحمق الجافى وفى الأصل «المدل الندم» وفى قوانين الوزارة: «النذل الفدم» . وما أثبتناه مختارا من الأصل ومن قوانين الوزارة هو المناسب للسياق.
[3]
كان الظاهر أن تكون الجملة: وتنافر الضدين يمنع من الجمع بينهما، أو: وتنافر الأضداد يمنع من الجمع بينها، ليوافق الضمير مرجعه.
[4]
فى قوانين الوزارة: «فقاتل هواك
…
»
وكلتا الكلمتين يستقيم بها المعنى.
حكى عن عمرو بن مرّة أن رجلا من قريش قال لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه: لن لنا فقد ملأت قلوبنا مهابة؛ فقال عمر: أفى ذلك ظلم؟ قال: لا؛ قال:
فزادنى الله فى صدوركم مهابة. وقال حكيم الهند: ليكن [فيك [1]] مع طلاقتك تشدّد، لئلّا يجترأ عليك بالطلاقة وينفر منك بالتشدّد. والهزل إنما يكون من سخف أو بطر يجلّ عنهما من ساس الرعايا ودبّر الممالك. وسأل ملك الهند الإسكندر [وقد دخل بلاده [2]] : ما علامة [دوام [3]] الملك؟ قال: الجدّ فى كلّ الأمور؛ قال: فما علامة زواله؟ قال: الهزل فيها. وليس الكبر والعنف جدّا، ولا التواضع واللطف هزلا.
قالوا: وإن استكدّ الجدّ خاطره فلا بأس أن يستروح ببعض الهزل ليستعين به على مصابرة الجدّ، لكن يكون فى زمان راحته وأوقات خلوته بمقدار دوائه من دائه، فإن الكلال ملال [4] . وليكن ذلك كما قال بعض الشعراء:
أفد طبعك المكدود بالجدّ راحة
…
يجمّ وعلّله بشىء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
…
بمقدار ما تعطى الطعام من الملح
وكذلك فليتحرّ الصدق ويتجنّب الكذب، فإنّهما ضدّان متنافران تختلف عللهما وتفترق نتائجهما؛ فالصدق من لوازم العقل وهو أسّ الدّين وقوام الحقّ؛ والكذب من غرائز الجهل وهو زور يقترن بغرور، إن التبست أوائله انهتكت [5] أواخره، وإن جرّ التباسه نفعا عاد انهتاكه ضررا، فلن يسلم من معرّة زوره، ومضرّة غروره.
وقد قدّمنا من مدح الصدق فى باب المدح، وذمّ الكذب فى باب الهجاء، ما فيه غنية عن تكراره. وحيث ذكرنا هذه المقدّمة فى اشتقاق الوزارة وما يحتاج الوزير إليه فلنذكر صفة الوزارة وشروطها.
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[3]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[4]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «ملول» .
[5]
كذا فى قوانين الوزارة، والمصدر الآتى يعينه، وفى الأصل «انتهكت» .