الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 -
عليُّ (1) بن خِيَار، فاسيٌّ، بَلَنسيُّ الأصل، أبو الحَسَن.
سَمِعَ بفاسَ على أبي عبد الله ابن الرَّمّامة ولازَمَه طويلًا وتفَقَّه به، وأبي عَمْرو السَّلالقيِّ (2).
ورَحَلَ طالبًا، فأخَذَ بتِلِمسينَ عن أبي الحَسَن بن أبي قَنُّون، وبسَبْتةَ عن أبي محمد بن عُبَيد الله، وبقُرطُبةَ عن أبي بكر بن خَيْر وأبي القاسم ابن بَشْكُوال، وبمَرّاكُش عن أبي عبد الله ابن الفَخّار.
وكان فقيهًا حافظًا مُشاوَرًا، رافضًا التقليدَ مَيّالًا إلى النّظر والاجتهاد، متفنِّنًا حَسَنَ المشاركةِ في العربيّة وعلم الكلام وأصُولِ الفقه والتصوُّف، أُخِذَ عنه العِلمُ. ووُلد في رمضانِ إحدى وأربعينَ وخمس مئة، وكان حيًّا سنةَ إحدى وست مئة.
9 - عليُّ بن محمد بن عبد الرّحمن التَّميميُّ، قَلْعيٌّ -قلعةَ حمّاد- أبو الحَسَن
.
رَوى عن أبي محمد بن محمد التامغلتيِّ، رَوى عنه أبو عبدِ الله بن حَمّاد، وكان محدِّثًا حافظًا عَدْلًا مُسِنًا حاجًّا.
10 -
عليُّ (3) بن محمد بن عبد الملِك بن يحيى بن محمد بن يحيى بن إبراهيمَ بن خَلَصةَ بن سَماحةَ الحِمْيَريُّ الكُتَاميُّ، فاسيٌّ، سَكَنَ مَرّاكُش، أبو الحَسَن، ابنُ القَطّان.
(1) ترجمه ابن الأبار في التكملة (2862) وهو فيه: علي بن محمد بن خيار، والذهبي في المستملح (721)، وتاريخ الإسلام 13/ 40، وابن القاضي في جذوة الاقتباس 2/ 483، والكتاني في سلوة الأنفاس 2/ 183، والمراكشي في الإعلام 9/ 61.
(2)
ترجمته في التكملة (2665)، وهو عثمان بن عبد الله الأصولي صاحب "البرهانية" وإمام أهل المغرب في علوم الاعتقاد.
(3)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (2869)، وابن الزبير في صلة الصلة 4/الترجمة 285، والذهبي في المستملح (724)، وتاريخ الإسلام 13/ 866، وسير أعلام النبلاء 22/ 306، وتذكرة الحفاظ 4/ 1407، والصفدي في الوافي 22/ 70، وابن ناصر الدين في التبيان، الورقة 152، وابن القاضي في جذوة الاقتباس 298، والكتاني في الرسالة المستطرفة 133، والمراكشي في الإعلام 9/ 75، وينظر كتاب الدكتو ر بشار عواد معروف: الذهبي ومنهجه 173 - 175.
رَوى عن آباءِ جعفر: قريبِه ابن (1) يحيى -وفي إبراهيمَ الأقربِ يلتقيانِ- وابن عبد الرّحمن بن مَضَاء، وابن يحيى بن عَمِيرةَ الشهيد، وأبوَيْ إسحاق: السَّنْهُوريِّ (2)، والكَلاعيِّ، وأبي بكرٍ الفَصِيح، وآباءِ الحَسَن: ابن أحمدَ بن عليّ الطُّلَيْطُليّ، وابن خَرُوف، وابن مُؤمن وابن النَّقِرات ولازَمَه ونَجَبةَ، وأبي الخَطّاب بن [واجِب، وأبي الصَبرِ بن عبد الله السَّبْتيِّ] الفِهْريِّ، وآباءِ عبد الله: ابنَي الإبراهيمَيْن: ابن البَقّار (3)، [وابن الفَخّار، وابن] عبد الرّحمن التُّجِيبيّ، وابن عليّ ابن الكَتّانيّ، وابن عيسى [التَّميميِّ] وأبوَي [العبّاس: ابن سَلَمةَ، والقَوارائيِّ (4) الشاعر، وأبي عُمرَ بن عاتٍ، وأبوَي [القاسم: ابن بَقِيّ] وعبد الرّحيم ابن المَلْجوم، وآباءِ محمد: ابني المحمّدَيْن: التادَليِّ (5)، وابن [السَّكّاك (6)، وعبد] العزيز بن زَيْدان، وأبوَي موسى: ابن شُعَيْبٍ الغافِقيّ، والقُزُوليّ، [وأبي يحيى أبي] بكر بن خَلَف ابن المَوّاق (7). هؤلاء لقِيَهم وأكثَرَ عنهم.
(1) في ص: "أبي"، وهو تحريف صوابه ما أثبتنا، وقد تقدمت ترجمته في السفر الأول من هذا الكتاب، وهو أحمد بن يحيى المنبوز بالوزغي (الترجمة 564).
(2)
جاء في ترجمته في التكملة 1/ 298 ما نصه: "وقال أبو الحسن ابن القطان -وسماه في شيوخه-: قدم علينا تونس سنة اثنتين وست مئة واستجزته لابني حسن فأجازه وإياي، قال: وانصرف من تونس إلى المغرب ثم إلى الأندلس، وقدم علينا بعد ذلك مراكش مفلتًا من الأسر فظهر في حديثه عن نفسه تجازف واضطراب وكذب زَهَّدَ فيه، وإثر ذلك انصرف إلى المشرق راجعًا، وقد كان إذ أجاز ابني كتب بخطه جملة من أسانيده وسمى كتبًا منها "الموطأ" والصحيحان وغير ذلك، قال: وقد تبرأت من عهدة جميعه بما أثبت من حاله". وروى ابن الأبار أنه ضرب بالسياط وطيف على جمل مبالغة في إهانته في عهد الملك الكامل لأجل معاداته أبا الخطاب بن الجُمَيِّل. وانظر كذلك ما نقله القاضي ابن إبراهيم المراكشي في شأنه في الإعلام 1/ 169 - 172.
(3)
في طبعتي جذوة الاقتباس: "ابن البقال"، وهو تحريف، وستأتي ترجمته في هذا السفر، وهو مترجم في التكملة (1728).
(4)
هكذا ترسم أحيانًا والمراد: الجراوي.
(5)
التكملة (2206).
(6)
التكملة (2205)، وجذوة الاقتباس (440).
(7)
التكملة (596)، وجذوة الاقتباس (27)، وسلوة الأنفاس 1/ 224.
وكتَبَ إليه مُجيزًا: أبو [إسحاقَ] بن إبراهيمَ الأنصاريُّ (1)، وأبو الحَسَن بن كَوْثَر، وأبو خالد يزيدُ بن رفاعة، وأبَوا عبد الله: ابن زَرْقُون، وابن عَرُوس، وأبو القاسم بن رُشْد الوَرّاق، وأبوا محمد: الحَجْريُّ، وابن فَلِيج (2).
هؤلاءِ هم الذين سَمّاهم في "برنامَجِه". ووقَفْتُ في خطِّه على روايتِه عن أبي إسحاقَ الكانميِّ الشاعر (3). رَوى عنه ابناه: أبو محمدٍ حَسَنٌ شيخُنا (4)، وأبو عبد الله الحُسَين، وابن أُختِه أبو عليّ عُمرُ بن محمد بن عليّ بن عَمّار، وأبو بكر بنُ محمد بن مُحرِز، وأبو الحَجّاج بن موسى بن لاهِيَة، وأبوا زكريّا: ابن يافرتن بن راحِل (5) وابنُ أبي عبد الله بن مروان، وآباءُ عبد الله: ابن حَمّاد والرُّنْديّ وابن عِيَاض وابن المَوّاز، وأبو العبّاس: ابنُ محمد المَوْرُوريُّ وابن عِمرانَ بن أبي الفَضْل بن طاهر، وأبو القاسم عبدُ الكريم بن عِمران، وأبوا محمد: ابن عبد الحقّ وابن القاسم الحَرّار، وأبو موسى عيسى بن يعقوبَ الهسكوريُّ، وأبو يعقوبَ بن يحيى ابن الزَّيّات، في خَلْقٍ لا يُحصَوْنَ كثرةً أخَذوا عنه بمَرّاكُشَ وغيرِها من بلادِ العُدوة إلى إفريقيّة، وبالأندَلُس.
ومن شيوخِنا الرُّواة عنه سوى ابنِه أبي محمد: أبو الحَسَن الكفيفُ، وأبو زَيْد ابنُ القاسم الطَرّازُ، وأبَوا عبد الله: ابن الطَّراوة وابنُ عليّ المدعوُّ بالشّريف، وأبو محمدٍ عبدُ الواحد بن مَخْلوف بن موسى المَشّاط، وأبو يحيى أبو بكر الجُمَلَّي (6).
(1) في ترجمته في التكملة (407)، وجذوة الاقتباس (13) ما نصه:"حكى أبو الحسن ابن القطان أنه أجاز له جميع روايته في سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة".
(2)
في ص: "مليح"، وترجمة ابن فَلِيج القاضىِ القصري في التكملة.
(3)
ترجمته في التكملة (461). وانظر نقول القاضي ابن إبراهيم في الإعلام (14)، ويضاف إليها تحفة القادم (109 - 110).
(4)
هو مؤلف "نظم الجمان" وغيره من المؤلفات النفيسة التي ألفها للمرتضى الموحدي. انظر البيان المغرب (قسم الموحدين)(452 - 453).
(5)
كذا بالأصل، وفي بغية الوعاة 1/ 193 أنه يحيى بن راجل شارح الجزولية.
(6)
ضبطت في الأصل بتشديد اللام مصححة، وهي نسبة إلى جُمَلَّة من أعمال مرسية. (وتنظر التكملة 1583).
وكان ذاكرًا للحديث مُستبحِرًا في علومِه، بصيرًا بطُرُقِه، عارفًا برجالِه، عاكفًا على خدمتِه، ناقدًا مميِّزًا صَحيحَه من سقيمِه، مُثابرًا على التلبُّس بالعلم وتقييدِه عُمُرَه، وكتَبَ بخطِّه -على ضعفِه- الكثيرَ، وعُني بخدمةِ كُتُبٍ بَلَغَ فيها الغايةَ، منها نُسخةٌ بخطِّه من "صحيح مسلم" و"السُّنن" لأبي داودَ وغيرُ ذلك، وصنَّف في الحديثِ ورجالِه، والفقهِ وأصُولِه مصنَّفاتٍ نافعةً أُخِذت عنه، منها:"نَقْعُ [الغَلَل، ونَفْعُ العَلَل"] في الكلام على أحاديثِ "السُّنَن" لأبي داود، وكمُلَ له نحوُ [.... في ثلاثةِ] أسفارٍ ضخمة، و"بيانُ الوَهم والإيهام الواقعَيْنِ في كتاب الأحكام"[وكمُلَ له] أيضًا في مقدارِ "الأحكام الشّرعية" الكبير، وعليه وضعه، وكتابٌ [في الردِّ على أبي] محمد بن حَزْم في كتاب "المُحَلَّى" مما يتعلَّقُ به من علم الحديث، ولم يَتِمَّ، [وكتابٌ] في أحكامَ الجنان، مجلَّدانِ متوسِّطان، وشيوخِ الدّارَقُطنيِّ: مجلَّدٌ متوسِّط، وكتابُ "النظر، في أحكام النظر" مجلدٌ صغير. وهذا الاسمُ من تسمية ابنِه شيخِنا أبي محمد، و"النَّزْعُ في القياس، لمُناضلةِ من سلَكَ غيرَ المَهْيَع في إثباتِ القياس"، وهو في الردِّ على أبي عليّ ابن الطّوير المذكور بعدُ إن شاء الله (1)، وهذه التسميةُ لشيخِنا أبي محمد ابنِه أيضًا، و"تقريبُ الفتح القُسِّي": مجلَّدٌ متوسِّط، و"تجريدُ مَن ذكَرَه الخطيبُ في تايخِه من رجالِ الحديث بحكايةٍ أو شعر": مجلّدانِ متوسِّطان، وكتاب "ما يُحاضَرُ به (2) الأمراء"، وبيَّن قيس طريقَ مُفاوضتِهم: مجلَّدٌ متوسِّط. و"أسماءُ الخيلِ وأنسابُها وأخبارُها": مجلّدٌ متوسِّط. و"أبو قَلَمون"(3): مجلّدانِ ضَخْمان. وله كتابٌ حافلٌ جمَعَ فيه الحديثَ الصَّحيح محذوفَ السَّنَد حيث وقَعَ من المسنَدات والمصنَّفات،
(1) انظر رقم (32).
(2)
في ص: "ما حاضر به".
(3)
أبو قلمون: ثوب رومي يتلون ألوانًا ولا سيما إذا أشرقت عليه الشمس، ويشبه به الدهر والروض وزمن الربيع، وتسمية الكتاب لطيفة، وقد يكون موضوعه شيئًا مما ذكر، وفي مقامات البديع:
أنا أبو قدمون
…
في كل لون أكون
كمُلَ منه كتُبُ: الطّهارة والصّلاة والجَنائز والزّكاة، في نحوِ عشَرةِ مجلَّدات (1). و"مسائلُ من أصُولِ الفقه"، زَعَمَ أنه لم يَذكُرْها الأصُوليّونَ في كُتُبهم: مجلّدٌ لطيف.
وله مقالات منوَّعةُ المقاصد، منها: مقالةٌ في الإمامةِ الكبرى، ومقالةٌ في القراءةِ خلفَ الإمام، ومقالةٌ في الوصيّةِ للوارِث، ومقالةٌ في المَنْع من إلقاءِ التفثِ في عَشْر ذي الحجّة للمُضحِّي، ومقالةٌ في منع المجتهدِ من تقليدِ المحدّث في تصحيح الحديثِ لذي العمَل، ومقالةٌ في الدَّين يوضَعُ على يدِ أمين فيتعدَّى فيه، ومقالةٌ في مُشاطرةِ العمّال، ومقالةٌ في الأوزانِ والمكاييل (2)، ومقالةٌ في الطلاقِ الثلاث، ومقالة في الأيْمانِ اللازمة، ومقالةٌ في الخِتَان، ومقالةٌ في التسفير، ومقالةٌ في معاملةِ الكافر؛ جمَعَها للناصِر من بني عبد المؤمن حينَ وفَدَ عليه البابوجُ (3) أحدُ عُظماءِ النَّصرانيّة، سَوَّغ له فيها القيامَ إليه عندَ معاينتِه برأيه، فلم يَرضَها الناصرُ وتحايَلَ في تلقِّيه إيّاه قائمًا عن غير قعود بخروجِه من البابِ المعتاد لخروجِه إلى قُبّة جلوسِه وهو فيها عندَ وصُول البابوج إليه (4)، والمقالةُ المعقولة في حُكم فتوى الميِّت والفتوى المنقولة، ومقالةٌ في فَضْل عاشُوراءَ [وما وَرَدَ] في الإنفاق فيه على الأهل، ومقالةٌ في حثِّ الإمام على [القعودِ لسَماع مظالم]
(1) ذكره ابن سعيد في تذييل رسالة ابن حزم، قال:"وسمعت أنه كان اشتغل بجمع أمهات كتب الحديث المشهور وحذف المكرر" النفح 3/ 180.
(2)
ينقل عنه مؤلف الدوحة المشتبكة (78، 83) تحقيق د. حسين مؤنس.
(3)
البابوج هنا والبيبوج في العبر (بالإمالة) والببوج في المعجب والمن بالأمامة والبيان المعرب لقب لملك ليون وفسر عبد الواحد المراكشي هذا اللقب بأن معناه الكثير اللعاب، وفي الأنيس المطرب تفصيل لهذه الوفادة التي كانت حسب ابن خلدون خدعة ومكراً (انظر المعجب: 320، والعبر 4/ 392، والاستقصا، وكذلك أشياخ 2/ 99 وما بعدها، وعنان 2/ 290).
(4)
في الأنيس المطرب أنه رتب هذه الحيلة مع القائد أبي الجيوش عساكر (أو أبي الجيش محارب حسن البيان المغرب).
الرعيّة، ومقالةٌ في تبيينِ التناسُب بين قول النبيِّ صلى الله عليه [وسلم:"يتوبُ] اللهُ على مَن تاب"، وما قبلَه من الحديث، ومقالةٌ في تفسيرِ قولِ المحدِّ [ثينَ في الصّحيح]: إنه حَسَن، ومقالةٌ في تحريم التَّسابّ، ومقالةٌ في الوصيّةِ بالجَنين، ومقالةٌ [في] إنهاءِ البحثِ مُنتهاه، عن مَغْزَى من أثبَتَ القولَ بالقياس ومَن نَفاه، وهذه التسميةُ لشيخِنا أبي محمدٍ ابنِه أيضًا، وأحاديثُ في فَضْل التلاوة والذِّكر، وبرنامَجُ [شيوخِه] وعَمِلَه بأخَرةٍ، بعدَ الخمس والعشرينَ وست مئة، إلى غير ذلك من المعلَّقاتِ والفوائدِ في التفسير والحديثِ والفقه وأصُوله، والكلام والآدابِ، والتواريخ والأخبار (1).
وكان معظَّمًا عندَ الخاصّةِ والعامّة من آلِ دولة بني عبد المؤمن، حَظِيَ كثيرًا عند المنصُور منهم فابنِه الناصِر فالمُستنصِر ابن الناصِر فأبي محمدٍ عبد الواحِد أخي المنصُور ثم أبي زكريّا المعتصم ابن الناصِر، حتى كان رئيسَ الطَّلَبة مصروفةً إليه الخُطَطُ النَّبيهة، مرجوعًا إليه في الفتاوَى.
وكان قد سَعِدَ عندَ المنصُور منهم كثيرًا، فكان المنصورُ يؤْثرُه على غيرِه من أهلِ طبقتِه، وجرَتْ له أخبارٌ طريفةٌ معَه، منها: أنه عيَّنَه لقراءةِ الحديث الذي كان يُقرَأ بين يدَيْه، وكان أبو الحَسَن يَعتَريهِ بعضَ الأحيان توقُّفٌ في كلامِه، فابتدَأَ أوّلَ يوم القراءةِ فبَسْمَلَ وصَلّى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانتِ العادةُ إتباعَ القارِئ التّصلِيَة بالدُّعاءِ للمنصورِ بالرِّضا، فحينَ فَرَغَ أبو الحَسَن من التّصلِية عرَضَ له التوقُّف الذي كان يَعتريهِ، فمكَثَ قليلًا ثم قال: ورضيَ اللهُ عنكم، واصلًا الدُّعاءَ بالتّصلِيةِ فيما رأى، ثم اعتَرتْه سَكْتتُه أيضًا، ثم اندَفعَ يقرَأُ الحديثَ، فاستبشَرَ لذلك المنصُورُ واشتدَّ إعجابُه به واستحسانُه إيّاه، وقال: هكذا ينبغي أن يَقرَأَ الحديثَ مَن يقرأُه بينَ أيدينا، فاصلًا بين الدُّعاءِ لنا والتّصليةِ المُتبعة البَسْمَلة وبينَه وبينَ حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأمّا سردُ البَسْمَلة والتصلِية والدُّعاءِ لنا والحديثِ في نَسَق
(1) وصل إلينا من مؤلفات ابن القطان كتاب "الوهم والإيهام" وكتاب "إحكام النظر"، مخطوط في الإسكوريال، ومقالةٌ في فضل عاشوراء مخطوط بخزانة ابن يوسف بمراكش.
من غير فَصل بين ما يخُصنا من الدَّعاءِ وما قبلَه وما بعدَه فإنّا نبرَأُ إلى الله منه، فعَجِبَ الحاضِرونَ لسعادةِ أبي الحَسَن بما ظُنَّ أنّ فيه نَقْصًا عليه (1).
وكان ذا حظٍّ من الأدب وقراءة مُقَطَّعاتِ الشِّعر، منها:[قولُه في المصحف الإمام] الذي تقَدَّم في رَسمِ أبي المُطرِّف أحمدَ بن عبد الله بن عَمِيرةَ (2) أنّ عبدَ [المؤمن وبَنيهِ كانوا] يزعُمونَ أنه مصحفً الإمام عثمانَ بن عفّانَ رضي الله عنه، وقد وَضَعَه [المنصورُ] من بني عبد المؤمن، في حِجْرِه بمحضرِ الكُبَراءِ من رجالِه [المتقارب]:
[ألا] فاقدُروا قدر هذا المقام
…
فهذا الإمامُ وهذا الإمام
إمام المصاحفِ في حِجرِ من
…
به حَفِظَ اللهُ هذا الأنام
وناهيكَ مِن صُحُفٍ كرِّمت
…
بحِجرِالكريم سليلِ الكرامْ
فطُوبى لمَن فاز من ذا وذا
…
بمافيه حظٌّ ولو بالسلامْ
أنشَدَنيه ابنُه أبو محمد عنه لنفسِه، وأنشَدَني أيضًا عنه لنفسِه في صفة نهرِ ماءٍ بضيْعتِه التي كانت له خارجَ باب فاس، وتُعرَفُ هناك بتاووتي (3) [الكامل]:
ومهنَّدٍ لزِمَ التجرُّدَ فهْو لا
…
ينفَكُّ مَسْلُولًا لغيرِ قتالِ
ضَمِنَ النَّسيمُ صفاءَ صفحةِ وجهِهِ
…
فتراه مصقولًا بغير صِقالِ
وإذا تنفَّس فيه سال فِرِنْدُهُ
…
وطَفَا عليه حَبابُهُ كلآلي
أعجِبْ به من صارم آثارُهُ
…
نَقْعُ الصَّدى وتنفُّسُ الآصالِ
(1) لعل هذا أقدم نص في وصف المجالس الحديثية الملوكية التي ما تزال قائمة إلى يومنا هذا.
(2)
السفر الأول، الترجمة (231)، والمسند لأبي مرزوق، ص 456. وما بين الحاصرتين ممحو في الأصل ونقدر أنه ما أثبتنا.
(3)
ورد ذكر تاووتي بأنها قرية من جهات مراكش في التشوف (300، 309، 310) ويفهم مما ورد فيه أنها كانت معروفة ببساتينها غير بعيدة من باب المدينة (باب فاس).
ومنه، وقد عثَرَتْ به بغلتُه في وِجهتِه إلى ضَيْعتِه المذكورة وهو يسايرُ أبا عبد الله بنَ المُناصِف (1) رحمهما الله، فقال له ابنُ المُناصِف [البسيط]:
* ما بالُها عثَرتْ وما لها قَلِقَهْ (2) *
فأجابه مُرتجِلًا ومُداعِبًا [البسيط]:
لم تعثُرِ البغلةُ السفْواءُ (3) إذ عثَرتْ
…
من ضعفِ أيدٍ ولامن أنها خَرِقَهْ (4)
لكنّها عَشِيَتْ من نورِ ما حَمَلت
…
من العلوم فخرَّت تحتَهُ صَعِقَهْ
أنشَدَنيها عنه أيضًا ابنُه أبو محمدٍ حسَنٌ رحمه الله، وقال لي: كان متى ذكَرَهما يَستعبِرُ ويستغفرُ الله منهما، وقد رأيتُه ضرَبَ عليهما (5) في بعض معلَّقاتِه.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: وَهِمَ بعضُ الطّلبةِ فعكَسَ هذه الحكايةَ بجعلِ بغلةِ أبي عبد الله ابن المُناصِف العاثرةَ والبيتينِ له، والأمرُ في ذلك كلِّه على ما ذكرتُهُ قبلُ، وقد سَمِعتُها غيرَ مرّة من شيخِنا أبي محمدٍ ورأيتُها (6) بخطِّه في غير موضِع على ما وصَفْتُ.
هذا بعضُ ما اشتُهِر من أحوالِه عندَ جُمهور الناس. وقد كان بعضُ من لقِيتُه ممّن لقِيَه لا يَرضاهُ ولا يَرى الرّوايةَ عنه، وينعَى عليه أمورًا كثيرة، منها: ما كان عليه دائبًا من الإرذال (7) بأفاضلِ أهل العلم، والغضِّ منهم [وتتبُّع سَقَطاتِهم] والتماسِ عَوْراتِهم، والتنكيتِ على الواردينَ منهم على آلِ عبد المؤمن [والوَضْع]
(1) انظر ترجمته في التكملة (1632) وستأتي ترجمته في هذا السفر.
(2)
في ص: "وما بما قلبة"، ونقلت في الإعلام للمراكشي:"وما بها قلبت".
(3)
السفواء: السريعة.
(4)
في "الإعلام": "حرقة"، كما قرئت صعقة: صفقة.
(5)
في ص: "منها، عليها". ولعله ضرب على البيتين لما فيهما من دعوى وإشارة خفية إلى الآية الكريمة: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
(6)
في ص: "ورأيته".
(7)
هكذا في الأصل وهو من أرذلهم أي لم يرضهم، ويصح أن تكون: الازراء.
من شأنِهم إلّا أن يَستشعرَ من أحدٍ منهم عودةً إلى وطنِه، فإنه كان [يحدِّثُ بقضاءِ، مآربِه، ويُجمِّلُ السَّعيَ في تخليصِ ما إليه قَصَدَ، لئلّا يُشتهرَ أمرُه فيقعَ [الاغتباط] به من أولي الأمر، وليعودَ إلى بلده مُذيعًا شكرَه مُحسِنًا الأُحدوثةَ عنهُ، [إعجابًا] بنفسِه، وحرصًا على تفرُّدِه بالرِّياسةِ وخلوِّ الوجوهِ له.
ومنها: إفراطُ الكِبْر وشدّةُ العُجب، فقد كان دَيْدَنُه أنه لا يبدأُ أحدًا بالسلام ولا يرُدُّه على من يبدَأُ به، وذاكرتُ بذلك شيخَنا أبا عبد الله المدعوَّ الشّريفَ (1)، وكان من المتشيِّعينَ فيه المتّشبِّعِينَ بذكْرِه المتعصِّبينَ له، فقال لي: إنه كان يُسألُ عن ذلك وُيذكَرُ له ما فيه عليه فيُجيبُ مُعتذرًا باستغراقِ فِكرِه واشتغال بالِه بالنّظرِ في أجوِبةِ ما وقَعَ من المسائل العلميّة بمجلسِ سُلطانِ الوقت أو في إعدادِ مسائلَ يُلقيها بينَهم به؛ فهُو لا يزالُ خاطرُه معمورًا بذلك وذهنُه مغمورًا به، زاعمًا أنه لا يَرى أحدًا ممّن يمُرُّ هو به، فقلتُ له: يدفَعُ ذلك حكايتُه عن نفسِه مشاهدةَ ابن العُثْمانيِّ في مرورِه به على ما سآتي بذكْرِه إن شاء الله، فانقَطَعَ.
ومنها: استعمالُه المُسكِر، فقد صَحَّ عنه تناولُه إياه والتأوُّلُ فيه.
ومنها: غُلوُّه في آلِ عبد المؤمن وإفراطُ تشيُّعِه فيهم، حتى عَدَّ المنصورَ أبا يوسُفَ يعقوبَ بن أبي يعقوبَ بن عبد المؤمن في جُملةِ شيوخِه الذين ضمَّنَهم برنامَجَه وصدَّرَهم بذكرِه تشيُّعًا له وغُلوًّا فيه، وليتَه لو وقَفَ في أمرِه عندَ هذا الحَدّ ولكنْ تعَدّاهُ إلى منزلةٍ تُفضي بالهاوي منها إلى مَقْتِ الله والتعرُّض لشديدِ غَضَبِه وعظيم سَخَطِه؛ وهي أنه لمّا ذَكَرَ من شيوخِه أبا القاسم ابنَ بَقِيّ وطُولَ مجالستِه إيّاه، ومُذاكرتَه معَه وسماعَه منه ما لا يُحصَى من شِعرٍ أنشَدَه إيّاه، لنفسِه ولغيرِه، ثم قال: وليس بهذا الاعتبار أذكُرُه هنا، ولا أيضًا باعتبارِ ما سمِعتُ منه من "مسنَدِ" جدِّه بَقيّ وكتاب "التفسير" له وأنه كان أهلًا للرِّواية عنه، ثم قال: وإنّما ذكَرتُه هنا؛ لأنّي قد كتبتُ عنه شيئًا أخبَرني به، قال: قال الإمامُ أميرُ المؤمنينَ
(1) ما نقله القاضي ابن إبراهيم المراكشي لدى ترجمته في الإعلام (571) 4/ 281 وما بعدها.
المنصورُ رضي الله عنه: وُلدتُ ليلةَ الأربعاء الرابعةَ من ربيع الأوّل عامَ أربعةٍ وخمسينَ وخمس مئة، فعَجبتُ من ذلك؛ لتناسُبِ ما بين الأربعاء والرابعة، وربيع وعام أربعة، فكتبتُهُ عنه. فتأمَّلْ [إعجابَه بهذه الكلمات] الشَّوْهاء وإضرابَه عن جميع ما ذَكَرَ أنه سَمِعَه منه، كتفسيرِ القرآنِ [الكريم] لبقيّ، ومسندِه، وما أنشَدَه أو سَمِعٍ منه لنفسِه أو لغيرِه وما حاضَرَهُ به أو [ذاكَرَه فيه] واطّراحَ ذلك ونَبْذَه إيّاه تهاونا به واستخفافًا بقَدرِه، وإيثارًا [لتاريخ] ولدِ خَلْق من خَلْق الله تعالى، لعلّه لا يُرضَى مثل ذلك الغُلوِّ في جانبِه من أحد على جميع ما سَطَرَ وذكَر من فنونِ المقاصِد العلميّة التي يحرِصُ الأفاضلُ على نَيْل بعضها من أكابرِ شيوخِهم، نسألُ الله العصمةَ من الخِذلان، والسلامةَ من مُوجِباتِ الحِرمان. ولقد ذاكَرتُ بهذا الفَضل أيضًا شيخَنا أبا عبد الله المذكور، وأبدَيْتُ له ما فيه من الدلالة على قَبِيح الغلوّ، فاعتَذرَ عنه بأنّ حاملَهُ عليه تخوُّفُه من أبي عبدِ الله العادل ابن المنصُور، فإنه كان قد أخْمَلَه كثيرًا وكان يتوقَّعُ منه شرًّا، فقلتُ له: إنّما وضَعَ برنامَجَه بعدَ موتِ العادل وموتِ أبي القاسم ابن بَقِيّ. وأيضًا، فهلّا ذكَرَ ذلك في رَسْم المنصُور فيكونَ ذلك أتقنَ في التأليف وأجرى على سَنَنِ المصنِّفينَ في الإعلام بالشيوخ! فأمّا أن يَذكُرَ الشّيخَ في موضعٍ ومولدَهُ بعدَ رَسْمه بأربعةَ عشَرَ شيخًا فعمل لم تَجْرِ العادةُ به، ولا خفاءَ بما فيه، ثم إنْ شاء ذكَرَ أبا القاسم بنَ بَقِيّ بما يَليقُ به إن رأى ذكْرَه في شيوخِه أو الإضرابَ عنه رأسًا، فلم يُحرِ جوابًا. وهذه عندي أكبرُ جَرحةٍ في حقِّه، لِما تضمَّنتْه من الإزراءِ بالعلم وأهلِه الذين لا يَمتري أنه به وبهم شرَفُه لوِ استضاءَ في عيانة هذه الغوايةِ بنورِ هُدى أو اعتَصَم بجُنّة توفيق.
ومنها: تجرُّدُه للسَّعي بغاية الجِدّ في قَتْل الشّيخ وابنِه المُراهِق العُثمانيَّيْن، ثم استباحةُ أخْذِ دارهِما بعدَ قتلِهما مكافأة عن له على تلك المحاولة، وانتقالُه إليها بالسُّكنى فيها إلى فصولِه عن مَرّاكُش ثم لم يعُد إليها كما سيأتي ذكْرُ ذلك إن شاء اللهُ تعالى.
ثم [كان] الفُضَلاءُ من أهل عصره ناقمينَ منه أحوالَه، ولقد حدَّثني الشّيخُ أبو الحَسَن الكفيفُ -وكان رجُلَ صدق- أنه سَمِعَ الورعَ المُجمَعَ على فضلِه
أبا سعيد يخلفتَن بنَ تنفليشت المتراريَّ البوغاغيَّ، رحمه الله، وقد سُئل عنه فقال: ذلك شخص يُصارحُ نفسَه في أن يكونَ مُهلَّبيَّ الملوك.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: والذي أوجَبَ إيحاشَ العادل إيّاه ما حدَّثني به ابنُه أبو محمد وغيرُ واحدِ من شيوخي، قالوا: لمّا توفِّي [أبو يعقوبَ المُستنصرٍ] تَشاوَرَ أهلُ الحَلِّ والعَقْد بمَرّاكُشَ في تعيينِ من يُقلَّدُ الأمرَ بعدَه، [فأشار بعضُهم] بتقديم أبي محمد عبدِ الواحِد أخي المنصور، وكان مذكوراً في [بيتهم بحَزْم وجَوْدة] وصلاح، وأشار بعضُهم بتقديم أبي محمد بن عبد الله العادل ابن المنصُور، وكان يُرمَى بالميل إلى البطالة وإيثار الشّهواتِ والإخلادِ إلى الراحات، [وكان أبو الحَسَن] حاضرًا لتلك الشُّورى، فأنشَدَ متمثِّلَا ومنبِّهًا على التفرِقةِ بينَهما [الطويل]:
إذا رَتَّلَ القرآنَ في جُنحِ [ليلةٍ]
…
أُبيُّ بنُ كعبٍ لم يُغنِّ مُخارِقُ (1)
(1) ورد البيت في آخر قطعة للقاضي الأديب الشاعر ابن حمادي الصنهاجي معاصر ابن القطان يهنئ باسترجاع بلاد إفريقية والظهور على يحيى بن إسحاق، وهي:
فتوح لها في كل يوم تلاحُقُ
…
كما استبقت يوم الرهان السوابقُ
تجيء وما بين الزمانين مهلةٌ
…
كما نسق المعطوفَ بالواو ناسقُ
بشائر تعلوها تباشير مثلما
…
تبلّج صبح أو تألّق بارقُ
وراقت بلادُ الله فهي نضارةٌ
…
خمائلُ يندى زهرها وحدائقُ
كذا فليكن فتحٌ وإلا فإنما
…
جميع فتوح العالمين مغالقُ
إذا قرأ القرآن في غسق الدجى
…
أبيّ بن كعب لم يغنِّ مخارقُ
ويبدو أن البيت للشاعر المذكور، فليس في القطعة ما يشعر بالتضمين، وتمثيل ابن القطان بالبيت مقبول من جهة التاريخ فقد قيلت القطعة قبل المناسبة التي تمثل فيها ابن القطان بالبيت.
وأُبي بن كعب: هو الصحابي البدري سيد القراء وأحد كتبة الوحي، أما مخارق: فهو أبو المهنى مخارق بن يحيى، من الغنين المشهورين في العصر العباسي، وفيه أيضًا يقول دعبل لما بويع إبراهيم بن المهدي بالخلافة:
إن كان إبراهيم مضطلعًا بها
…
فلتصلحن من بعده لمخارقِ
انظر الوافي بالوفيات 4/ 157.
ثم اتَّفَقوا على تقديم أبي محمد عبدِ الواحد أخي المنصور عند وفاةِ المستنصِر إمّا منتصفَ ذي الحجّة أو لأربعَ عشْرةَ ليلةً خَلَت منه عامَ عشرينَ وست مئة، فاستمرَّت أيامُه إلى [يوم السّبت المُوفي عشرينَ] من شعبانِ إحدى وعشرينَ فخَلَعوه وأشهدَ على نفسِه بالخَلْع، ثم قَتلوهُ صَبْرًا، [وهو] أوّلُ قَتيل غَدرًا من بني عبد المؤمن، وقدَّموا ابنَ أخيه العادل وهو بمُرسِيَة؛ كتَبوا إليه ببيعتِه، فأقبَلَ إلى مَرّاكُش، وقدَّم أخاه أبا العلاء إدريس الملقَّبَ بعدُ بالمأمون على جميع بلاد الأندَلُس، فأقام العادلُ بمَرّاكُشَ إلى يومِ الأربعاءِ ولستٍّ بقِينَ من شوّالِ أربعةٍ وعشرين، وخَلَعوهُ، ثم بايَعوا أخاه المأمون على ما سألمعُ ببعضِه ملخَّصًا إن شاء اللهُ تعالى.
وقد كان أُنهِيَ إلى العادل إنشادُ أبي الحَسَن البيتَ المذكور حينَئذٍ، وعرَفَ مقصِدَه فيه فأسرَّها في نفسِه، وخاف أبو الحَسَن بعدَ ذلك من سُوءِ عاقبتِها، ولمّا قَدِم العادلُ من مُرْسِيَةَ إلى مَرّاكُش كما تقَدَّم همَّ بالقَبْض على أبي الحَسَن والإيقاع به (1)، ثم رعَى له قِدَمَ انقطاعِه إلى أبيه وخِدمتِه إيّاه وأخاه الناصِرَ وابنَ أخيه المستنصِر وعمّه بعدَهم، فكَفَّ عنه وصَرَفَه عن التعرُّض إلى القصرِ والدّخولِ فيه إلى مَحاضرِ خواصِّ الطَّلَبة، وكان يُكني عنه متى جَرَى ذكْرُه "المُخارِقَ" إشارةً إلى البيتِ الذي أنشَدَه أبو الحَسَن، فكلّما نُمِيَ ذلك إلى أبي الحَسَن يشتَدُّ قلقُه ويتأكّدُ استيحاشُه، وكان من غريبِ الاتّفاقات أنّ العادلَ لمّا استقَرَّ بمَرّاكُشَ بعدَ قَتْل عمِّه أبي محمد وانتهابِ أكثرِ كُتُبِ الخِزانة (2) التي كانت بالقَصْر في جُملة ما
(1) في ص: "له".
(2)
كان لهذه الخزانة مكانة كبيرة عند خلفاء الموحدين، وكان الإشراف عليها من الخطط الرفيعة عندهم، وقد وليها عدد من الأعلام نذكر منهم أبا العباس أحمد ابن الصقر في عهد يوسف بن عبد المؤمن، وأبا محمد عبد الله العراقي في عهد الرشيد الموحدي، وأبا الحسن ابن شلبون، ويقول ابن عبد الملك في خطبة الخزانة العالية:"وكانت عندهم من الخطط الجليلة التي لا يعين لتوليها إلا علية أهل العلم وأكابرهم". السفر الأول (الترجمة 292) والسفر الخامس (الترجمة 550) واختصار القدح المعلى (46). =
نُهِب من ذخائرِه، خرَجَ من قِبَل [الخليفة العادلِ إلى] أبي الحَسَن عليِّ بن أبي جامع أمرٌ بنظرِ عليٍّ في ترتيبِ ما بَقِيَ [من كُتُبِ الخِزانة] وتمييزِ كاملِها من ناقصِها، وكان مرادُ العادل بعليٍّ وزيرَهُ المذكور، [فأخبَرَ الوزيرُ أبا الحَسَن] ابنَ القَطّان بذلك وأشعَرَه بما فيه من التأنيسِ له والإيذان بالإقبالِ عليه، [فتولّاه] أبو الحَسَن في أيام كثيرة، ثم لما فَرَغَ منه طالَعَ العادلَ الوزيرُ بتمام ذلك [وترتيبِ جميع ما] اشتَمَلتْ عليه، فأمَرَ ثوابًا لمتولِّي ذلك بجُملةٍ وافرة من أمدادِ الزَّرع [وعددٍ كبير] من المال والكساء، وكان الزَّرعُ أحظاها؛ لِما كان عليه الوقتُ من الشِّدةِ والتناهي في غلاءِ الأسعار، وقد كان ذلك توالَى على مَرّاكشَ نحوَ سبعةِ أعوام، [حتى أثَّر] ذلك في كثيرٍ من أهلِها عمومًا، وفي ابن القَطّان خصوصًا؛ لكثرةِ عيالِه، وانقطاع موادِّ الفوائدِ عنه بعُطلتِه عن الأشغالِ التي كان يَنتفعُ بها ومنها. ولمّا صار ذلك كلُّه إلى ابن القَطّان وحازَه، وحَسُنت حالُه به، وسُرَّ بما مُنِحَ منه، رَفَعَ إلى العادل شاكرًا له هذا الإنعامَ الجزيل، فأنكَرَ العادلُ ما صَدَرَ عن ابن القَطّانِ من ذلك ولم يعرِفْ سببَه، فسألَ وزيرَه عنه، فقال: إنه لمّا خرَجَ الأمرُ بنظر عليّ في ترتيبِ الكُتُب لم يُخالِطْه شكٌّ في أنّ المرادَ بعلي: ابنُ القَطّان؛ لأنه كان الناظرَ فيها في المدّةِ المتقدِّمة، ولأنه العارفُ بما يحاولُ مِن ذلك، وللعلم بأنه لا يقومُ أحدٌ في ذلك التصرُّفِ مقامَه، فقال العادلُ: أرَدنا ابنَ أبي العلاء وأراد اللهُ مُخارقًا (1). ثم لم يأمَنْ أبو الحَسَن على نفسِه حتى خُلِع العادلُ وقُتل كما تقَدَّم.
= ويحسن هنا تصحيح وهم وقع فيه ابن أبي زرع الذي يقول في الأنيس المطرب: "ومنهم الفقيه القاضي أبو عبد الله ابن الصقر ولي القضاء بإشبيلية، ثم نقله أمير المؤمنين يوسف إلى حضرته فولاه الخزائن وبيوت الأموال" ومن الواضح أنه فهم من خبر ولاية ابن الصقر خطبة الخزانة أن المقصود خزانة المال، ومثل هذا الوهم قد يقع للمشارقة، وذلك لأن إطلاق الخزانة في اصطلاح المغاربة ينصرف إلى خزانة الكتب.
(1)
هذا على قياس المثل: أردت عمرًا وأراد الله خارجة.
وفي نحو تمثُّلِه بالبيتِ المذكور في الفَرق بين العادلِ وعمِّه ما صَدَرَ عنه في جانبِ الوزيرِ أبي سعيد بن أبي جامع، فإنّ أبا الحَسَن كان شديدَ الاختصاص بأبي عبدِ الرّحمن محمدِ بن أبي عِمران التينمليِّ، وكان أبو عبد الرّحمن هذا كثيرَ الاعتناءِ به، والتعظيم لجانبِه، والسعي الجميل له أيامَ وزارته حتى انتَهت بسَعْيه خُططَ أبي الحَسَن نحوَ ثلاثَ عشْرةَ خُطّة، كلُّها أو جُلُّها جليلٌ مفيد، وكلُّ واحدةٍ منها إنما كان يُعيَّنُ لها أكثرُ المرتسِمينَ بالعلم قَدرًا وأبعدُهم صِيتًا، ولمّا نكِب ابنُ أبي عِمران المذكورُ وغُرِّب إلى مَيُورقةَ انفردَ بالوِزارة بعدَه أبو سعيد بنُ جامع (1)، فاجتازَ به أبو الحَسَن وهو جالسٌ في مجلس الوِزارة فأنشَدَ متمثِّلًا في التباعُدِ بينَه وبينَ ابن أبي عِمران [البسيط]:
* كالهرِّ يَحكي انتفاخًا صُورةَ (2) الأسدِ *
وبَلَغَ ذلك أبا سعيد، فحَقَدَها له، ولم يزَلْ يَحُطُّ من خُططِ أبي الحَسَن ويُصرِّفُ فيها غيرَه حتّى لم يبقَ بيدِه منها شيءٌ إلا القليلَ النَّزْرَ الفائدة [وما لا غَناءَ فيه].
ولمّا أخَذت مملكةُ آلِ عبد المؤمن في الاختلالِ أيامَ [المُستنصِر بسببِ ركونه] إلى الهُوينى، وعكوفِه على راحتِه، وإعراضِه عن التدبير فيما [يعودُ لشؤونِ الدولة] وتفويض النظرِ في الأمور كلِّها إلى وُزرائه وحاشيتِه (3) وضاعتِ
(1) انظر ما عند صاحب المعجب في أبي سعيد بن جامع ص 310 وص 324 وكذلك الأنيس المطرب: 231، 236 ويذكر المراكشي ابن أبي عمران الذي كان قبل ابن جامع ولكنه يجعله أبا عبد الله محمد بن علي بن أبي عمران الضرير جد يوسف بن عبد المؤمن لأمه وقد أطلق لسانه بالثناء عليه، أما ابن عذاري فيسميه أبا يحيى بن أبي الحسن بن أبي عمران (قسم الموحدين ص 233).
وقال فيه ابن الخطيب: الشَّيخ أبو يحيى بن أبي عمران وزير الخلافة، وأورد قصيدة للكاتب المشرف محمد بن عبد الرحمن الغرناطي كتب بها إلى الوزير المذكور وهو بحال شكاية أصابته (الإحاطة 3/ 212).
(2)
كذا بالأصل، والمروي: صولة أو سورة.
(3)
أشار ابن أبي زرع إلى "إدمانه على الخلاعة، وركونه إلى الملذات وتفويضه أمور مملكته ومهمات أموره إلى السفلة"(الأنيس المطرب: 243 ط. دار المنصور).
[المصالحُ وتطاولت] أيدي المُعتَدين، وعاثَ أهلُ البَغْي في الأرض، وكَثُر في أقطارِ المغربِ [ونواحي] مَرّاكُشَ قَطْعُ السُّبل والمحارِبونَ الساعونَ في الأرض فسادًا، وكان [أكثرُهم، فيما] يُذكَر، يُساهمُ -فيما يَصيرُ إليه بالتغلّب عليه وانتهابِه من أموالِ المسافرينَ [والتّجّار] المتردِّدينَ- كبيرَ الوُزراء والمرجوعَ إليه من رجالِ الدولة أبا سعيدٍ ابنَ جامع، [حتى، ليُحكى أنّ بعضَ التّجّار سُلِبوا في توجُّهِهم إلى مَرّاكُش فجاءوا إلى أبي سعيدٍ ابن جامعِ متظلِّمين، رافعينَ إليه ما جَرى عليهم، وبينَما هم وقوفٌ على بابِ دارِه، ينتظرون تيسّرَ أسبابِ الوصُولِ إليه وإلى مكالمتِه في رَفْع ما حَلَّ بهم، رأَوْا أحمالَهمُ المنهوبةَ نفسَها وكثيرًا من أمْتِعتِهم على دوابَّ داخلةٍ إلى دارِه، فكَفُّوا عن التعرّض إليه يأسًا من نجاح ما سَعَوْا فيه، وانقَلبوا عنه متأسِّفينَ متحسِّرين، واستمرَّتِ الأمورُ على هذه الحال وبهذه السبيل زمانًا، والمستنصرُ في غَفْلةٍ عن كلِّ ما يَجري، غير سائل عن رعيّتِه التي يُسألُ عنها، وإن سَألَ أجابَه الوزيرُ أبو سعيد بأنّ الجميعَ في سُبوغ نعمةٍ وشمولِ عافية، واتّساع أحوال وبَسْطِ أموال، فيقنَعُ بذلك، ويعودُ إلى انهماكِه في لَذّاتِه.
وأهمَلَ معَ ذلك جانبَ الأجنادِ الذين هم آلةُ المَلِك وأعوانُه، فأرجَلَ فرسانَهم، وصُرِفت رَجّالتُهم؛ فتفاقَمَ الأمرُ واستَشْرى شرُّ المُفسِدين وكَثُرَ إضرارُهم وعَمَّ عُدوانُهم.
ولمّا تمَادى ظهورُ الفساد واشتَدّت شَوْكةُ أهلِه، أجرى أبو الحَسَن ذكْرَ ذلك بمجلس الوزيرِ أبي سعيد، وأشار إليه بإنفاذِ جيش إلى بعض نواحي مَرّاكُش لرَدع مَن نَجَم به من أهل البَغْي، فأجابَهُ بأنّ ذلك لا يُحتاجُ إليه، وأنه سيَكتُبُ إلى أهل تلك الناحية بالنّفور إلى مَن تعرَّضَ إلى أرضِهم ومُدافعتِهم والقَبْضِ عليهم وقَتْلِهم ونحوِ هذا، فلم يُقنغ ذلك أبا الحَسَن فقال: لعلّ المانعَ من ذلك الاحتياطُ على المالِ الذي يَنُوبُ في تجهيزِ هذا الجيش، فقال له أبو سعيد: إنّ بيتَ مالِ المسلمينَ قد خَلا ونَفِدَ ما كانَ فيه بالإنفاقِ في مصالِحهم، وكان [قولُ أبي سعيدٍ](1) تسلُّقًا
(1) كل ما بين الحاصرتين محو في الأصل، ولا يختلف لفظ الممحو عما أثبتنا.
إلى صرفِ أبي الحَسَن عن التعرُّض لشيء ممّا [ذَكَرَ، ثم] قال له أبو الحَسَن: فالرأيُ عندي أن يوظَّفَ على بعضِ الأملياءِ (1)[قَدْرٌ من المال لإقامةِ] هذه الحركة، فقال له أبو سعيد: هذا لا سبيلَ إليه، ولا [نُوظِّفُ على الناس] ما أعفاهمُ اللهُ من بليّتِه مدّةَ آل عبدِ المؤمن، فيُخيفَهم ذلك ويُوحشَهم، [ولا نَخرُج منه بطائل] فقال له أبو الحَسَن: أنا الضّامنُ استخراجَه منهم متبرِّعينَ به [راضينَ] بإعطائه، طيِّبة به نفوسُهم، فاغتنَمَها منه أبو سعيدٍ؛ ليوقِعَ كراهيَتَه في [قلوب] أهل مَرّاكُش، وأباحَ له ذلك والنظرَ فيه، فنهضَ من عندِه، ولمّا فَصَلَ أَبو [الحَسَن] من مجلسِ أبي سعيد، وصار إلى منزلِه، تصَوَّر في خاطره أنّ أوّلَ مَن يؤخَذُ معَه في ذلك المتصرفونَ بأموالِهم وأعمالِهم في مستغَلّاتِ الأملاك مُساقاة في سوادِها أو مزارعة في بياضِها، وهم في عُرف أهل مَرّاكُش: المُرابِعونَ؛ لأنهم كانوا يعمَلونَ في ذلك على أن يكونَ لهم الرُّبعُ من فوائدِها، أو للمحاوِلينَ شراءَ غللِها من زيتون وعنبٍ وتين ورُمّان وخَضْراوات وغير ذلك ثم يبيعونَها، وهم في عُرف أهلِ مَرّاكُشَ أيضًا: القَشّاشونَ (2)؛ وبَعَثَه على التَّبدِية بهم ما تقَرَّرَ عندَه وعندَ غيره من أهل مَرّاكُش من اتّساع أحوالِهم وبنائهم بما صار إليهم في تلك المُدّة من الفوائدِ لتوالي غلاءِ الأسعار، ونَفاقِ سِلعِهم، وارتفاع أثمانِها إلى حدٍّ لم يُعهد مثلُه فيما تقَدَّم. فبَعَثَ في رجُل كان يُذكَرُ أنه مِن أملاهُم وأعظمِهم جِدَةً، وكان اسمُه محمدَ بنَ عليّ ويُلقَّبُ بالذِّيب، وقد أدركتُ ابنيه، وبعضُ عقِبِه الآنَ بمَرّاكُش، وكان أوّلَ أمره حلفاويًّا، فلمّا حضَرَ عندَه أنكَرَ إرسالَه عنه، لمّا لم تَجْرِ بينَهما مخالطةٌ ولا مُلابَسة، على كثرةِ مُداخَلةِ محمد بن عليّ هذا أصنافَ الناس ومُداينتِه إياهم، فتوهَّم أنّ بَعثَه ليتدايَنَ منهُ، أو يُباحثَه في أمرٍ من أمورِ الأملاكِ أو غَلّاتِها، أو نحوِ ذلك ممّا كان بسبيلِه، فقال له أبو الحَسَن مُفاتحاً له: أنت الذِّيب؟
(1) جمع مليء، وهو الغني المقتدر.
(2)
قال ابن مرزوق في "المسند" في تعريف القشاشين: "هم المتصرفون في بيع الأملاك وابتياعها والمعرفة بقدر غلاتها"(المسند الصحيح الحسن: 311 - 312).
فاستَوْحشَ من مُلاقاتِه بهذا القول، وكان كيّسًا مِقدامًا وَجّادًا للكلام، فقال له: لستُ الذِّيب، وإنّما أنا أحدُ بني آدَمَ، واسمي: محمدُ بن عليّ، فقال له: إنّما تُشهرُ بالذِّيب وبذلك تُعرَف، فقال له: ذلك لقب أجْراهُ عليّ بعضُ سُفهاءِ الناس وأراذِلِهم، ولا أرضَى لكَ ما رَضُوهُ لأنفُسِهم، فمنصِبُك أعلى من هذا، فقال له: دعَ الكلامَ في هذا وخُذْ فيما له بَعَثتُ فيك، فقال له: قُلْ أسمَعْ، فقال له أبو الحَسَن: بَلَغَني أنّ عندَك اثنَيْ عشَرَ ألفَ قِنطار من الزَّيت في جملة [رِبَاع وضِياع وأموال] فقال له: نعَم، شكرًا لله، فقال له: وما تصنَعُ بها؟ فقال: ما يصنَعُ الناسُ [بأملاكِهم وأموالِهم] فقال له: أعطِها لبيتِ (1) مالِ المسلمين، فإنه أحقُّ بها منك، فقال: ليس [لبيتِ مالِ المسلمينَ فيها] حقّ، فإنّي قد أدَّيتُ زكاتَها، فقال له: والقليلُ من ذلك يُقنِعُك [ويكفيكَ منه] دنانيرُ تُديرُها في الحلفاويِّينَ كما كنتَ، فقال له: إنّما أرجو من فضلِ الله [المزيدَ على ما عندي] من نعمتِه، فقال له: إن لمِ تفعَلْ ما ذكَرتُ لك طوعًا وإلّا فعلتَهُ كَرهًا، فقال:[لا أُخرجُ من] مالي مقدارَ خردلةٍ بغير حقّ أبدًا، إلّا أن أُريقَ دمي عليه، ومن قُتِل دونَ مالِه [فهو شهيد] وتراجَعا الكلامَ في ذلك طويلًا، وأبو الحَسَن قد تمكَّن منه الغَيْظ، واستَولى عليه الغضَب؛ لإخفاقِ سَعيه في المحاولةِ التي لم تنجَحْ، ثم صَرَفَه، وشاع بين أهل مَرّاكُشَ هذا المجلس، وتحدَّثوا بما جَرى فيه، ومَقَتوا أبا الحَسَن بسببِه، وحصَلَ أبو سعيدٍ على مُرادِه في أبي الحَسَن.
ثم تبغَّض أبو الحَسَن عَقِبَ ذلك إلى وجوهِ دولة المستنصر ووُزرائه وحُجّابِه والمتصرّفينَ في مشاطرةِ العمّال (2)، فإنه أحدَثَ بها وَحشةً بين المستنصِر ورجالِ دولتِه، حتّى همَّ بالقَبْض عليهم واحدًا بعدَ واحد واستصفاءِ أموالهِم،
(1) في ص: "بيت".
(2)
تقدم أن لإبن القطان مقالة في مشاطرة العمال، ويفهم من السياق أن وظيفة المتصرفين فيها أحدثت باقتراح من ابن القطان وبناء على مقالته، ومشاطرة العمال من باب محاسبة العمال التي لها أصل معروف في السنّة.
ولمّا [تحسَّسوا] ذلك واستَشْعَروه، سَعَوْا في تخلُّصِهم منه بقتلِه، فدَسُّوا عليه من سمَّه فمات، وقد تقَدَّم الإيماءُ بذلك في رَسْم أبي إسحاقَ بن الحجر (1).
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: جَرى قبلَ هذا استباحةُ أبي الحَسَن سكْنى دار العُثمانيّ، بعدَ سعيِه في قتلِه وقتل ابنِه، فرأيتُ إيرادَ قصّتِها؛ لئلا يتشوَّفَ إليها مُتشوِّفٌ، ولأنّها من أغربِ ما جَرى في ذلك الوقت، وقد وَقَفْتُ عليها في خطِّ أبي الحَسَن نفسِه:
قال أبو الحَسَن: كان بمَرّاكُشَ طالبٌ يذكرُ أنه عثمانيُّ النَّسَب من ذُرِّية عثمانَ ابن عَفّانَ رضي الله عنه (2)، وكان موثقًا شاهدًا بحَوْمةِ أجاديرَ (3) من مَرّاكُش، وكان له ابنٌ صغيرٌ يُذكَرُ بنُبل وذكاءٍ وتصرُّف في علوم على صِغَرِ سِنِّه، ثم ذُكِرَت عنه أشياءُ شنيعة، منها: أنّ بعضَ الطلبةِ أخبَرني أنه بَلَغَه أن قائلًا قال في النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم: لا نبيَّ بعدَ محمد، هو خاتمُ النبيين، فقال: ليس هو خاتمَ النبيئين، هذه كلمةٌ قد قالها موسى وعيسى، فبَعثْتُ عن أبيه، فلمّا حضَرَ عندي سألتُه عما نُسِب إليه من الأقوال، وقلتُ له: بَلَغَني أنه قال في نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: هو خاتمُ النبيئينِ، هذه كلمةٌ قد قالها موسى وعيسى؛ [فأنكَرَ أنّ ذلك] كان، وحَلَف من الأيمان ما أوجَبَت في الحالِ تصديقَه، والحملَ على الطالبِ الحاكي عنهُ، ثم قلتُ له: فهاتِ الآنَ حديثَ ابنِك،
(1) السفر الذي يحيل عليه المؤلف مفقود، وستأتي الإشارة إلى ترجمة هذا الطبيب الذي يبدو أنه كان له دور في سم الخليفة المذكور، ولم ترد هذه الرواية في مصدر آخر، والرواية المتداولة بين المؤرخين أنه نطحته بقرة فمات.
(2)
لم يسم المؤلف هذا العثماني وفي اختصار القدح (196 - 197) ترجمة لمن اسمه أبو القاسم عبد الرحمن العثماني، وقد جاء فيها:"وكان يذكر أنه من ذرية عثمان بن عفان" وقد لقيه ابن سعيد بسبتة وقال: إن أصله من طلياطة عمل إشبيلية وفارقه سنة 627 هـ، وذكر أنه كان معروفاً بالرفاهية وكانت له عوائد الخواص، ولكننا لا نعرف هل بقي في سبتة أم انتقل إلى مراكش، وثمة بعض المشابه بين تصرفات هذا الرجل والمذكور هنا. وبالجدير بالذكر أن المصادر الأخبارية التي وصلت إلينا لم تشر بشيء إلى هذه الحادثة.
(3)
فوقها كلمة صح في الأصل، وحومة أجادير كانت في عدد من مدن المغرب كتلمسان وفاس.
فقال: إنَّ ابني عبد الله لم أزل حريصاً على تأديبه وتعليمِه، فوفّقهُ اللهُ، فحصل في أيسر مُدةٍ وعلى صغر سنه ما يُسْتَعظم لذوي الأسنان العالية. ثم ذكرَ ما قرأ من القُرآن والعربيّة والعَدَد والآداب والتعديل، فأنكرتُ في نفسي أكثرَ حديثه عنه، بالقياس إلى ما كنتُ أشاهد من صغر سن الابن المذكور، في حال خطوري عليه، ولقائي له في الطرق. قال: ثم إنّ الله ابتلاهُ ببليةٍ ورزأني فيه برزيةٍ علمتُ أنها عينٌ أصابت، وقَدَرٌ نفذَ، فصارَ يرى مرائي يُكلم فيها بقرائن ويُنذر بإنذارات ويؤمر بأوامر ويكون ذلك بواسطة ملائكة تارة، وبواسطة أنبياء تارة، وربما اجتمع له الصنْفان، وَيتْلُونَ معه القُرآنَ، ويُخْبرونَهُ بما يكون، ويحدِّثونَهُ بما يتفق له ويشكل عليه الشيء مما قالوا له إذا اسيتقظ، فيأتونه بعد ذلك، فيسألهم عنه فيفسرونه. وذكرَ أنه رأى من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وملكًا يُلازمه وهو أول من رأى وأول ما ابتدئ به اسمه شلانون، وهو الذي لا يكاد يغيب عنه ولا يغبه، وهو الذي يأخذه متى جاءه من شدة اتصال ما بينهما، وكثافته حاجب واحد، وأحياناً كأنه طائر أخضر على قدر جَمَل، وأخذ في أشياء مثل هذا مما لا يسعه خاطر.
فقلت له: أنبئني عن أول ما اعتراه هذا.
قال: نعم، كنتُ عام أول في هذه الأيام أيام عيد الأضحى مصبحًا يومًا، إذ قال لي: يا أبت، رأيتُ البارحة في النوم شيخا أتاني فقال لي: أقرئ أباك السلام من الحُسين وإبراهيم.
قال: فقلت له: يا بني، وما هذا؟ ومَن الحُسين وإبراهيم؟ قال: لا أدري، قال: ثم أتاه ليلة أخرى، فقال له: بلّغتَ أباك؟ فقال: نعم، ولكن مَن الحُسين وإبراهيم؟ قال: سَيُفَسَّر لكم هذا. قال: فبعد أيام ابتليتُ بالمطالبة التي طالبني بها الزيادي، حين زعمَ أني سببتُ الحُسَين عليه السلام (1)، واضمحلت عني تلك المطالبة بعد ما رأيتُ فيها من المشقة، ثم بعد أيام جرت لي مطالبة أخرى طالبني بها إبراهيم الكُتُبي سجِنتُ عندها، ولم يصح ما نُسب إليَّ أيضًا من سب من زعم أني سببته من العُلماء.
(1) في هذا ما يدل على نزعة مروانية واضحة، وسيأتي ما يزيدها وضوحاً.
قال: وجاءه هذا الملك الذي هو شلانون، فقال له: لمَ ترَكَ أبوك وِردَه من اللّيل في البيتِ الذي كان اتّخذَه في دارِه مسجدًا؟ قال: وقد كان لي وِردٌ من اللّيل في بيتٍ من داري شغَلَتْني عنه شواغلُ الدُّنيا، وصار سهري باللّيل إنّما هو على وثيقةٍ أُبيِّضُها أو فريضةٍ [أقيِّدُها، وحينَ] قال لي ذلك، بادرتُ إلى البيت، فبنيتُهُ بِنيةً جديدة [وجدَّدتُ فراشَه، وبَلَغت] نفَقتي فيه مئتي دينار، ووجدتُها بعدَ شهرٍ قد انخَلَفَت على الأعشَرين، ورجعتُ إلى صلاتي فيه كما كنتُ (1)، قال: وبقيَ لي البيتُ في الدار [وفي جُدرانِها] خَلَق كأنه رُقعةٌ من غيرِ الثَّوب، فأحوَجَني ذلك إلى نفقةٍ في سائرِ [الدار].
قال: وقال لي مرةً أخرى: قُلْ لأبيك يُجرِّدِ الجُبّةَ التي عليه التي أخَذَ من فلانٍ في [كِرائه] وقد كنتُ أخذتُها ممّن يَسكُنُ لي موضعًا، وربّما لم يكنْ عندَه ما يؤدِّي فأعطاني جُبّتَه، قال: فصُرِفتِ الجُبّةُ على رَبِّها.
قال: واستمرَّت عليه هذه المَرائي وصار يُخبَرُ بما يكونُ، حتى لَغابوا عنه مُدّة، ثم جاءوه أو من جاءه منهم فقال: أبطأتم عنّي، قال: شُغلٌ عَرَضَ في شرق الأندَلُس شغلنا، قال: فجاء بعدَ أيام حديثُ حِصن شلفيره وأخْذِ المسلمينَ إيّاه من أيدي النّصارى (2).
(1) في ص: "كانت".
(2)
شلفيره كما ورد هنا أو شنفيره كما في الروض المعطار أو شرفيره كما في التكملة والذيل والتكملة: حصن على أربع مراحل من مرسية. قال ابن الأبار وابن عبد الملك: "وفيها (أي في سنة 613 هـ) استرجع المسلمون شرفيره من ثغور مرسية من أيدي النصارى" وقد خصه الحميري بمادة مطولة روى فيها قصة استرجاع هذا الحصن سنة 614 هـ بحيلة دبرها محمد بن هود الذي كان يومئذ في جند الموحدين واشتهر بسبب ذلك عند أهل شرق الأندلس فصاروا يقولون: هو الذي استرجع شنفيره؛ وقد ترددت إثر استرجاع هذا الحصن مخاطبات وسفارات إلى مراكش، وكان مما قاله الوزير ابن جامع لسفير قشتالة اليهودي ابن الفخار: أخذناه في الصلح كما أخذ منا في الصلح. (انظر الروض المعطار: 348) تحقيق د. إحسان عباس، والتكملة (3021) والذيل، وثمة إشارات إلى سفارات الطبيب اليهودي أبي إسحاق إبراهيم بن الفخار في البيان المغرب 3/ 244 والمغرب 2/ 23 والعبر 6/ 524.
قال: وأخبَرني مرّةً بخبرٍ جاء تأويلُه في رُفقةٍ أتَى عليها في الطّريق دخَلَ مَن كان فيها من التجارِ مجرَّدين.
قال: وقد نَهى أن يَستجيبَ لمن يدعوهُ باسمِه أو بكُنْيتِه إلا أيوبَ، قال: وقد سألَهم عن معنى ذلك فأخبَروه أنه إشعارٌ بمِحَن خفيفةٍ تصيبُه.
قال: وقد حدَّثوهُ بما يَؤُولُ إليه أمرُه، وما يَبلُغُه مُلكُه، ومن يقومُ بسُلطانِه، وعُيِّن له زمنُ ابتدائه، وزمنُ استيساقِه أمرَه ومقدارُ عُمُرِه، وهو أحدٌ وثمانونَ عامًا، وأشباهُ هذا من الأحاديثِ عنهُ ممّا سيأتي ذكْره بعدُ.
فحينَ سمِعتُ هذا منهُ قلتُ له: قد عادَتْ لائمتي عليك، ولا ينفَعُك عندي تبرِّيكَ ونسبةُ ذلك إليه، فإنّي أرى أمرًا لا يَليقُ بمَن سِنّه سنّ ابنِك، وما هذا بشيءٍ غبتَ عنهُ، فجَعَلَ يحلِفُ ويؤكِّدُ ما ذهبَ إليه من التبرِّي، فقلت له: ما يُبرِّيك من هذا إلّا أن تجيئَني بالطّفل حتى أرى ما يحدِّثُ به، وكيف يتحدَّثُ به، فقال: أجيئُك به اليومَ بعدَ صلاةِ العصر. ثم عدتُ إليه بنوع آخَرَ من اللَّوم، فقلتُ له: وأيضًا، فأين أنت من تأديبِه لأوّل مسموع من هذا المنكَرات؟ فقال: قد ضربتُه مئة وخمسينَ سَوْطًا، وهممتُ بضَربه مرّةً أخرى ففرَّ منِّي، ورمَى بنفسِه في البئر، وبعدَ لأي أخرَجْناهُ، فقلتُ له: واللومُ أيضًا لاحق في ذلك بما أرى مِن تحدُّثِك عنه وإذاعتِكً لأخبارِه، فقال: وهذا أيضَا شيء ما أذنبتُ (1) فيه، وإنّما غُلِبتُ عليه بصورة اتَّفقَتْ لي معَه هي التي شهرت أمرَه، وذلك أنه يَبيتُ عندَ أُمِّه، وهي ساكنةٌ -لمشاجَرةٍ بينَنا-[بيتًا] في دار رجُل أمين يَسكُنُ فيها جَماعةٌ من الناس، قال: فلم يَرُعْني إلا [أحدُهمِ جاءني وقال: قد] مات ابنُك، فبادَرتُ فوجدتُ أُمَّه تَنُوحُ عليه والناسُ مجتمعون يتحدَّثونَ حديثَه، فدخلتُ إليه فوجدتُه ميِّتًا؛ فسَعَطتُه بفُلفُل مدقوق فلم يَعطُس، فوضَغتُ [] صُوفَا عند أنفِه فبدَا لنا تحرُّكُ بعض شَعَراتٍ منه، فعلمتُ أنه حيّ، فرفعتُه على ظهرِ خادم إلى منزلي، وتَبِعني من الناس خَلْق، فدَخَلوا معي، ووُضِعَ بين يدَيّ، وصِرتُ أبكي عليه لفَجَعتي به، والناسُ يُصبِّرونَني، فمِن قائل يقول:
(1) في ص: "ما أذنت".
رُزئتَ، ومن قائل يقول: لقد كان نبيلًا، ومن قائل يقول: العينُ أصابَتْه، فنحن على ذلك إذ قال بعضُ الحاضرين: أرى على يده حَرارة، فجَسَسْناهُ فصدَّقْنا ذلك، ثم مَدَّ يدًا أخرى، ثم رجلَه ثم الرّجلَ الأخرى، ثم فتَحَ عينَيْه، فنادى باسم أمِّه، فقلتُ له: يا بُنيّ، أنت في داري، فقال: ومتى جيء بي إلى هنا؟ ألم أكنْ عندَ أُمِّي، فقلت: أنا جئتُ بك، فقال لي: أيُّ وقتٍ هو، قلت: طَلعتِ الشمس، قال: سبحانَ الله! فاتَتْني صلاةُ الصُّبح، فقام فتوضَّاَ وصَلّى، فمزَجْتُ له شرابَ مُضطَكا قصدتُ به تقويةَ قلبه فقال لي: قد كنتُ بَيَّتُّ الصَّوم، ويسَّرتُ سُحوري، ففاتَني ذلك، ولا يفوتُني الصَّومُ فأنا صائم، فقلت له: يا بُنيّ، وما الذي اعتَراك؟ وأيُّ شيءٍ دهاك؟ قال: بينا أنا نائم إذْ عَرَضَ لي شيخ فقال: قُم، قلت: من أنت؟ قال: أنا أبوك إبراهيم، فقمتُ معَه فأخَذني فمشَى بي فهوِيتُ في بعض الطريق في حُفرة، فقلت: ما هذه الحفرة؟ قال: هذه الحفرةُ التي أُوقِدَت لي فيها النار، ورُميتُ فيها، ثم سِرنا في أرض سهلةٍ تغرَقُ فيها الأقدام، فانتَهيْنا إلى شخصٍ فأسلَمَني إليه، فسار بي، ثم انتَهى إلى آخَرَ فأسلَمَني إليه، ثم إلى آخَرَ فأسلَمَني إليه، وذَكَرَ أن هؤلاء: جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وهو آخرُهم، قال: فمشَى بي حتى أسلَمَني، فرأيتُ نورًا قد قَرُبتُ منه بمقدارِ أربعةِ أشبار فرُعِبتُ، فالتفتُّ إلى إسرافيلَ لأستأنسَ به فلم أجِده، ورأيتُ في التفاتي النورَ قد أحاط بي من كلِّ جانب، وبيني وبينَه ذلك المقدارُ، فسَمِعتُ صوتًا هالَني فسقَطتُ مَغْشيًّا عليّ.
قال: فخَرَجَ كلُّ مَن سمِع مقالَتَه، فأخَذَ كلُّ واحدٍ منهم يتحدَّث فيَزيدُ ويَنقُص، فوجدتُ الخبرَ ذائعًا، قائلٌ يقول: تنبَّأ، وقائل يقول: أُسْرِيَ به، وزائدٌ يَزيدُ وناقصٌ يَنقُص، فجعَلْتُ أردُّ الباطلَ، وأخطئُ الخطأ، فهذا الذي أشاعَ عنهُ الحديث، وإلّا فما كنتُ بالذي يتحدَّثُ عنه بشيء. ولمّا وجَّهتُ عليه اللّومَ في تَرْكِ تأديبِه تنصَّلَ عن ذلك [وتبرأ منه، ثم] قال لي أيضًا: لقد بَلغتُ من ذلك إلى أنْ خرجتُ به يومَ هذا (1) فقصَدتُ إرهابَه وإزالةَ ما في نفسِه، فأخذتُه فرفعتُه
(1) محو تام في الأصل، ويبدو أن الإشارة إلى عرض للجيش.
على حائطٍ [ليَفْزَعَ منه] فلمّا أنزلتُه قلتُ له: يا بنيّ، أرأيتَ ما أعطى اللهُ تعالى أهل هذا الأمر من العزِّ والمَهابةِ والأُبّهة! فضَحِكَ وقال: الجَزّارُ لا تَهُولُه كثرةُ الغَنَم (1). ثم حدَّثْتُ بهذا [ولدَه] في المجلس الذي أحضَرَه فيه، فقلتُ له: أهكذا كان؟ فأطرَقَ ثم رفَعَ رأسَه فقال لي: أفيكذِبُ؟
ولمّا سمعتُ منه هذا قلتُ له: انصَرِفْ وجِئْ به للموعِد، وفي خلال هذا جاء طلبةٌ فسَمِعوا بعضَ حديثِه، ورغِبوا في الحضور عشيّةَ سَماع الطفل فخَرَجوا، ولمّا صلَّيتُ صلاةَ العصرِ جاء به كما وَعَدَ، ولم يستقرَّ به المجلسُ إلا وجماعةٌ قد استَوْفَتْ لم أرَهُ يتحفَّظُ من أحدِ منهم، فأخذتُ في مُساءلتِه، فجَعَلَ الصبيُّ يحدِّثُ حديثَا لا يتلعثَمُ فيه ولا يتوقَّف، ولا يخجَلُ ولا يَهابُ، ولا يُبالي وإنكارِ مُنكَر، ولا يأنسُ بموافقة، فعجِبتُ من حالِه، فأحوَجَني ذلك إلى السؤال عن سِنِّه، فأخبَرَ أنها ثِنتا عشْرةَ سنةً، فجَعلْتُ أسألُه عمّا أسمَعني أبوه إيّاه في المجلس المفروغ منه، فجَعَلَ يحدِّثُ به كذلك وما تَركَ أذْكَرَهُ به أبوه، وربّما أخَذَه عنه فكمَّلَه، وربما سُئل عن
حديثٍ فأخَذَه عنه الأبُ وحدَّث به عنه، فيُصدِّقُه الابنُ.
وزاد في مسألةِ الصَّوت أنه سأل عن تفسيرِه إسرافيلَ في ليلةِ أخرى، فقيل له: معناه: لا تخافا إنّني معَكما أسمَعُ وأرى، يعني: أنت وأبيك.
ولمّا انتهى ذلك إلى هذه الغاية قلتُ له: يا بنيّ، أما تعلمُ أنّ هذا كلام لا يُسمَحُ فيه، ولا يَعيشُ قائلُه بشَرع؟ فقال لي: قد سألتُ عن ذلك، فقيل لي: لا خوفَ عليك، وقد أُمِرتُ بالجَهْر وإنذارِ الناس وتعريفِهم.
فقلتُ له: يا بُنيّ، ومن أمَرَك؟ قال: ربِّي. قلت: يا بُنيّ، كيف رأيتَ من رأيتَ منَ الأنبياءِ والملائكة بزَعمِك؟ قال: رأيتُهم شيوخًا إلا محمدًا، فإنه كَهْل. قلتُ: وما الكَهْل؟ -أو قال ذلك أحدُ الحاضرين- قال: مَن (2) وخَطَه الشَّيب.
(1) هذا مثل.
(2)
في ص: "قد".
قلتُ له: يا بُنيّ، المنامُ يَصدُقُ ويكذِب، ولا تَنبني عليه الأحكام، ويكونُ له التأويل، ويَبعُدُ فيه التفسير.
فقال: قد تيقَّنتُ ما قيل لي وما أُلقِيَ إليّ.
قلت [يا بُنيّ، ذلك من همَزات](1) الشياطين والخيالاتِ الفاسدة من المَرَض الذي أصابَك.
قال: [ما هم شياطين، فإن] الشيطانَ لا يَتْلو القرآنَ ولا يتمثَّلُ بصُورة النبيّ عليه [السلام].
قلتُ له: إذا رأيتَ ذلك، أتحسُّ بألمٍ أو تنتشرُ على بدَنِك حرارة؟ [قال: لا].
قلتُ: وهل ترى شيئًا في اليقَظة؟
قال: قد رأيتُ شلانونَ في اليقَظة [مرّةً واحدة](2).
قلتُ: فحدّثْ عما قالوا لك في تأمينِك.
قال: قد قلتُ لهم: أخافُ أن أُقتَل، فأمَّنوني وأمَروني أن أُنذِرَ الناسَ غيرَ خائف.
قلتُ له: وذكَرَ أبوكَ أنّك قد دخلتَ الجنّة؟
[قال: نعم، دخلتُها] فرأيتُها على مئتينِ وعشرينَ درجة، فرأيتُ فيها أبا محمد بن حَزْم (3) على مئة درجة وسبغ درَج.
وذكَرَ أنه رأى آخَرينَ لا أعيِّنُهم الآنَ.
(1) ما بين الحاصرتين ممحو في الأصل، ولعله كما أثبتنا.
(2)
ما بين الحاصرتين يقتضيه السياق.
(3)
قد يكون في هذا دلالة على مذهبية هذه الأسرة العثمانية، وقد استغل بعض الخارجين عن الجماعة اسم ابن حزم، ومن أمثلة ذلك محمد الأندلسي صاحب الطائفة الأندلسية التي ظهرت بمراكش في عهد السعديين، وتجدر الإشارة إلى ما أثارته مؤلفات ابن حزم من جدل في عصر الموحدين. انظر مقالة للأستاذ محمد إبراهيم الكتاني بعنوان: مؤلفات ابن حزم ورسائله بين أنصاره وخصومه في مجلة الثقافة المغربية. ع. 1.
قال: ورأيتُ القاضيَ أبا عِمران بن عِمران (1) على إحدى عشْرةَ درجة، وأشيرَ في إلى درجة، قيل: هناك كان قبلَ أن يليَ القضاء، فلمّا وَلي القضاءَ هبَطَ، فعددتُ ما بينه وبينَ تلك الدّرجة فوجَدتُ ثِنتَيْ عشْرةَ درجة، فعَلِمتُ أنه كان على ثلاثٍ وعشرينَ درجة.
فقال له بعضُ الحاضِرين: وكيف رأيتَ دَرَج الجنّة؟ أكأنّها هذه الأدراج؟
فضَحِك مُنكِرًا عليه، وقال: لا، بل هكذا: باب وفوقَه باب وفوقَه باب، هكذا أبوابٌ صاعدة بعضُها فوقَ بعض.
[وذَكَر](2) أنه رأى على بابِ الجنّة طائرًا صغيرًا فقيل له: هذا الصبيُّ الذي قتَلَه النَّصرانيُّ في المقبُرة (3)، وأنه أعطيّ في الجنّة [ثلاثَ](4) زجاجاتٍ شرِبَ واحدة (5) كلَّها، ومن الأخرى نصفَها، ومن الأخرى ترَكَ منها يسيراً، ولم يَدرِ ما كان الشرابُ الذي فيها كلِّها.
وأنه قيل له: تأهَّبْ لانقضاءِ ثلاثةٍ وثلاثينَ يومًا، قال: فكمُلَ لهُ يومَ العيد سبعة وعشرونَ يومًا وبقِيَ ينتظرُ ما يكونُ إلى تمامِها.
قال: ودخلتُ النارَ، فرأيتُ فيها أشياء، من ذلك: تابوتٌ من نار، فقلتُ للمَلَك الذي معي: ما هذا؟ قال: يا عافِ، فجاء شخص عظيمٌ في يدِه مِفتاحٌ
(1) هو أبو عمران موسى بن عيسى بن عمران، كان هو وأبوه من قضاة الموحدين انظر البيان (125) والمعجب (245، 246، 313، 325) والأنيس المطرب (268) والمن بالإمامة (141، 472، 495، 504، 513، 523)، وستأتي ترجمة المذكور هنا وتراجم أبيه وإخوته في هذا السفر. انظر الأرقام 5، 44، 176.
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
(3)
الإشارة إلى حادثة كانت معروفة، ومن المعلوم أن فرقة من النصارى كانت في جيش الموحدين بمراكش.
(4)
زيادة يقتضيها السياق.
(5)
في ص: "الواحدة".
من نار كأنه جمرة، ففُتِحَ، فرأيتُ في التابوتِ شخصًا أبيضَ الجسم أسودَ الوجه في ساقَيْه كُبولٌ من نار. قلتُ: من هذا؟ قال لي: هذا من كانت تُضرَبُ على رأسِه الطبول وتُنشَرُ [له] الألوِيةُ في الدُّنيا، وسيُفسَّرُ لك بعدُ.
قلتُ له: فما الذي وُعدتَ به؟
قال: أخبَروني أنّي سأملِكُ الدنيا كلَّها.
وكان قد ذكَرَ في كلامِه أنه كثيرًا ما يرى في الذين يُكلِّمونَه سُليمانَ وذا القَرنَيْن، فقلتُ له: وما المعنى في ذلك؟ قال: أني أملِكُ مثلَ مُلك ذي القرنَيْن ويُسخَّرُ لي ما سُخّر لسُليمان، وذَكَرَ أنّ سُليمانَ ألبَسَه خُفَّيْن، [وأنّ ذا القرنَيْنِ فعَل] فعلًا لا أعيِّنُه الآن.
قلتُ له: ومتى قيل لك يكون هذا [المُلك؟
قال: يكونُ] ابتداؤه سنةَ ثلاثينَ وست مئة.
قال: وكمالُه واستيساقُه سنةَ [ثلاثٍ وثلاثينَ](1).
قال: وعُمري إحدى وثمانونَ سنة.
قال: وإذا استَوْسَقَ ليَ المُلكُ بالمغرب تَركْتُ فيه رجلًا يقال له: محمدُ بن أحمد.
قال: وحينَ ذلك أمشي إلى المشرِق فَأجِدُ المَروانيَّ، وهو محمدُ بنُ عبد الله، [فأُبايعُه] عند الرُّكنِ والمقام، ويفتَحُ البلاد، ويستولي على العراق، وهُو الذي يَتِمُّ [به] أربعونَ خليفةً (2).
(1) محو في الأصل.
(2)
يستفاد من هذه الفقرة أن هذا العثماني كان مأخوذًا بالدعوة المروانية وما تألف حولها من نظرية موازية لنظرية الشيعة في الإمامة والإمام المنتظر، ويبدو أن أصحاب التشيع المرواني أو العثماني كانوا يتوارثون هم أيضَا ما يشبه الجفر يتضمن أخبار الملاحم الآتية والحوادث المقبلة ورجوع الدولة الأموية وظهور السفياني وغير ذلك مما وقف عليه المسعودي في كتاب البراهين في إمامة الأمويين، وما قد يكون أضيف إليه فيما بعد. انظر التنبيه والإشراف للمسعودي (291 - 292).
أما عدد الأربعين خليفة فلا نعرف أساسه ولكنه يمكن أن يتألف من عدد الخلفاء الراشدين والأمويين بالمشرق والمروانيين بالأندلس (مع مراعاة العد فيمن تكررت دولتهم) ثم من صاحبنا وخلفه محمد بن أحمد وأخيراً محمد بن عبد الله.
وأنه قيل له: إنه تَتِمُّ عليه قبلَ استيساقِ أمرِه ثلاثٌ وأربعونَ هزيمة.
وأنّ من جُملةِ ما أوصَوْهُ به أن يكونَ قتالُه كلُّه بالكمائن، حتّى لو لم يكنْ معَهُ إلا عشَرةٌ من الفُرسان يصف بعضهم ويَكمُنُ بعضهم.
وأخبَرَ أيضاً عن مقتلِ أبيه في بعض المواطِن قبلَ استيساق أمرِه.
وأخبَرَ عن الطائفةِ المنصُورة المؤيَّدة بأنهم يتعلقُ من يَبقَى منهم بجِهاتٍ من بلاد النَّصارى (1) بالأندَلُس.
قال بعضُ الحاضرين: ومن أنصارُك؟ قال: قد سألتُ عن هذا فقلتُ حين وُعِدتُ بهذا: وكيف يكونُ ذلك ومَن لي به ولا مالَ لي ولا عزَّ، ولا قَبِيل؟ فقيل: إذا كان ذلك الوقتُ أُعطِيتَ آيتَيْنِ، إحداهُما: أنك ترجِعُ تَطيرُ بالنهارِ كما تطيرُ باللّيل الآنَ، والأخرى: قضيبانِ أحدُهما أسودُ والآخَرُ أبيض، أضرِبُ بالأبيضِ على الأسود فيعودُ اللّيلُ نهارًا والقمرُ شمسًا، وأضرِبُ بالأسودِ على الأبيض فيعودُ النهارُ ليلًا والشمسُ قمرًا.
قالماله بعضُ الحاضرين: ومن الذين يقومونَ بدعوتِك؟
فانتَدبَ الأبُ يعُدُّ القبائلَ حاكيًا عنه، فعَدَّ إحدى عشْرةَ قبيلةً أكثرُها صَحراويّ، وكان الأبُ في أكثرِ هذا إمّا مشاركٌ له في الحكاية وإمّا مُذكِّرٌ بما يَترُكُ، فلم يَعدم منّي ولا من الحاضرينَ إنكارًا عليه وتعريفًا له بأنّ هذا مما يدُلُّ على أنّ أكثرَ هذا منك وإلّا فاترُكْه، فيَترُكُه قليلًا وتغلِبُه نفسُه فيعود.
وجَرى من الأحاديثِ غيرُ هذا ممّا لا أذكُرُه الآنَ، وقد تعلَّقَ الحاضرونَ بأكثرِها فهي مبثوثة.
(1) لعل في هذا إشارة إلى ما وقع للبياسي وأخيه أبي زيد اللذين انحازا إلى النصارى عندما ضعف أمر الموحدين في الأندلس. انظر البيان المغرب والأنيس المطرب والروض المعطار والذخيرة السنية وغيرها.
وحين انتهى إلى هذه الغاية قلتُ له: يا بُنيّ، اعلَم الآنَ أنّ هذا أمر لا يحلُّ السكوتُ عليه، ولا بدَّ من إنهائه، وأنا الآنّ قد خَطَرَ لي أن أحبِسَكما الليلةَ ها هنا حتى أبْرَأَ بكما إلى أهلِ الأمر، فقال: اصنَع ما بَدَا لك.
فقال أحدُ الحاضِرين: إذًا والله يا بُنيَّ يقتلونَك.
قال: يصنَعونَ أشدَّ [ما يقدِرونَ عليه].
قلت له: يا بُنيّ، والله لتُقتَلنَّ معجَّلًا أو مؤجَّلًا.
قال: واللهُ يقولُ الحقّ، فإنّ الله لا يُخلِفُ وعدَه.
قلت له: الشيطانُ وعَدَك ومَنّاك وغَرَّك.
قال: لا، بل [هو وعدُ الله] تعالى.
قلت: فإن قُتِلت؟
قال: إذا قُتِلتُ أُقتَلُ مظلومًا وأمضي إلى الجنّة.
قلتُ له: [ها قد بَدَأَ] تناقُضُك، ها أنت ذا قد جوَّزتَ القتلَ وقد كنت تُمنَعُه.
قال: هذا على [فَرَضِك وتقد] يرِك.
قلت لهُ: اسمَع الآن، أنا إذا ذهبتُ بكَ غدًا لا تُسِئْ معيَ [الأدب، فإنه] يلزَمُني لحقِّ الخِدمة أن أحمِلَك على تقبيلِ رؤوسِهم أو ما كان منهم حين السلام عليهم.
فقال: ما أفعَل.
فقال له بعضُ الحاضِرين: كيف لا تفعَلُ؟ ألا تقبِّلُ أيدي أهل الأمر؟
فرفَعَ إليه يدَيْه مُنكِرًا عليه. وقال: كيف أقبِّلُ أيدي قوم اليومَ وأنا أثورُ عليهم غدًا؟
وأخَذَه الحاضِرونَ بعدَ الانتهاءِ إلى هذا المقام بأنواع من الأخْذ، منه شيءٌ عليه، وشيء على أبيه، فذَكَّرَه أبوه بما أعطَوْه، فقال: نعم، أعطَوْني شيئًا آمَنُ به وأخرَجَ من جيبِه صُرَرًا فيها أشياءُ سخيفةٌ لا تُعرَف.
وزَعَم أنّ شلانونَ قال له: ليلةَ الثلاثاءِ تأهَّبْ وزود معَ ذلك الشيءِ الذي أعطيتُك قطعةً من عُودٍ رَطْب، فأرانا جميعَ ذلك.
ولمّا انتهى هذا المجلسُ إلى هذا الحدّ أذَّن المؤذِّنُ بالمغرِب فصَرفْتُه واستوثَقْتُ من أبيه وانصرَفت.
وبعدَ انصرافِه عنّي نَدِمت، ورأيتُ أنّي ضيَّعتُ الحَزْم، فإنّي خِفتُ أن يرجِعا معَ أنفُسِهما فيتبيَّنَ لهما أنّ المسألةَ قدِ انتهت إلى حد لا تُترَك فيستَخْفِيا، ولم يكنْ لي حيلةٌ إلى الصّباح، ولمّا أصبَحَ غَدَوْتُ مُستخِيرًا الله تعالى (1)، فعرفتُ بها مجملًا إلا مواضعَ منه عَرَفَ مَن أدام اللهُ عزَّهما وفَهِما منه ما فَهِما ممّا لا يفهمُه غيرُهما.
وقال الشّيخُ الموقَّرُ المكرَّم أبو سعيد (2): ينبغي أن نراه.
فقلتُ: وما تصنَعونَ برؤييه وهو شيطانٌ لا يُبالي ما يقول؟
فصوَّب ذلك الشّيخُ أبو محمد (3) ووَجَّه بأنْ قال: أرأيتَ إن سمِعتُ منه في الأمر شيئا، أأترُكُه؟ والله لأفُكّنَّ عُنقَه، أو كلامًا هذا معناه.
فقال الشّيخُ المكرَّم أبو سعيد: ومعَ هذا لا بدَّ من أن يصيرَ هذا الخبرُ عِيانًا.
ثم قال لي: توَلَّ هذا بنفسِك، اذهب الآنَ فجئْنا به، ففعَلتُ.
ولمّا دَقَّ عليه الغلامُ البابَ -وقد كنت خائفًا ألّا أجِدَه- إذا به قد خرَجَ فقلتُ له: الطريق، فدخَلَ ودخلتُ معَه وإذا بابنِه.
فقلتُ: ما صَنَعَ هذا الطالبُ، هل رأى شيئًا البارحةَ؟ قال: لا، بل نام وقد نفَعَه ما أسمعتُموه، وأيضًا فإنه أكثرُ [ما يَرى المَرائي](4) إذا بات عندَ أمِّه.
(1) في طرة الأصل: "سبحانه".
(2)
هكذا بدون تحديد، وثمة أبو سعيد ابن المنصور، وأبو سعيد بن جامع، وأبو سعيد بن أبي حفص الهنتاتي. ولا نستطيع أن نعرف من المقصود.
(3)
أبو محمد كنية عدد من شيوخ الموحدين، ولا نستطيع أن نعرف المعني منهم هنا.
(4)
ما بين الحاصرتين ممحو في الأصل، وإكماله مستفاد من السياق، وكذلك ما يأتي.
قلت: ولعلّ هذا من إلقاءِ الأُمِّ إليه.
[فقال]: الصبيُّ: والله [ما هو] إلا كما أخبَرتُكم.
قلت: بسم الله، أنا قد أمِرتُ أن أُحضِرَك، [فافعَلْ ما أمرتُكَ به.
فقال] الأبُ: قد عضلْته البارحةَ في ذلك فأنابَ أن يفعَلَ ما تأمُرُه به من [آدابِ السلام] عليهم.
قلت: الحمدُ لله. قال: وقد عضَلته في أن لا يَذكُرَ شيئًا ممّا وُعِدَ به [ويتجنَّبَ] إسماعَه لأهل الأمر، فأنابَ إلى ذلك.
قلت: أما هذه فإنّي قد [أخبرتُهم بكل] ما قلتَ من ذلك.
فقال لي كلامًا معناه: ما أفْضَيْتُ بهذه الحاجةِ إلّا [إليك.
فقال الابن]: لا أترُكُ شيئًا ممّا أمِرتُ بالجهرِ به، وكلُّ ما قلتُ لك أقولُه لهم.
قلتُ له: ولا [تطوِّل] ولا تسيّبْ لسانَك، ولا تقُلْ إلّا جوابَ ما أسألُك عنه. قال: نعم، فخرجْتُ معَهم.
ولمّا دخَلَ الطّفلُ على مَن أدام الله عزَّهم، حمَلتُه إلى كلِّ واحد منهم، فسَلَكَ كما أردتُ، وجلَسَ واستُنطِقَ (1) فنَطَقَ بكلّ ما تقَدَّم ذكْرُه غيرَ متهيِّبٍ ولا متحرِّج، غيرَ أنه بعدَ لأيٍ ما أخبَرَ عما وُعِد به، ولم يفعَلْ إلا بعدَ أن قال له الشّيخُ الموقَّرُ أبو سعيد: يا بُنيّ، قد قلتَ ما هو فوقَ [هذا] فلمَ سكتَّ عنه؟
قال: قد فُهِم عنّي المقصود.
فقلت له أنا: كيف يُفهمُ عنكَ ما لم يُسمَع منك؟ أما أنا فقُلْ عنِّي: إني فهمتُ مقصودك؛ لأني قد سمِعتُ منك، أمّا هؤلاءِ الأشياخُ فمِن أين وهم لم يسمَعوا؟
قلت: أخبرت أنك تكونُ سُلطانًا.
(1) في ص: "واستوطن".
قال: نعم، وأخَذَ يحدِّثُ بكلّ ما أريدُ أن يحدِّث به، حتّى خَطَرَ لي أنّ توقُّفَه إنّما كان لِما قد رُبِطَ من أن لا يقولَ إلا جوابَ ما يسألُ عنه.
وممّا جرى في هذا المجلس أنّ الشَّيخَ المكرَّم أبا محمدٍ قال له: ولمَ تُصلِّي وتصومُ وأنت -كما تزعُم- غيرُ بالغ؟
قال: أتطوَّع.
وقال له أيضًا: ولم تَتعَبُ في القراءةِ وأنت يأتيك الخبَرُ من السماء؟
قال: أخرُجُ عن صِنفي.
فقال له الشّيخُ الأجَلّ المعظَّمُ أبو سعيد: وقد خرَجْتَ عنهم خروجَ سُوء، أو كلامًا هذا معناه.
وجَرى فيه أيضًا أنْ قلتُ له: لمَ تكلَّمتَ بهذا الذي زعَمتَ بأنك أُمِرتَ به؟
قال: أفأعصيه؟
قلت: وقد قلتَ: إنك لم تبلُغْ، فهذه الأوامرُ من جُملةِ ما لم يَلزَمْك.
قال: أفأعصيها؟ أو كلامًا هذا معناه.
قلت له: أدَّبك أبوك على هذا قطُّ؟
قال: نعم، ولكنه ظلَمَني، أو كلامًا هذا معناه.
قال له الشّيخُ الموقَّرُ أبو محمد: أوَلم تطلُبْ منهم ما يكونُ مصدِّقًا لك؟
قال: قد فعلتُ، وذكر قصّةَ القضيبَيْن. وحين انتهى المجلسُ إلى هذا الحدّ أمَروني [بردِّه إلى والدِه] ففعلتُ وانصرَفْتُ إلى منزلي؛ وفي بقيّةِ هذا اليوم [ورَدَ علَيّ] ما مكَّنَ الرَّيْبَ فيه، وحقَّق التُّهمةَ في حقّه، وقوَّى ذلك [عندي أنه] جاءني ذلك الطالبُ الحاكي عنه ما حَكَى من أمرِ لا نبيَّ بعدَ [محمد، هو] خاتمُ النَّبيئين، فقلتُ له: أثبتَّ (1) على ما قلتَ لي؟ قال: نعم، واستَجْلبَ [أشياءَ أخرى]
(1) في ص: "أبنيت".
قَوَّت عندي ما أوجَبَ البكورَ بالتعريفِ بهذا كلِّه، وهاهنا سمِعتُ أنه في هذا اليوم أُمِر بالاستيثاقِ منهما بالتقييد.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: هذا آخِرُ ما وجدتُ بخطِّ أبي الحَسَن ابن القَطّان من هذه القصّة، وعرَفتُ منَ ابنِه أبي محمد شيخِنا ومن غيره من شيوخِنا أنهما قُتِلا من الغدِ صَبْرًا بالسَّيف، وأنّ الأبَ رغِبَ في تقديم الابن حتى يشاهِدَ مصرعَه، ويحتسبَه عندَ الله سبحانه وتعالى، ويحقَّ عندَه بُطلانُ ما كان يَصدُرُ عنه من تلك التخيُّلاتِ الكاذبة، فقُدِّم الابنُ على مقترَحِه، وأُتبعَ الأبُ، فكان أمرُه عِبرةً للسائلينَ وتحدَّث الناسُ به مُدّة.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه (1): ولمّا توفِّي العادلُ مقتولا كما تقَدَّم، اقتضَى نظَرُ أهل الحَلّ والعَقْدِ بمَرّاكُش تقديمَ أخيه أبي العلاءِ إدريس الملقَّب بالمأمون. فبايَعوهُ وكتَبوا بيعتَهم إليه وهو بإشبيلِيَةَ، والأندَلُسُ كلُّها لنظرِه، فاستَخْلفَ على مَرّاكُشَ أبا حَفْص عُمرَ بن أبي حفص عُمرَ بن عبد المؤمن، ثم إنّهم استبطَأوهُ فنَكَثوا بيعتَه، وامتَنعَ من نكْثِها أبو حفصٍ هذا وأبو عليٍّ عُمرُ بن تفراجين، فقتلوهما وبايَعوا أبا زكريّا يحيى الملقَّبَ بالمعتصِم بنَ أبي عبد الله الناصِر، وكان ممّن حضَرَ نَكْثَ البيعةِ المأمونيّة وتقديمَ المعتصم أبو الحَسَن ابنُ القَطّان خوفًا على نفسِه من المأمون، إذ كان أخا العادل، وحرصًا على نَيْل الحُظوةِ عندَ المعتصم، كما كان حَظِيًّا عندَ أخيه المستنصِر، وأبيهما الناصِر وجدِّهما المنصُور. ولمّا انتهى إلى المأمونِ نقْضُ ما أبرَمُوه من بَيْعتِه ونكثُهم إيّاها وتقديمُهم أبا زكريّا ابنُ أخيه وكان معظمُ كبارِهم قد كتَبَ كلُّ واحد منهم كتابًا إليه بتأكيدِ البيعة وتقرير وسائلِه لديه -أحفَظَه ذلك، واشتدَّ حنَقُه عليهم، وأجاز منَ الأندَلُس
(1) عارض هذه الفذلكة التاريخية بما في الأنيس المطرب (249 - 254)، والبيان المغرب (254 - 264)، والذيل والتكملة (الترجمة 773)، والإحاطة 1/ 409 - 418، والوافي بالوفيات 8/ 320 - 323.
في سبع مئةٍ أو نحوِها من النَّصارى (1) مستنجدًا بهم وبمَن التَفَّ عليه من قبائل العرب ورئيسُ سُفيانَ منهم أبو الحَسَن جرمون، وهسكورةُ، ورئيسُ قبيلةِ بني مصطا منهم أبو عليّ عُمرُ بن وقاريط، [فقَصدَ بهم مَرّاكُش] فبرَزَ إليه ابنُ أخيه بظاهرِها، فالتقَى الجمعانِ على إيقليز: جبَل [مُطلّ على مَرّاكُش] فهُزِمَ المعتصمُ وانتُهِبت محَلّاتُه، ودخَلَ المأمونُ مَرّاكُش [....] بقِينَ من جُمادى الأولى سنةَ سبع وعشرين وست مئة، فلمّا كان [يومُ الجُمُعة] تقدَّم أمرُه إلى قارئ العَشْرِ (2) الجارية قراءتها قبلَ صعودِ الإمام المِنبر [حسَبَ العادة] وعيَّنَ له قراءةَ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] الآيات إلى قولِه تعالى: [{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا}] إلى آخر الآية [الإسراء: 33] فاستَشْعرَ الباقونَ بمَرّاكُش من رؤساءِ الدولة أنّ المأمونَ [طالبُ ثأر] أخيه العادل، فلمّا كان من الغَدِ أُحضرَ صَناديدُهم، وكانوا اثنينِ وأربعينَ رجلًا، إلى قُبّةِ جلوسِه، وهي القُبّة التي قد كان أحدَثَها الناصرُ بزاويةِ الرّحبةِ الكُبرى، وأحا مُفتَتَحَيْها يقابلُ الشَّمال والآخرُ يُقابلَ الغرب، وقد عَمَرَ الرَّحبةَ بنحوِ ألفَيْ فارس كاملي شِكّة الحَرب، ونحوِ ألفِ راجل من الجاري عليهم اسمُ عَبِيد الدار بحرابِهم، ولّما استقَرَّ به المجلسُ أمرَ القارئَ بقراءةِ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآيات إلى آخِر السورة، ولمّا انتهى القارئُ إلى قولِه تعالى:{هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] نكَثَ المأمونُ في الأرضِ
(1) في البيان المغرب 4/ 265: أن المأمون وصل من الأندلس بنحو خمس مئة فارس من الروم، وفي الأنيس المطرب (251): أن العدد كان يتألف من اثني عشر ألف فارس من النصارى.
(2)
انظر في قراءة العشر يوم الجمعة البيان المغرب 3/ 391 وهي عبارة عن قراءة القارئ عشر آيات من القرآن الكريم فيها مناسبة قبل صعود الإمام المنبر لخطبة الجمعة وقد ذكر ابن عبد الملك في ترجمة غصن بن إبراهيم القيسي الواداشي المتوفى بمراكش أنه كان "حسن الصوت استعمله الملوك في قراءة الأعشار أيام الجمع" الذيل والتكملة (الترجمة 996) ويبدو أن هذا الترتيب من تراتيب الموحدين.
بسِكّين كان في يدِه، ولمّا فَرَغَ القارئُ من قراءتِه، أقبَلَ المأمونُ على أبي الحَسَن جرمون، وأبي عليّ بن وقاريط، وكانا مقيمَيْ دعوته، واستصغاهما إلى ما يَجري بينَه وبينَ أولئك الحاضِرينَ من أكابر الدولة، ومعظمُهم من الهنتاتيِّينَ وأهلِ تينمال، وقال لقاضيه أبي زيدٍ المَكّادي (1): اقرَأْ هذه البيعةَ على هؤلاءِ الأشياخ، فقرَأَها عليهم، فلمّا فَرَغَ من قراءتِها قرَّرهم عليها، وقال لهم: أأنتمُ اجتمعتُم على مُبايعتي فيها ومخُاطبتي بما تضمَّنتْه؟ فقالوا: نعم، فدَفَعَ إلى القاضي كتابًا بعدَ كتاب من الكتُب التي كانوا قد كتَبوا إليه فقرَأَه، فكلّما فَرَغَ من كتاب قَرَّر كاتبه عليهً فأقرَّ بكَتْبِه إيّاهُ حتى أتى على آخِرِها، فقال: أيُّها القاضي، احكُمْ بيني وبينَ هؤلاء، فإنّهم قَتلوا أخي وعمي وبايَعوني عامةً وخاصّة، ثم نكثوا بيعتي وقَتلوا خليفتي ومن امتَنَع مِن نَكْثِ بيعتي، ولو أنهم دَعَوْني أولًا إلى مُبايعةِ ابن أخي لكنتُ أولَ مُبادرٍ إليها، ولم أتخلَّفْ على ما يَدخُلونَ فيه طرفةَ عَيْن حَسْمًا للخلاف، وإطفاءً لنارِ الفتنة، وقد كان [في نفسِه على أهل](2) تينمالَ حقدٌ لسببٍ يشنُعُ إيرادُه، وقد قيل لبعض القضاة: [ما
…
حكومة؟] (3) فقال: إنفاذُ حكومًةِ عدوٍّ في عدوّ، فقال القاضي: أسمعتُم [مقالةَ أمير المؤمنين]؟ قالوا: نعم، فقال لهم: ما جوابُكم عليها؟ فقالوا: لا جوابَ لنا عليها [إلّا رجاءَ العَفْوِ من] سيِّدِنا أميرِ المؤمنين، فقال لهم: إنّ من جناياتِكم المسرودةِ عليكم [ما لا يجوزُ فيها] العفوُ،
(1) في البيان المغرب والأنيس المطرب: المكيدي (بالإمالة) ولعلهما نسبة إلى مكادة أو مكيدة بالإمالة كما ترسم بالحروف اللاتينية وهي بلدة تقع في منتصف الطريق بين طليطلة وطلبيرة. (معجم البلدان) أما القاضي أبو زيد فلم نقف على ترجمته، وسيذكره المؤلف في الآخذين عن أبي موسى الجزولي النحوي وقد كان قاضي الجماعة في عهد المأمون وولده الرشيد (البيان المغرب: 311 - 312)، وثمة أبو إسحاق المكادي قاضي الجماعة في عهد المعتضد (رسائل ابن عميرة. مخطوط) والذيل والتكملة (الترجمة: 40) وسيرد ذكره في هذا السفر، وهو ولد أبي زيد المذكور كما سيرد في هذا السفر اسم أبي العباس أحمد بن إبراهيم المكادي، ولعله ولده.
(2)
ما بين الحاصرتين ممحو في الأصل وما أثبتناه يقرأ بعضه بالمكبرة.
(3)
كذلك.
ومنها تمالؤكم على قتل خليفتي ومن تمسَّك ببيعتي عَدوانا وظَلمًا، وقد كان أحضرَ في ذلك المجلس أولادَ خليفتِه المذكور، فقال للقاضي: احكُمْ [بما تراهُ] أيُّها القاضي في هذه الواقعة حُكمَ مَن لا تأخُذُه في الله لومةُ لائم، فعندَ ذلك قال القاضي: يا أميرَ المؤمنين، مَثَلُ هؤلاء القوم كمَثَل ما قال اللهُ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 137، 138] ، وأشار إليهم مارًّا عليهم بسَبّابتِه، فأمَرَ المأمونُ حينئذٍ بقتلِهم أجمعين، فأُخرِجوا عند مَشْرَع القُبّة وقُتلوا بالرِّماح واحدًا بعدَ آخَر، وكان فيهم شابٌّ تَرامَى إلى أبي عليّ ابن وقاريط مُستجِيرًا به، فقال أبو عليّ: يا سيّدَنا، هذا قد استجارَني، وقد علمتُم قَدرَ الدَّخيل عندَ قبيلِنا، فقال له المأمون: قد أجَرنا من أجَرْتَ يا عُمر، ولو شَفعتَ في أكثرِهم لَقَبِلنا شفاعتَك، وكان فيهم شيخُ أحدِ بني عِمران، فقال لأبي الحَسَن جرمون ولأبي علي ابن وقاريط: عندي شهادةٌ أشهدَني بها سيّدُنا المنصُورُ معَ جماعةٍ غيري في حقِّ هذا الإنسان، يعني المأمونَ، أنه ليس بابنٍ له، وإنما هو ابنُ عِلْجٍ كان يَلِجُ عليه في قصرِه، فزَنَى بأُمِّ هذا فجاءت به لغبة، فهذا قد وجَبَ عليّ إعلامُكم به؛ لئلا تغتَرُّوا بهذا الإنسان وتحسَبوا أنه لرَشْدة، فقال له المأمون: هذه فِريةٌ اختصَصتَ بها ولا بدَّ من إقامةِ الحدِّ عليك بسبِبها، فأُمِرَ به فجُلدَ ثمانينَ جلدةً، ثم قال: ولنا تقريرُك بما نَراه، فأمَرَ بكسرِ أسنانِه فكُسِرت برأسِ سيف، ثم قُتل بالرِّماح.
ثم تجرَّدَ المأمونُ إلى محاربةِ مَن بقِيَ من أولئك القبائل الذين أنشَأوا تلك الفِتَن، فكانت بينَهم وقائعُ كثيرة كان الظفَر فيها كلِّها للمأمونِ على المعتصم يحيى ابن أخيه، وقَتلَ من رجالِ أولئك القبائل آلافًا لا تُحصىَ، حتّى لَيُذكَرُ أنه عَمَّ شُرُفاتِ مَرّاكُشَ بتعليق رؤوسِهم فيها، وربّما عُلِّق في بعض الشُّرُفاتِ رأسان، والمُطَّرحُ في كلِّ معترَكٍ أكثرُ من أن يَحصُره عدّ أو يأتيَ عليه حساب، وفي ذلك يقولُ [الكامل]:
أهلُ الحَرابةِ والفسادِ من الوَرى
…
يُعزَوْنَ بالتشبيهِ للذكّارِ (1)
[ففسادُه فيه الصّلاحُ لغيرِهِ
…
بالقطع والتعليقِ في الأشجارِ
فرؤوسُهم ذكرى إذا ما أُبصِرَتْ
…
فوقَ الجذوع وفي ذُرى الأسوارِ
وكذا القِصَاصُ حياةُ أربابِ النُّهى
…
والعدلُ مألوفٌ بكلِّ جِوارِ
لو أنّ عفوَ الله عمَّ عبادَهُ
…
ما كان أكثرُهم منَ أهل النار] (2)
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: قد تغَلغَلَ بنا القولُ حتى خرَجْنا عن [شرطِ هذا] الكتاب أو كِدنا نَخرُجُ عنه، ولكنّها فوائدُ تعلَّقُ بعضُها بحُجَزِ بعض فأورَدْناها هنا؛ لأنّها قَلَّ أن توجَدَ مجموعةً في مكان، فلْنرجِع إلى ذكْرِ أبي الحَسَن فنقول:
لمّا دخَلَ المأمونُ مَرّاكُشَ على الوجهِ الشَّنيع الذي دخَلَها عليه، فصَلَ المعتصمُ من ظاهرِها في فَلِّ أصحابِه وشيعتِه، وكان منهم أبو الحَسَن ابنُ القَطّان متولِّيًا القضاءَ بينَ حِزبِه، فانتُهِبت دارُه وذهب كلُّ ما كان فيها من مال وكُتُب، وكانت سبعةَ عشَرَ حِملًا، منها حملانِ بخطِّه، ولم يزَلْ مع مغرورِه المعتصِم في حركاتِه واضطرابِ أمرِه معَ المأمونِ عمّه إلى أنْ لجَأ المعتصمُ أمامَ عمِّه إلى سِجِلْماسة، فأدركَتْ أبا الحَسَن بها منيّتُه مبطونًا حَسِيرًا على ما فقَدَ من أهلِه وبيتِه وكُتُبِه وسائرِ مُمتلكاتِه، وكانت وفاتُه بين العشاءَيْن من اللّيلة التي أهلَّ فيها هلالُ شهرِ ربيع الأوّل من سنة ثمانٍ وعشرينَ وست مئة، ودُفن بالرُّكنِ الواصِل بين الصَّفْحَيْنِ: الشَّماليِّ والغربيِّ من الزَّنْقة لِصقَ الجامع الأعظم بسِجِلماسةَ، وقبرُه هنالك معروفٌ إلى الآن، ومَوْلدُه بفاسَ فجرَ يوم عيدِ الأضحى من سنة اثنتينِ وستينَ وخمس مئة.
(1) الذكار: الذكور من ثمار النخل والتين التي تقطع وتعلق في أشجارها للتلقيح وهي من الفصيح المستعمل في المغرب.
(2)
ما بين معقوفتين ساقط في الأصل ومحله بياض، والتكملة من الأنيس المطرب وغيره. وانظر بعض شعر المأمون في الوافي بالوفيات 8/ 320 - 323.
11 -
عليُّ (1) بن محمد بن عليِّ بن أبي عَشَرةَ، فاسيٌّ، أبو الحَسَن.
كان فقيهًا حافظًا مُشاوَرًا بصيرًا بالفتوى، متقدِّمًا في عَقْدِ الشروطِ والإشراف على معانيها مبرِّزًا في علم فرائضِ المواريث.
استُقضيَ ببَلَنْسِيَةَ سنةَ سبعَ عشْرةَ، ثم بإشبيلِيَةَ قبلَ الفتنة، ثم قلَّدَه العادلُ قضاءَ الجماعة سنةَ إحدى وعشرين، فاستقَلَّ به أكملَ استقلال، وعُرِف بالعدالة والجَزالةِ والإنصاف، فكان أبو زكريّا بنُ عليّ المدعوُّ بابن راحِيل (2) يقولُ: ما رأيتُ قطّ قاضيًا أبصرَ منهُ بموجِباتِ الأحكام، ولا أحسَنَ تهدِّيًا إلى مُثاراتِها ومواقع الفَضل بين الخُصوم. [توفِّي عامَ واحدٍ وأربعينَ وست مئة](3).
(1) سيشير إليه المؤلف في ترجمة ابن عابد الفاسي حيث يذكر أن هذا "تلبس حينًا بعقد الشروط والكتابة عن قاضي الجماعة أبي الحسن بن محمد بن أبي عشرة الفاسي بمراكش"، وقد وردت ترجمته ووفاته التي أصابها المحو هنا في الذخيرة السنية هكذا:"وفيها (أي في السنة الحادية والأربعين وست مئة) توفي الفقيه القاضي الورع أبو الحسن علي بن محمد بن أبي عشرة من أهل فاس، ولي قضاء بلنسية سنة سبع عشرة وست مئة، ثم نقل منها إلى قضاء جيان، ثم جاز إلى العدوة فاستوطن فاس إلى أن مات فدفن بخارج باب الشريعة"(الذخيرة السنية: 62). وجاء في البيان المغرب 3/ 332: "وفيه هذه السنة (634 هـ) توفي الكاتب الجليل أبو عبد الله محمد بن أبي عشرة السلاوي رحمه الله ودفن بفاس" وقال مؤلفه وهو يسرد أسماء كتاب الرشيد الموحدي (ص 283): "وأبو عبد الله الحسين ابن أبي عشرة" ويبدو أنه سقط شيء من النص الأول، ووقع تحريف في النص الثاني، ولعل أصل الاسم في النص الأول هو أبو الحسن علي بن أبي عبد الله محمد بن أبي عشرة كما هو في الذيل والذخيرة، أما الاسم في النص الثاني فالذي نعرفه من مصادر أخرى هو أبو علي الحسين بن أبي ثلاثة وكان من حاشية الرشيد وكتّابه وسيأتي ذكره.
(2)
لم نقف له على ترجمة، وهو أبو زكريا يحيى بن علي بن يافرتن المدعو بابن راحل أخذ عن أبي الحسن ابن القطان وغيره وذكر في بغية الوعاة بأنه شارح الجزولية 1/ 193 ويذكر خلال بعض التراجم في هذا السفر، وكان من أعلام العلماء في مراكش في أواخر عصر الموحدين. (الذيل 6/الترجمة 40) ولم يترجم له المؤلف فيمن اسمه يحيى لأنه لم يدخل الأندلس فلم يكن على شرط كتابه، وقد سبقت الإشارة إليه في ترجمة ابن القطان.
(3)
محو تام في الأصل، والتاريخ مأخوذ من الذخيرة السنية.
12 -
عليُّ (1) بن محمد بن عليّ [بن محمد] بن يحيى بن يحيى بن عبد الله [بن يحيى بن يحيى الغافِقيُّ](2)، سَبْتيٌّ شارِّيُّ الأصل، وانتَقلَ منها أبوه سنةَ ثنتينِ وستّين [وخمس مئة إلى سَبْتة] أبو الحَسَن الشارِّي.
وُيشهرُ أهلُ بيتِه في شارّةَ ببني يحيى، وزاد بعضُ النُّبهاءِ [من أهل بييه (؟)] وهو أبو مروانَ عبدُ الملِك بن محمد بن عبد الملِك عن صحيفةٍ ألفاها [في مورويه (3) (؟)] بعدَ يحيى الأعلى بن محمد بن عبد الصَّمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن محمد [بن عبد الوهّاب] ابن أميرِ الأندَلُس عبد الرحمن بن عبد الله بن مخش بن زَيْد بن جَبَلةَ بن [ظُهيْر بن] (4) العائدِ بن غافِق بن الشاهِد بن علقَمةَ ابن عَكّ بن عدنان. ولم يُثبِتْ أبو الحَسَن ما تقدَّم وقال: إن جَدَّه كان يقول: لم أسمَع أحدًا من سَلَفِنا يرفَعُ هذا النسَبَ إلى غافق [سوى] هذا الرجل.
رَوى أبو الحَسَن عن آباءِ عبد الله: أبيه والتُّجِيبيِّ وابنَي الحَسَنَيْن: [الخُشَنيِّ] وابن عَطِيّة ابن غازٍ وابن عبد الله بن محمد بن عيسى وابن عبد الكريم وابن عليّ ابن الكَتّانيّ، وأبي إسحاقَ السَّنْهُوريّ، وأبوَيْ بكر: الفَصيح ويحيى بن محمد بن خَلَف الهوْزَنيِّ، وأبي الحَجّاج ابن نَمَوي، وآباءِ الحَسَن: ابن خَرُوف النَّحْويّ وابن عِشرينَ وابن مؤمن، وآباءِ الحُسَين: ابن جُبَيْر وابن زَرْقون وابن
(1) ترجمه ابن الأبار في التكملة (2871)، والرعيني في برنامج شيوخه (24)، والحسيني في صلة التكملة 1/الترجمة 408، وابن الزبير في صلة الصلة 4/الترجمة 325، والذهبي في المستملح (726)، وتاريخ الإسلام 622/ 14، وسير أعلام النبلاء 23/ 275، والصفدي في الوافي 22/ 95، وابن الخطيب في الإحاطة 4/ 187، والغساني في العسجد المسبوك (583)، وابن الجزري في غاية النهاية 1/ 574، والفاسي في ذيل التقييد 2/ 215، وابن القاضي في جذوة الاقتباس (485).
(2)
محو في الأصل، وما أثبتناه من مصادر الترجمة، ومن ترجمة والده.
(3)
هكذا تبدو، ولعلها مُرنيانة الغافقيين بقرب إشبيلية، كما في جمهرة ابن حزم (329).
(4)
ما بين الحاصرتين من جمهرة ابن حزم (329)، وهو ممحو في الأصل.
الصّائغ، وأبي ذَرّ بن أبي رُكَب، وأبي سُليمانَ بن حَوْطِ الله، وأبوي العبّاس: القورائي وابن محمد الأرداجيّ، وأبي عليّ الحَسَن بن إبراهيمَ الخُزَاعيّ، وأبي عَمرٍو مُرَجّى بن يونُسَ المَرجِيقيّ، وأبي القاسم عبد الرحيم ابن المَلْجوم، وآباءِ محمد: الحَجْريّ -وأكثَرَ عنه- وابن حَوْطِ الله وابن محمد بن عيسى التادَليّ وعبد العزيز بن زَيْدان ويشكرَ بن موسى ابن العزّ؛ لقِيَ هؤلاءِ وأخَذ عنهم بينَ سَماع وقراءة، وأكثرُهم أجازَ له.
وكتَبَ إليه مُجيزًا ولم يلقَهُ: أبو جعفر بنُ مَضَاء، وأبَوا الحَسَن: ابنُ القَطّان ونَجَبةُ، وآباءُ عبد الله: ابن حَمّاد وابنُ عبد الحقّ التِّلمسينيّ وابن الفَخّار، وأبوا القاسم: السُّهيْليُّ وابن حُبَيْش، وأبو محمد عبدُ المُنعم ابن الفَرَس. واستجاز بأخَرةٍ مُستكثِرًا من الاستفادةِ أبا العبّاس ابنَ الرّوميّة؛ فأجاز له من إشبيلِيَةَ.
رَوى عنه أبو بكرٍ أحمدُ بن حُمَيْد القُرطُبيّ، وأبَوا عبد الله: الطّنْجاليُّ وابن عَيّاش، وأبو العبّاس بن عليّ المارِدي، وأبو القاسم عبدُ الكريم بن عِمران، وأبو محمد عبدُ الحقِّ بن حَكَم. وحدَّث بالإجازةِ عنه أبو عبد الله ابنُ الأبار، وحدَّثنا عنه من شيوخِنا: أبو جعفرٍ ابنُ الزُّبَير، وأبو الحَسَن الزُعَيْنيّ، وأبو عبد الله بنُ عبد الله بن إبراهيمَ البَكْريُّ الفاسي.
وكان محدِّثا راوية مُكثرًا، ثقةً عَدلًا، ناقدًا، ذاكرًا [للتواريخ وأخبار](1) العلماءِ وأحوالهم وطبقاتِهم قديمًا وحديثًا، شديدَ العنا [يةِ بالعلم] ، جاعلًا الخَوْضَ فيه مُفيدًا ومستفيدًا وظيفةَ عُمُره، جمَّاعةً [للكُتب والدفاتر] ، مُغاليًا في أثمانِها، وربّما أعمَلَ الرحلةَ في التماسِها حتى اقتنَى منها [مجموعةً كبيرة فيها] كلُّ عِلْقٍ نَفِيس، ثم انتقَى منها جُملةً وافرةً فحبَسَها في مدرسةٍ أحدَثَها [بجوارِ باب] القَضر أحدَ أبوابِ بحرِ سَبْتةَ، وعيَّن لها من خِيار أملاكِه، وجيِّدِ ربِاعِه [جملةً وقَفَها عليها] سالكًا في ذلك طريقةَ أهل المشرِق، وفي هذه المنقَبة الشّريفة التي تَنَبَّه لها
(1) ما بين الحاصرتين ممحو في الأصل وقد لا يختلف عن لفظ المؤلف، وكذلك كل ما يأتي مثله.
[وسبَق] إلى التفرُّدِ بها كتَبَ إليه القاضي الأديبُ الأبرع أبو القاسم بنُ عِمران (1) مُهنِّئًا بها وشاكرًا عليها [من الطويل]:
أباحَسَن زادتْ مَآثرُكمْ حُسنا
…
بفعلِ جميلِ موجبِ لكمُ الحُسنا
لكم أجرُهُ الأوفَى وأجرُ من اقتفَى
…
سبيلَكَ فيه أو بسُنّتِك استنَّا
أجَلْ واليدُ الطُّولى فليس بغَزبِنا
…
حَفِيٌّ بأهل العلم منّتِك امتَنّا
تخَيَّرتَ أعلاقَ الدّواوينِ مُعرِضًا
…
بإدنائها منكم عن العَرَضِ الأدنى
وما زلتَ منها في النَّفيس مُنافسًا
…
إلى أن تسَنَّى فاشتريتَ به أسنا
ألا إنّ علمًا لا تكشَّفُ حُجْبُهُ
…
لأهليهِ مُستدعٍ لهُ ولهم غُبْنا
فديوانُ عِلم في الخِزانة دهرَهُ
…
كجِسم بلا رُوحٍ ولفظٍ بلا معنى
فهُنّيتَ يا خِلّي الكريمُ فضيلةً
…
رجَحتَ جميعَ الأفضلينَ بها وَزْنا
ولا زلتَ تُبدي سُنّةً مستكِنّةً
…
توَخَّى بها الإهمالُ مُذْ زمنٍ دَفْنا
وحُيِّيت عنّي يا سَرِيُّ تحيّةً
…
يَغارُ عليها القلبُ أن تَلِجَ الأُذْنا
اقتضبتُها إلى سيّدي الفقيه، الذي ما زال يتخيَّرُ في الأعمالِ الصالحة الأفضلَ فالأفضلَ وينتقيه، ويتَحرَّى نَفاقَ العلم حين التزَمَ الزّهدَ فيه وقدَمَ العهدِ بمُنفِقيه، أبقاه اللهُ لسُنّة يَعِيها، ويَبذُلُ وُسعَه في إعانةِ متّبعيها، قَلَّ بمغربنا هذا وأكناف الدَّعَة فيه ممَهدَّة، والجُنوبُ غير متجافيةٍ عن فراشها، والجفونُ غيرُ مسَهَّدة، ودفاترُ العلم يُغالَى بقيمتِها فتُدَّخَر، ليس إلا ليتباهى باكتسابِها ويُفتخَر، ولا رَسْمَ
(1) هو عبد الكريم بن عمران من أهل القصر الكبير وقاضيه، توفي بمراكش وهو يتولى القضاء بها سنة 643 هـ له ترجمة في التكملة (2564) وكان من أخص أصحاب الشاري، قال الرعيني:"ووقفت على أشياء نبيهة من تقييدات صاحبنا الفقيه الفاضل أبي القاسم عبد الكريم بن عمران عنه (أي عن الشاري) "(البرنامج: 76). وقد وردت الإشارة إليه وإيراد بعض شعره خلال بعض تراجم هذا الكتاب. وأحال فيه المؤلف على ترجمته وهي في السفر السابع المفقود.
فيه للمدارس، فما ظنُّك به والزمانُ فانٍ والأثرُ دارس، والفتنةُ قد ألقت عليه بكَلْكَلِها، وصَيَّرَت أهلَه نُهبةَ مأكلِها، [قد أتيتَ بها أيها السيِّدُ](1) الأوحد، مُنقَّبةً بَلْجاءَ لا يُنكَرُ فضلُها ولا يُجحَد، أقمتَ بها [منارًا لأهل العلم، وسدَدتَ] ما أثّر التفريطُ في شأنِهم من الثَّلْم، ونهَجْتَ طريقةً فتحتَ [بها أبوابًا] وقد يوفَّقُ لها سواك فيَجعَلُ اللهُ من ذلك السبب أسبابًا، ولقد [أسَّستَ بهمّتِك] السَّنية، وطريقتِك السُّنِّية، ما برَزَ للوجود في أجَمل مَرْأى وأحرَزِ [صيانة، وبه للأذهان؟] المَهْنوّة بالأدهانِ إبانة، وبَرَّ آجَرَك اللهُ عن نفسِك، وعن أبناءِ جنسِك [بخيرِ الجزاء] ، ووَفَاك من الأجرِ المضاعَف والخيرِ المستأنف أوفَى القِسم وأوفرِ الأجزاء؛ بمَنّهِ، والسلامُ الكريمُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه. كتَبَ مُجِلُّ قُدرتكم، ومُوالي شُكرِكم، أخوكم المُخلصُ لكم الشيِّقُ إليكم، المُطنِبُ في الثناءِ عليكم، عبدُ الكريم بنُ عِمرانَ، في غُرّة رجَبِ عام خمسةٍ وثلاثينَ وست مئة.
وفي ذلك أيضًا قال الأديبُ أبو الحَسَن بن إسماعيلَ بن عبد الله بن محمد بن إسماعيلَ الأغْماتيُّ (2) وسمِعتُها من لفظِه رحمه الله [من الطويل]:
بنيتَ لأهلِ الغَربِ مجدًا وسُؤدَدا
…
وفخرًا على الأيام يبقى مؤبَّدا
رفعتَ لهم ذكْرًا وأسمَيْتَ منصِبًا
…
أنافَ على سامي الكواكبِ مصعدا
وما الفخرُ إلّا ما يَعُمُّ بناؤهُ
…
وما المجدُ إلا ما يكونُ مخلَّدا
أبا حَسَنٍ أحرَزْتَ في خُطبةِ العلا
…
عقيلةَ مجدٍ خَطْبُها كان أمجدا
ثوَتْ دهرَها بِكرًا وما الدهرُ مُسعِد
…
بكُفْءٍ لها حتى أتيتَ فأسعَدا
(1) كل ما بين حاصرتين ممحو في الأصل، ولعله كما أثبتنا.
(2)
سيورد له المؤلف في هذا السفر (ترجمة يوسف ابن الجنان) شعرًا ونثرًا في مدح أبي علي الملياني والي أغمات (659 هـ - 686 هـ) ولم نقف له على ترجمة ويبدو من سلسلة نسبه أنه حفيد أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الهواري الأغماتي المتوفى عام 581 هـ وفي التشوف ترجمته (118) وأخبار تطلعنا على مكانته العلمية والروحية في بلده أغمات. (انظر فهرس الكتاب).
وقبلَكَ لم يُنجِن بهمّتِه أخو
…
عُلا نحوَها إلا سمَتْه فأوْهدا
هنيئًا لكَ السَّبقُ المُبَرُّ إلى التي
…
ذوي المجدِ أعيا دَرْكُها وذوي النَّدى
عُنيتَ ببيتِ الله همةَ ماجدٍ
…
تقيٌّ يَرى ما ليس يُجدي غدًا سُدى
ولم تألُ في تنجيدِه جُهدَ مُوقنِ
…
يؤمِّلُ في الفِردوس قصرًا منجَّدا
ومدرسةٌ للعلم قلّدتَ جِيدَها
…
من الكُتُبِ الأعلاقِ دُرًّا منَضَّدا
نسَخْتَ بها حُسنَ النِّظاميّةِ التي
…
أغار صَداها في البلاد وأنجَدا
جعلتَ بها للدِّين أعظمَ عُدّةٍ .... صَوارمَ تحتاجُ الحسامَ المهنَّدا
نفائسَ كُتْبِ لو تصَدَّى لجَمْعِها
…
أخو جِدَةٍ فذِّ المعارفِ أُجهِدا
غدَتْ لعلوم الشّرع سِمطًا مجمَّعًا
…
وفوقَ جبينِ الدِّين تاجًا مسرَّدا
وليس بوُسعي أن أجيءَ بذِكْرِها
…
مفصّلةً إذ لَيس [تُحصي لها عَدا](1)
فمن كُتُبِ التفسيرِ أعظمُها غِنًى
…
وأنفَسُها قَدْرًا [وأنفَعُها جَدَا]
ومن سُنَن المختارِ ما صَحَّ نقْلُهُ
…
وجاء به أهلُ العدالةِ مسنَدا
ومن مُنتقَى الكُتْبِ المهذَّبُ جملةٌ
…
إلى مَهْيَع الإرشاد تهدي [منِ اهتَدَى]
ومن علمَي الإعرابِ واللغةِ التي
…
بها أنْزَلَ اللهُ الكتابَ الممَجَّدا
دفاترُ لو أنّ الخليلَ بنَ أحمدِ
…
رأى عُشرَها والأصمعيُّ تبلَّدا
ومن كُتُبِ التذكر ما راقَ سِمعُهُ
…
وكان إلى التقوى دليلًا ومُرشِدا
ولم يَغرَ من كُتْب التصوُّف جَمْعُها
…
ولكنّ مما بالكتابِ تقَيَّدا
أشَدْتَ بذِكْر العِلم بعدَ خُمولِهِ
…
وأحيَيْتَ منه ميِّتًا كان مُلحَدا
وأهَّلتَ ساحاتٍ له ومَعالمًا
…
بها للمعالي معهدٌ حَلّ مَعْهدا
(1) كل ما بين حاصرتين ممحو في الأصل، ويشبه أن يكون الكلام الممحو ما أثبتنا.
ولولاك بعدَ الله كانت ربوعُهُ
…
يُجاوبُ في أرجائها الداعيَ الصَّدى
رفعتَ منارَ الدين فازداد نوور
…
وضوحًا غدا الإسلامُ منه ممَهَّدا
وكانت دياجيرُ الضلالة أطبَقَتْ
…
فأشعَلْتَ في ظَلمائها سُرُجَ الهُدى
بذَلْتَ لمرضاةِ الإله ووجهِهِ
…
ولم تَبْغِ من جاه ولا اعتدتَهُ يدا
وما شئتَ إلّا أن تسُدَّ فضيلةً
…
تَحُضُّ على الإتباع رأيًا مُسدَّدا
لِتَفْخَر بما شيَّدتَ سَبْتةُ من على
…
أقام لها مجدًا أثيلًا مشيَّدا
غدَتْ مكةَ للغَرب (1)، كلُّ بلادِه
…
لها حُسَّد، لا زِلنَ للحشرِ حُسَّدا
بنَيْتَ بها للمكرُماتِ معالمًا
…
وأنبَطتَ فيها للمآثرِ مَوْردا
وصيَّرتَها للطالبِ العلمَ كعبةً
…
يُلِمُّ بها من جاء يَبغيه مقصِدا
لمثلِ الذي أحرَزْتَ فلْيَجمع امرُؤ
…
وفي مثلِ ما أنفقتَهُ يُبذلُ الجَدا
وما خيرُ مالِ لا يَرى المرءُ نفعَهُ
…
إذا هو وافَى في القيامة مُفرَدا؟!
بحَسْبِك عند الله ذكْرًا مكرَّمًا
…
مُعاداةُ من في الدِّين ضَلّ وألحَدا
حَرْمتَهمُ الفضلَ الذي عَمَّ نفعُهُ
…
ذوي الفضل والتوحيدِ مَثْنى ومَوْحِدا
وحلّأْتَهم (2) عن موردِ الفضل والعلا
…
وقوَّضتَ من تضليلِهم ما تشيَّدا
فما بعدَها للمنطقيِّينَ رفعة
…
وكيف [وقد](3) أوردتَ عزَّهمُ الرَّدى؟
بجُزِيتَ عن الإسلام] خيرًا ونلتَ ما
…
تؤمِّلُ من رضوانِ ربِّ الورى غدا
[ولا زلتَ في مجدِ] وإقبالِ عزّةِ
…
تَروحُ وتغدو في المعالي مُحَسَّدا
(1) ممن شبه سبتة بمكة ابن المرحل الذي يقول:
سلام على سبتة المغرب
…
أخيّة مكة أو يثرب
(2)
يقال: حلأه عن الماء أي: طرده ومنعه.
(3)
كل ما بين حاصرتين كلام ممحو في الأصل ولعله كما أثبتنا.
[وأكثرَ أهلُ العلم] القولَ في ذلك نظمًا ونثرًا، وقَعَدَ بها لترويةِ الحديث وإسماعِه [الشّيخُ أبو الحَسَن] المذكورُ في رجبِ خمسٍ وثلاثين وست مئة وكَثُر الأخْذُ عنه بها [واستمرَّ على] ذلك مدّة.
وكان سرِيَّ الهمّة نزِة النفْس كريمَ الطَّبع سَمْحًا مؤْثِرًا، [مُعانًا على] ما يَصدُرُ عنه من المآثرِ ونُبْل الأغراض بالجِدة المتمكِّنة واليسارِ الواسع.
وكان سُنِّيًّا مُنافرًا لأهل البِدع، محبًّا في العلم وطلابِه، سَمحًا لهم بأعلاقِ كُتُبه، قويَّ الرجاءِ في ذلك. [وهو] آخرُ من حدَّث عن ابن مؤمن.
طلَبَ العلمَ صغيرًا ببلدِه، ورَحَلَ إلى فاسَ فأخَذَ عن مشيَختِه وغيرهم.
وممّا يؤثَرُ عنه من تخصُّصِه أنه لم يُباشرْ قطُّ دينارًا ولا درهمًا، إنّما كان يَتصرَّفُ له في ذلك وكلاؤه واللائذونَ بجنابِه.
وامتُحِن بالتغريبِ عن وطنِه سَبْتة (1) فأُجيزَ به البحرُ إلى جزيرةِ الأندَلُس في منتصَف سنة إحدى وأربعينَ وست مئة، وسُيِّرَ إلى المَرِيّة فتلقّاه أميرُها حينَئذٍ ووزراؤها وأعيانُها ورؤساؤها وأهلُ العلم فيها بما ينبغي أن يُتلَقَّى به أمثالُه من ذوي الجلالة وبُعد الصِّيت وكرَم الأحدوثة وأوسَعوا منزلَه وأجْزلوا نزولَه، ووالَوْا تأنيسَه، وأولَوه احتفاءهم وبِرَّهم، وأقام لديهم أعوامًا، وأخَذ عنهم هناك أيضًا، ثم ظهرَ الاختلالُ في أحوالِ المَرِيّة وبلادِ شَرق الأندَلُس فتحوَّلَ إلى مالَقةَ فِرارًا من الفتنة ومحاولًا العَوْدَ إلى سَبْتةَ واللَّحاقَ بأهلِه فيها، فلم يُقدَّرْ له ذلك، وأقام بها يؤخَذُ عنه العلمُ إلى أن أتَتْه منيّتُه بمالَقةَ ضَحْوةَ يوم الخميس لليلةٍ بقِيَت من رمضانِ تسع وأربعينَ وست مئة. نفَعَه اللهُ بشهادةِ الموتِ غريبًا (2).
(1) في الإحاطة أن الذي غير به هو أمير سبتة اليناشتي الذي ضاق بالشاري لجلالته وأهليته ولأنه عرضت عليه إمارة سبتة قبله فأباها. وأخبار اليناشتي المذكور في البيان المغرب 3/ 338 - 340. ط. تطوان. والروض المعطار (مادة بليونش ومادة ينشته) وله ترجمته في الوافي بالوفيات 7/ 290. وكما تسبب في موت الشاري غريبًا مات هو أيضًا غريبًا في المشرق.
(2)
في الإحاطة المطبوعة: غريقًا، وهو تحريف.
ومولدُه بسَبْتةَ يومَ الخميس لخمس خَلَوْنَ من رمضانِ أحدٍ وسبعينَ وخمسِ مئة.
13 -
عليُّ (1) بن محمد بن عليّ الكُتَاميُّ، مَرّاكُشيٌّ، أبو الحَسَن العُشْبيُّ وابن القابِلة.
رَوى عن طائفةٍ من أهل مَرّاكُش، ودخَلَ الأندَلُسَ وأخَذَ بها أيضًا عن جماعة من أهلِها، واختَصَّ كثيرًا بأبي الحَسَن سَهْل بن مالك ولازَمَه طويلًا، وكان أديبًا بارعًا كاتبًا بليغًا، شاعرًا مُجِيدًا، وقد جرَتْ بينَه وبينَ جماعة من أدباءِ عصرِه مخُاطَباتٌ ومُجاوَبات تدُلُّ على إجادتِه.
فمِن شعرِه [من السريع]:
يا سعدُ قد شَبَّ صغيرُ الهوى
…
وجَدَّ عشقيَ الهازلُ المازحُ (2)
يا سعدُ قد أسلَمَني للرَّدى
…
صبرٌ حروررٌ هوًى جامحُ
كأنّ قلبي حين يجتازُ بي
…
بُغاثةٌ همَّ بها [جارحُ](3)
يمَّمتُ فيك الفألَ يُمنًا به
…
ولم أقدِّرْ أنك [البارحُ]
ومنه، على طريقة التصَرُّف [من الطويل]:
وهى جَلَدُ المضنَى فميلوا إلى الرِّفقِ
…
ورِقُّوا لِما ألقاهُ يا مالكي [رِقِّي]
(1) لم نقف له على ترجمة في مكان آخر وسيرد ذكره بمناسبة رسالة كتبها إليه -وهو بمراكش- ابن عميرة في ترجمة الشريف يونس. وفي مجموع رسائل ابن عميرة (223 ك) رسالة كتبها هذا إلى أبي عبد الله ابن الجنان وأبي الحسن العشبي وهما بأوريولة (ص 212 - 215). وقد ذكره في السفر الرابع: (الترجمة 229).
(2)
هذا من قول أبي نواس:
صار جدًا ما مزحت به
…
رب جد جره اللعب
(3)
كل ما بين حاصرتين ممحو في الأصل وهو ظاهر من السياق، فلعله كما أثبتنا، وكذلك كل ما يأتي في هذا المجلد، فلا نكرر ذلك.
أأحبابَ قلبي، إن صلُحتُ لحبِّهم
…
وهيهات من إخلاصِهم في الهوى [مذقي]
همُ غايتي إن سارَعوا أو تباعَدوا
…
وهمْ حافِظو عهدي وهم عارِفو حقّي
وهمْ نَزَلوا من سرِّ قلبي بمنزلٍ
…
خَفِي عن السُّلوانِ مُشتبهِ الطُّرْقِ
وحقّهمُ لو أعتَقوا من أُسارِهم
…
فؤاديَ لاختار الإسارَ على العِتقِ
وما بين تعذيبِ الصّدودِ إذا رَضُوا
…
وبين نعيم الوَصل عنديَ من فَرْقِ
فيا سادتي إنْ ترحَموا ذُلَّ موقفي
…
على بابِكف لا تكذِبوا في الهوى صِدقي
وإن كنتُ أهلًا للجفاءِ بهفْوتي
…
فأين الذي عوَّدتمُوني من الرِّفقِ؟
إذا لم تُواسوني على عظم فاقتي
…
وضُرِّي ولم تُبقوا عليّ فمن يُبقي
أُقرُّ بزَلّاتي وألتمسُ الرِّضا
…
ولا نُطقَ لي قد أخرَسَتْ حالتي نُطقي
فهل عائا عيشٌ مضَى في ذُراكمُ
…
بدَتْ أوجُهُ الآمالِ من وجهِه الطَّلقِ
وإنّي لأستسقي (1) لمعهدِه الحَيَا
…
ولولا الحَيا ما كنتُ للدار أستَسْقي
ولولا نَجيعٌ شابَ دمعي سقيتُهُ
…
شآبيبَ منه مُغْنياتٍ عن الوَدْقِ
فعندي دموعٌ لا تُعاصي دموعَها
…
وعندي جفون لا تطاوعُ من يُرقي
أنا العبدُ والمولى أحقُّ بعبدهِ
…
وما ليَّ من دعوى وما ليَّ من حقِّ
لجأتُ إليكم هاربَا من صدودكم
…
فلا تفضَحوا سرَّ اطّراحيَ للخَلْقِ
وحاشاكمُ يا سادتي من قَطيعتَي
…
على قِدَمي في حبِّكم وعلى سَبْقي
وما أدَّعي أنّ الجَفا خُلُقٌ لكم
…
ولكنّهُ من طبع نَفْسي ومن خُلقي
(1) في ص: "لأستشفي".
على كلِّ حالٍ لم أحُلْ عن عهودِكم
…
ولا دِنتُ في دين الهوى بسوى الصِّدقِ
وإن فاز غيري بالمنى وحُرمتُهُ
…
فما حيلةُ الإنسان في قسمةِ الرِّزقِ!
وكتَبَ أبو المطرِّف ابنُ عَميرةَ إلى أبي عبد الله ابن الجَنّان من مَرّاكُش الرسالةَ التي أولُها: [إلى متى افتراقٌ] واجتماع، وقد تقَدَّمت في رَسْم أبي عبد الله ابن الجَنّان (1) فأدرج معه [هذه الرقعةَ إليه]: كيف حالُ سيِّدي حقًّا، وواحدي ومُساعفي حين قلَّ الصَّديقُ [صدقًا، أمّا] أنا فإنّ حالي خاملةٌ لبُعدِه، ونفسي مُنقسِمةٌ من بعدِه، وله الفضلُ في إفهامي (2)[بحركتِه] ونشاطِه بما يؤنسُني ويُشرِّفُني، ويُقرِّطُني ويُشنِّفُني، وإعلامي بحالِه [وأعمالِه] في حِلِّه أو ترحاله، خار اللهُ له، وأنجَحَ أملَه.
وكتَبَ إليه أبو المطرِّف (3): أبقَى اللهُ الأخَ المباركَ كريمَ الشمائل (4)، ناجح (5) الوسائل، مبسوطَ الوجهِ للسائل، مقبوضَ اليدِ عن جزيل النائل، ولا زال حميدَ المذاهب، وحيدَ المناقب، مَصُونَ الجانب، مُبلَّغَ (6) الحاجاتِ والمآرب، كتابي إليه من بَرْشانةَ (7) كلأها الله (8)، وقد وصلتُها بعد عَشْر، والآمالُ (9) بين طيٍّ ونشر، وإماتةٍ وحشر، سُبلُ مياهِها (10) رديّة، ومنازلُ وخيمةٌ وَبِيّة، ومتاعبُ ظاهرةٌ وخَفِيّة،
(1) الترجمة المحال عليها في السفر السابع من هذا الكتاب وهو مفقود، ونقل منها ابن الخطيب في الإحاطة وعليها اعتمد في ترجمته (2/ 348 - 359) ولم يورد الرسالة المشار إليها هنا.
(2)
في ص: "في إسهامي".
(3)
توجد هذه الرسالة في مجموع رسائله المخطوطة بالخزانة العامة رقم 233 ك: 75 - 77.
(4)
كذا بالأصل، وفي الرسائل:"الكريم الشمائل".
(5)
في ص: "ناصح"، والتصويب من الرسائل.
(6)
في الرسائل: "مباح".
(7)
في الرسائل: "كتبته من برشانة".
(8)
لا وجود لهذا الدعاء في الرسائل.
(9)
في الرسائل: "والأحوال".
(10)
في الرسائل: "مبانيها".
فماذا صنَعَ البينُ المُشِتّ؟ وحتّامَ لا يقَرُّ المنْبَتّ؟ وكم (1) ذا يفُصُّ (2) ملتئم الشّمل ويفُتّ [من السريع]:
عندي من الشوقِ أحاديثُ
…
فأين (3) إمهالٌ وتلبيثُ
شوقٌ وقُلْ: نارٌ لها بعدَكم (4)
…
في القلبِ تأثيرٌ وتأريثُ
يا صاحِ والوُدُّ له نسبةٌ
…
فوقَ التي منها المواريثُ
هلِ ذلك العهدُ على حالِهِ
…
فإنّ عهدَ الناس منكوثُ
ويالَشَملٍ (5) جامع غالَهُ
…
للبَيْن تشتيتٌ وتشعيثُ
وباعثٌ للعزم في طيِّهِ
…
جيشٌ إلى السُّلوانِ مبعوثُ
نسيرُ (6) في أرض جنَى أهلَها
…
بالحُزنِ حَلزونٌ وطرثوثُ
وماؤها صنعةُ وَضفَيْهِ في الـ
…
ـأعضاءِ تلوينٌ وتلويثُ
وصَرَّها الهائجُ فَحْلٌ، وفي
…
مَصِيفِها الفاتر تحنيثُ (7)
جَدَّ بها جَدَّ الشتاءِ الذي
…
مكروهُهُ في الجوِّ مبثوثُ
وليس من كافاتِهِ عندَنا
…
إلا الذي فيه البراغيثُ (8)
(1) في الرسائل: "وكم" من غير: "ذا".
(2)
في ص: "يقص".
(3)
في ص: "فأي"، والتصويب من الرسائل.
(4)
في الرسائل: لها في الحشا.
(5)
في ص: "وبالشمل".
(6)
في ص: "يسير".
(7)
في الرسائل: "تخنيت".
(8)
يريد الكن أو الكساء، وكافات الشتاء نظمها الحريري في قوله:
جاء الشتاء وعندي من حوائجه
…
سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا
كن وكيس وكانون وكأس طلا
…
مع الكباب وكفّ ناعم وكِسا
ومُنزِلونا ما لهم عن سوى
…
الأزمةِ والإعسارِ تحديثُ
كانَ بعُذرِ المَحْل منعُ القِرى
…
منهمْ، وزاد المنعُ مذ عيثوا
هذه، أبقاك اللهُ، جرَتْ على اللّسان، وخَلَتْ من الإحسان، لكنّها دَلّت (1) على ما في النفْس، وشَغَلت جانبًا (2) من الطِّرس، واقتدَى النثرُ بنظمِها، [وقرَّبَها عجفاءَ لا مُخَّ في] عظمِها، ولولاها لمَسَّه (3) الإعياء، وطال عليه العناء، وهي وإن لم تكنْ [فيها إجادة] ولا على وَهْنِها (4) زيادة، [فإنّها مألوفةٌ معتادة؛ إنّما الهوَسُ عَروض، [هو بأرضِنا] حُوشيٌّ مرفوض، غاصَ الفِكرُ في آسنِه، فاستَخرجَ بعضَ دفائنِه، [واسمَع إن أردتَ، ورِد] ولا ريَّ إن ورَنتَ [من الدوبيت]:
أحبابَ فؤادي كم أقاصي الضُّرّا
…
لاصبرَ على فراقِكم لا صَبْرا
عودوا للمغاني (5) وأعيدوا الهجْرا
…
قد مِتُّ وقُربُكم حياةٌ أخرى
* * *
بالله قِفوا إن أزِفَ التوديعُ
…
فالقلبُ بصَنع شملِنا مصدوعُ
ذا حَرُّ الزوالِ في الحشا مجموعُ
…
والإبرادُ في صَلاتِه مشروعُ
* * *
يا برقَ اللِّوى بالأُفق الشَّرقيِّ
…
ذاك المُنحنى من سُيُل الوَسْميِّ
قد أعشَبَ فامضِ منه للعُشْبيِّ
…
بالطّيبِ من سَلاميَ العِطْريِّ
* * *
لله عليٌّ من فتى فتّانِ
…
بالنظم وبالنثرِ وما هذانِ
إلابعضُ ما فيه من الإحسانِ
…
ينأى وهو بالودّ قريبٌ دانِ
(1) في الرسائل: "ولكن قد دلت".
(2)
في الرسائل: "مكاناً".
(3)
في الرسائل: "لمسها".
(4)
في الرسائل: "وهيها".
(5)
في الرسائل: "للقاء".
كيف يظُنُّ أنّ الزمانَ غيرُ وَلّاد؟ وأن بلادًا تمتازُ عن بلاد؟ جاءتك وكأنّها في دجلةَ عَبَّت، ومعَ صَبا نجدٍ هبَّت، وبينَ العُذَيْب وبارقٍ نشَأتْ وشَبَّت، أو كأنّها (1) ترنَّمَ بها السَّفْرُ في وادي العقيق، أو حَدَا (2) بها الحادي إلى البيتِ العتيق، فإن عجَمتَ عُودَها، واختَبزتَ نقودَها، وجَدتَها تستحقُ الإهانة، وتنتسبُ إن صَدَقت إلى برشانة، بفِنائها مولدُها، وفي مائها مورِدُها (3)، ومنها يليقُ أن يكونَ مُنشِدَها، فاجعَلْها مخطوبةً لليبروح (4)، وقد خَلَعَ عليها خِفّةَ العقل وثِقَل الرُّوح، ومرَّتْ (5) بك فخالَسْتَها نظرًا، وطرَحتْ منها قَذَرًا، وولَّيتَها ظهرَك، وقليتَها دهرَك، وإن عُقِدَت على هذه المختصة، فلا بدَّ من طلاقِها على المِنَصّة، ثم تَفقِدُ الخاطبَ وهيَ حِلّ، وتُهجَرُ كأنّها في البيت صَلّ، أو من الميِّت لحمُ مُصِلّ (6)، سيِّدي، حفِظكم الله (7)، كان الوصُولُ (8) من المَرِيّة حرَسها الله (9)، وإنها لَمثابةٌ وأمن، بل جنّة (10) وعَدن، أحفَى مقامَها العليَّ أيدَه اللهُ المسألة، ورفَعَ بمحلِّه الشّريف المنزلة، وودَّعتُه وأنا من بِرِّه مُرتوٍ، وعلى ظهرِ الجاهِ مُستوٍ، وسِرتُ وأنا على الآمال، والشَّغفِ بذلك الجلال، مُنطوٍ ومحُتَوٍ، وبالمَرِيّةِ فارقتُ [الوديعة، ومنها أزمعُ] الرحلةَ السّريعة، وقدِ انفَصَلَ على. خير، واللهُ يكلؤُه في إقامةٍ [وسَيْر؛
(1) في الرسائل: "أو كأنما".
(2)
في الرسائل: "وحدا".
(3)
هذه السجعة ساقطة في الرسائل.
(4)
راجع ما كتبه الدكتور ابن شريفة حول هذا المنبوز باليبروح في كتابه: أبو المطرف، ص 108.
(5)
في الرسائل: "وقدر أنها مرت".
(6)
في الأصل: "يصل".
(7)
في الرسائل: "أعزك الله".
(8)
في الرسائل: "وصولي".
(9)
الدعاء ساقط في الرسائل.
(10)
في الرسائل: "جنة للآمل".
وأنا الآنَ] بين يدَيْ خروجي إلى بَسْطةَ بمشيئةِ الله (1) وإعانتِه، ويقال (2):[إنّ هذا المكانَ] أشدُّ إخافةً مما كان، واللهُ يدفَعُ المرهوب، ويكفيها الخطوب، بمنِّه.
[فأجابَه] أبو الحَسَن العُشْبيُّ رحمهما الله:
السيِّدُ الأوحَد العِماد [أبقاهُ اللهُ] وأطال ثناءه، والبيانُ يقفُ ببابِه متى شاءه، ويَنشُرُ مِلحَه ويُملِحُ [إنشاءَهُ] ولا زال عَلَمًا يُهتدَى به، ومَعلَمًا يُقتدَى به بآدابِه، [أما] فيما قرَّطَني به وشَنَّفَني، [وقَرَّظَني] وشرَّفَني، فقد وقَفَني موقفَ خَجَل، وألحَفَني مِطرَفَ وَجَل، فسامَني من الجواب شططًا، وطالَبَني بحُرِّ المتاع وما أجدُ إلا سَقَطًا، ولمّا وَصَلَ الكتابُ المرقَوم، والرحيقُ المختوم، اجتَلَيْتُ منه الأبيات، أو الآيات، وأنشَدتُ الأشعار، أو الأسحار، وكان عَزْمي ألا أكتُبَ، ثم خِفتُ جلالَه أن يحتَب، والعياذُ بفضلِه من أن يَعتِب، وهلُمَّ أيّها المَوْلى إلى الإنصاف، واعدِلْ إلى العدلِ الحميدِ الأوصاف، متى سوبقتِ الجِيادُ بالأعيار، وقيسَ الصُّفْرُ بالنُّضَار؟ وكيف وأنت رَيْحانةُ قُريش (3) التفَّتْ عليك بطحاؤها، واقتفَتْ آثارَك فُصحاؤها، وعُرِفتْ بك طُرُقُ البلاغةِ وأنحاؤها، وأنا وما أنا؟ نَسَبٌ في البرابرِ عريق وسببٌ من التعليم لا ممتدٌّ ولا وثيق، درجَتُ حيث جفاءُ الطّباع، وجفارُ التكلّف من الانطباع، والقساوةُ يلينُ الصَّخرُ وما تلين، والغَباوة يَبِينُ الصُّبحُ فما تَستبِين (4) [من الكامل]:
بلدُ الفِلاحةِ لو أتاها جَروَلٌ
…
أعني الحُطيئةَ لاغتَدى حرّاثا (5)
(1) في الرسائل: "إن شاء الله".
(2)
في الرسائل: "ويقال: إن طريقها يقعد عليه الكافر، ويتحاماها المسافر، وعلم الله ما في النفس من ركوب الغرر ووجل الورد والصدر، والله يدفع المرهوب، ويكفينا النوائب والخطوب، وهو تعالى يديم بقاءكم، ويحفظ إخاءكم والسلام".
(3)
يشير إلى نسب أبي المطرف المخزومي.
(4)
في الأصل: "القساوة تلبس الصدر وما تلين، والغباوة بين الصبح فما يستبين"، وفي هذا تحريف لعل صوابه ما أثبتنا.
(5)
البيت لأبي تمام.
وعلى ذلك فقد أدلَلْت، ولم أدع أن قُلت [من السريع]:
قد سُمِعَتْ تلك الأحاديثُ
…
فالقلبُ مفؤودٌ ومجؤوثُ
آياتُ أبياتٍ لها الزهرُ مبـ
…
ـثوث وسحر الشعر منفوث
ورقعةٌ أو حُلةٌ أو بقلٌ
…
حدائقٌ مسطورُهُ ميثُ
إيهِ على العهدِ فما حَلَّ مِن
…
عقودِه بعدَك تنكيثُ
ذاك الهوى ما حالَ عن حالِهِ
…
وشُكرُ ذاك المجدِ مبثوثُ
وخُذْ أحاديثَ هُيَامي وما
…
يُحصيهِ تحديثٌ وتبثيثُ
مغترِب في أهلِهِ كربُهُ
…
مُقتبلٌ واللهوُ مجدوثُ
وسابقُ العَبرةِ في سَمعِهِ
…
عن خاطبِ السَّلوة ..... ـثُ
لأسلمَتْ أيدي المطايا فمِن
…
تحثيثها للصبرِ تجثيثُ
هيهات أين الصَّبرُ لا أينه
…
وأصلُهُ للبَيْنِ مجثوثُ
يا أيُّها الفردُ الذي فضلُهُ
…
فضلانِ: مكسوبٌ وموروثُ
عُذرًا وفي أكنافِ تلك العُلَى
…
للعذرِ تمهيدٌ وتدميثُ
يا سيِّدي، كيف رأيتَ زَبْرًا، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 72] [إنّ من البيانِ] لسِحرًا، وإنّ من السِّحرِ لشعرًا، رفّهْ أيُّها السيِّد في اقتضائك، أو عامِلْ نُظراءك ومَن لكَ بنُظرائك؟ فإنّي أُنفقُ عن عُسر، وأستمِدُّ من نَزْر، وبيدِك زِمامُ الكلام، ولك طاعةُ النثرِ والنظام، تلعَبُ بعَروضِه، وتكسو مرفوضَهُ حلّةَ مفروضِه، بَيْنا أنا في تلك الحديقة أقطِفُ زهرًا، وأنشُقُ عبيرًا وعنبرًا، عثرتُ بذلك العَروضِ فلعِبَ بي وزنُه، وتوعَّر لي حَزْنُه، وبعدَ لأي ما فهِمت، وجُلت في معانيه فهِمت، وكلَّفتُ الخاطرَ شيئًا منه فعَجَز، وأكرهتُه فأبى إلا الرَّجَز، ولحقِّ الأدبُ لم أدَعْهُ، وقد جاء منه هذَيانٌ فإن نشِطتَ فاسمَعْهُ [من الدوبيت]:
يامَن لبعاده هجرتُ الأُنسا
…
قد خِفتُ لغربةِ الهوى أن أُنسَى
هذا كمَدي أضحَى كما قد أمسا
…
وحدي كَلَفي سرَّ العذولَ أم ما
من يمنَعُ محتومَ القضا من يمنَع
…
قالو الصبرُ أولى قلتُ غَيري يُخدَعْ
يا بينُ كمَ أدعو وست تَسمَع
…
اردد سَكَني وما أردتَ فاصنَعْ
أقسمتُ بذمة الهوى إن عادوا
…
واستوطن رَبْعَ صدرِه الفؤادُ
لا نال قيادي بعدَهم بعادُ
…
عزمي حملي والقربُ منهم زادُ
الله عليكم يا بريقَ نجدِ
…
امرُر باللوى على الكثيبِ الفردِ
واخبِر خبرَ الحيِّ الجميعَ بعدي
…
هل عندهم من الأسى ماعندي
واخصُض بالشِّيم عاطرَ الشميمِ
…
وافضُضْ خاتمَ الغمام بالغميمِ
حيث رَسَا العلاءُ في مخزومِ
…
رَيْحانةُ ذاك النفَرِ الكريمِ
هل تعرفُ من أريدُ إن أُعرِّفِ
…
جُزْ بابن عَمِيرةٍ أبي المُطرِّفٍ
واشرَح كَلَفي لهُ ولا تُحرِّفْ
…
واسرُدْ ما شاهدتَ جوًى وصنِّفِ
...... الجلال بالإحلالِ
…
واستكمِلْ ثناءَ ذلك الكمالِ
...... إحسانه والمَآلِ
…
مالي من يد بما أنالُ ما لي
[لقد طابَ] هواءُ المشارق، واعذبَّ شِربُ العُذَيب وبارِق، أمَا شارفتَ [الخيامَ وجَزعاءَ حِماها] وسَمِعتَ من صَباها ما تقولُ خُزاماها، وأنّى وبينَ بلادينا زَرُود
…
هو إلا حقُّ الطاعة، وطَوْقُ الاستطاعة، ومبلَغُ البضاعةِ المُزْجاة،
…
المُرْجَاة؛ والسيِّدُ الأوحَد أعلى اللهُ مقدارَه، وأدنى دارَه، يَقضي [بتكلُّفِها] ويُسامحُ في تخلُّفِها، فهل هي إلا ضَرّةُ تلك المخطوبة، وعنوانُ فضيحتِها المحجوبة، غذِيَتْ بطَبْع أبيها، وطلبت أوصافَه تشبيهًا، وستجدُ ذلك عِيانًا فيها، فإذا عَرَضَتْ إليه، وعُرِضَت بين يدَيْه، فلَيَصرف وصَلَها، ولْيُلقِ على غاربِها حبلَها، وليَغقِدْ على هذه الجِنانية الجَيّانية يدَ الضَّنَانة يجِدْها أحقَّ بها وأهلَها،
وأمّا تلك الهديُّ فقد طلِّقت لها العقائل، وأيمت الحرائرُ والحلائل، وإنّما هي عَقيلةُ الشَّرفِ والمجد، ومُطيلةُ الكَلَفِ والوَجْد، فعليّ أن أصحَبَها بالمعروف، وأعرِفَ ما لها من الشُّفوف، وأعُدُّها ذخيرةَ الأبد، ووصيّةَ الوالدِ للولَدَ، لو رأيتُني أقلِبُها وأقبِّلُها، وأتألّمُ لها حين أتأمّلُها، وأقولُ: أيُّ حُليٍّ لو صادَفَ جِيدًا، ومحَلِّ شُكرٍ لو وجَدَ مُجِيدًا، وقد وكَلْتُ الأمرَ إليه، وألقيتُ بيدي ثقةً بما لدَيْه، ثم أعودُ إلى المهمِّ المقدَّم من ذكْرِ أشواقي المؤلمة، وحُرَقي المضرَمة، برَّدَ اللهُ ببَردِ ماءِ اللقاءِ أُوارَها، وأخَذ لي بثأرِها من الفِراق فهو أثارَها، وأسألُ: كيف كانت حالُه في تلك المسالكِ المَهالك، وتخَلُّصُ سَناه من ظُلمِها الحوالك؟ وأمّا سُحَيْم فقد ظَهَرَ بغَرناطةَ حَمِيدَ الحال، شاكرًا لحُسن الصُّحبة وجميل الارتحال، وأنا رهينُ شُكرِها يدًا كبرى، وعارفةً أخرى، واللهُ يكنُفُ مولايَ بعَيْنِه وعَوْنِه، ويكفُلُه بحفظِه وصَوْنِه، ويديمُ علاءه، ويحرُسُ تصفيقَه على المعالي واستيلاءه. والسلامُ الكريمُ يخُصُّه به صَنيعتُه المُباهي بتنويهِه، الشاكرُ لأياديه التي أشارت بتنبيهِه، العُشْبيُّ، ورحمةُ الله وبركاتُه.
14 -
عليُّ (1) بن محمد بن محمد بن إبراهيمَ بن موسى الأنصاريُّ الخَزْرَجيُّ، فاسيٌّ، إشبيليُّ الأصل سَكنَ سَبْتةَ ومَرّاكُشَ وغيرَهما، أبو الحَسَن، ابنُ الحَصّار. رَوى عن أبيه (2) وأبي الجَيْش مجُاهدِ بن محمد، وآباءِ عبد الله: ابن حَمِيد وابن زَرْقون وابن الفَخّار، وآباء القاسم: ابن حُبَيْش وابن رُشْد الوَرّاق والسُّهيْليِّ، وأبوَيْ محمد: الحَجْريِّ [وعبد الحقِّ الأزْديّ].
(1) ترجمه المنذري في التكملة 2/الترجمة 1359، وابن الأبار في التكملة (2865)، وابن الزبير في صلة الصلة 4/الترجمة 256، والذهبي في المستملح (722)، وتاريخ الإسلام 13/ 319، والصفدي في الوافي 22/ 131، وابن القاضي في جذوة الاقتباس (518).
(2)
انظر ما هي صلته بابي بكر محمد بن علي الحصار الإشبيلي المتوفى بمراكش سنة 579 هـ والذي كان من كتاب دار الأشراف (الديوانة) في عهد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن. انظر المغرب 1/ 279، والبيان المغرب (128)، ونظم الجمان (139)، والمن بالإمامة (204).
رَوى عنه بمَرّاكُشَ أبو عبد الله محمدُ بن عبد الله بن [عبد العزيز الخَرُوف] وأبو العبّاس بن أحمد بن عبدِ الله ابن العَزّام، وأبو عليّ حَسَنُ بن عليّ [الماقَريّ] وأبو محمدٍ عبدُ العالي بن محمد الوزرواليّ، وبسَبْتَةَ أبو عبدِ الله [الأزْديُّ](1). ورَحَل بأخَرةٍ إلى المشرِق وحَجَّ وجاوَرَ بمكةَ كرَّمها اللهُ [مُدّة وجالَسَ علماءها] في مجالسِهم، كأبي شُجاع زاهِر بن رُستُم بن أبي الرَّجاء الأصبَهانيِّ، وأبي [عبدِ الله] بن إسماعيلَ (2) بن عليّ بن أبي الصَّيْف، وأبي محمدٍ يونُسَ بن يحيى الهاشميِّ وغيرِهم، ثم انتقَلَ إلى طَيبةَ، شرَّفَها الله، فجاوَرَ بها، وعَظُمَ صِيتُه هناك، وجَلَّ قَدرُه وعُرِف فضلُه، وأُخِذ عنه العلم، فممّن رَوى عنه هناك أبو عبد الله بنُ عبد الكريم الجُرشيُّ (3)، وأبو محمد عبدُ العظيم بن عبد القويِّ المُنذِريُّ (4).
وكان محدِّثًا راويةً فقيهًا عارفًا بأصُولِ الفقه، متحقِّقًا بعلم الكلام، ذا حظًّ وافر من علوم اللِّسان وقَرض الشّعر. وله مصنَّفاتٌ أفاد بها، منها: مقالةٌ في إعجازِ القرآن، و"الناسخ والمنسوخ"، وهو ثلاثةُ أوضاع: الأكبرُ والأوسَطُ والأصغر، و"تقريبُ المدارك في وَصْل المقطوع من حديثِ مالك"، و"بيانُ البيان في شرح البُرهان"، ومقالةٌ في النَّسخ على مآخِذ الأصُوليِّينَ، و"تقريبُ المَرام في تهذيبِ أدلةِ الأحكام" في أصُول الفقه، ومصنَّفٌ في عِلم الكلام، و"مقالةٌ في الإيمانِ والإسلام"، وعقيدةٌ سمّاها "تلقينَ الوليد وخاتمةَ السَّعيد"، وشَرَحَها في أربعة مجلَّداتٍ متوسِّطة، و"مقالةٌ في الحَيْض والنِّفاس"، إلى غيرِ ذلك من
(1) قال ابن الزبير: وذكره شيخنا القاضي أبو عبد الله الأزدي وذكر له عدة تواليف .... ووصفه بالعلم، وذكر أن له رحلة حج فيها وأنه قرأ عليه وسمع وأجاز له وأسهب في الثناء عليه.
(2)
هو محمد بن إسماعيل.
(3)
في الأصل: "الحرشي"، وترجمته في السفر السادس من هذا الكتاب (الترجمة 1064) وفيها أنه أخذ عن أبي الحسن ابن الحصار المراكشي المجاور بحرم الله الشريف. وقال ابن الزبير: وذكره شيخنا الحاج أبو عبد الله بن عبد الكريم الجرشي فيمن لقيه بمكة شرفها الله وسمع عليه بتاريخ بذي قعدة من سنة 606 وأثنى عليه.
(4)
ينظر كتاب الدكتور بشار عواد: المنذري وكتابه التكملة، النجف 1968 م.
المصنَّفاتِ التي جلَّ مَغْزاها وعَظُمت جَنواها، ودَلّت على وُفور علمِه وإدراكِه ومتانةِ معارِفه (1)، ودَخَلَ الأندَلُسَ وأخَذَ بها عنه بعض ما كان عندَه.
أنشَدتُ على شيخِنا أبي عليّ الماقَريِّ رحمه الله بثَغْرِ اسَفي حمَاهُ الله في أواخِر جُمادى الأخرى من سنة ثلاثٍ وستّينَ وست مئة، قال: عرَضتُ عليه، يعني أبا الحَسَن ابنَ الحَضار هذا، قصيدتَه الرائيةَ التي قالها في المدنيِّ والمكيِّ من سُوَرِ القرآن، وهي اثنانِ وعشرونَ بيتًا، وذلك في شهرِ ذي الحجّة من سنة ستٍّ وتسعينَ وخمس مئة، وهي قولُه (2) [من البسيط]:
يا سائلي عن كتابِ الله مجُتهدًا
…
وعن ترتُّب ما يُتلَى من السُّوَرِ
وكيف جاء بها المختارُ من مُضَرٍ
…
صلَّى الإلهُ على المختارِ من مُضَرِ
[وما تقَدَّم منها] قبلَ هجرتِهِ
…
وما تأخَّرَ في بَدوٍ وفي حضرِ
[ليُعلمَ النَّسَخَ] والتخصيص مجتهدٌ
…
يؤيِّدُ الحُكمَ بالتاريخ والنظرِ
[تعارَضَ النقلُ] في أُمِّ الكتابِ وقد
…
توَلَّت الحِجرَ تنبيهًا لمعتبرِ
[أُمُّ القرَانِ وفي أُمِّ] القُرى نزَلتْ
…
ماكان للخَمسِ قبلَ الحمدِ من أثرِ
[لو غابَ] ذاك لكان النَّسَخُ أوّلَها
…
ولم يقُلْ بصريح النَّسخ من بشَرِ (3)
(1) نقل ابن الزبير رأيًا الأبي الحسن الشاري في مؤلفات المترجم يختلف عن رأي ابن عبد الملك وغيره، قال:"وذكره الشيخ أبو الحسن الغافقي وأنه حضر عنده تدريس البرهان لأبي المعالي وموطإ مالك وذلك بمدينة سبتة، قال: وله تواليف لا أرضاها، ولم يرو عنه".
(2)
أورد السيوطي في "الإتقان" القصيدة المذكورة ومهد لها بما يلي: "قال أبو الحسن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ: المدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق، ثم نظم في ذلك أبياتًا فقال:
يا سائلي عن كتاب الله مجتهدًا
…
وعن ترتب ما يتلى من السور"
(3)
لم يرد هذا البيت في الإتقان.
[وبعد] هجرةِ خيرِ الناسِ قد نزَلَتْ
…
عشرونَ من سُوَر القرآنِ في عشرِ
فأربعٌ من طِوالِ السَّبع أوّلُها
…
وخامسُ الخَمْس في الأنفالِ ذي العِبَرِ
وتوبةُ الله إن عدَّدتَ سادسةٌ (1)
…
وسورةُ النُّورِ والأحزابِ ذي الذِّكرِ
وسورةٌ لرسولِ الله (2) مُحكَمةٌ
…
والفتحُ والحُجُراتُ الغُرُّ في غُرَرِ
ثم الحديدُ ويتلوها مجادلةٌ
…
والحشرُ ثم امتحانُ الله للبشرِ
وسورةٌ فضَحَ اللهُ النِّفاقَ بها
…
وسورةُ الجَمْع تَذكارًا لمُذَّكِرِ
وللطلاقِ وللتحريم حُكمُهما
…
والنّصرُ والفتحُ تنبيهًا على العمرِ
هذا الذي اتّفقتْ فيه الرُّواةُ لهُ
…
وقد تعارضَتِ الأخبارُ في أُخَرِ
فالرعدُ مختلَفٌ فيها متى نزَلَتْ
…
والأكثرونَ يقولُ (3): الرعدُ كالقمرِ
ومثلُها سورةُ الرحمنِ شاهدُها
…
ممّا تضمَّن قولُ الجنِّ في الخبرِ
وسورةُ للحَواريِّينَ قد عُلِمت
…
ثم التغابُنُ والتطفيفُ ذو النُّذُرِ
وليلةُ القَدر قد خُصت بمِلّتِنا (4)
…
ولم يكنْ بعدَها الزّلزالُ فاعتبرِ
وقُلْ هُوَ اللهُ من أوصافِ خالقِنا
…
وعُوذتانِ ترُدُّ البأسَ بالقدرِ
وذا الذي اختَلَفت فيه الرواةُ لهُ
…
وربّما استُثنِيَتْ آيٌ من السُّورِ
وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبَرًا
…
إلا خلافًا له حظٌّ من النظرِ
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: هكذا أخَذْنا هذه القصيدةَ عن شيخِنا أبي عليّ [الماقَريِّ] اثنينِ وعشرينَ بيتًا كما ذَكَرَ، وكذلك وقَفْتُ عليها في غير موضع
(1) في الإتقان: "إن عدت فسادسة".
(2)
في الإتقان: "لنبي الله".
(3)
في الإتقان: "وأكثر الناس قالوا".
(4)
في ص: "بملتها".