الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَوى عن أبي [البقاءِ يَعِيشَ بن] القَديم، وأبي (1) عبد الله بن أحمدَ بن البُيوت (2) وأبي الحَسَن بن خَرُوف [الدريدنُه] وأبي ذَرٍّ بن أبي رُكَب -وأكثَرَ عنه- وغيرِهم، وتَفقّه على أبي يحيى بن [المواق؟].
دخَلَ الأندَلُسَ مرتَيْن، إحداهُما: في بيعةِ المأمون من بني عبد المؤمن. [وكان] فقيهًا حافظًا وَجيهًا ببلدِه مكبَّرًا عند أهلِه حظِيًّا عند الأمراءِ والسّلاطين. استُقضيَ بفاسَ وحُمِدت أحوالُه وشُكِرتْ سِيَرُه.
وقُتلَ بفاسَ في رجبِ ثمانٍ وأربعينَ وست مئة.
114 -
محمدُ (3) بن عبد الرّحمن القَيْسيُّ، قَيْرَوانيٌّ، نزيلُ سَبْتةَ ثم يابِسةَ؛ أبو عبد الله، ابنُ الشّواذكي.
رَوى عن أبوَي الحَسَن: ابن عبد الجليل بن محمد، والحُصْريِّ؛ وأبي الحُسَين سُليمانَ بن محمد بن الطّراوة، وأبي داودَ بن يحيى، وأبي عبد الله بن لُبّ الدَّرُوقيّ، وأبي العبّاس بن محمد المالَقيِّ، وأبي الفَضْل عِيَاضٍ وغيرِهم.
رَوى عنه أبو عبد الله بن أحمدَ العَزَفيُّ -وهو ابنُ ابنِ أُختِه- وكان مُقرئًا مجوِّدًا مُعتنيًا بالعلم صالحًا خطيبًا فاضلًا.
كتَبَ الكثيرَ على رداءةِ خطِّه، وعُرِف بالخيرِ ومتانةِ الدِّين، وتوفِّي بسَبْتةَ.
115 - محمدُ بن عبد الرّحمن اللَّمَطيُّ، ابنُ تازليت
.
رَوى عن شُرَيْح.
(1) في الأصل: "وآباء"، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: "الفتوت"، وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد الطليطلي، هاجر من بلده بعد ضياعه، وسكن فاس، وكان من جلة المقرئين. انظر ترجمته في السفر الخامس من هذا الكتاب (الترجمة 1279)، وفيها: ابن بر البيوت، ولكنها ترد عند المؤلف في بعض التراجم: ابن البيوت.
(3)
لم يترجم له ابن الأبار في التكملة، ولا ابن الزبير، ولكن ذكره ابن الأبار في ترجمة أبي العباس أحمد بن محمد الغافقي المالقي من التكملة، فقال:(وأخذ عنه أبو عبد الله المعروف بابن الشواذكي" (الترجمة 154).
116 -
محمدُ (1) بن أبي زَيْدٍ عبد الرّحيم (2) بن محمد بن أبي العَيْش الأنصاريُّ الخَزْرَجيُّ؛ تلمسينيٌّ أندَلُسيُّ الأصل، أبو العَيْش.
رَوى ببلدِه عن أبي بكرٍ محمد بن يوسُف بن مُفرِّج بن سَعادةَ، وأبوَيْ عبد الله: ابن عبد الرّحمن التُّجِيبيِّ وابن عبد الحقِّ، ورَوى أَيضًا عن أبي محمد بن حَوْطِ الله.
حدّثنا عنه أبوا محمد: ابنُ أبي خرص الواعِظ، ومَوْلى سَعِيد بن حَكَم (3). وكان أديبًا بارعَ الكتابة، شاعرًا مجُيدًا، رائقَ الخَطّ، ذا مشاركةٍ في فنونٍ من العلم.
دَخَلَ الأندَلُسَ وكتَبَ عن بعض الوُلاةِ بها ثم تخَلَّى عن ذلك ولزِمَ الانقباضَ، وآثَرَ الخَلْوةَ والعُزْلةَ عن الناس، ونبَذَ علائقَه منهم. وله في طريقةِ الزُّهد وسُبُل الخَيْر والوعظِ والتذكير وتنزيهِ الباري سبحانَه وما جَرَى مجرى ذلك منظوماتٌ بديعة، وقَفْتُ على كثيرٍ منها بخطِّه الأنيق، ومنها:"الحقائقُ المَصُونة في الألفاظِ الموزونة في ذكْرِ أسماءِ الله الحُسنى وصِفاتِه واقتباسِ أنوارِها من مخلوقاتِه الباهرةِ ومَصنوعاتِه". نَظَمَ في [كلِّ قطعةٍ اسمًا من الأسماءِ الحُسنى] أجادَ فيها وبَلَغَ الغايةَ؛ منها في ذكْرِ [اسم الله سبحانَه][من الكامل]:
الله قُلْ ودعِ الوجودَ وما حَوَى
…
إن كنتَ [مُرتادًا بلوغَ كمالِ]
فالكلُّ دونَ الله إن حقَّقْتَهُ
…
عَدَمٌ على التفصيلِ [والإجمالِ]
واعلَمْ بأنك والعوالم (4) كلَّها
…
لولاهُ في مَحْوٍ وفي اضمحلالِ
(1) ترجمه ابن الزبير في صلة الصلة 3/الترجمة 28، ووردت إشارة في البستان لإبن مريم، ص 159 إلى محمد بن عبد الرحيم بن أبي العيش الخزرجي الخطيب بتلمسان.
(2)
في الأصل: "عبد الرحمن" وهو تحريف من الناسخ لأنه يرد عند المؤلف كما أثبتنا في مواضع أخرى، ولعبد الرحيم بن محمد بن أبي العيش والد المترجم هنا ترجمة في التكملة (رقم 2381) ومعجم أصحاب الصدفي (رقم 224)، وصلة الصلة 3/الترجمة 379، وتاريخ الإسلام 12/ 450.
(3)
في الأصل: "حكيم"، محرف.
(4)
في الأصل: "والعوامل"، وما أثبتناه هو الصواب.
فالعارفونَ فنُوا ولمّا يشهَدوا
…
شيئًا سوى المُتكبِّر المُتَعالي
ورأَوْا سِواه على الحقيقةِ هالكًا
…
في الحالِ والماضي و [الاستقبالِ]
مَن لا وجودَ لِذاتِه من ذاتِهِ
…
فوجودُه لولاه عينُ مُحالِ
فالمَحْ بطَرْفِك أو بعقلِكَ هل ترى
…
شيئًا سوى فعلٍ من الأفعالِ
وانظُرْ إلى أعلى الوجودِ وسُفلِهِ
…
نظرًا تؤيِّدُه بالاستدلالِ
تجدِ الجميعَ يشيرُ نحوَ جلالِهِ
…
بلسانِ حالٍ أو لسانِ مقالِ
هو مُمسكُ الأشياءِ من عُلوٍ إلى
…
سُفل ومُبدعُها بغيرِ مثالِ
وَجَبَ الوجودُ لذاتِه وصفاتِهِ
…
فردًا عن الأكفاءِ والأمثالِ
فاسكُنْ إليه بهمّةٍ عُلوّيةٍ
…
متنزِّهًا عمّا سوى الفَعّالِ
يبقَى وكلٌّ يضمحِلُّ وُجودُهُ
…
ما واجبٌ كمقيَّدٍ بزوالِ
وهو الذي يُرجَى وُيخشى، لا تَلُذْ
…
بسِواهُ في حالٍ من الأحوالِ
فالشرعُ جاء بذا وأنوارُ الهدى
…
قد أيّدتْه فعِشْ خليَّ البالِ (1)
(1) لم نقف على هذه القصيدة في موضع آخر، ووردت الأبيات الستة الأولى منها في رسائل الشيخ محمد العربي الدرقاوي 64، 91 (ط. حجرية) وهي مما يردده المنشدون، وفي نفح الطيب 5/ 260 أن أَبا مدين كان كثيرًا ما ينشد هذا البيت:
الله قل، وذر الوجود وما حوى
…
إن كنت مرتادًا بصدق مراد
وأبو مدين متقدم الطبقة على أبي العيش المترجم هنا، وللفقيه الرغاي الرباطي (ت 1315 هـ) تخميس عليها أوله:
يا غافلًا سمع النداء فما ارعوى
…
وبرأسه عرش المشيب قد استوى
ومؤملًا والعمر منه قد انطوى
…
الله قل وذر الوجود وما حوى
إن كنت مرتادًا بلوغ كمال
انظر أعلام الرباط وسلا للمرحوم الجراري 2/ 85 - 86.
وأتبَعَ هذه القطعةَ قطعًا ضمَّن كلَّ قطعةٍ منها اسمًا أو اسمَيْنِ من أسماءِ الله الحُسنى إلى تمامِها ناحيًا منحى أبي الحَسَن بن أحمد بن محمد بن عُمرَ الوادى آشيِّ المتقدِّم الذِّكْر [في] إنشاءاته التي أودَعَها: "الوسيلةَ لإصابةِ المعنى، في إحصاءِ أسماءِ الله الحُسنى"(1). ولأبي العَيْش في وَصْف حالِه وانقطاعِه إلى الله تعالى وإيثارِه العُزْلةَ، ونقَلتُه من خطّه [من الوافر]:
قَنِعتُ بما رُزقتُ فلستُ أسعى
…
لدار أبي فلانٍ أو فلانِ
وآثرتُ المقامَ بكسرِ بيتي
…
ولا أحدٌ نراه ولا يَراني
ولا ألقَى خليلًا غيرَ حَبْرٍ
…
مُعِينٍ في المعارفِ أو مُعانِ
وقد أيقنْتُ أنّ الرّزقَ آتٍ
…
وإن لم آتِهِ سعيًا أتاني
وقد حَققتُهُ فهمًا وعِلْمًا
…
وقد شاهدتُه رأيَ العِيانِ
فلازمْ ذا بإخلاصٍ تُمَكَّنْ
…
هنا وهناك من أسنى مكانِ
[وكان يُنشئُ للوا] عظِ أبي محمد بن أبي خرص (2) رحمه الله أشعارًا، يفتتحُ بها [مجالسَه أو يُنشِدُها] أثناءها تدُلُّ على صِدقِه وتشهَدُ بإجادتِه.
117 -
محمدُ (3) بن [عبد الجَبّار بن أبي بكر بن] محمد بن أبي العَرَب حَمْدِيس الأزْديُّ، سَر قوسيٌّ.
(1) راجع ترجمة المذكور في السفر الخامس (الترجمة 347) وفيه قطعة مختارة من كتاب "الوسيلة" المذكور. وكذلك التكملة (2803).
(2)
يُعد المؤلف في أصحابه وشيوخه، وقد يكون ترجم له في القسم المفقود من الغرباء، وقد ذكره في السفر السادس (الترجمة 1218)، قال وهو يعدد مؤلفات ابن عسكر المالقي: "ومنها: الجزء المختصر في السلو عن ذهاب البصر، ألفه لصاحبنا أبي محمد بن أبي خرص الضرير الواعظ رحمه الله
…
".
(3)
ولد الشاعر المشهور ابن حمديس وفي ديوانه قصيدة يرثي فيها زوجته التي كانت أم ولديه: أبي بكر، وعمرو قد صنعها الشَّاعر على لسان عمر يعزي أخاه أبا بكر (ق 297) وفي قصيدة أخرى (139) يشير إلى ولد له صغير تركه في سفاقس (راجع الديوان، تحقيق د. إحسان عباس) أما محمد هذا فهو في الخريدة ق 24/ 85 ونقل العماد عن ابن بشرون قوله أنه أشعر من والده عبد الجبار وأورد له قصيدة بائية.
رَوى عن أبيه [أبي محمد، وكان أديبًا] حَسَنَ الوِراقة في الطريقة المَشْرِقيّة.
118 -
محمدُ (1) بن عبد الحقّ [بن إبراهيمَ] بن عبد الله بن وَهْب الصُّنهاجيُّ، أبو عبد الله.
رَوى عن أَبيه، وأجاز له أبو عبد الله محمدُ بن هشام بن أبي جَمْرةَ، وأبو الوليد بن رُشْدٍ الكبير.
119 -
محمدُ (2) بن عبد الحقِّ بن سُليمانَ اليَعْمُريُّ، ويقال: البطوئيُّ، تِلِمْسينيُّ، نَدْروميُّ الأصل، أبو عبد الله، ابنُ سُليمان، والنّدروميُّ.
رَوى ببلدِه عن أبوَيْ محمد: أَبيه، وتفَقَّه به، وعِمرانَ التَّلِيديِّ؛ وأبوَيْ بكرٍ: ابن عُصفُور واللَّقَنْتيِّ؛ وأبوَي الحَسَن: جابر بن محمد وابن أبي قَنُّون، وأبي عليّ حَسَن ابن الخَرّاز. وصَحِبَ الزاهدَيْنِ الفاضلَيْنِ: أَبا عبد الله بنَ محيو الهَوّاريَّ، وأبا مَدْيَن شُعَيْبَ بن الحَسَن الأندَلُسي.
وبفاسَ عن أبي الحَسَن بن حُنَيْن، وأبي عبد الله ابن الرَّمّامة، وأبي محمد قاسم ابن الزّقاق، ولقِيَ بها أَبا الحُسَين اللَّوَاتيَّ وأجاز له.
وبمَرّاكُشَ عن أبي الجَيْش مجُاهد، وأبوَيْ عبد الله: ابن خليل وابن الفَخّار، وأبوي القاسم: ابن حُبَيْش والسُّهَيْليّ.
وبها وبإشبيلِيَةَ عن أبي بكر بن الجَدّ، وأبي جعفرِ بن مَضَاء، وأبي الحَسَن نَجَبةَ، ولقِيَ بها أَبا عِمرانَ الزاهد.
(1) تقدمت ترجمة مماثلة لمن اسمه عمر، ولا نعرف هل المترجم هنا أخوه أو هو نفسه، راجع رقم 27.
(2)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (1745) وفيه: "اليفرني" بدل: اليعمري، وهو الصواب إن شاء الله، والرعيني في برنامجه (92)، وابن الزبير في صلة الصلة 3/الترجمة (20)، والغبريني في عنوان الدراية 252، والذهبي في المستملح (350) وتاريخ الإسلام 13/ 802 وسير أعلام النبلاء 22/ 361، ويحيى بن خلدون في بغية الرواد 1/ 112، وابن الجزري في غاية النهاية 2/ 159، والمراكشي في الإعلام 4/ 184.
وبَسْبْتةَ عن أبي محمد بن عُبَيد الله، وصَحِبَ بها أَبا الصَّبر أيّوبَ، ولقِيَ أَبا الحُسَين ابنَ الصّائغ، وأبا عبد الله بنَ حَمِيد، وأبا محمدٍ عبدَ المُنعم ابن الفَرَس.
وأجاز له من أهل الأندَلُس: آباءُ بكر: ابنُ خَيْر وابن رزق وابن نُمَارة، وأبَوا الحَسَن: ابن هُذَيْل وابن النّعمة، وأبو العبّاس الخَرُّوبيّ، وأبو القاسم ابنُ بَشْكُوال.
ومن أهل المشرِق: أبو طالبٍ التّنُوخى، وآباءُ طاهر: السِّلَفيُّ وابنُ عَوْف وابن مَعْشَر (1)، وآباءُ عبد الله: الحَضْرَميّ والرَّحبيّ المِصريُّ والكِرْكنتيُّ، وأبو القاسم البُوصيريُّ، وأبو يعقوبَ ابن الطّفِيْل الدِّمشقيّ. وقد ضمَّن ذكْرَهم وكيفيّةَ روايتِه عنهم برنامجَهَ الذي سمّاه "الإقناع، في ترتيبِ السَّماع".
رَوى عنه أبو الحَجّاج بنُ محمد بن عليّ الأسَديّ، وأبو زكريّا بن أبي بكر بن عُصفُور، وأبَوا عبد الله: ابنُ أبي بكرٍ البريّ، وابن عليّ بن حَمّاد، وأبو العبّاس المَوْرُوريُّ، وأبو العَيْش محمدُ بن عبد الرحيم [الأَنْصاريّ، وأبو موسى] بن يوسُف بن تامحجلت.
وحدَّث عنه بالإجازة شَيْخا [نا: أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ، وأبو عليّ] الماقَريُّ، وأبو عبد الرّحمن عبد الله بن القاسم بن زَغْبوشَ وغيرُهم.
وكان راويةً للحديث فقيهًا حافظًا متكلِّمًا متفنَنًا في علوم جَمّة بارعَ [الكتابة حَسَنَ الخَطّ] جَماعةً للكُتُبِ الجليلة مُغاليًا في أثمانِها، احتَوتْ خِزانتُه [على ما لم يجتمعْ لأحدٍ] من أبناءِ جنسِه كثرةً ونَفاسة (2)، وكتَبَ بخطِّه الكثير، وعُنيَ بتصحيح [كُتبه].
(1) كذا في الأصل، وفي برنامج الرعيني: وأبو الطاهر إسماعيل بن علي بن بأكثر النحوي، وفي بغية الوعاة 1/ 451: إسماعيل بن علي بن أبي مقشر النحوي أبو الطاهر.
(2)
قال ابن الزبير: "وكان عنده أعلاق نفيسة من أمهات الدواوين وأصول رفيعة".
وله مصنَّفاتٌ كثيرة أحفَلُها: "المختار، في الجَمْع بين المنتقَى والاستذكار"(1)[وغيرُ] ذلك ممّا سمّاه في آخِر برنامجَه، وقد رأيتُ إثباتَ أسمائها هنا؛ ليقفَ عليها [المتشوِّفُ [إليها، قال هنالك:
"مَراتبُ تواليفي:
"الفَيْصَلُ الجازم، في فضيلةِ العِلم والعالِم" في مراتبِ العلوم، جزء.
"بَرنامجَي"، وهو كمراتبِ التواليف، وسمّيتُه:"الإقناع في كيفيّة الإسماع"، جزء.
"لُبابُ الإعراب"، جزءٌ كبير، "فُرقانُ الفرقان وميزانُ القرآن" جزء، "عقيدةُ عِلْيةِ (2) الخَلْق وزُبدةُ معرفةِ الحقّ، المضنونُ بها على غير أهلِ الصِّدق"، جزء، "غريبُ الشِّهاب"، جزء. "إكمال اللآلي على الأمالي"، سِفْران، "غريبُ الموطّإ وإعرابُه"، سِفر، وسمّيتُه:"الاقتضابَ"؛ لأني اقتضَبْتُه من الكتابِ الكبير كتاب "المختار الجامع بين المنتقَى والاستذكار"، بزياداتِ من "التمهيد" وغيرِه تونّقُ النفوَسَ وتَرُوق الأبصار، في نحوِ العشرينَ سِفْرًا، يشتملُ على نحوِ الثلاثة آلاف ورقة. "مخُتار المختار بين يدَيْ مختصَر كتابِ البخاريّ"، في سِفرٍ كبير، جزءٌ من شعري منتَخَل، "ميزانُ العمل" جزءٌ كبير، "إرشادُ المسترشدِ وبُغيةُ المُريدِ المُستبصِر المُجتهد"، سِفرٌ صغير، "الإيماءُ إلى نجاةِ المزيد" جزء، "النُّبُذة المُسعِدة واللمحةُ المُصعِدة"، في الاعتبار، جزء. "النُّكَتُ المحرَّرة والفصُولُ المحبَّرة"، في حقيقةِ التنزيه ونَفْي التشبيه، جزء، "الأجوبةُ المحرَّرة على المسائلِ المغيَّرة"، جزء. "التّسَلَّي عن الرَّزِيّة والتحَلِّي بالرّضا بقضاءِ باري البِرّية"، جزء. مجموعٌ شعريٌّ في
(1) جمع فيه بين المنتقى للباجي والاستذكار لإبن عبد البر، ومنه أجزاء مخطوطة بخزانة القرويين، انظر وصفها في فهرس مخطوطات خزانة القرويين للمرحوم العابد الفاسي 1/ 177 وما بعدها، وفي السفر السادس (الترجمة 597) ذكر المؤلف أن ابن زرقون جمع بين الكتابين المذكورين وسمى كتابه "الأنوار" جمع فيه بين منتقى الباجي واستذكار ابن عبد البر وتمم فيه ما رأى تتميمه واستدرك ما اقتضى نظره استدراكه، ونبه على مواضع يجب التنبيه عليها.
(2)
في الأصل: "غلبة"، ولعل الصواب ما أثبتنا.
المواعظ، جزء. "نَفْثةُ ذي الضّراء ومَسْلاتُه برثاءِ الآباءِ الأبناء"، جزءٌ كبير. التذكِرة للنّوادرِ المتخيَّرة"، مضَى منه نحوُ ثلاثةِ أسفارٍ ولم يتمَّ، وهو بين يدَيّ. "حدودُ أنواع الحُكْم الشَّرعي"، جزء. "مُستصفَى المُستصفَى"، ابتُدئَ ولم يتمَّ. "فَصْلُ المقال في مناقلِ أحوالِ غزو أهلِ الإلحادِ والضّلال"، إلى طُلَيْطُلة، كذا، جزءٌ (1) ".
انتهت (2) مشتملةً على ما رأيتُ التنبيهَ عليه، وذلك جَمْعُ التآليفِ على تواليف، وصوابُه: تآليف [....] همزةٌ وقبلَها واو، وتقديرُ كوامل هذه المصنَّفات [....] وقد تقَدَّم ليَ التنبيهُ عليه، والثلاثةُ آلافٍ بإضافة ما فيه الألِفُ واللام إلى ما ليستا فيه، وهذا ممنوعٌ، وأُتبِعُ هذه التسميةَ ما رأيتُ ذكْرَه من نَعْتِها أو [نحوِه]: قال:
"وكيفيّةُ ترتيبِها أنّ أوّلَ ما ينبغي أن يُلقَى إلى ما يعتني به في طلبِ العلم هو فَضْلُ العلم لينهضَ إلى طلبه عن حرصٍ عليه ورغبةٍ فيه، ثم مَراتبُه [ليرتِّبَ العلومَ الكثيرة؟] في مراتبِها، فَيَعلمَ الأعلى من الأدنى والكُلّيَّ من الجُزْئيّ، والآلةَ [من الأصل] المقصود، واللاحقةَ من السابقة، فيَرى كلَّ علم منها في رُتبتِه فيقصِدَ إلى الأعلى منها فيجعَلَه وَكْدَه وَينظُرَ في غيره نظَرَ مشاركةٍ واستبصار؛ لئلّا يجهَلَه فيعاديَه وأهلَه، ثم يُلقَى إليه ما هو كالآلة من العلوم كعلم مَداركِ العقول وعلم اللّغة والإعراب، ثم يُلقَى إليه التفَقُّهُ في الحديثِ الذي هو الأصل وعلمُ أسرار علوم الدِّين الذي هو كالثمرة، ثم يُتبَعُ بما هو كالتتمّة للعلوم وكالمُبتدَع من جُملتِها ممّا لا يختَصُّ بعلم منها؛ فلذلك رتَّبتُها هذا الترتيب، فبدأتُ بفَضْل العلم ومَراتبِه، وثنَّيتُ بالآلة منه، وثلّثْتُ بالأصل منه، وختمتُ بما هو كالمُبتدَع من جُملتِه وكالتتمّةِ والتكميل منه، والحمدُ لله على هدايتِه"(3).
(1) ربما كان هذا الكتاب متعلقًا بغزوة المنصور طليطلة سنة 592 هـ وهي السنة المعروفة بسنة طليطلة (انظر البيان المغرب: 198 - 200).
(2)
علق الرعيني على تسمية مؤلفاته فقال: "تواليف لها أسماء هائلة! "؟
(3)
تؤلف هذه الفقرة المفيدة حلقة تضاف إلى الحلقات المعروفة في مراتب العلوم عند ابن حزم وابن العربي وابن خلدون وابن الخَطيب وغيرِهم من الأندلسيين والمغاربة (وانظر في ترتيب العلوم، السفر الأول، الترجمة 148).
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: نقلتُ ما تقَدَّم من تسمية هذه المصنَّفات وما أَتْبَعَ ذكْرَها به من آخِر نُسخة من "الإقناع" وعلى ظهرِها خطُّه مؤرَّخًا برجبِ ست مئة.
وكان حَسَنَ الخَلْق والخُلُق، بهيجَ المنظر، رائقَ الملبَس، مُوسِرًا، مؤثرًا نَفّاعًا بجاهِه ومالِه، مِطعامًا، وجيهًا ببلدِه وسواه، خطيبًا (1) عندَ الوُلاة والأمراءِ والسّلاطين، تَعْروهُ أحيانًا غفلة. واستُقضيَ ببلده مرّتيْنِ فحُمِدت سِيرتُه وعُرِف بالعدل والإنصافِ والجزالة.
أنشَدتُ على شيخِنا أبي الحَسَن الرُّعَيْنيِّ رحمه الله، ونقَلتُه من خطِّه، لأبي عبد الله بن عبد الحقِّ هذا في عدِّ أحاديثِ البخاريّ مما أذِنَ له فيه [من الطويل]:
جميعُ أحاديثِ الصَّحيح الذي رَوى الـ
…
ـبُخاريُّ خمسة وسبعونَ في العدِّ
وسبعةُ آلافٍ تضافُ وما مضَى
…
إلى مئتينِ عَدَّ ذاك أُولو الجدِّ
مولدُه سنةَ ستٍّ أو سبع وثلاثينَ وخمس مئة. وتوفِّي بتِلِمْسينَ خمس وعشرينَ وست مئة ابنَ تسع أو ثمانٍ وثمانينَ سنة.
120 -
محمدُ (2) بن عبد المُنعم بن مَنِّ الله بن أبي بَحْر الهَوّاريُّ، قَيْرَوانيُّ الأصل، سَكَنَ الأندَلُسَ زمانًا، [ثم انتَقل إلى فاسَ، أبو] بكر، ابنُ الكَمّاد.
رَوى عن أَبيه أبي الطّيِّب (3)، وأبي عبد الله [ابن سَعْدون القَرَويِّ].
رَوى عنه أبو الحُسَين يحيى بن عبد الباري الخُراسانيُّ المَهْدَويُّ نَزيلُ [فاسَ وأبو ....] بن يوسُف ابن البَلْخيّ؛ وحدَّث عنه أبو القاسم عبدُ الرحيم بن [عيسى ابن المَلْجوم بكتاب "علوم] الحديث" لأبي عبد الله الحاكم، وبجوابِ أبي محمد بن أبي زَيْد في [النّهيَ عن الجِد الذي الدّينِ مُناولةً منه وإجازةً -وكانا في مجلّد- لخمسٍ بقِينَ من ربيعٍ الآخِر [سنة سبع وعشرينَ] وخمس مئة.
(1) يجوز أن تكون: "حظيًا".
(2)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (1722)، وابن الزبير في صلة الصلة 3/الترجمة 8.
(3)
ترجمته في الصلة البشكوالية (838)، وتوفي سنة 493 هـ.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: ذكَرَ ابنُ الأبّار [ترجمتَه] في الغُرَباء، وأمرُه عندي مُشكِل؛ لأنّ أباه كان من جاليةِ القَيْروان الخارجينَ منها عندَ خَرابِها سنةَ تسع وأربعينَ وأربع مئة، وأُراه دَخَلَ الأندَلُسَ ذلك الوقتَ أو قريبًا منه، وقد سَمِع أبو بكرِ هذا من أبي عبد الله بن سَعْدون بَبلَنْسِيَةَ في شوّال وذي قَعْدةٍ من عام ستِّ وسبعينَ وأربع مئة، فلاحتمالِ أن يكونَ أبو بكرٍ هذا قد وُلد بالأندَلس فيُعدّ لذلك من أهلِها أشكَلَ أمرُه عندي، واللهُ يُطلِعُ على الجلاءِ فيه، وجعَلَه ابنُ الأبّار فاسيًّا، ووقَعَ عندَه اسمُ جَدِّه: مِنَ الله، مضبوطًا مجوَّدًا: مِنَ الله، هكذا على صيغة "مِن" حرف الجر (1)، والصّواب في ضبطِه ما ذكَرْتُه، وهو بفَتْح الميم وتشديد النُّون كما يُسمَّى بفَضْل الله ورِزْق الله وشِبهِهما، وكذلك وقَعَ عندَ أبي القاسم ابن المَلْجوم، وقَفْتُ عليه كذلك في نُسختَيْنِ من بَرنامَجِه وفي نُسخة من بَرنامَج أبي موسى ابن المَلْجوم فاعلَمْه. واللهُ الموفِّق.
121 -
محمدُ (2) بن عبد الوهَاب بن عبد الكافي بن عبد الوهّاب الأنصاريُّ، دِمَشْقيٌّ، أبو بكرٍ وأبو سَعْدٍ وأبو عبد الله، ابنُ الحَنْبليّ.
رَوى عن أبي الفَرَج ابن الجَوْزيّ، رَوى عنه أبو جعفر ابنُ الزُّبَير وأبو عبد الله بن أبي بكرٍ ابن رَشِيدٍ البغداديُّ الواعظ، وصاحبُنا أبو القاسم هبةُ الله
(1) هكذا قال، والذي في نسخة ابن الجَلّاب:"مَنّ الله" كما قيده المؤلف، فالله أعلم.
(2)
ترجمه عز الدين الحسيني في وفيات سنة 656 من صلة التكملة، فقال:"وفي الثاني عشر من ذي الحجة توفي الشَّيخ أبو المعالي وأبو اليُمن سعد، ويسمى محمدًا أَيضًا، ابن عبد الوهاب بن عبد الكافي بن عبد الوهَّاب بن عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الأنصاري الشيرازي الأصل الدِّمشقيّ المولد الحنبلي الواعظ الأطروش، ببلبيس، ودفن بها. ومولده بدمشق في صفر سنة ثمان وسبعين وخمس مئة"(1/ 404 - 405)، وترجمه ابن الزبير في صلة الصلة 3/الترجمة 26 حيث التقي به بمرسية سنة 651 هـ، ثم بغرناطة حيث استدعاه إلى منزله وسأله عن شيوخه فذكرهم له، والذهبي في تاريخ الإسلام 14/ 816، وابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 267، ولم يضبط ابن الزبير ولا ابن عبد الملك وفاته لبعد الشقة، وقيدها عز الدين الحسيني كما تقدم، وشطح قلم الناسخ أو ابن الزبير فذكر أنه كان شافعي المذهب.
ابن محمد بن أبي بكر بن سَعِيد بن عبد الغَفُور الأوْسيُّ، ولقِيتُه وجالَسْتُه كثيرًا، وسمعتُ وعظَه، وكان لا يكادُ يُفقَهُ ما يقولُ؛ لإفراط عُجمةٍ كانت في لسانِه، فلا يفهَمُه إلا من ألِفَه، وكان أصمَّ لا يكادُ يسمَعُ شيئًا (1)، فقيهًا حَنْبليَّ المذهب، آية من آياتِ الله في كثرةِ الحِفظ وحضورِ الذِّكْر وحَشْد الأقوال فيما يَجري بمجلسِه الوَعْظيِّ (2) أو يُحاضرُ به في غيرِه، سريعَ الإنشاء ناظمًا ناثرًا، مع الإحسانِ في الطريقتَيْن، جيِّدَ الخَطّ والكَتْب على كَبْرتِه.
وَرَدَ مَرّاكُشَ في وَسَط اثنتينِ وخمسينَ وست مئة. [وكان وقتَئذٍ ابنَ] ثمانينَ عامًا، ولم يكنْ في رأسِه ولحيتِه من الشَّيبِ إلا [شُعَيْراتٌ تدرَكُ بالعَدّ] والحَصْر.
وأخبَرني أنه عَرَضَ وهو ابنُ عشرينَ عامًا على أبي الفَرَج ابن الجَوْزيّ كتابَه "المنتخَب" عن ظهرِ قلب ببغداد.
وفَصَلَ عن مَرّاكُشَ ذلك العامَ [عائدًا إلى المشرق] واجتازَ بسَبْتةَ وقد كان دَخَلَها أولَ ذلك العام وأجازَ منها البحرَ إلى الأندَلُس مُطوِّفًا على البلاد يَعقِدُ فيها مجالسَ الوعظ.
(1) قال ابن الزبير: "وكان أصم شديد الصمم لا يكاد يسمع شيئًا البتة، إنما كنت أخاطبه بالكَتْب فيجيبني إلا في قليل فقد يفهم بالعين والإشارة".
(2)
وصف ابن الزبير مجلسه الوعظي فقال: "نبيل المنزع في وعظه، يفتتح مجالسه بالتفسير بعد الخطب، ويوسط بذكر شيء من أخبار الصالحين، وبعض فصول من كلام ابن الجوزي، ويختم بفصل من السير، هكذا أبدًا لا يخرج عن عادته فيه، مع إحراز التناسب والالتئام في الأغراض الثلاثة، وتفسيره في مجالسه على التوالي يبدأ اليوم من حيث انتهى أمس، ولا يغيب يومًا إلا لعارض، وكلامه في ذلك كله منتقى مستوفى يشهد بحسن اختياره وتقدمه في فنه ولم يكن عنده كتاب يستعين به على كل ما كان بسبيله فيما اطلعت عليه من حالة، سوى خطب من كلام شيخه أبي الفرج ابن الجوزي في سفر بخطه، مع تأليف له سماه: مصباح الواعظ، ذكر فيه من وعظ من الصدر الأول، وما ينبغي للواعظ ويلزمه إلى ما يلائم هذا مختصرًا جدًا، وقفت على هذا التفسير بجملته باستعارته منه". ثم أشار بعد هذا إلى "حرص كان فيه في باب التكسب بتحرفه الوعظي نفر عنه بعض أصحابنا".
وُلد بدِمشقَ في حدودِ [ثمانٍ وسبعينَ وخمس مئة] ، وتوفِّي ببلبيسَ، من مِصرَ، سنة سبع وخمسينَ وست مئة (1).
122 -
محمدُ (2) بن عثمانَ بن سَعِيد بن بقيميس -بباءٍ مَسْفول وقافٍ معقود وياءِ مَدّ وميم وياءِ مَدّ وسينٍ غُفْل- فاسيٌّ، أبو عبد الله.
أخَذ ببِجَايةَ عن أبي محمدٍ عبد الحقّ ابن الخَرّاط. رَوى عنه أبوا العبّاس: ابن الرُّوميّة وابنُ المُزَيّن. وكان فقيهًا حافظًا عالمًا بأصولِ الفقه مشرِفًا على مسائلِ الخلاف. توفِّي سنةَ ثمانٍ وست مئة.
123 -
محمدُ (3) بنِ عليّ بن أبي بكر بن عيسى بن حَّماد، ابنُ حماد الصُّنْهاجيُّ القَلْعيُّ، قلعةَ بني حَّماد، حَمْزيُّ الأصل، استَوطَنَ مَرّاكُشَ بأخَرةٍ، أبو عبد الله، ابن كلانونَ وابنُ حمادو.
تعلَّمَ القرآنَ العظيم عندَ القاسم بن النُّعمان بن الناصِر بن عَلا الناس (4) ابن حمّادٍ الصنْهاجيّ، وكان يتعيَّشُ بعدَ انقراضِ دولتِهم بتعليم كتابِ الله جل جلاله.
ورَوى عن أبي جعفر بن محمد بن عَيّاش بمُرْسِيَةَ، وآباءِ الحَسَن: ابن شُكر بن عُمرَ وابنَي المحمّدَيْن: ابن عبد الملِك ابن القَطّان وابن عثمانَ التَّميميِّ القَلْعيّ المُعمَّر، وأبي الحُسَين ابن زَرْقونَ بإشبيلِيَةَ، وأبي ذَرّ ابن أبي رُكَب، وآباءِ عبد الله: ابن أبي بكر بن عبد الله الحَمْزيّ وابن عبد الله بن محمد المَعافِريّ ابن الخَرّاط، وابن عبد الحقِّ التِّلِمْسَانيّ، وابن عليّ ابن مَخْلوفٍ بالجزائر،
(1) ذكرنا أنه لم يضبط وفاته، فالصواب في وفاته: الثاني عشر من ذي حجة سنة 656 هـ.
(2)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (1737)، والذهبي في المستملح (342) وتاريخ الإسلام 13/ 198.
(3)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (1746)، وفي تحفة القادم (المقتضب منه 135)، وابن الزبير في صلة الصلة 3/الترجمة 22، والغبريني في عنوان الدراية 252، والذهبي في المستملح (351) وتاريخ الإسلام 13/ 802 وسير أعلام النبلاء 22/ 211، ويحيى بن خلدون في بغية الرواد 1/ 112، وابن الجزري في غاية النهاية 2/ 159، والمراكشي في الإعلام 4/ 184.
(4)
وتكتب: "عَلَنّاس" أَيضًا.
وأبي العبّاس بن مبشّر بن سُرور مَوْلى الحمّاديِّينَ، وأبوَيْ محمد: عبدِ الحقّ ابن الخَرّاط ببِجَايةَ وغَلْبون بمُرْسِيَة.
رَوى عنه أبو بكرٍ محمدُ بن غَلْبون، وأبو الحُسَين بن عبد الله بن عبد الرّحمن السِّجِلْماسيُّ مُستوطِنُ أَزْمُور، وأبو عبد الله بنُ عليّ بن هشام شيخُنا، وأبو العبّاس ابن فَرتُون، وأبوا محمد: ابن عبد الرّحمن ابن بُرطُلّه، وابن موسى الرُّكَيْبيُّ.
وكان أديبًا، بارعَ النّظم والنّثر، نَزِهَ النَّفْس، حَسَنَ الخُلُق، ذا حظّ صَالح من الفقه وأصُولِه، متحقَقًا بالنّحو، متقدِّمًا في حفظِ اللّغاتِ والآداب، ضابطًا كُتبه، محافظًا عليها، جيِّدَ الخَطّ، كتَبَ الكثيرَ وأتقَنَ تقييدَه، ولم يزَل النَّاسُ يتنافسونَ فيما يوجَدُ بخطِّه أو بمعاناتِه، ويعتمدونَه، وصنَّف في اللّغاتِ والتاريخ والآدابِ وما جَرى مجرى ذلك مصنَّفاتٍ، منها:["الإعلام بفوائدِ الأحكام"] لعبد الحقّ، و"شرْحُ قصيدةِ عُمرَ بن أبي ربيعةَ: أمِن آلِ نُعْم"، و"شرحُ: مقصورةِ ابن دُرَيْد"، و"الدُّبَاجة في أخبارِ صُنْهاجة"، وهذا الكتابُ غيرُ "النُّبَذ المحتاجة في أخبارِ صنْهاجةَ بإفريقيّةَ وبِجَاية". وديوانُ نَظْمِه ونَثرِه حافل، [وقد وقَفْتُ عليه] ومنه جزءٌ سمّاه "عُجالةَ المودعِّ، وعُلالةَ المشيِّع"، وكلُّه أو جُلُّه صَدَرَ [عنه أيامَ] كونِه بمُرْسِيّةَ، أفاد به بعضُ أصحابِه، وسَمّط قصائدَ وقِطَعًا [لجماعةٍ من] الشّعراء ظهَرتْ فيها إجادتُه، وعَكَفَ عامَّة عُمرِه على استفادةِ العلم [وإفادتِه]. واستُقضيَ بالجزيرة الخَضْراء وبسَلا سنةَ ثِنتَيْ عشْرةَ وست مئة، وبأَزْمُور (1)[كما] استُقضيَ بمُرْسِيَةَ، فحُمدت فيها كلِّها سِيَرهُ، وشُكرت أحوالُه، وعُرِف بالعدل وتمشيةِ الحقّ والجَزالةِ والطّهارة.
(1) في مفاخر البربر: 65 أنه ولي قضاء أزمور في مدة أمير المؤمنين المستنصر، وذلك في سنة 616 هـ وفي الروض المعطار (مادة أزمور) حكايته وقعت بينه وبين محمد بن عقيل بن عطية وقد مر هذا بالمترجم وهو قاض بأزمور فلم يحسن لقاءه فعاتبه ابن عطية بقصيدة جيدة أولها:
ألا أيها القاضي الذي خلت عهده
…
تحول الليالي وهو ليس يحول
وفي صلة الصلة أن المترجم "ولي قضاء رباط تازا".
ومن نَظْمِه -وكتَبَ به من مُرْسِيَةَ إلى أبي عبد الله بن عبد الحق (1) التّلِمْسانيِّ شاكرًا له على إجازةٍ بعَثَ بها إليه-[من الكامل]:
يَا أيُّها النَّدْبُ السَّرِيُّ الأمجدُ
…
والعالِمُ الحَبْرُ الفقيهُ الأوحدُ
يَا أيُّها البحرُ المحيطُ مَعارفًا
…
لا تنتهي، وفوائدًا لا تنفَدُ
وصلتْ إجازتُك المُجيزةُ سيّدي
…
نحوَ الذي أنحو إليه وأقصِدُ
إنّ الدِّرايةَ والروايةَ منتهَى
…
أملي الذي أسعَى إليه وأحفدُ
لازلتَ لي متفضِّلًا فأجَزْتَني
…
بفوائدٍ يفنَى الزمانُ وتَخلُدُ
فجزاك عنّا اللهُ خيرَ جزائهِ
…
فجزاءُ مثلِك عندَنا لا يوجدُ
ووَدِدتُ لو أنّي لديك، وأين مِن
…
ظمآنَ في البِيدِ البَلاقِع موردُ
ولقد لقِيتُك لُقيَةً لكنّها
…
كانت كما أغفَى وهَبَّ مسهّدُ
لم تشفِ لي كمَدًا وأنّى يُشتفَى
…
بزيارةِ الطّيفِ المسهّدِ مُكمَدُ
فإن استمرّت بي الحياةُ لقيتُكمْ
…
حتمًا، وإلا فالمعادُ الموعدُ
لا زِلتُمُ في عِزّةٍ وسعادةٍ
…
ما لاحَ في جُنح الدُّجُنّةِ فرقَدُ
توفِّي بمَرّاكُشَ بعدَ خَدَر أصابَه سنةَ تسع وعشرينَ وست مئة.
124 -
محمدُ (2) بن عليِّ بن جعفرِ بن أحمدَ بن محمد القَيْسيُّ، قلعيّ -قلعةَ بني حَمّاد- استَوطنَ فاسَ، أبو عبد الله، ابنُ الرَّمّامة.
لقَبٌ جَرَى على أحمدَ جَدِّ أَبيه في قولِ أبي محمد بن الياسَمِين (3)، ونقَلتُه
(1) هو الذي تقدمت ترجمته آنفًا (رقم 118).
(2)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (1724)، وابن الزبير في صلة الصلة 3/الترجمة (9)، والذهبي في المستملح (331) وتاريخ الإسلام 12/ 381.
(3)
لعله أبو محمد عبد الله ابن الياسمين العددي وترجمته في التكملة (2207) والغصون اليانعة: 42، والذخيرة السنية: 39، وجذوة الاقتباس رقم 444، وقد ذُكر في الآخذين عن المترجم.
[من خطِّه، ونقَلَ ابن فَرتُونَ] عن بعضِ حَفَدةِ أبي عبد الله أنه أخبَرَه [أنّ الرَّمّامةَ: امرأةٌ نُسِب] إليها، والنفْسُ إلى قول ابن الياسَمين أميَل لنُبلِه (1) وحَذْقِه.
رَوى أبو [عبد الله عن خالِه أبي] الحُسَين بن طاهر بن محشوّة (2) بالجزائر، وصِهرِه أبي إسحاقَ (3) بن حَمّاد [وأبي عبد] الله بن الطيِّبِ بن أبي الحَسَن الكَلْبيِّ، وأبي الفَضْل يوسُفَ بن محمد [ابن النَّحْويّ] ولازَمَه وتفقَّه عندَه وبه انتفَعَ وإيّاه اعتَمَد، وأبي محمدٍ عبد [الله المقري](4) -ولم يذكُرْ أنَّهم أجازوا له- وأبي بكرٍ ابن العَرَبي، وأبي حَفْص بن أحمد [التَّوزَريِّ] ، وأبي الوليد بن رُشْدٍ الكبير -وشَكّ في إجازتهم له-. وأكثرَ عن أبي بحرٍ الأسَديِّ [وأجاز له].
وكتَبَ إليه مُجيزًا ولم يَلْقَهُ: أبو محمد بنُ عَتّاب، وأبو الوليد بنُ طَريف - وقد قال ابنُ الأبّار: إنه لقِيَهما- وأجاز له أبو الحَسَن عليُّ بن جعفرٍ السَّعديُّ ابنُ القَطّاع بإفادةِ أبي حفص ابن فُلفُل.
رَوى عنه أبوا إسحاق: ابنا المحمّدَيْنِ: ابن عبد الله الفِهْرِيّ والأنصاريُّ أبو شامةَ، وآباءُ الحَسَن: ابن محمد بن خِيَار وابن عَتِيق بن مؤمن وابن موسى ابن النَّقِرات، وأبو ذَرّ الخُشَنيّ، وأبو الرّبيع بن مَهْدي السَّرَقُسْطيُّ، وأبو زكريّا بن عبد العزيز بن عَزّون، وأبو الطيِّب عَنْبرٌ مولى عبد الله بن مقر البادِسيُّ، وآباءُ عبد الله: ابنا الإبراهيمَيْنِ: ابن محمد أبو شامةَ -والدُ أبي إسحاق المذكورُ آنفًا- وابن البَقّار، وابن أبي درقةَ وابن قاسم بن عبد الرّحمن بن عبد الكريم، وأبو القاسم ابن بَقِيّ، وأبَوا محمد: سَالمُ بن محمد وابن محمد ابن الياسَمِين،
(1) قد يستغرب هذا الوصف في حقه مع ما وُصم به من شذوذ، قال ابن الأبار: ولم يكن مرضيًّا، ويبدو أن المؤلف هنا يفرق بين علمه وسلوكه.
(2)
في الأصل: "محشرة"، وما أثبتناه من التكملة، وترجمته في صلة الصلة 4/ 315.
(3)
اسمه إبراهيم، وهو مترجم في التكملة الأبارية (456)، والمعجم في أصحاب الصدفي (45)، وهو قلعي أَيضًا.
(4)
ذكر ابن الزبير أنه من مقرة ببلاد إفريقية، أما ابن الأبار فذكر أنه روى عن أبي محمد المقرئ ببجاية.
وأبو يحيى أبو بكر ابنُ المَوّاق. وحدَّث عنه بالإجازة أبو الحَسَن بن المُفضَّل المَقدِسيُّ.
وكان حافظًا للفقه نَظّارًا فيه بارعًا في معرفة أصُولِه ماهرًا في استنباطِ معانيه، شافعيَّ المذهب مُعَوِّلَا على "بسيط" الغَزّاليِّ واقفًا على عيونِه، مبرِّزًا في الكلام على [نُكَتِه] متقدِّمًا في الفَضْل والوَرَع والتواضُع والنّزاهة والوقار وحُسن الخُلُق وعُلُوِّ الهمة والانقطاع إلى العلم، وإيثار طلّابِه، وحثّهم على طلبِه.
وشُهِرَ فضلُه فاستَخلصَهُ أميرُ المسلمينَ أبو الحَسَن عليُّ بن يوسُف بن تاشَفين، فكان من أخصِّ حاضِري مجلسِه لديه.
ثم قَدَّمه للقضاءِ بفاسَ سنة ثلاث وثلاثين (1) وخمسِ مئة فتقَلّده، وسار فيه أحمدَ سيرة، واشتدَّت وَطْأتُه على المُفسِدينَ والذَّعَرة المُعتدين (2)، وبرَّزَ في إظهار الحقِّ والعدل والإنصاف والتسوية بين الأقوياءِ والضُّعفاء والمشروفينَ والشُّرفاء، واستمرّ على ذلك من حالِه مدّة، ثم [أُخِّر عن القضاءِ لا لِزلّة] لحِقَتْه ولا لرِيبةٍ تعلَّقت به (3)؛ وأقبَلَ على نشرِ العلم [والانتصابِ لإفادتِه] والجلوس للإقراء والإسماع، محتمِلًا مشَقّةَ التدريس [على كِبَرِ سنِّه] رغبةً في بثِّ العلم، وتحريضًا وإعانة لمُلتمِسيهِ. وكان [أكثرَ] أصنافِ الناس قاطبةً قضاءً للحوائج بارًّا بقاصِديه؛ وكانت الدِّرايةُ أغلبَ عليه من الرّواية؛ إذْ لم يتنبَّهْ لها إلّا في سِنِّ الكهولة؛ وقد أدرَكَ وعاصَرَ جملةً وافرةً من أكابرِ الشيوخ فلم يُعْنَ بالرّوايةِ عنهم لشَغَفِه بالعلوم النَّظرية وعَكَفَ على تحصيلِها حتى صار (4) رأسًا فيها فكان لذلك قليلَ الرواية.
(1) في التكملة: "ست وثلاثين".
(2)
في صلة الصلة إشارة إلى موقف له من اليهود في فاس حيث منعهم من شراء أرض وبنائها.
(3)
كلام المؤلف مخالف لقول ابن الأبار: "وكان غير صالح للخطة لضعفه فلم تحمد سيرته مع أنه لم تلحقه زلة ولا تعلقت به ريبة".
(4)
في الأصل: "سار".
وله مصنفاتٌ، منها:"تسهيلُ المَطْلب في تحصيل المذهب"، و"التفَصِّي عن فوائد التقَصِّي"(1)، و"التبيين في شَرْح التلقين"(2)، ومختصَرٌ نبيلٌ في أصُولِ الفقه (3).
وُلد في رجبٍ أو شعبان -وهو كان الغالبَ على ظنِّه- سنةَ تسع وسبعينَ وأربع مئة. وقال أبو عبد الله ابنُ أبي درقةَ: إنّ مولدَه في رجبِ ثمانٍ وسبعينَ، وقال: هكذا أخبرَني عن مولدِه، وتوفِّي بفاسَ قبلَ الزَّوال أوَ عنده من يوم الاثنين لتسع بقِينَ من رجبِ سبع وستّينَ وخمس مئة، وصَلّى عليه القاضي بها حينَئذٍ أبو حَفْص بنُ عُمرَ بوصيّةٍ منه بذلك إليه، ودُفن بمقبُرة بابِ الجازيِّينَ (4) ، وكان الحفلُ في جنازتِه عظيمًا والثناءُ عليه جميلًا والأسَفُ لفَقْدِه كثيرًا طويلًا، رحمةُ الله عليه.
125 -
محمدُ (5) بن عليِّ بن الحَسَن بن عليّ التَميميُّ الغَوْثيُّ، قَيْرَوانيٌّ سَكَنَ صَقِلِّيَةَ، أبو بكر، ابنُ البَرّ وكان جَدُّ أَبيه هو المدعوَّ بالبَرّ.
رَوى عن أبي سَعْد أحمدَ بن محمد بن أحمدَ بن عبد الله بن حَفْص بن خليل بن عبد الله بن إبراهيمَ المالِينيِّ، وأبي سَهْل محمد بن عليّ المَرْوَزيّ، وأبي
(1) التقصي لإبن عبد البر.
(2)
التلقين للقاضي عبد الوهاب البغدادي.
(3)
وذكر له ابن الزبير اختصار الاحياء للغزالي.
(4)
باب الجازيين كما هنا أو الجيزيين كما في مواضع أخرى، هو أحد أبواب عدوة الأندلس، وذكر ابن القاضي في الجذوة أنه "هو باب الحمراء عند الناس اليوم".
(5)
ترجمه ابن نقطة في إكمال الإكمال 1/ 288، وابن دحية في المطرب 159، والقفطي في إنباه الرواة 3/ 190، وابن الأبار في التكملة (1721)، والرعيني في برنامجه 136، والذهبي في المستملح (329)، وتاريخ الإسلام 10/ 133، والمشتبه 55، واليمني في إشارة التعيين 332، والفيروزآبادي في البلغة 208، وابن ناصر الدين في توضيح المشتبه 1/ 401، وابن حجر في تبصير المنتبه 1/ 73، والسيوطي في بغية الوعاة 1/ 178، وسواهم.
عليّ صَالح بن إبراهيمَ بن رِشْدِين -لقِيَه بمِصرَ سنةَ ثلاثَ عشْرةَ وأربع مئة- وأبي عِمرانَ موسى بن عيسى بن أبي حاجّ الغَفْجوميِّ الفاسيّ، وأبي القاسم ابن سَيْف، وأبوَيْ محمد: إسماعيلَ بن محمد بن عَبْدُوس، وعبدِ الوهاب بن عليّ بن نَصْر بن أحمدَ بن الحَسَن بن هارونَ بن مالكِ بن طَوْق، وأبي يعقوبَ يوسُفَ بن يعقوبَ بن إسماعيلَ بن خُرَّزاذ النَّجِيرَميّ.
رَوى عنه أبو بكرٍ محمدُ بن سابقٍ الصِّقِلِّي، وأبو الحَسَن عليُّ بن حَسَن بن مُهذَّب الرَّبَعي، وأبو الطيِّب عبدُ المُنعم بن مَنِّ الله ابن الكَمّاد، وأبو العَرَب الصِّقِلِّي، وآباءُ القاسم: زَيْدونٌ وعبدُ الرّحمن بن عُمرَ القَصْديريُّ وعليُّ بن جعفرٍ السَّعديُّ، وأبو محمدٍ عبد الله بن إبراهيمَ الصَّيْرَفيُّ.
وكان متحقِّقا بعلوم [اللُّغة والأدبِ] جيِّدَ الخَطّ، محُكَم الضَّبط، مقيِّدًا مُفيدًا، أكثَرَ من ضمِّ [الأصُول وعُنِيَ] بالبحثِ عنها حتى جَمَعَ منها ما لم يجمَعْه غيرُه.
وقَدِمَ الأندَلُسَ عامَ ستّينَ أو نحوَه، ووقَفْتُ على خطِّه بالرّواية عنه مؤرَّخًا بجُمادى الأولى سنةَ إحدى وستينَ وأربع مئة.
قرأتُ على شيخِنا أبي الحَسَن الرّعَيْنيِّ، رحمه الله، ونقَلتُه من خطِّه: أنشَدَني رحمه الله وكتبَه لي بخطِّه -يعني أَبا جعفر بنَ عبد المجيد ابن الجَيّار- قال: أنشَدَني ابنُ الفَخّار، قال: أنشَدَني ابنُ العَرَبيّ قال: أنشَدَني أبو بكرٍ محمدُ بن سابقٍ الصِّقِلِّيُّ قال: قال لي أبو بكرٍ ابنُ البَرّ: أتيتُ القاضيَ أَبا محمد عبدَ الوهّاب بنَ عليّ بن نَصْر بالمسجد الجامع بمِصرَ، فقلتُ له: يَا سيّدَنا الإِمام أَنْتَ القائل [من المتقارب]:
تمَلَّكتَ يا مُهجتي مُهجتي
…
وأسهَرْتَ يا ناظري ناظري
وما كان ذا أمَلي يا ملولُ
…
ولا خَطَرَ الهَجْرُ في خاطري
فجُدْ بالوِصالِ فدَتْك النُّفوسُ
…
فلستُ على الهجرِ بالقادرِ
وفيك تعلّمتُ نَظْمَ الكلامِ
…
فلقَّبَني النَّاسُ بالشاعرِ؟
فقال: يَا أَبا بكر، دع ذا، فإنه كان في أيام الصِّبا.
قال أبو عبد الله بنُ أبي الفَضْل عِيَاض -وقد أورَدَ هذه الحكايةَ عن ابن العَرَبي بسندِه-: هذه الحكايةُ نقلتُها من خطِّ المحدِّث أبي الوليد ابن الدَّبّاغ، والشّعرُ في كتاب "اليتيمة" للوَأْواء. قال شيخُنا أبو الحَسَن رحمه الله: الذي ثَبَتَ منه في "اليتيمة" منسوبًا لأبي الفَرَج محمد بن أحمدَ الغَسّانيِّ الدِّمشقيِّ الملقَّب بالوأواءِ بيتانِ وهما: "تمَلَّكتَ يَا مهجتي" البيتَ، "وفيك تعَلَّمتُ نظمَ الكلام" البيتَ، خاصّة. وقد حدَّث غيرُ واحد من المشيَخة بالحكاية عن القاضي أبي بكرٍ ابن العَرَبيّ حسبَما سَردتُها أولًا. انتهى المنقولُ من خطِّ أبي الحَسَن الرُّعَيْنيِّ رحمه الله.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: وقد ذَكَرَ هذه الحكايةَ أبو عبد الله ابنُ الأبّار فقال: وقرأتُ بخطِّ شيخِنا أبي عبد الله بن نُوح: أخبَر أبو بكرٍ ابنُ العَرَبيّ قال: أخبرنا محمدُ بن سابقٍ الصقِلِّيّ، قال: أخبرنا أبو بكرٍ ابن البَرّ، قال: قلتُ لعبد الوهّاب ابن عليّ بن نَصْر القاضي: أَنْتَ القائلُ: "تملّكتَ" الأبياتَ؟ فخَجِلَ وقال: دَعْ هذا يَا أَبا بكر، فإنّها أخبارُ الصِّبا. قال ابنُ الأبّار: وقد أجازَ لي ما رواه ابنُ العَرَبيّ وألّفَه القاضيانِ أبو بكرٍ ابنُ أبي جَمْرةَ وأبو الخَطّاب بن واجِب [عنه، وَيروي ابنُ أبي جَمْرةَ] منهما عن أبي القاسم ابن وَرْد، عن محمد بن سابق الصِّقِلِّيِّ جميع ما ألَّفه ورَواهُ.
قال ابنُ الأبّار: وحدّثني الخطيبُ أبو محمدٍ عبد الله بن عبد الرّحمن الأَزْديُّ، والفقيهُ أبو العبّاس أحمدُ بن مُعاويةَ السُّلَميُّ بتونُسَ، وأنشَداني، قالا: حدّثنا القاضي أبو محمد بنُ حَوْطِ الله وأنشَدَنا، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمدُ بن إبراهيمَ بن خَلَف بن أحمد -هو ابن الفَخّار- وأنشَدَنا، قال: حدّثنا أبو بكر محمدُ بن عبد الله ابن العَرَبيّ، وأنشَدَنا، قال: أنشَدَنا [أبو بكر ابنُ البَرّ، قال: أنشَدَنا](1)
(1) ما بين المعقوفتين ساقط في الأصل، وهو في التكملة، وسببه قفز الناسخ وسهوه.
أبو بكر الجَزِيريُّ، وأخبَرنا، قال: أتيْتُ القاضيَ أَبا محمد عبدَ الوهّاب في المسجد الجامع بمِصرَ، فقلتُ له: يَا سيّدَنا الإِمام، أَنْتَ القائلُ؟ وذَكَرَ الأبياتَ إلى آخِرِها، فقال رضي الله عنه: يَا أَبا بكر، دع هذا، فإنهُ كان في أيام الصِّبا. قال ابنُ الأبّار: كذا سمِعتُ بلفظِ هذَيْنِ الشَّيخَيْنِ هذه الحكاية، وعلى ما في هذا الإسناد من رواية ابن العَرَبيّ عن ابن البَرّ كتبتُها عنهما، وهو غَلَطٌ لا شكَّ فيه؛ لأنه لم يلقَهُ ولا سَمِعَ منه، قال ابنُ الأبّار: وعندي أنّ أَبا بكر الجَزِيريَّ هو: محمدُ بن سابِق الصِّقِلِّي، نُسِب إلى جزيرة صَقِلّيةَ ويُكنَى أَبا بكر، ولا روايةَ له عن عبد الوهّاب، وهو مذكورٌ في "الصِّلة"(1)، فأخَّره وقَدَّم ابنَ البَرّ مَن لا يَعرِفُ زمانَهما ولا تَهدَّى إلى الفرقِ بينَهما، ولعلّ ذلك من قِبَل ابن الفَخّار وغفَلَ عنه ابنُ حَوْطِ الله. قال ابنُ الأبار: وقد وجدتُ بعضَ أصحابِنا يَروي الأبياتَ عن أبي جعفر بن عبد المجيد الحَجريِّ المالَقيّ، قال: أنشَدَني الحافظُ أبو عبد الله بنُ إبراهيمَ ابن الفَخّار قال: أنشَدَنا ابنُ العَرَبيّ قال: أنشَدَنا أبو بكرِ الجَزِيريُّ قال: أنشَدَني أبو بكر ابنُ البَرّ. وذكَرَ الأبياتَ ورواها كما أورَدَها ابنُ نُوح على الصواب.
قال المصنّفُ عَفَا اللهُ عنه: جعْلُ ابنِ الأبّارِ الوَهَمَ في قلبِ هذا الإسناد من قِبَل [ابن] الفَخّار لا وَجْهَ له عندي. فقد رواهُ عنه على الصّواب أبو جعفر بنُ عبد المجيد كما نابه أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ، ووجَدَه ابنُ الأبار من رواية بعض أصحابِه عنه حسبَما ذَكَرَ ذلك كلَّه، وَيبعُدُ أَيضًا توارُدُ الخطيبِ أبي محمد بن بُرطُلة والفقيهِ أبي العبّاس بن معاويةَ على هذا الوَهَم فالحَمْلُ فيه عندي بمقتضَى هذا الإيراد على أبي محمد بن حَوْطِ الله، واللهُ أعلم.
قال المصنفُ عَفَا اللهُ عنه: هذا الذي حَدَسْتُه أولًا على أبي محمد بن حَوْطِ الله قد وقَفْتُ عليه ثانيًا، فكذلك ثَبَتَ في مُسلسَلاتِه بخطِّه، [وقد وقَفَ على هذا] الخطِّ أبو محمدٍ ابنُ بُرطُلة كما وقَفْتُ عليه بخطِّه أَيضًا [....] والحمدُ لله، وما هي بأوّلِ
(1) الترجمة (1325).
نِعَمِ الله عليّ، أوزَعَنا اللهُ شُكرَ نِعَمِه، ووقَفْتُ في بعض مُعلَّقاتي على بيتٍ قبلَ: "وفيكَ تعَلَّمتُ، وهو [من المتقارب]:
[نثَرتُ الدُّموعَ] نظَمْتُ الكلامَ
…
فسُمِّيتُ بالناظم الناثرِ (1)
واعلَمْ وراءَ ذلك، أنّ هنالك في طبقةِ شيوخ ابن العَرَبي أَبا بكرِ وأبا عبدِ الله محمدَ بنَ عبد الله ابن البَرّ (2) الجَزِيريَّ -الجزيرةَ الخَضْراء- شيخٌ مُسِنٌّ يَروي عن أبي بكرِ ابن [المَرْشانيّ]. رَوى عنه أبو الفَضْل عِيَاضٌ، فقد يُوهِمُ أنه الواقعُ في هذا الإسناد برواية ابن البَرّ عنه وليس به.
126 -
محمدُ (3) بن عليِّ بن عبد الكريم الفَنْدَلاويُّ -بفتح الفاءِ وسُكون النّون وفَتْح الدال الغُفْل ولام أَلْفٍ وواوٍ منسُوبًا- فاسيٌّ، أبو عبد الله، ابنُ الكَتّانيِّ، بفَتْح الكاف وتشديدِ التاء وألفٍ ونون منسوبًا.
أخَذَ عن أبي عَمْرٍو عثمانَ بن عبد الله السّلالقيِّ (4). رَوى عنه أبو الحَجّاج
(1) لأبي زَيْد الفازازي قطعة في معارضة القطعة التي أكثر المؤلف من الكلام في سند روايتها ومما جاء في قطعة الفازازي:
نظمت الغرام نثرت الدموع
…
فسميتُ بالناظم الناثر
برنامج الرعيني: 138.
(2)
كذا في الأصل، وعند المؤلف في السفر السادس (717) والتكملة (1170)، والغنية للقاضي عياض (15)، وبغية الوعاة 1/ 150 نقلًا عن ابن الزبير في الصلة وابن غالب في فرحة الأنفس وابن مكتوم أنه محمد بن عبد الله بن البراء وفي البغية المطبوعة "الفراء"، فخلط بينه وبين النحوي.
(3)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (1732) وسماه: "محمد بن عبد الكريم الفندلاوي" فكأنه نسبه إلى جده وتبعه من نقل عنه، والتادلي في التشوف 335، والذهبي في المستملح (338)، وتاريخ الإسلام 12/ 1183، وابن القاضي في جذوة الاقتباس 1/ 220، وينظر: سلوة الأنفاس 3/ 173، والأنيس المطرب 270، ومفاخر البربر 71. وهو منسوب إلى فندلاوة من جبال بني يازغة.
(4)
القاف فيها بدل الكاف الأعجمية ولذلك ترسم "السلالجي" أيضًا.
المُكَلاتيَّ (1)، وآباءُ الحَسَن: الحَضْرميّ، والشارِّيَّ (2)، وابنُ القطَّان، وآباءُ العبّاس: ابنُ عبد المؤمن، وبنو المحمّدِينَ: الأَزْديُّ والبَكْريُّ والشَّرِيشيُّ والعَزَفيُّ وابنُ تامتيت، وأبو عليّ عُمرُ بن عبد المجيد الرُّنْديُّ، وأبو محمدٍ الناميسيّ (3).
وكان متحقِّقًا بعلم الكلام، متقدِّمًا في معرفةِ أصُول الفقه، ذا حظٍّ صالح من علوم اللّسان وقَرْض الشّعر. وله رَجَزٌ مشطورٌ مزدوَج في أصُول الفقه مُستنبَل (4).
وكان زاهدًا وَرِعًا فاضلًا منقبِضًا عن الملوكِ وأبناءِ الدّنيا منقطعًا إلى العبادةِ والاجتهاد في الأعمال الصّالحة والانتصابِ لإفادةِ العلم والتدريس.
واكتفَى في معيشتِه بالقليل، وقد عُرِضت عليه الدّنيا غيرَ مرّة فما أجابَ إلى شيءٍ منها ولا غَرّتْه. وكان المنصُورُ من بني عبد المؤمن قد رَغِبَ في أن يكونَ من طلَبةِ مجلسِه، فما قَدَرَ عليه البتّةَ.
(1) ستأتي ترجمته، انظر رقم 229.
(2)
قال الشاري: أخذت عنه جملة وافرة من "إرشاد" أبي المعالي و"تلخيصه" تفهمًا وسمعت عليه رجزه وانظر سند ابن رُشيد السبتي في رواية هذا الرجز أو الأرجوزة كما يسميها، وأولها:
الحمد لله الحكيم الفاعل
…
مبتعث الرسل لقمع الباطل
أعلم بأن الفقه في اللسان
…
العلم من غير اعتبار ثان
وهو في اصطلاح أهل الشرع
…
علم بحكم ثابت بالقطع
ثم أصوله على المواضعهْ
…
أدلة تفضي أيها قاطعهْ
رحلة ابن رشيد 2/ 266.
(3)
لم يعدَّ المؤلف منهم أَبا الحسن علي بن محمد المعروف بابن العطار، انظر ترجمته في التشوف رقم (263).
(4)
نسب إليه الأخباريون المتأخرون كتاب "المستفاد" ومنهم ابن القاضي في الجذوة والجزنائي في "جنى زهرة الآس" وابن جعفر الكتاني، وليس له وإنما هو لأبي عبد الله محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الذي سترد ترجمته فيما بعد، وقد التبس الأمر على المذكورين بسبب الاتفاق في الاسم والكنية، والتشابه في الجد الأعلى عبد الكريم، والاشتراك في النسبة الفاسية، والمعاصرة.
حدّثني الشّيخُ أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ رحمه الله قراءةً عليه، قال: حَدَّثَنَا الشّيخُ السُّنيُّ أبو العبّاس العَزَفيُّ إجازةً إن لم يكنْ سَماعًا، قال: حدّثني الشّيخُ الأجَلّ أبو العبّاس أحمدُ بن عليّ القَنْطَريُّ أحدُ شهودِ بلدِنا، عن القاضي أبي الحَسَن ابن قاضي الجماعةِ أبي موسى عيسى بن عِمران، أنه قال له بإشبيلِيَةَ: سألَ اليومَ سيّدُنا أميرُ المؤمنينَ المنصُورُ أَيَّده اللهُ ونَصَرَه عن الفقيه [أبي عبد الله ابن الكَتّانيّ] سؤالَ مَن يَستدعيه وَشيكًا، وأظُنُّه قد وَجَّه عنه. ثم [بَلَغَني من غير واحد من أهل التاريخ و] معرفتِه أنّ مشيَخةَ أهل فاسَ تلقَّوْهُ عندَ قفولِه إلى العُدْوة بمقرُبةٍ من شَرِيش
…
فسَلَّموا عليه، فقال لهم: أفيكم ابنُ الكَتّانيّ؟ فقالوا له: لا، ثم أجاز البحرَ، وأمَرَ على أهل فاسَ بالتقَدُّم وعَرَّفَهم أنه يَستقبِلُ بلادَهم، ثم تلقَّوْه إلى وادي [سبو](1) فسَلَّموا عليه، فقال لهم: أفيكم أبو عبد الله الكَتّانيّ؟ قالوا له: لا، ثم تَلقّاه قليلٌ منهم [بالقُرب من فاسَ يتَقدَّمُهم] جماعتُهم فيهم أبو الحَسَن بنُ خِيَرةَ (2)، فقال لهم مثلَ ذلك، فقالوا له: لا، ثم دَخَلَ فاسَ، كلأها اللهُ، وهو بها، فسألَ عنه فعَرَفَ أنه شاكٍ، فوَجّه إليه أطبّاءه ليَنظُروا في علاجِه، ثم رَحَلَ عن فاسَ ولم يلقَهُ.
توفّي بفاسَ ضُحى يوم الجُمُعة لأربعَ عشْرةَ ليلةً خَلَتْ من ذي الحجة سنةَ سبع وتسعينَ (3) وخمس مئة. وصَلّى عليه أبو يحيى أبو بكر (4) بنُ خَلَف ابن المواق.
(1) غير واضحة في الأصل.
(2)
كذا في الأصل، ولعله تحريف والصواب: ابن خيار. وقد تقدمت ترجمته في هذا السفر.
(3)
عند ابن أبي زرع: كانت وفاته في العشر الأواسط من ذي الحجة منها (أي من سنة 595 هـ) وفي التكملة: سنة ستٍّ وتسعين وخمس مئة، وفي الجذوة: سنة خمس وتسعين وخمس مئة، وفي التشوف: عام سبعة وسبعين وخمس مئة، ويبدو أن عدد سبعين محرف عن تسعين.
(4)
في الأصل: أبو موسى بن خلف ابن المواق، ولا شك أن الكنية المذكورة تحريف من الناسخ، وفي التشوف:"وصلى عليه الفقيه أبو يحيى أبو بكر بن خلف الأنصاري المعروف بالمواق" وعند ابن أبي زرع: وشهد أمير المؤمنين جنازته.
127 -
محمدُ (1) بن عليٍّ ابن العابد، فاسيٌّ، أبو عبد الله، ابنُ العابد.
قَدِمَ الأندَلُسَ في حدود الثلاثينَ وست مئة، وارتَسمَ بالكتابة عن الأمر أبي عبد الله بن يوسُف بن نَصْر ابن الأحمر. وكان كاتبًا مُحسِنًا، شاعرًا مطبوعًا، تلبَّس حينًا بعَقْد الشّروط والكَتْبِ عن قاضي الجماعة أبي الحَسَن بن محمد بن أبي عشَرةَ الفاسيِّ (2) بمَرّاكُش، وإيّاه فاتَحَ أبو عبد الله ابنُ الجَنّان بالرّسالة العَيْنيّة حسْبَما مَرّ ذكْرُ ذلك في رَسْمِه (3).
قال أبو القاسم عبد الكريم بن عِمران: كتبتُ إليه أستَقرِضُه بعضَ قريضِه بعدَ أن شافهْتُه بذلك ووعَدَ به فمَطَلَ [من الطويل]:
إذا الشّعرُ وافَى في شعار ابن عابدٍ
…
تقاصَرَ فيه الوَصْفُ عن حُسن موصُوفِ
سَبَى مُهَجَ الرائينَ لألاءُ لؤلؤٍ
…
له فوقَ أجيادِ الإجادةِ مرصُوفِ
ورَقّ نسيمًا فانتَشِق لهبوبِهِ
…
شَذا وَرَقٍ من جنّة الخُلدِ مخصوفِ
يُولّدُ في أهل الوقارِ سَماعُهُ
…
خفوفَ اهتزازٍ مثلَ ما شطح الصُّوفي
لئن زان تأليفي ببعضِ قريضِهِ (4)
…
لقد تُجتَلَى الحسناءُ في خَشِن الصُّوفِ
أيُّها الشاعرُ المُفلِق، قولةَ مُنصِف لا متملِّق، بَقِيتَ وللعُصُر بك اختيال، ولزَهْر الآدابِ من خمائل شمائلِك انثيال، ومهما ذكرَ القريض، بتصريحٍ أو بتعريض، فالناسُ فيه على براعتِك عِيال، اقتضَى الودُّ الذي لم نزَلْ نتعاطاه تعاطيَ الجِريال، والاعتدادُ [بالأُخوّةِ التي لم نفتَأْ] نجُرُّ في مجَرّة برودِها سابغةَ الأذيال، أن أهُزَّ
(1) له ترجمة في الإحاطة 2/ 287، وجذوة الاقتباس رقم (203)، وقيل الابتهاج: 254، 305. وولده محمد الكاتب من بعده له ترجمة في الإحاطة 2/ 281. وانظر أيضًا اللمحة البدرية:53.
(2)
تقدمت ترجمته في هذا السفر رقم (11).
(3)
انظر السفر الخامس، الترجمة (636).
(4)
في الأصل: "فريضة".
عِطفَ انطباعِكمُ [المختال، وأستمِدَّ] عُنصرَ طِباعِكم السَّيّال، وأتقاضَى منكم دَيْنًا ما أحملُ اللومَ [فيه إلا على] صَرْفِ اللّيال، فبعثتُ بهذه الرُّقعة على ما تَرَوْنَ بها من جَدْبِ [أديمِها، فليس لمُنتجع] في مُصُوح هشيمِها مراد، ولا لمتطلِّع في تصفُّح مرسُومِها [مُستفاد، ....] بخواطِوها شوقًا لمَواطِوِها رَقَصَ الآل، تشيرُ بمعطَّل جِيدِها، [إلى ناظم] قلائدِ النَظم ومُجيدِها، إشارةَ من راقَها لديه لألاءُ اللآل، فكيف بها إذا [قَرَعت] ففُتِح لها الباب، وكرَعَت في فمِ ذلك العُبَاب، واشتَمَلت من مَصُونِ ذخائرِه [على] اللُّباب، فهنالك تَبرُدُ الأُوام، وتَندَى بفُرادى من فرائدِ البديع وتُوام، ولا تزالُ تمرِّحُ بالثناءِ عليكم مترنِّمة، كورقاءَ في فروع الأيكِ مُهَيْنِمة، وفي دَوْحِ سرَاوتكم إن شاء اللهُ تجدُ الظّلال، وترِدُ الزُّلال، وتحُلُّ حيث حَلَّ من وَسْنى المُقَل الخَيال، فتصَدَّقْ عليها وأوفِ المِكيَال، واللهُ يُهنيكم ما مَنَحَكم من محاسنَ رائقةٍ وخِلال، ويُقِيدُ في آياتِ السحر الحلال، وسلامُ الله عليكم ما انحسَرَ قناعُ الغَيْم عن جَبينِ هلال، ولبَّى المُحرِمونَ بإهلال، ورحمةُ الله وبركاتُه.
فأجابَه أبو عبد الله ابنُ العابِد بهذه الرّسالة [من الطويل]:
إذا قيلَ: مَن ربُّ القَريضِ الذي لهُ
…
يَدينُ؟ فقُلْ: عبدُ الكريم ابنُ عِمرانِ
حَبَاني برَوْض من نتيجةِ فكرِهِ
…
يَرُوقُ به للنظم والنثر زهرانِ
ونزَّهَني في خطِّه وبيانِهِ
…
فمن سامعٍ مُصْغ إليه ومن رانِ
كسَاني به فخرًا تهنَّأتُ لُبْسَهُ
…
ومن لُبْس أثوابِ الإجادة أعراني
أيُّها البحرُ الوَهُوب لفُرادى الجواهرِ والتَّوام، والحَبْرُ اللَّعوب بأطوافِ الكلام، وُقيتَ عينَ الكمال، وبَقِيتَ محروسَ الجمال، تتأنقُ لمن بارالك في ارتيادِ البراعة، وتسبِقُ مَن جاراك بجيادِ اليَراعة، وتتبختَرُ من ملابِس السعادة في مُوَشَّى برودِها، وتظفَرُ من أوانِس الآمالِ المنقادةِ بشهيِّ برودِها، وَصَلتْني رُقعتُك التي
جَلَوْتَ في أسطارِها الكواعبَ، وعَلَوْتَ بإظهارِها الكواكبَ، وأظهَرْتَ في نَظْمِها ونثرِها السحرَ لمُرتادِه، وذكَرْتَ بمُستافِ عنبرِها الشّحَر (1) على نأْي بلادِه، فقلت: هذه غايةٌ لا أبلُغُ مَداها، وآية يتحدّى بها من أهداها، فتوقّفتُ عن الإجابة توقُّفَ الحَسِير، وانصَرفتُ إلى الإذعانِ [انصرافَ؟] الأسير، وأنشَدتُ الخاطرَ وأرجاؤه داجية:
أبعدَ حَوْل [تُناجي الشوقَ ناجِية](2)
فأبَى لاغترارِه إلا أن يُسجِلَ عُبَابَك بهذه الصَّبابة، ويُعاجِلَ [جنابَك بما لم] يُرزَقْ سواه من عَدَم الإصابة، ومَجْدُك يُسبلُ على هذه الهَنَات [أذيالَ تجاوزِه، إذ لا] يَعدِلُ مَن قابَلِ تلك الحُلَل المُسهَمات بأسمالِ معاوزِه (3)، واللهُ يُبقيكم [للمفاخِر] تنظِمون عقودَها، والمآثر تَحبُرونَ بُرودَها، والسلامُ عليكم ما اعتَدلتْ أنابيب، وانْسَدَلت من الظلام جَلابيب، وهطَلَت من سماءِ بلاغتِكم شَآبيب، ورحمةُ الله تعالى وبَرَكاتُه.
قال المصنّفُ عَفَا اللهُ عنه: نقَلتُ هاتَيْنِ الرِّسالتَيْن من خطّ أبي القاسم بن عِمران، وأصحَبَ أبو عبد الله ابنُ عابدٍ جوابَه نُبذةً من نَظْمِه، منها، ونقَلتُها من خطِّه في أخوَيْن: وَسيم وأحدب [من الكامل]:
في ابنَيْ محمدٍ ان نظرتَ عجائبٌ
…
أخَوانِ ظَبْيٌ أحورٌ وحُوارُ (4)
فمن الجَمال بوجهِ ذاك مآثرٌ
…
ومن الجِمالِ بظهرِ ذا آثارُ
(1) مستاف: من الاستياف وهو الاشتمام يقال: ساف يسوف سوفًا إذا شم. والشحر: بلد معروف ينسب إليه العنبر، وفي الأصل: الشجر، وهو تحريف.
(2)
هو في الأصل، وهو شطر بيت للمعري:
أبعد حول تناجي الشوق ناجية
…
هلا ونحن على عشر من العشر
انظر سقط الزند.
(3)
المسهمات: البرد المخططات، والمعاوز: المباذل.
(4)
الحوار: ولد الناقة.
ومنها، ونقَلتُه من خطِّه في وَسِيم متغيِّر الثَّنِيّة له خالٌ بشارِبه [من المنسرح]:
وشادنٍ في القلوبِ مرتَعُهُ
…
مُرَهَّفُ القَدِّ أهيَفُ الخَصْرِ
نشوانُ مَن [ذاق] خمرِ مُقلتِهِ
…
فما تُفيقُ أعطافُه من السُّكرِ
رماهُ قومٌ بالنَّقْص حينَ غَدا
…
يُزري جَمالًا على سَنا البدرِ
قالوا: سوادٌ بدا بمبسِمِهِ
…
وما عَهِدنا السوادَ في الدرِّ
فقلتُ: ما ذلكُم بعائبِهِ
…
كفُّوا، فعندي حقيقةُ العُذرِ
حبّةُ قلبي رأت مُقبَّلَهُ
…
فأفلتَتْ من جوانح الصّدرِ
وارتشَفتْ خمرَ ريقِهِ فسَرى
…
سوادُها عند ذاك في الثّغرِ
ثم ثَوَتْ فوقَهُ مُخبِّرةً
…
مَن عابَهُ كُنْهَ ذلك الأمرِ
ومنها ارتجالًا في شاربٍ رَعِف، ونقلتُه أيضًا من خطِّه [من الكامل]:
ومُهفهَفٍ للبدرِ حُسنُ جبينِهِ
…
وليانع الأغصانِ مائسُ عِطفِهِ
لمّا أراق دمي ولاحَ بخدِّهِ
…
أجراه قَصْدُ إهانتي من أنفِهِ
ومنها، ونَقلتُه من خطّه أيضًا وفيه وَصْفُ حَمّام [من السريع]:
[و .........]
…
في ليلةٍ من غُرَر الدهرِ
[مطَرُها أشبَهَ ذا] لوعةٍ
…
أدمعُهُ خوفَ النوى تجري
[والبرقُ] حَكَى لمعَهُ في الدُّجى
…
زَنْجيّةٌ تبسِمُ عن ثغرِ
[.............] البيتَ حتى أتى
…
بأربع في صُوَر البدرِ (1)
[وجاء] بابن النحل (2) في زُبدةٍ
…
مثلَ عنبرٍ شِيَب بالدُّرِّ
(1) يشبه قرص الخبز في استدارته بالبدر.
(2)
ابن النحل: هو العسل.
[
…
] هاتِ الباقّلاءَ التي
…
بدَتْ لنا في حُلل خُضْرِ
زَبَرْجَدٌ ضُمَّ على لؤلؤٍ
…
صاغَهما مُنسكبُ القطرِ
فاجتَمَعتْ أطعِمةً حقُّ مَن
…
أُعطِيَها الإقرارُ بالشكرِ
فلم نزَلْ نجهَدُ في ضرِّها
…
حتى أراحتنا من الضُّرِّ
وحينَ ضَمَّ اللّيلُ أذيالَهُ
…
وانتَشَرتْ ألوِيةُ الفجرِ
قُمنا لبيتٍ حرجٍ مُظلمٍ
…
قُسِّم بين البردِ والحَرِّ
تخالُ مَن ضمَّتْهُ أحشاؤه
…
كأنما أُدرج في قبرِ
تلوحُ في أقبائه أنجُمٌ
…
نقيضةٌ للأنجُم الزُّهرِ
تبدو نهارًا فإذا ما بدا
…
جُنحُ الدُّجى غارت ولم تَسْرِ
يا طيبَهُ ليلًا ويا حُسنَهُ
…
صُبحًا، لقد حاز سنى العُمرِ
وقد مَرّ له ذكْرٌ في رَسْم أبي جعفر بن طلحةَ الشُّقْريّ (1).
128 -
محمدُ بن عليِّ بن محمد بن عبد الرحيم (2) بن هشام الأَنْصاريُّ الأوْسيُّ، مَرّاكشيٌّ، نشَأ بسَلَا، قُرطُبيُّ أصلِ السَّلف، أبو عبد الله، ابنُ هشام (3).
رَوى بسَلا عن أَبيه (4)، ومؤدِّبِه أبي عليّ عُمرَ بن موسى بن الحَسَن بن عليّ بن مُكابِر بن بلولٍ الصُّنْهاجيّ الفشْتاليّ (5) من بني بلول، ثم مِن بني عَطّاف، وبه انتفَعَ في العربيّة والطريقةِ الأدبيّة؛ والزاهدِ الفاضل أبي إسحاقَ بن أحمدَ
(1) راجع السفر الأول، الترجمة 531.
(2)
كذا في الأصل، وفي ترجمة والده عند المؤلف: عبد الرحمن.
(3)
عرّف به عبد الرحمن الفاسي في كتابه استنزال السكينة (مخطوط) نقلًا عما هنا.
(4)
له ترجمة في السفر الخامس (612) وفيها أنه قرطبي سكن مراكش ثم رباط الفتح، وولي بعض الأعمال السلطانية، وتوفي برباط الفتح سنة 622 هـ.
(5)
لم نقف على ترجمته.
القَلَبَّق (1)، وأبي جعفر ابن فَرْقَد (2)، وأبي عبد الله ابن حَمّاد (3)، وروى [بفاسَ] عن جماعة منهم: أبو عبد الله ابنُ عبو (4).
وشَرَّق مرّتَيْن حَجَّ فيهما، فَصَلَ في أُولاهما من سَلا سنةَ ثمانِ عشْرةَ وست مئة، وجال في بلادِ المشرق والشَّام والعراق، ودَخَلَ بغدادَ وتَكْريتَ والمَوْصِل ومِصرَ والإسكندَريّة، ورَوى عن طائفةٍ كثيرة من بقايا الشيوخ سَماعًا وقراءةً، وأجاز له منهم جَمْع لا يُحصَوْنَ كثرةً، فمن شيوخِه ببغدادَ: أبو إسحاق إبراهيمُ بن عبد الرّحمن بن أبي [ياسر](5) القَطِيعيُّ الخَيّاط، وأبو بكرٍ محمدُ بن أبي بكر بن عبد الله .... ، وأبو حَفْص عُمرُ بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن [سعد السُّهْرَوَردي](6)، وأبو سَعْد (7) ثابتُ بن مُشرَّف بن أبي سَعْد بن إبراهيمَ الأزَجيُّ البناء (8)، وموفَّقُ الدِّين أبو عبد الله بن عبد اللّطيف (9)
(1) لم نقف على ترجمته، والقلبّق: السلحفاة، في اللغة اللاتينية.
(2)
لعله أخذ عنه أثناء توليه قضاء سلا (ت 624 هـ) انظر السفر الأول، الترجمة 29.
(3)
انظر ترجمته في هذا السفر رقم (123) ولعله درس عليه أثناء قضائه بفاس.
(4)
ترجمته في هذا السفر رقم (109).
(5)
ما بين الحاصرتين ممحو في الأصل، واستفدناه من ترجمته في تاريخ ابن الدبيثي 2/ 461، وتكملة المنذري 3/الترجمة 2060، وتاريخ الإسلام 13/ 698، وهو من أهل القطيعة بباب الأزج في الجانب الشرقي من بغداد، وتوفي سنة 622 هـ.
(6)
ممحو في الأصل، وهو الصوفي المشهور الشيخ عمر السُّهروردي ثم البغدادي دفينها المتوفى سنة 632 هـ ومصادر ترجمته في التعليق على تاريخ ابن الدبيثي 4/ 353 - 354.
(7)
في الأصل: "سعيد"، محرف، وما أثبتناه من مصادر ترجمته ومنها إكمال الإكمال لإبن نقطة 3/ 170، وتاريخ ابن الدبيثي 3/ 45، وتكملة المنذري 3/الترجمة 1906، وتاريخ الإسلام للذهبي 13/ 573، وسير أعلام النبلاء 22/ 152، وتوضيح ابن ناصر الدين 5/ 93 وغيرِها.
(8)
محو في الأصل لم يبق منه سوى الألف واللام والباء، وأثبتناه من ترجمته.
(9)
هكذا في الأصل، وهو تخليط لا ندري إن كان من المؤلف أم من الناسخ صوابه: موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف، وهو الموصلي الأصل البغدادي الشافعي الفقيه النحوي الطبيب المشهور المتوفى سنة 629 هـ، وترجمته مشهورة فينظر سير أعلام النبلاء 22/ 320 والتعليق عليه.
ابن يوسُف بن محمد بن عليّ [البغدادي] ، ومحمد (1) بن أحمدَ بن صَالح بن شافِع الجِيليُّ، وبتكريتَ: أبو المعالي محمدُ بن نَصْر بن محمد بن المبارَك ابن البَرْدَغُوليِّ ابنُ الطاهِريّ (2)، وبحَماةَ: أبو القاسم عبد الله [الحُسين](3) بن عبد الله بن رَواحةَ الحَمَويُّ، وبدمشقَ: خطيبُها جَمالُ الدِّين أبو عبد الله بنُ أحمدَ بن محمد بن قُدامةَ المَقْدِسيُّ، وشمسُ الدّين أبو نَصْر محمدُ بن هبة الله بن مَمِيل (4) الشِّيرازيُّ، والقاضي أبو [....](5) الشَّهْرَزُوريُّ وغيرُهم، بإفادةِ صاحبِه أبي عبد الله بن يوسُف البِرْزاليِّ الإشبيلي (6) مُستوطِنِ دمشقَ. وقَفَلَ من وِجهتِه هذه سنةَ ثِنتينِ وعشرينَ وست مئة، واستَوطنَ مَرّاكُشَ وقتًا.
ثم رَحَلَ إلى الأندَلُس وسَكَنَ إشبيلِيَةَ مدّة وشَرِيشَ أُخرى، ومنها فَصَلَ لرحلتِه الثَّانية سنةَ ثمانٍ وأربعينَ، وكان محرِّكُه إليها وباعثُه عليها ما حدَّثني به ونقَلتُه من خطِّه، قال: وذلك رؤيا رأيتُها في المنام لم تكنْ من أضغاثِ الأحلام؛ رأيتُ في العشْر الأواخِر من رمضانَ سيّدَ البشَر الشفيعَ المشفَّع في المَحْشَر،
(1) هو أبو المعالي محمد بن أحمد بن صالح بن شافع الجيلي الأصل البغدادي، أحد الشهود المعدَّلين هو وأبوه وجده، توفي ببغداد سنة 627 هـ، وترجمته في تاريخ ابن الدبيثي 1/ 229 والتعليق عليها.
(2)
في الأصل: "الظاهري"، والصواب ما أثبتنا، وهو مترجم في تاريخ ابن الدبيثي 2/ 137، وقد سمع منه ابن الدبيثي وسمع من أبيه أيضًا.
(3)
ما بين الحاصرتين ممحو في الأصل، واستفدناه من ترجمته في صلة التكملة لعز الدين الحسيني 1/ 194، وتاريخ إربل لإبن المستوفي 2/ 412، وتاريخ الإسلام للذهبي 14/ 547، وسير أعلام النبلاء 23/ 26 أو التعليق الموسّع عليه، وتأخرت وفاته إلى سنة 646 هـ، فكان من المعمرين.
(4)
مميل بالفارسية: محمد، وتنظر ترجمته في التكملة المنذرية الترجمة 3/ 2810، وتاريخ الإسلام 14/ 190.
(5)
محو في الأصل.
(6)
هو زكي الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف البرزالي الإشبيلي الأصل المتوفى سنة 636 هـ، وترجمته في سير أعلام النبلاء 23/ 55 وفيه ذكر مصادر ترجمته الكثيرة.
جالسًا على سرير، تُبرِقُ من وجهِه الأسارير، فبادرتُ إليه مُسرعًا، ووقَفْتُ بين يَدَيْه متخضّعًا، وقلتُ له بعدَ أن سلّمتُ عليه، وقُمتُ مقام المستكينِ بين يدَيْه: يَا رسُولَ الله، ما أعظمَ عندَ الله تعالى مَن سَلّم عليك، وقبَّل ثَرى نَعْلَيْك! فقال لي عليه الصلاة والسلام مجُيبًا، بعدَ أن رَحَّب ترحيبًا: إنّي أُحبُّك، إنّي أُحبُّك، [إنّي أُحبُّك] ، ثلاثًا يُعدِّدُها، وُيكرّرُ الكلماتِ وُيردِّدُها، ثم قال لي في الآخِر: ومن أحبَّ شيئًا أكثرَ من ذكْرِه، فاستيقَظْتُ من منامي، وقمتُ على أقدامي، والعزائمُ منّي مشحوذة، وعِلَقُ تعلُّقي بحبالِ هذه الفانية بمُدى اليأسِ مقطوعةٌ مجذوذة، وخرَجْتُ لا أَلْوي على مُتعذِّر، خروجَ المجدِّ إلى لقاءِ المحبوبِ المشمِّر، فسِرتُ على عَوْنِ الله متورِّكًا، وبرؤيتي هذه المنامةَ متبرِّكًا، وبعُرَى وُدِّي الصّحيح، وحبِّي الصّريح متمسكًا (1). ولم يُعْنَ في هذه الرحلة بالأخْذِ عن أحد، [ورَوى] عن الخطيبِ بباعوثا: من أرضِ عجلونَ من بلادِ الشَّام [أبي عليّ] بن عُمرَ الأنصاريِّ ابن الأنْدَلُسيّ (2)، وببُونةَ عن أبي القاسم محمد [....] محمد ابن مُحرِز التَّميميّ التونُسيِّ من ذريّة الفاضل، الشهيرِ الكرامات
…
[عرفتُه] بمَرّاكُش، وصحِبتُه كثيرًا وأخَذْتُ عنه معظمَ ما كان عندَه.
وكان [....] من أهل الصِّدقِ والعدالة، سُنّيًّا فاضلًا مُنحِيًا على أهل البِدع [....] بارعَ الخَطّ، سريعَ البديهة في النَّظم، مُكثرًا منه محُسِنًا في بعضِه، حافظًا للقرآنِ العظيم، مُثابِرًا على تلاوته، طيِّبَ النفْس كريمَ الأخلاق جميلَ الدُّعابة مُمتِع المجالسة.
(1) من قوله: واستوطن مراكش وقتًا، إلى قوله: متمسكًا، منقول بالحرف في كتاب "استنزال السكينة "لعبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي المتوفى سنة أربع وثمانين وألف، ولا يُعرف مآل النسخة التي نقل عنها (انظر الإعلام 4/ 331 - 334 ط. فاس).
(2)
ترجم به المؤلف في السفر الخامس (810) وقال: "روى عنه شيخنا أبو عبد الله بن هشام، لقيه بباعوثا من نظر عجلون بالشام وهو خطيبها، ووُصف بالتقدم في العلم والزهد والفضل والصلاح ومتانة الدين".
وُلد بمَرّاكُشَ سنةَ خمس وتسعينَ وخمسِ مئة، وتوفِّي بها نصفَ ليلة الخميس الحادلة والعشرينَ من ذي قَعْدةِ أحدٍ وسبعينَ وستّ مئة، ودُفنَ إثْرَ صلاةِ العَصْر من يوم الخميس المذكور بجَبّانة أسر غسن بمقرُبة من جامع عليّ بن يوسُف، عَمَرَه اللهُ بدوام الذِّكْر فيه، وشَهِدَ جَنازتَه خَلْقٌ كثير، وأثنَوْا عليه صالحًا، وكان أهلًا لذلك.
129 -
محمدُ (1) بن عليّ بن مَرْوانَ بن جَبَل الهَمْدانيُّ، وَهْرانيٌّ نشَأَ بتِلِمْسينَ شَلَوبينيُّ الأصل، أبو عبد الله، ابن مَرْوان.
رَوى عن أبي موسى عيسى بن عِمران. رَوى عنه أبو جعفر بن ثُعْبان. وكان فقيهًا مُستبحرًا في حفظِ المسائل ماهرًا في النّظر بارعَ الخَطّ سَرِيَّ الهمّة. استُقضيَ بتلمسينَ وقتًا، ثم قَدَّمه المنصورُ، من بني عبد المؤمن، في حركتِه المَشْرقيّةِ الثَّانية -وهي حركةُ قَفْصة (2) - إلى قضاءِ الجماعة بعدَ صَرْف أبي جعفر ابن مَضَاء عن الخُطّة حسبَما ذُكِر في رَسْم أبي جعفر (3)، فتقَلَّده محمودَ السيرة متعرَّفَ العدل والنزاهة والتُّؤَدة، يُذكَرُ أنه لم يجلدْ أحدًا طولَ أيام استقضائه بسَوْط، وكان، على ما ذُكِر من مشكورِ أحوالِه، كثيرَ المَيْل إلى
…
وكان المنصُورُ معجَبًا به [متحفِّيّا](4) بشَخْصِه، حَظِيَ لديه كثيرًا فكان لا يَدخُلُ عليه أوجَهُ عندَه ولا أخفُّ على قلبِه منه (5)، معَ علمِه بما كان عليه من
(1) ترجمه ابن الأبار في التكملة (1733)، وابن سعيد في الغصون اليانعة 29، وابن الزبير في الصلة 3/الترجمة (13)، والذهبي في المستملح (339) وتاريخ الإسلام 13/ 42، والمراكشي في الإعلام 4/ 121.
(2)
كانت هذه الحركة سنة 582 هـ.
(3)
راجع السفر الأول من هذا الكتاب (291).
(4)
في الأصل: "متحنا" وفوقها ضبة، وصوابها ما ذكرنا.
(5)
أشار ابن الزبير إلى صفة من الصفات التي قربته من المنصور، قال: "وكان يخطب عند المنصور في محافل الوفود ومشاهد الجماهير قيامًا بالمصالح وإعرابًا عن الأغراض والمقاصد
…
".
الانهماكِ في التّصابي، قرأتُ بخطِّ التاريخيِّ العدل أبي العبّاس بن عليّ بن هارونَ (1)، قال: حدّثني أبو القاسم ابنُ بَقِي (2) رحمه الله، قال: قال لي المنصورُ يومًا: صَحَّ عندي أنّ ابنَ مروانَ شرِبَ البارحةَ معَ نُدَمائه في المَحَجّة على الساقيةِ التي بمقرُبْة من دارِه، وذكَرَ لي أنّ خَوابيَ الشّراب في دارِه، فاذهَبْ إليها وانظُرْ ما فيها، فرغِبتُ إليه أن يُعفيَني من ذلك، فتغافَلَ عنه، وهَمّ حينَئذٍ بإقامة الحدّ عليه، وأجرى ذلك [في مجلسِه، وكان حاضرًا فيه أبو عبد الله] بنُ إبراهيمَ الأصوليُّ (3)، وكان بينَه وبينَ ابن مَرْوان من [التدابُر ما] يكونُ بين متنافرَيْنِ، فقال له: يَا سيّدَنا لا تفعلوا، والأوْلى [أن تلتمسَ شُبهةً يُدرَأُ] بها عنه الحَدّ، ثم [لا] تَشيعُ هذه الأُحدوثةُ حتى تبلُغَ صاحبَ بغداد [ويقال: إنّ المنتسبَ] إلى أشرفِ خُطط الشريعة شاربُ خمر! فكَفّ المنصورُ عنه عندَ ذلك (4)،
(1) راجع ترجمته في السفر الأول من هذا الكتاب (417).
(2)
يجدر التنبيه إلى ما كان بين ابن بقي وابن مروان من تنافر وتنافس على الخطبة، وكما ساق المؤلف هذه الحكاية فقد ساق مؤلف الغصون اليانعة حكايته أخرى "مما شنع عليه أعداؤه".
(3)
تقدمت ترجمته في هذا السفر برقم (73).
(4)
وقع في كلام القاضي ابن إبراهيم محو واضطراب في الأصل، وقد اجتهدنا في ترميمه، وإذا كان المنصور كف عن إقامة الحد على القاضي ابن مروان عملًا بإشارة القاضي الأصولي، فقد أقام الحد على أحمد بن سعود العبدري القرطبي نزيل مراكش وأحد أعضاء مجلس المنصور العلمي، قال ابن عبد الملك في السفر الأول (871):"فلم يزل يحاضر طلبة العلم بمجلس المنصور الخاص بهم ويذاكرهم بين يديه مرعي الجانب ملحوظًا بعين التكرمة محترمًا لشاخته واضطلاعه بالمعارف إلى أن وجد منه يومًا بمجلس المنصور ريح مسكر فاستثبت أمره بالاستنكاه وتحقق فعند ذلك أمر المنصور بإقامة الحد عليه وبين يديه، ولما بلغ جالده أربعين أشار إليه أبو العباس بأن يكف وابتدر لباس ثيابه وقال للمنصور: أنا أحد عبدانكم ولا يجب علي سوى أربعين جلدة منتهى حد العبد، فقبل ذلك المنصور على علمه بما في طيه من التنكيت عليه، وإنما أشار بذلك أبو العباس إلى معتقد آل عبد المؤمن وطائفتهم قديمًا وحديثًا أن كل من خرج عن قبائلهم المعتقدة هداية مهديهم وعصمته فهم عبيد لهم أرقاء، فصرفه المنصور إلى منزله واستمر هجرانه إياه ومنعه حضور مجلسه".
[وبَلَغَ ابنَ مَرْوانَ] ما جَرى في المجلس، وما كان منَ ابن إبراهيمَ في شأنِه، فلِقيَه وأخَذَ في شكرِه [والثناءِ عليه] والاعتذارِ له ممّا سَلَف، فقال له ابنُ إبراهيم: خَلِّ عن هذا، فالذي بينَنا على [ما كان عليه، وإنّما فعلتُ ما فعلتُه] إبقاءً على الصِّنف وصَوْنًا له ورَعْيًا لحقّه وسترًا عليه. ثم إنّ المنصورَ نكَبَه بعدُ؛ لأنه كان يؤكِّدُ عليه أبدًا في الوُصاةِ بتفقُّدِ السّجون والنظرِ لمن فيها من المسجونينَ وتعاهُدِهم بما يُخرجُه لهم من الصَّدَقات، فكان كلّما سأله عن شيءٍ من ذلك أجابَه بأنه شديدُ العنايةِ به كثيرُ التهمُّم بأحوالِهم؛ فلمّا كان في بعض الأسحار سَمِعَ ضَجّةً عظيمة، فسأل عنها، فأُخبِر أنه صياحُ المسجونينَ واستغاثتُهم، فأرسَلَ من وَبثِقَ به في التطلُّع على أحوالِهم، فلمّا دخَلَ عليهم وسألهَم عن حالِهم أخبَروه بأنّهم في جَهْدٍ شديد، وأنّهم قد هَلَكوا جُوعًا وبردًا، ورغِبوا إليه في إيصال رَغَباتِهم إلى المنصُور وتطارُحِهم عليه في المُنّة عليهم بقتلِهم ليستريحوا من عظيم ما هم فيه من سُوءِ الحال وشدّة النَّكال، فأوصَلَ شِكايتَهم إلى المنصُور، فعَظُمَ ذلك عليه وأمر لهم بما يُصلحُ أحوالَهم (1)، وأمَرَ بسِجن القاضي في منزلِه فأقام به مسخوطًا عليه شهرًا أو نحوَه، ثم عَطَفَ عليه وأعاده إلى موضعِه من مجلسِه وصَرَفَه عن القضاء، وذلك بإشبيلِيَةَ سنةَ ثِنتَيْنِ وتسعينَ وخمسِ مئة. وقَدّم لخُطّةِ القضاء أَبا القاسم بن بَقِيّ، فبقِيَ قاضيًا إلى أن توفِّي المنصور، وكان من عهدِه لابنِه الناصِر إقرارُ ابن بَقيّ على القضاء طولَ حياتِه، فخالَفَ الناصِرُ في ذلك عهدَ أَبيه، فحين صارَ إليه الأمرُ صَرَفَ ابنَ بقِيّ في جُمادى الأولى سنةَ ستٍّ وتسعينَ، وأعاد إلى القضاء حينَئذٍ ابنَ مروان، فاشتدَّ إنكارُ ذلك على الناصِر، واستمرّ ابنُ مروانَ ناهضًا بأعباءِ الخُطّة، شديدَ الهَيْبة بصيرًا بالأحكام شديدَ النظرِ في الفَصْل بين الخُصوم إلى أنْ توفِّي ليلةَ الأحد تاسعةِ [جُمادى الأولى من سنة إحدى] وست مئة،
(1) هذا نص واضح الفائدة قوي الدلالة في عناية ملوك المغرب قديمًا بأحوال السجون والمسجونين.
ودُفن عصرَ يوم الاثنين، وصَلّى عليه [الخليفةُ الناصر، وكان الحَفْلُ في] جَنازِته عظيمًا (1).
130 -
محمدُ (2) بن عليّ بن يَخلُف بن يوسُف بن حَسُّون، [من جزائرِ بني مزغنا](3) أبو عبد الله.
رَوى بِبجَايةَ عن أبي زكريّا يحيى بن ياسين [ابن اللُّؤلؤ، وأبي] محمد عبد الحقِّ ابن الخَرّاط.
ودَخَلَ الأندَلُسَ طالبًا العلمَ فأخَذَ بإشبيلِيَةَ [عن أبي إسحاقَ] بن مُلْكون، وأبي بكر بن عيسى البَطَلْيَوْسي، وأبي محمد بن مَوْجُوال [البَلَنْسيِّ] ، وأبي زَيْد السُّهَيْليِّ، وفي شيوخِه كثرة.
وتوفِّي ببلدِه في الآخِر من صفرٍ [سنةَ ستٍّ] وست مئة.
131 -
محمدُ (4) بن عُمرَ بن نَصْر الفَنْزاريُّ (5)، سَلَاويٌّ، أبو عبد الله.
(1) مما يتصل بأبي عبد الله بن مروان أيام قضائه أنه طالب الخليفة المنصور برد أخته إلى زوجها الشيخ عبد الواحد الحفصي وقال له: إما أن تسيّر إليه أهله وإلا فاعزلني عن القضاء. وقد خضع الخليفة لحكم الشرع وانقاد لأوامره. انظر الحكاية بتمامها في وفيات الأعيان 7/ 10 - 11 والشهب اللامعة (مخطوط) والإعلام للمراكشي 4/ 121.
وستأتي ترجمة ولديه أبي علي مروان وأبي عمران موسى بن مروان فيما بعده أما والد المترجم فقد كان فيما ذكر ابن سعيد "من الأجناد تقدم وساد وولي مدينة وهران" ومن هذه الأسرة -أسرة ابن جبل الهمداني- الكاتب القاضي الخطيب أبو محمد عبد الله بن جبل. (المعجب: 269، والمن بالإمامة 150، 223، 231).
(2)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (1735)، وعليها اعتمدنا في ملء الفراغات والمحو الواقع في نسختنا الفريدة.
(3)
هو في الأصل، وفي التكملة: من أهل الجزائر عمل بجاية.
(4)
ترجمه ابن الأبار في التكملة (1747)، والذهبي في المستملح (352) وتاريخ الإسلام 13/ 936.
(5)
وقع في المطبوع من التكملة "الفزاري" من غلط الطبع فيصحح، وهو منسوب إلى "فنزارة" التي منها خميس فنزارة (الخميسات حاليًا)، وإلى فنزارة ينسب بنو عشرة السلاويون وابن المجراد السلاوي.