المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌180 - موسى بن هارون بن خيار، أبو عمران - الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة - جـ ٥

[ابن عبد الملك المراكشي]

فهرس الكتاب

- ‌9 - عليُّ بن محمد بن عبد الرّحمن التَّميميُّ، قَلْعيٌّ -قلعةَ حمّاد- أبو الحَسَن

- ‌15 - عليُّ بن محمد بن يَقديران، بياءٍ سُفْل مفتوح وقافٍ [معقود] ودالٍ غُفْل وياءِ مَدّ وراءٍ وألِف ونون، اللَّمتُونيُّ، أبو الحَسَن

- ‌20 - عليُّ ابنُ المَقْدِسيّ، شَرقيٌّ، دخَلَ الأندَلُسَ

- ‌22 - عُمرُ بن أحمدَ بن عُمر السُّلَميُّ، أُراه من ذوي قَرابةِ [القاضي أبي حفصٍ] عُمر، أبو عليّ

- ‌25 - عُمرُ بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن محمد بن إسماعيلَ بن جَمِيل بن نَصْر بن صِمع القُرَشيُ، كذا نقَلتُ نَسَبَه من خطِّه، تونُسيّ، نزَلَ مَرّاكُش، أبو حَفْص وأبو عليّ، ابنُ صِمع

- ‌31 - عُمرُ بن محمد بن أحمدَ القَيْسيُّ، مَرّاكُشيٌّ فاسيُّ الأصل، [......] صغيراً أبو عليّ ابنُ الفاسيِّ، خالي

- ‌34 - عُمرُ بن محمدٍ الهَوّاريُّ، بِجَائيٌّ؛ أبو عليّ، ابنُ ستِّ الناس

- ‌40 - عيسى بنُ حَمّاد بن محمد الأوربيُّ، تِلِمْسينيٌّ، أبو موسى

- ‌41 - عيسى بنُ حَيُّونَ

- ‌45 - عيسى بن محمد، وَجْديٌّ، أبو موسى

- ‌46 - عيسى بن مُفرِّج بن يَخلُف الزَّنَاتيُّ، عُدويّ

- ‌47 - عيسى بن مَيْمونِ بن ياسين اللَّمْتُونيُّ، مَرّاكُشيٌّ سَكَنَ إشبيلِيَةَ، أبو موسى

- ‌49 - عيسى بنُ يوسُفَ بن أبي بكرٍ الصُّنهاجيُّ، تِلِمْسيني، سَكَنَ مَرّاكُشَ وغيرَها، أبو موسى، ابنُ تامحجلت

- ‌51 - الغازي [

- ‌58 - محمدُ بن أحمدَ بن سَلَمةَ بن أحمدَ الأنصاريُّ، تلمسينيٌّ [لُوْرْقيُّ] الأصل، أبو عبد الله، ابنُ سَلَمةَ

- ‌59 - محمدُ بن أحمدَ بن عبد الله بن محمد بن عُمرَ السُّلَميُّ، فاسيٌّ شُقْريُّ [الأصل، أبو عبد] الله

- ‌60 - محمدُ بن أبي العبّاس أحمدَ بن أبي القاسم عبدِ الرّحمن بن عثمانَ التَّميميُّ، بِجَائيٌّ جَزائريُّ الأصل، أبو عبد الله، ابنُ الخَطيب

- ‌63 - محمدُ بن أحمدَ بن محمد بن أبي الحُسَين سُليمانَ بن محمد بن عبد الله السَّبَئِيُّ، مَرّاكُشِيٌّ، مالَقيُّ أصلِ السَّلَف، أبو عبد الله، ابنُ الطَّراوة

- ‌67 - محمدُ بن إبراهيمَ بن أبي بكر بن عبد الله بن سَعِيد بن خَلُوف بن عليِّ بن نَصْر القَيْسيُّ، تِلِمْسينيٌّ

- ‌69 - محمدُ بن إبراهيمَ بن عُمرَ بن منصُور بن عبد الله الزّهيليُّ

- ‌70 - محمدُ بن إبراهيمَ بن محمد بن محمدِ بن إبراهيمَ بن يحيى بن إبراهيمَ بن يَحيى بن إبراهيمَ بن خَلَصةَ بن سَماحةَ الحِمْيَريُّ الكُتَاميُّ، مَرّاكُشيٌّ، أبو عبد الله، ابنُ إبراهيم

- ‌72 - محمدُ بن إبراهيمَ اللَّوَاتيُّ، أبو عبد الله

- ‌78 - محمدُ بن أبي القاسم بن مَيْمونٍ الهَوّاريُّ

- ‌81 - محمدُ بن بَكّار التَّميميُّ، مَسِيليٌّ، ثم قَلْعيٌّ

- ‌82 - محمدُ بن تاشَفينَ بن يوسُفَ بن أبي بكر بن يِيْمَد -بياءٍ مسفول وياءِ مَدّ وفتح الميم ودالٍ غُفْل- ابن سَرْحوب، أبو عبد الله

- ‌83 - محمدُ بن جابرِ بن أحمدَ القَيْسيُّ، مَرّاكُشيٌّ

- ‌86 - محمدُ بن الحَسَن بن عَتِيق بن الحَسَن بن محمد بن حَسَن التَميميُّ، مَهْدَويٌّ سَكنَ بأخَرةٍ مَرّاكُش، أبو عبد الله، [ابنُ منصورِ الجَنْب]

- ‌89 - محمدُ بن الحَسَن الخَزْرَجيُّ، أبو عبد الله

- ‌96 - محمدُ بن سُليمانَ الدَّكاليُّ، أبو عبد الله

- ‌97 - محمدُ بن سُليمانَ اللَّمْتُونيُّ

- ‌98 - محمدُ بن سير بن محمد بن عُمرَ اللَّمْتُونيُّ

- ‌101 - محمدُ بن عبدالله بن سَعِيد، تِلِمْسينيٌّ، أبو عبدالله

- ‌107 - محمدُ بن عبد الله بن مالكٍ الكَلْبيُّ، أبو عبد الله، زبريج

- ‌108 - محمدُ بن عبد الله بن مُبشّرِ بن عبد الله بن يونُسَ بن عِمْرانَ القِيْسيُّ، مِكْناسيٌّ مكناسةَ الزّيتون، أبو عبد الله

- ‌110 - محمدُ بن عبد الله بن يَلُوسْفَان

- ‌112 - محمدُ بن عبد الرّحمن بن موسى، [أبو عبد الله، ابنُ الحاجّ]

- ‌115 - محمدُ بن عبد الرّحمن اللَّمَطيُّ، ابنُ تازليت

- ‌132 - محمدُ بن عِمرانَ بن موسى الصُّنهاجيُّ، عُدْويُّ

- ‌144 - محمدُ بن موسى الصُّنْهاجيُّ، [أبو] مَرْيَم

- ‌145 - محمدُ بن مَيْمونِ بن ياسين [الصُّنْهاجيُّ اللَّمْتُونيُّ] ، استَوْطنَ إشبيلِيَةَ، أبو عبد الله

- ‌146 - محمدُ بن وارتدفي الصُّنهاجيُّ

- ‌148 - محمدُ بن يحيى بن داودَ التادَليُّ، مَرّاكُشيٌّ، أبو عبد الله

- ‌149 - محمدُ بن يحيى، طَنْجيٌّ

- ‌153 - محمدُ بن يوسُفَ بن عبد الله بن محمد بن عامُور، أبو عبد الله

- ‌156 - محمدُ بن يوسُفَ الصُّنهاجيُّ

- ‌160 - مَرْوانُ بن عبد الملِك بن إبراهيمَ الهلاليُّ، طَنْجيُّ الأصل أَظُنُّه وُلد بها أو ببعضِ بلادِ العُدْوة، أبو محمد

- ‌162 - مَرْوانُ بن محمد بن عليّ بن مَرْوانَ بن جَبَل الهَمْدانيُّ، تِلِمْسينيٌّ [وَهْرانيُّ الأصل] حديثًا، شَلْوبانيُّهِ قديمًا، أبو علي

- ‌163 - مَرْوانُ بن موسى بن نُصَيْر [

- ‌164 - مَسْعودُ بن عبد الكريم بن عليِّ بن عبد المُحسِن، تونُسيٌّ

- ‌165 - مَسْعودُ بن عليِّ بن المنصُور المَصْمُوديُّ الصّلتانيُّ المَنْفِيُّ من كُورةِ طَنْجة

- ‌175 - موسى بنُ أبي القاسم عبد الرّحمن بن عبد الله بن محمد بن عيسى المَرّاكُشيُّ، أبو عِمرانَ المالَقيُّ

- ‌180 - موسى بن هارونَ بن خِيَار، أبو عِمران

- ‌189 - نَصْرُ بن أبي الفَرَج، صِقِلِّيٌّ، أبو الفُتوح

- ‌193 - يحيى بن أحمدَ الأنصاريُّ، سَبْتيٌّ، أبو بكرٍ النّكاريُّ

- ‌195 - يحيى بنُ أبي بكر بن مكِّيّ، بِجَائيٌّ، أبو زكريّا

- ‌204 - يحيى بن محمد الصُّنْهاجيُّ، أبو زكريّا

- ‌207 - يحيى بنُ أبي عُمرَ مَيْمون بن ياسين اللَّمْتُونيُّ مَرّاكُشيٌّ، أبو زكريّا

- ‌209 - [يَديرُ بن تونارت] الهَسْكوريُّ، أبو محمد

- ‌212 - يَعْلَى بن الفُتُوح الأوربيُّ، أبو محمد

- ‌213 - يَعْلَى بن ناصِر اليَجْفَشيُّ، أبو الحَسَن

- ‌215 - يكسفانُ بن عليّ اللَّمْتُونيُّ، أبو محمد

- ‌216 - يكسفانُ بن عيسى اللَّمْتُونيُّ الغَزّاليُّ، أبو محمد

- ‌217 - يكسفانُ بن محمدٍ اللَّمْتُونيُّ

- ‌220 - يوسُفُ بن تاشَفين بن إسحاقَ بن محمد بن عليّ الصُّنْهاجيُّ اللَّمْتُونيُّ، مَرّاكُشيٌّ، أبو يعقوبَ

- ‌223 - يوسُفُ بن عليّ بن جعفر، تِلِمْسينيٌّ

- ‌225 - [يوسُفُ بن عليّ؟] الصُّنهاجيُّ اللَّمْتُونيُّ، أبو يعقوبَ، ابنُ بزْوِيْنا، [بالباء] وسكونِ الزاي وواوٍ وياءِ مَدّ ونونٍ وألف

- ‌231 - يوسُفُ بن مُبشَّر الصُّنهاجيُّ

- ‌234 - يوسُفُ بن يحيى بن الحاجِّ علي بن عبد الواحِد بن غالبِ المُهْريُّ، سَلَويٌّ سَكَنَ قَصْرَ عبد الكريم مدّةً ومالَقةَ مدّةً أخرى وسِجلْماسةَ أخرى، واستَوطنَ بأخَرةٍ أغماتِ وريكة، أبو يعقوب، ابنُ الجَنّان

- ‌هذا ذكرُ النّساء

- ‌248 - أُمُّ مُعفّر، إحدى حَرَم الأمير محمدِ بن سَعْد

- ‌254 - رَشِيدةُ

- ‌256 - زُمُرُد

- ‌262 - سعيدةُ بنتُ محمد بن فِيرُّه الأمويِّ التُّطِيليِّ

- ‌268 - غايةُ المُنى

- ‌276 - لُبنَى

- ‌277 - مُزْن

- ‌285 - ابنةُ محمد بن فِيرُّه الأمَويِّ التُّطِيليِّ، أُختُ سعيدةَ المذكورةِ قبلُ وصغيرتُها

- ‌288 - الشِّلْبيّةُ

- ‌الغرائب

- ‌292 - زينبُ ابنةُ إبراهيم بن يوسُف بن قُرقول

- ‌293 - سارة

الفصل: ‌180 - موسى بن هارون بن خيار، أبو عمران

179 -

موسى بن مَلُّوْل -بفتح الميم وشدِّ اللام وواوِ مَدّ ولام- الصَّوْديُّ (1) -بصادٍ معقود ومفتوح وواوٍ ودال غُفْل منسوبًا- أبو عِمران.

رَوى عن أبي القاسم ابن بَشْكُوال.

‌180 - موسى بن هارونَ بن خِيَار، أبو عِمران

.

رَوى بالمَرِيّة عن أبي القاسم ابن وَرْد.

181 -

موسى (2) بن ياسين مَوْلى صَالح بن إدريسَ الحِميَريِّ صاحبِ نَكُور (3)، أبو عِمران.

دَخَلَ الأندَلُس، وعُنيَ بالحسابِ والفرائض، وصنَّف بها كُتُبًا نافعةً معروفةً به.

182 -

موسى بن يوسُفَ بن محمد المَغِيليُّ (4)، من نَظَر فاسَ.

رَوى عن أبي بكرٍ ابن خَيْر.

183 -

مَيْمونُ (5) بن أحمدَ بن محمد القَيْسيُّ، قَلْعيٌّ قلعةَ بني حمّاد، أبو الفَضْل وأبو وَكيل.

نَزَلَ قُرطُبةَ وسَكنَها مُدّةً إلى أن تغَلَّبت عليها الرُّوم -قصَمَهم اللهُ ورجَعَها- فاستَوطنَ أَرْكَش (6).

(1) ثمة أعلام بهذه النسبة، منهم: أبو عبد الله الصودي (التشوف: 174)، وجمال الدين الصودي الجدميوي إمام الفرضيين بالإسكندرية (نيل الابتهاج: 140 - 141 نقلًا عن رحلة التجيبي) وقد ضبطها كضبط المؤلف فقال: "والصودي: بفتح الصاد المهملة وسكون الواو فدال مهملة". والنسبة إلى قبيلة سودة: قبيلة مصمودية.

(2)

ترجمه ابن الأبار في التكملة (1788).

(3)

انظر في أصحاب نكور المغرب للبكري: 90 - 99.

(4)

النسبة إما إلى مغيلة: مدينة من أنظار فاس كما في المطرب: 124، أو إلى قبيلة مغيلة البربرية. ولعل المترجم من بيت بني المغيلي. انظر بيوتات فاس:21.

(5)

له ترجمة في صلة الصلة (3/الترجمة 103).

(6)

كذا في الأصل، وفي صلة الصلة: مراكش، ولعلها أقرب إلى المعنى.

ص: 294

وكان رجلًا صالحًا فاضلًا اشتُهر بحفظِ "موطّإ" مالِك بن أنس عن ظَهْر قلب، وأكتَبَ القرآنَ طويلًا بقُرطُبةَ [ومَرّاكُش](1).

[توفِّي سنةَ] خمسٍ وثلاثينَ وست مئة.

184 -

مَيْمونُ (2) بن جُبَارةَ بن خَلْفونٍ الفَرْداويُّ، أبو تَمِيم.

رَوى عنه أبو عبد الله بن عبد الحقِّ التِّلِمْسينيُّ (3)[وغيره]. وكان من كبار العلماء وجِلّة الرُّؤساءِ كريمَ اليدِ جميلَ الأخلاق [عظيمَ] الحُرْمة، استُقضيَ ببَلَنْسِيَةَ مُذْ سنةِ ثمانٍ وستّينَ وخمس مئة [إلى سنةِ إحدى] وثمانين، فكان محمود السِّيرة موصوفًا بالعَدْل والجَزالة.

ودرَّس الأصُول [بتلِمْسانَ] وببَلَنْسِيَةَ، وبه انتفَعَ أهلُها في ذلك الفنّ، وكان يصِفُهم بالذّكاءِ وثقوبِ الذَّهن وجَوْدة القرائح.

وممّن أخَذ عنه بها منهم: أبو جَعْفرٍ الذّهبيُّ وأبو الحَجّاج ابن مرطَيْر، ثم صُرِفَ عنها إلى قضاءِ بجَايةَ فتقلَّده إلى أنِ استُقدمَ إلى مَرّاكُش واستُقضيَ بمُرْسِيَةَ بعدَ وفاة قاضيها أبي الَقاسم ابن حُبَيْش (4)، فتوفِّي في طريقِه إليها بتلمسينَ سنةَ أربع وثمانينَ وخمس مئة.

185 -

مَيْمونُ (5) بن عليّ بن عبد الخالق الصُّنهاجيُّ ثم الخَطّابيُّ، فاسيٌّ

(1) محو في الأصل، وقال ابن الزبير:"وكان يحفظ الموطأ عن ظهر قلب ويعلِّم الكتاب العزيز بالبلدين المذكورين".

(2)

ترجمه ابن الأبار (1852)، والغبريني في عنوان الدراية 206، والذهبي في المستملح (370)، وتاريخ الإسلام 12/ 792، والمراكشي في الإعلام 7/ 310.

(3)

تقدمت ترجمته في هذا السفر رقم (119).

(4)

كانت وفاة القاضي ابن حبيش في سنة 584 هـ.

(5)

ترجمته وأخباره وأشعاره في تحفة القادم: 219 (دار الغرب)، ورايات المبرزين: 49، ورحلة ابن رشيد (مخطوط)، ومفاخر البربر: 65 - 67 (ترجمة ذاتية)، وأزهار الرياض 2/ 378 - 392 (نقلًا عن الإشادة للعزفي عن المؤلف هنا)، ودرة الحجال رقم (372) ومن المصادر الحديثة: النبوع للأستاذ كنون، والحلقة 7 من ذكريات .. والعلوم والآداب للأستاذ المنوني: 176 - 177، ورسالة المغرب س 6 ع 4.

ص: 295

أو من بعضِ أنظارِها، سَكَنَ بأخَرةٍ مَرّاكُشَ، أبو عَمْرو، ابن خَبّازة، نسبةً إلى خالِه الشاعر الشهير بابن خَبّازة (1) لمُلازمتِه إياه.

رَوى بفاسَ عن أبي محمدٍ عبد العزيز بن عليّ بن زَيْدان (2)، وقَدِمَ الأندَلُسَ قديمًا، فروَى بها عن أبي الحَجّاج ابن الشّيخ، وأبي محمد بن الحَسَن ابن القُرطُبيّ، ثم قَدِمَها بعدُ غير مرّة بعدَ العشرينَ وست مئة وقبلَها. رَوى عنه أبوا عبد الله: ابن أحمدَ الرُّنْديُّ وابنُ عبد المُنعم اللَّوَاتيُّ، وأبو عِمرانَ بنُ أبي الحَسَن، وأبو القاسم بن عِمران.

وكان أديبًا شاعرًا مُفلِقًا من أكبرِ أعاجيبِ الدّهر في سُرعة البديهة، ناظمًا أو ناثرًا، معَ الإجادة التي لا يُجارَى فيها، والتفنُّن في أساليبِ الكلام معرَبِه وهَزْلِه، على اختلافِ طرائقِ الناس بحسَبِ بلادِهم المتنازحة، جيِّد الخَطّ، قويَّ الأعضاء، معتدِلَ التركيب، متمكّنَ الصّحة، جَهْوريَّ الصّوت، وافرَ المُنّة وهو قد جاوَزَ السّبعينَ (3)، ذا مشاركةٍ حسَنة في عِلم الكلام وأصُول الفقه، تطوَّر كثيرًا وتنسَّك وتصَوَّف وقتًا، ووَعَظَ وتُلقّي وعظُه بالقَبُول، وعارَضَ ابنَ الجَوْزيّ في بعض فصُولِه فأجاد.

(1) لا نعرف من هو هذا الشاعر بالضبط، وقد أشار ابن الأبار في تحفة القادم إلى شاعر هجاء يدعى ميمون بن علي، وهذا اسم مترجمنا وإن لم يصلنا من هجائه إلا بيتان في هجاء مهدي الموحدين، وثمة ترجمة في صلة الصلة (4/الترجمة 324) لعلم يعرف بابن خبازة السبتي واسمه علي بن محمد بن عبد الله الحضرمي وتوفي في نحو العشر وست مئة، ولكن ترجمته لا تدل على أنه كان شاعرًا.

(2)

ترجمته في التكملة (2487)، وأشار الشاعر في إجازته لبعضهم إلى شيوخ آخرين أخذ عنهم بفاس وسمى جده للأم علي بن مهدي القيسي وأبا الحسن بن حرزهم واين دوناس، كما ذكر أنه قرأ بسبتة على ابن عبيد الله الحجري وأبي الصبر أيوب. وكأن المؤلف لم يقف على هذه الإجازة؛ إذ أنه يميل إلى الاستقصاء في سرد الشيوخ إلا إذا كان غير متحقق من أخذه عنهم.

(3)

في طرة الأصل: لعله التسعين.

ص: 296

قال أبو القاسم ابنُ عِمْران: رأيتُه بسَبْتةَ عامَ أربعةٍ أو خمسةٍ وست مئة وهُو في زِيِّ النُّسَّاك، اجتَمَعتُ به عندَ الشّيخ الفاضل أبي العبّاس الأزرق (1) رضي الله عنه وهو لابسٌ مُرَقَّعةً، وعَرَضَ عليه وأنا حاضِرٌ وثيقةً كتبَها في طلاقِه الدّنيا، ثم رأيتُه بعدَ عام ستّةٍ وعشرينَ، وسايَرْتُه في محَلّة المأمون (2)[المتوجِّهة إلى مَرّاكُش] وهو محتسِبُ الطعام بها، فأنشَدَني من شعرِه قطعًا كثيرةً، وكان مُكثِرًا من النّظم، فذكَرَ لي شيخُنا أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ رحمه الله أنه كان بإشبيلِيَةَ في كنَفِ أبي العلاء ابن المنصُور، وأنه لزِمَه نحوَ [

، وجُمِعت] له أمداحُه فيه فبَلَغَت ثلاثةَ مجلَّداتٍ ضخمة، ومن أمداحِه فيه [وقد انتَقل إلى إشبيلِيَةَ] واليًا بعدَ قُرطُبة: قولُه [من البسيط]:

يا سعدُ حمصُ لقد نالت بكَ الأملا

كأنك الشمسُ قد حَلَّت بها الحَمَلا

فكلُّ فصلِ ربيع ناشرٌ زَهَرًا

تَخالُهُ فوقَ أعطافِ الرُّبى حُلَلا

وأيُّ جوّ تجَلَّت فيه مُنحرِفًا

أنوارُ عَدْلِك في الدنيا فما اعتَدَلا؟!

هي السّعادةُ أحظَتْها بما سألتْ

وحسبُ ذي السُّؤلِ أن يحظَى بما سألا

[وحبّذا] نيّةٌ أضمَرْتَها صَدَقتْ

فأكسَبَ الصِّدقُ تلك النيّةَ العمَلا

قد حقَّق اللهُ آمالَ العبادِ فمُذْ

وليتَ أذهبتَ عنها الرَّوعَ والوَجَلا

إن كان فيها أميرُ المؤمنينَ وقد

نالت بعَلْياهُ في أقطارِها الأملا

فعدلُهُ كالمسَمَّى جيءَ مبتدَأً

به وكنتَ له التوكيدَ والبَدَلا

سلَّتْك كفُّ الهُدى منه على ثقةٍ

سَلَّ الحسامِ بها كي تحسِمَ العِلَلا

واليومَ قد علِمتْ أقطارُ قُرطُبةٍ

لفَقْدِ مرآك منها ما بها نَزَلا

(1) انظر ذكره في اختصار الأخبار: 19.

(2)

كان سفر المحلة المذكور من إشبيلية إلى مراكش في سنة 625 هـ (انظر البيان: 264).

ص: 297

باتت وسَلسالُ ذاك النهرِ في كدَرٍ

فيها وناعمُ ذاك الرَّوْض قد ذَبُلا

وأصبحتْ حمصُ جنّاتُ النّعيم وقد

أعدَدْتَ رِفْدَك للعافي بها نُزُلا

قد كان بالنهرِ معناها يَرُوقُ حلًا

واليومَ بالبحرِ معناها يفوقُ علا

بحرٌ يَهُولُ فيُفني مَوْجَ سطوتِهِ

كما يقولُ فيُغني كلَّ مَن سألا

يَفيضُ بالعلم أو بالجُودِ زاخرُهُ

يَروي ويُروِي فيُغني قال أو فعلا

فللرواةِ جميعًا والعُفاةِ بهِ

للوِردِ سَلسالُ ماءٍ قد صَفَا وحَلا

يَا واصلًا سنَدَ التوحيدِ يحمِلُهُ

عن الخلائقِ بالمَهْديِّ متّصلا

عَلياكَ كالنّصِّ لم يَبْقَ الظهورُ بها

من البيانِ سوى التأويل محتملا

وللفضائلِ أنواعٌ معدَّدةٌ

وأنت جنسٌ على أنواعِها اشتَمَلا

.... عن أن يحيطَ بها

وهل لها غايةٌ حتى يقالَ ألا؟!

.... يطوفُ الآمِلونَ بهِ

وكفُّك الرُّكنُ مما اعتادت القُبَلا

..... بها ما صفا وبها

بيضُ القواضبِ نارٌ تحرِقُ البطلا

.... مائها بالجودِ منهمرًا

والموتُ من نارِها بالبأس مشتعلا

.... وهو من عَلياهُ في عددٍ

مقسَّمَ الفِكرِ في أبوابِ كلِّ عُلا

.... طما بحرًا سَطا أسدًا

أضاء بدرًا ذكا رَوْضًا رَسَا جَبَلا

جُودًا وعلمًا وإقدامًا ونورَ هُدًى

وطيبَ ذكْرٍ وعلمًا بالتُّقَى كمُلا

تراهُ بالخيرِ رَوْضًا حاملًا زَهَرًا

لكنّهُ زَهَرُ الآدابِ محتفِلا

يهزُّه الطَّرفُ غُصنًا حفَّ من أدبٍ

والحِلم يُرسيه طَوْدًا بالنُّهى ثَقُلا

تهوى محاسنَهُ الدنيا ليمنَحَها

وَصْلًا فيُعرضُ هِجرانًا لها وقِلى

إن سار كان مقيمًا من مهابتِهِ

وإن أقام يُرى بالعَزْم مُرتحِلا

ص: 298

وعَدْلُه الشمسُ لكنْ غيرَ آفلةٍ

وفضلُه الظِّلُّ لكن ليس مُنتقِلا

حازَ العمومةَ من عدنانَ مفتخرًا

إلى الخُؤولة من قحطانَ فاكتملا

فمن سَليم بن منصُور وسُؤدَدِها

ومن حِزام عدِيّ مجدَهُ انتَحَلا

وبالجلالينِ من قَيْس ومن يَمَنٍ

أقام قِسطاسَ وَزْنِ الفخرِ معتدلا

يَا ابنَ الخلائفِ حازوا المجدَ من مُضَرٍ

فعِزَّهم ذلَّلَ الأيامَ والدُّولا

جَدَّ الزّمانُ وكان الهَزْلُ شيمتَهُ

فينا وجاد علينا بعدَما بَخِلا

فنام بالأمن جَفْنٌ بات من جَزَعٍ

بإثمدِ السُّهد في الظلماءِ مكتحِلا

وقام قاعدُ أمرِ الله منتهضًا

يَفي بحَمْل الأماناتِ التي حَمَلا

وأصبحَتْ دعوةُ التوحيدِ زاهيةً

زهوَ العَرُوس تجُرُّ الحَلْيَ

والبيضُ تهتزُّ مثلَ البيض من طرفٍ

والخَيْلُ تعرفُ فيها نخوةَ الخُيَلا

زَهَا به المجلسُ السامي وحُقَّ لهُ

حتى لقد طار من زهوٍ به جَذِلا

فقلْ لمَن يدَّعي هذا المقامَ: كفَى

فإنّ بُرهانَ هذا يبهَرُ الجَدِلا

واعجَبْ لناديه يقوَى حَمْلُهُ وبهِ

علمٌ وحلمٌ أقلّا السهلَ والجَبَلا

وكفُّه كيف تَهْمي سُحْبُ وابلِها

وليس تُبصرُ في أرجائها بَلَلا

يَا لائميهِ على الإفضال ويْحَكمُ

وهل رأيتُمْ .................

من جاد بالذاتِ يومًا لا انتقالَ لهُ

ومن يكنْ عَرَضًا .... منتقلا

قد كاد يسبِقُ ظنِّي كونُهُ مَلِكًا

لولا تحقُّقُ عِلمي كونَه رَجُلا

كانت تُروِّعُني الأيامُ ظالمةً

واليومَ إن قصَدَتْني بالخطوبِ فلا

وكيف أخشى لجَوْرِ الدهرِ حادثةً

وعدلُ إدريس يَنْفي الحادثَ الجَلَلا

مَن صَفْحُهُ يصرِفُ الجاني بسَطْوتِهِ

إلى المتابِ وكم صَفْح جنَى الزَّلَلا

ص: 299

من يَستلِذُّ ثناءَ المادِحينَ لهُ

منّا كما يَستلِذُّ العاشقُ الغَزَلا

من يُذعِرُ الأُسْدَ والهيجاءُ قد جعَلتْ

لها الصَّوارمَ والعَسّالةَ الذُّبُلا

في بعضِه بعضُ وصفِ البيض إن نَظَرتْ

خِلتَ المضاربَ منها الأعيُنَ النُّجُلا

وكلُّ حدٍّ كخدٍّ فهيَ إن دُعِيَتْ

بيضًا ستحمَرُّ في الهيجاءِ لا خَجَلا

بيضٌ تُعانقُ عشّاقَ الحروبِ هوًى

والوصلُ منها صدودٌ يُنفِذُ الأجَلا

هي السيوفُ فإن فاضَتْ جداولُها

سقَتْ قلوبَ العدا ماءً الرَّدى نَهَلا

يَا ناظمَ الحمدِ بالأموالِ يُكثِرُها

لقد وصَلتَ من العلياءِ ما انفَصَلا

وراغبَا باجتماع الحمدِ يُكسِبُهُ

وزاهدًا بافتراقِ المال مُتّكلا

ما زلت تشعرُ في نظم الفَخارِ كما

ما زلتَ تُخطُبُ في نَثْر اللُّهى عَمَلا

تُبِينُ بالفعل معنى المجدِ تُظهرُهُ

والفعلُ أصدقُ مدلولٍ لمن عَقَلا

تُرى أُعِيدَ بها المنصورُ سيِّدُنا

فالتاجُ ثاقبُ ذاك النجم إذْ أَفَلا

أحيَيْتَ قُطْرًا فقطرًا أرضَ أندَلُسِ

كأنّك القَطْرُ يُحيي حيثُما نَزَلا

يَا عاضدَ الأمرِ في سرٍّ وفي علنٍ

حتى استقَلَّ سُموًّا بالهدى وعَلا

وباذلَ النفْس والأموالِ مُبتغيًا

إظهارَ دينِ الهدى في كلِّ ما بَذَلا

أشبَهْتَ في فعلِك الصِّدِّيقَ حين دعَا

خيرُ البرّية لبَّى الأمرَ وامتَثَلا

إنفاقُ مالِك قبلَ الفتح أذكَرَنا

من شِعْرِ حسّانَ بيتًا سُقتُهُ مثَلا:

"إذا ذكَرْتَ أخا فضل بمَنْقَبةٍ

فاذكُرْ أخاك أبا بكرٍ بما فَعَلا"

يدعو الإمامُ لرعي الصَّدقِ فيك كما

دعَا الرسولُ إلى الصدِّيق إذ فضلا

نبِّهْ إلى العِلم دُنيا طالما رقَدَتْ

عنهُ وذكِّرْ زمانًا طالما غَفَلا

........................

وحلّ حالي بكمْ لي ألَّف العَطِلا

ص: 300

....... والسعد تهزِمُهمْ

ورَوِّح البِيضَ في الأغمادِ والأسلا

وألقِ فيهم عصا موسى فإنّهمُ

إن تُلقِها ساعةً في سِحْرِهمْ بَطَلا

.......... أمر الله تَنصُرُهُ

إذا أقام وتَرعاهُ إذا ارتَحَلا

ليُهنِكَ العيدُ والصّومُ السّعيدُ فما

قدَّمتَ من كلِّ بِرٍّ فيه قد قُبِلا

ومن شعرِه: قولُه يَرثي أبا محمد بنَ أبي بكر ابن الجَدّ، وتوفِّي يومَ عيدِ الفِطر، وكان توفِّي له أخٌ قبلَه، ويُعزِّي أباهما أبا بكرٍ (1) [من البسيط]:

أرَجّةُ الصعْقِ يومَ النَّفْخ في الصُّورِ؟

أم دَكّة الطُّورِ يوم الصَّعق في الطُّورِ؟

أم هَدَّت الأرضُ إظهارًا لِما زَجَرَت

به الخليفةَ من إيقاع محذورِ؟

أم الكواكبُ في آفاقِها انتَثَرت

وباتَتِ الشمسُ في طيٍّ وتكويرِ؟

ما للنهارِ تعَرَّى من ثيابِ سَنًا

وشابَهَ اللّيلَ في أثوابِ دَيْجورِ؟

قد كان للصّبح طَرْفٌ زانَهُ بَلَقٌ

مقسّمُ الخَلْق بين الدَّجْنِ والنورِ

فما المُلمُّ الذي غشَّى بدَهْمتِهِ

أديمَهُ عنبرًا من بعدِ كافورِ؟

أصِخْ لتسمعَ من أنبائها نبأً

يَطْوي من الأُنسِ فيها كل منشورِ

وانظُرْ فإنّ بني عدنانَ ما حُشِروا

إلا لرُزْءٍ عظيمِ القَدْر مشهورِ

وافَى معَ العِيْدِ لا عادت مضَاضتُهُ

فشابَ سَلسالَهُ الأصفى بتكديرِ

واعتَامَ دارًا لها في السَّبقِ جَمْهرةٌ

من المفاخرِ أزْرَت بالجماهيرِ

رمَى قريشًا فأصمَى سهمُ حادثةٍ

أبناءَ فِهر بتفريقِ المقاديرِ

فخانَها الجَدُّ في ابنِ الجَدِّ يومَ قضَى

وأثَّر الخَطْبُ فيها أيَّ تأثيرِ

لله والمجدِ ما أبقاهُ من أثرٍ

أخرى اللّيالي بطِيب الذِّكرِ مأثورِ

(1) وردت هذه القصيدة في أزهار الرياض 2/ 383، وجذوة الاقتباس:354.

ص: 301

نَوّارةً عندما راقَتْ بدوحتِها

أهوَتْ إلى التُّربِ من بين النواويرِ

جار الذُّبولُ عليها بعدَما مَلأَتْ

معاطسَ الدّهر من طِيْبٍ وتعطيرِ

وسَيْفُ بأسٍ لكسر الخَطْبِ أغمَدَهُ

صَرْفُ الحوادثِ فيها بعدَ تكسيرِ

قضَى فوافَقَ شهرَ الصّوم مُرتحِلًا

ووافَقَ الشهرَ في فضلٍ وتطهيرِ

واختاره خاطبُ الخَطْب المُلمِّ بهِ

للصِّهر كُفْئًا فأمضَى العَقدَ للحُورِ

فسار للحَيْنِ مسرورًا وخلَّفَنا

للحُزْنِ فاعجَبْ لمحزونٍ بمسرورِ

نادَيْتَ أنجشةَ (1) الأحزانِ يومَ حَدَا

أظعانَ قلبَي: "رِفْقًا بالقواريرِ"

فالوَجْدُ والدمعُ من حُزنٍ قد اقتَسَما

قلبي وجَفْني بمنظومٍ ومنثورِ

والقلبُ بالقَيْضِ في تصعيدِ مُستعرٍ

والجَفْنُ بالفَيْض في تصويبِ ممطورِ

وسائقُ الخَطْب يَشْدو الحاملينَ لهُ

يَسُوقُهمْ سَوْقَ حادي العيرِ للعِيْرِ

وللملائكِ في آفاقِها زَجَلٌ

قد شيَّعتْه بتهليلٍ وتكبيرِ

ثنَى المُصابَ على شيخ الجزيرةِ في

عَقْدٍ وحَلٍّ وتقديمٍ وتأخيرِ

ذاق الرَّزايا على مقدارِ منصِبِهِ

والابتلاءَ على قَدْر المقاديرِ

لم يُصمِهِ الدّهرُ في الأبناءِ من حنَقٍ

ولا بلاهُ لترقيبٍ وتحويرِ

وإنّما بادَرَ الأعلاقَ منتقيًا

يَصُونُها صَوْنَ تعظيم وتكبيرِ

إن كان فَرَّقَ شَمْلَ الأُنسِ عنه فكم

أَولاهُ للأجرِ من جَمْع وتوفيرِ

يَا دهرُ حَمَّلتَهُ وقْعَ الخطوبِ، ولم

تزَلْ تُنفِّذُ عنه كلَّ مأمورِ

فلم تجرِّبْ عليه جُبنَ ذي خَوَرٍ

في النائباتِ ولا إحجامَ مذعورِ

(1) أنجشة: مولى للنبي صلى الله عليه وسلم كان حاديًا له، وله قال:"رفقًا بالقوارير".

ص: 302

أردتَ بالصَّبر عنه أن تُقيمَ لنا

بُرهانَ تقديمِه للخَيْر والخِيْرِ

يا عامرَ التُّرْب كم خلَّفتَ من كبِدٍ

ومن فؤادٍ بثاوي الحزنِ معمورِ

لو كنتَ تُحمى وتُفدى للعُلا ابتَدَرتْ

آلافُها بالقَنا أو بالقناطيرِ

أُسْدٌ تُنادي بعُقبانِ الخُيولِ إلى

تمزيقِ لَحْم الأعادي بالقناطيرِ

مشمِّرينَ إلى ورد الكريهةِ ما

نالوا العلاءَ الذي نالوا بتقصيرِ

بَنُو الكرام أولو الراياتِ قادَ بهم

إلى الوغَى ابنُ نُصَيْرٍ كلَّ منصورِ

ساقَتْهمُ غَيْرةُ الإيمانِ فانتَدَبوا

لنُصرة الدِّين كالأُسْدِ المهاصيرِ

بعَزْم كلِّ معدِّيٍّ يُسايرُهُ

فتحُ الجزيرة بين السَّرْح والكورِ

حَجُّوا أباطيلَ لذْرِيقٍ بحقِّهمُ

فأبطلوهُ بأبطالٍ مغاويرِ

وإنّما الموتُ حُكمٌ ليس يَدخُلُه

نَسْخٌ لخَلْقٍ وعدلٌ دونَ تجويرِ

يقضي على الأُسْدِ في الآجامِ حاكمةً

وفي الكِنَاس على البِيض اليعافيرِ

ويقنِصُ الشُّهْبَ في شَمِّ الجبالِ كما

في الوكْرِ يعتامُ أفراخَ العصافيرِ

أعظِمْ بآياتِه في آيةٍ عَظُمت

فليس تُدرَكُ في حالٍ بتفسيرِ

فسلِّمِ الأمرَ فالأقدارُ قد نفَذَتْ

وكلُّ شيءٍ بتقدير وتدبيرِ

ما فَقْرُ ذي الفقرِ عن جهلٍ ولا كسَلٍ

ولا غِنى المرءِ عن كَيْس وتشميرِ

ولا الحِمامُ بنقصٍ في المِزاج ولا

ضعفُ الطبيعة عن أسبابِ تدبيرِ

وكم صحيح قضَى فيها بلا مرضٍ

وكم مريضٍ أقامته لتعميرِ

وإنّما هي أحكامٌ مقدَّرةً

على مداها وأقسام بتقديرِ

فاسمَعْ بقلبِك فالأشياءُ ناطقةٌ

وألسُنُ الحالِ تُغني كلَّ نحريرِ

مقدِّماتُ اللّيالي طالما فضَحَت

نتائجُ الغَدْر منها كلَّ مغرورِ

ص: 303

جَمْعُ السلامةِ معدومُ الوجودِ بها

وكم بها للرّدى من جمعِ تكسيرِ

وعاملُ الموتِ قد أحصَى مهندسُهُ

منازلَ العُمْر عدًّا دون تكسيرِ

والأرضُ طِرْسٌ وهذا الخَلْقُ أحرفُهُ

والحَرْفُ ما بينَ ممحوٍّ ومبشورِ

والدّهرُ يُعرِبُ بالأفعالِ يُظهِرُها

طوْعًا ويُعجِمُ منها كلَّ مسطورِ

وإنّما الخلقُ أسماءٌ تعاوَرَها

إعرابُه بين مرفوع ومجرورِ

وكلُّهم في مدى الأعمارِ تحسَبُهم

كحالِها بين ممدودٍ ومقصورِ

والموتُ مثلُ عَروضيٍّ يُقطِّعُ من

أبياتِهمْ كلَّ موزونٍ ومكسورِ

يا مَن يؤمِّلُ أن يبقى وكم نقَضَتْ

أيدي المقاديرِ من إبرام تقديرِ

هذي الحقيقةُ لا ما حدَّثَتْكَ بهِ

آمالُ نفْسِك عن دُنياك من زُورِ

لا تخدَعَنْك الليالي، إنّ فتنتَها

كادت فكادت تُرينا كلَّ محذورِ

كم بكرَتْ بعُبوس الخَطْبِ من ملِكٍ

قد باتَ بالبِشر وَضّاحَ الأساريرِ

سائلْ بكسرى مليك الفُرس هل تركَتْ

له المنايا جناحًا غيرَ مكسورِ

وانزِلْ بصنعاءَ في قصرِ ابن ذي يَزنٍ

تُلْمِمْ بقصرٍ على الأغيارِ منصورِ

واعبُرْ على حِيرةِ النُّعمان معتبِرًا

تعبُرْ بأطلالِ نُعمَى ذات تعبيرِ

وأين مَن كان سِجنُ الجنِّ في يدِهِ

والإنسُ والجِنُّ في قهرٍ وتسخيرِ؟

وأين مخترِقُ الدنيا بعَزْمتِهِ

يَطوي البلادَ بها طيَّ الطواميرِ؟

بادوا فليس بها بادٍ يُحَسُّ بهِ

منهمْ، وأفناهمُ رَيْبُ الدّهاريرِ

هو القضاءُ أبا بكر أُصِبْتَ بهِ

فاصبِرْ وسلِّمْ له تسليمَ مأجورِ

واللهُ يحرُسُ عَلْياكمْ ويدفَعُ عن

سامي مَعاليكَ أنواعَ المحاذيرِ

ص: 304

وهذا كما تَراه من النّمطِ العالي، والطِّراز الكامل الحَسَن [الغالي، لا سيّما أول، قسيمَيْ مطلعِها وبينَه وثانيه انحطاطٌ يتشبَّثُ به النَّقْد، [وقولُه]: "إعرابُهُ بين مرفوع ومجرورِ" نَقَصَه من مُعرَباتِ الأسماء: المنصوبُ، [وقولُه]:"كحالِها بينَ ممدود ومقصورِ" لا يتناولُ إلا أقلَّ الأسماء وما آخِرُه منها ألف وما قبلَ آخِره حرفُ عِلّة أو أمكَنَ إلحاقُه هناك في مصطلح بعضِهم، ولكنه غَطّى حَسَنُه على قبيحِه، ودخَلَ هجينُه في شفاعةِ صريحِه.

وقد رأيتُ تثليتَ هاتَيْن القصيدتَيْنِ بقصيدتِه البارعة التي نَظَمَها في مدح سيِّد البشر المصطفى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وسمّاها (المَيْمونيّة) ليعزِّز جمالَ الرائق بكمالِ الفائق، ويَعدِلَ عن مجَازاتِ المَجازات إلى حقائقِ الحقائق، نفَعَ اللهُ ناظمَها وراسمَها ومُنشِدَها ومستجيدَها وسامعَها ومستعيدَها، وهي هذه (1) [من الطويل]:

حقيقٌ علينا أن نَجيبَ المعاليا

لنُفنيَ في مَدْح الحبيبِ المَعانيا

ونجمَعَ أشتاتَ الأعاريضِ حِسبةً

ونحشُدَ في ذاتِ الإله القوافيا

ونقتادَ للأشعارِ كلَّ كتيبةٍ

لنَضْرِ الهدى والدِّين تُردي الأعاديا

فألسُنُ أربابِ البيانِ صوارمٌ

مضاربُها تُنسي السيوفَ المواضيا

لنُطلِعَ من أمداحِ أحمدَ أنجُمًا

تَلوحُ فتَجْلو من سَنَاهُ الدَّياجيا

كواكبُ إيمانٍ تُنيرُ فيهتدي

بأضوائها مَن بات يُدلجُ ساريا

سهوْتُ بمَدْح الخَلْق دهري، وهذه

سُجودي لجَبْري كلَّ ما كنتُ ساهيا

فلا مَدْحَ إلا للذي بمديحِهِ

تُطيعُ إذا ما كنتُ بالمدح عاصيا

رسُولٌ براهُ اللهُ من صفْوِ نورِهِ

وألبَسَهُ بُردًا من النورِ ضافيا

وما زال ذاك النُّورُ من عهدِ آدمٍ

يُنيرُ به اللهُ العصورَ الخَواليا

(1) وردت هذه القصيدة في أزهار الرياض وجذوة الاقتباس، وقد اشتملت على أمور مشروحة في السِّيَر، وتكثر الحواشي لو علقنا عليها.

ص: 305

ثَوى في ظهورِ الطيِّبينَ يَصُونُهُ

وديعةُ سرٍّ صار بالبعثِ فاشيا

وخصَّ بطونَ الطيِّباتِ بحَمْلِهِ

ليَحْمِلنَ فَرعًا بالسّيادةِ زاكيا

به وَزَنَ اللهُ الخلائقَ كلَّهم

فألفاهُ فيهمْ راجحَ الوزنِ وافيا

وأنقَذَنا من نارِه بظهورِهِ

ولولاه كان الكلُّ بالشِّرك صاليا

وآدمُ لمّا خاف يُجزى بذنبِهِ

توسَّل بالمختارِ لله داعيا

فتابَ عليه اللهُ لمّا دَعَا بهِ

وأدناهُ منهُ بعدَما كان نائيا

وقد يُهجَرُ المحبوبُ في حالةِ الرِّضا

ويأبى الهوى ألّا يصدق واشيا

(وعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ

ولكنّ عينَ السُّخط تُبدي المَساويا) (1)

وأدرَكَ نوحًا في السفينةِ رعيُهُ

فخلَّصه إذ كان في الموج جاريا

وما زالَ سامٌ وهْو ثاوٍ بظهرِهِ

على أخوَيْهِ بالفضائل ساميا

فخُصِّص حتّى بالمكانِ كرامةً

وأُسكِنَ في أعلى البلادِ مَراقيا

وأُنزِلَ حامٌ بالجنوبِ مجُانِبًا

ويافثُ في أقصى الشمالِ مُوارِيا

وأُنزِلَ سامٌ للفضيلةِ وحدَهُ

بأوسطِ معمورِ البلادِ الأعاليا

وبادَرَ جبريلُ الخليلَ لأجلِهِ

ليحميَهُ إذ أبصَرَ الجمرَ حاميا

وُيخبَرُ في وقتِ البلاءِ يقينَهُ

فصادَفَ وِرْدَ الخُلّةِ العذب صافيا

فقال له: هل تسالني كفايةً؟

فقال له حسبي

كافيا (2)

فكانت عليه النارُ بَرْدًا كما أتَى

به وسَلامًا وهْي نارٌ كما هيا

(1) هذا البيت من مقطوعة لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر.

(2)

هكذا في الأصل، وفي البيت اختلال وسقط ظاهران.

ص: 306

وجازاهُ في الإسراء عنها نبيُّنا

وألهَمَها فوقَ السماواتِ ساريا

فلمّا انتَهى جبريلُ عندَ مقامِهِ

بحيثُ تَلقَّى الأمرَ أنْ لا تَماديا

أشار على المختارِ أنْ سِرْ فإنهُ

مقاميَ لا أعدوهُ ما دمتُ باقيا

[فناداه: يا جبريلُ هل لك حاجةٌ

إلى الله فاسألها لتُعطى الأمانيا؟]

فقال له: سَلْهُ لأبسُطَ رغبةٍ

على النارِ منّي للعُصاة جَناحيا

فدُلِّيَ في أُفْقِ المَهابةِ رَفْرَفٌ

وزجُّ بُراقِ العزِّ في النورِ رُقِّيا

ومن أجلِهِ خصَّ الذبيحَ فداؤه

وفي ظهرِه المختار أصبح ثاويا

فَداهُ بذِبْح عَظّم اللهُ شأنَهُ

لأنْ كان دهرًا في الفراديسِ راعيا

وثنَّى بعبدِ الله حاملِ فضلِهِ

فكان بذاك الفَرْع للأصل راقيا

لذلك ما قال الرسُولُ منبِّهًا

"أنا ابنُ ذَبيحَيْها" يعُدُّ المعاليا

وعَفَّ أبوه إذْ دعَتْه لنفسِها

فتاةٌ رأتْ نُورَ النُّبوءةِ ضاحيا

مضَى ولذاك النورِ بينَ جبينِهِ

شُعاعُ سنًا يُعشي العيونَ الروانيا

فأعرَضَ عنها ثم سار لشأنِهِ

وكان له الرّحمنُ بالحفظِ واقيا

وعاد وقد أدّى أمانةَ ربِّهِ

لأُمّتِه وَعْدًا من الله ماضيا

ومَرَّ على حيِّ الفتاة فنوديَتْ

هَلُمِّي تصادفْ لدغةُ الحبِّ راقيا

فقالت لهم: قد كان ذلك مرّةً

لأمرٍ عصَيْنا في هواهُ النواهيا

أردتُ بأن أُعطَى سناهُ وقد قضَى

لغيري بهِ مَن كان بالحقِّ قاضيا

وكم طالبٍ ما لا يُنالُ، وقاعدٍ

سعادتُه تُبدي له السُّؤلَ دانيا

وكم شاهدَتْ من آيةٍ أُمّةٌ به

يَصيرُ بها جِيدُ الديانةِ حاليا

رأتْ في معاليه مَرائيَ جَمّةً

فصَدَّقتِ الآثارُ تلك المرائيا

ص: 307

وقيل لها: بُشراكِ فُزتِ بخيرِ مَن

يُرى فوقَ أكنافِ البسيطةِ ماشيا

وحَفّت به الأملاكُ في حينِ وضعِهِ

بليلةِ إفضالِ تَزِينُ اللياليا

وبشَّرَ رضوانُ الجِنانِ بخلقِهِ

ففتَّحَ جنّاتِ النَّعيم الثمانيا

ونادى منادي العزِّ: طُوفوا بأحمدٍ

جهاتِ الدّنا طُرَّا وعُمّوا النَّواحِيا

بَدَا واضعًا كفَّيْهِ بالأرضِ رافعًا

لعينيهِ نحوَ الأفْقِ بالطرفِ ساميا

وأعْوَلَ إبليسُ اللَّعينُ وقال: قد

يئستُ وقِدْمًا كنتُ للكفرِ راجيا

وسار إلى صنعاءَ شَيْبةُ جَدُّهُ

فحَلَّ محلًّا للوِفادةِ قاضيا

وحَيَّا بغمدانَ ابنُ ذي يَزَنٍ بها

وهنَّأهُ بالمُلكِ إذ عاد واليا

فقرَّبَهُ دونَ الوفودِ وخصَّهُ

ليسمعَ قولًا في الرسالةِ شافيا

وقال لهُ: إنّا وجَدْنا بكُتْبِنا

نبيًّا يُرى من نحوِ أرضِك آتيا

يموتُ أبوهُ ثم تهلِكُ أُمُّهُ

ويكفُلُه بعضُ العمومةِ حانيا

وقال له: والبيتِ ذي الحُجْب زارَهُ

وفودُ الوَرى جابوا إليه الفَيافِيا

لَأنت على ما يقتضي الوعدُ جَدُّهُ

فشيِّدْ به للمجدِ ما كنتَ بانيا

وقال له: احفَظْ ما أقولُ فإنهُ

سيملِكُ أرضي إذ رأى المُلكَ واهيا

وقولُ هِرَقْلِ إذ أظلَّ زمانُهُ

فقال: أرى مُلكَ الخَتانِ مُوافيا

وطالَعَ فيه مصحفَ الأُفْق ناظِرًا

كما زَعَموهُ يستشيرُ الدَّراريا

فلم تَنقَضِ الأيامُ حتى أتَى لهُ

كتابُ رسُول الله للحقِّ داعيا

فباحَثَ عنه أهلَ مكةَ سائلًا

وكان بأوصافِ النبيئينَ داريا

ولبَّى الهُدى لمّا دَعَاهُ جَمالُهُ

وهام قليلًا ثم أُلفيَ ساليا

ووِرْدُ الرِّضا لا يَهتدي لسبيلِهِ

فيَروَى به مَن كان في البَدءِ صاديا

ص: 308

وإيوانُ كسرى ارتجَّ ليلةَ وضعِهِ

وباتَ عليه قَصرُه مُتداعيا

وزاد برؤيا الموبَذانِ ارتياعُه

فأذهَلَه أنْ يَستبينَ المَساعيا

وفسَّرَها شِقٌّ وشَقَّ غُبارَهُ

سَطِيحٌ بسَجْع قَصَّ ما كان رائيا

فنَصّا على إرسالِ أْحمدَ مثبِتًا

لدِين الهُدى بالرغم للكفرِ ماحيا

وأُخْمِدتِ النيرانُ نيرانُ فارسٍ

وكانت تَلظَّى ألفَ عامٍ تواليا

وحُمِّل ذاك الحُلمُ حُجْرَ حليمةٍ

لتُرضِعَه درَّ الفضائلِ صافيا

أبَي حَمْلَه النِّسوانُ لليُتْم وانْبَرَتْ

له فرأَتْ من حينِها الرزقَ ناميا

فحازَتْ به السَّبْق الأتانُ كرامةً

وأخصَبَ مرعاها ففاق المراعيا

وشارَفَها إذ لا تَبِضُّ بقطرةٍ

فصارت به ثَجًّا تُروِّي الصَّواديا

وفي حيِّها وافاهُ جبريلُ قاصدًا

وأقبَلَ ميكائيلُ بالأمرِ تاليا

فشَقّا به صدرَ النبيِّ لشَرْحِهِ

فكان لِما يُلقِي له اللهُ واعيا

ورَدّاهُ في الحينِ التئامًا فما تَرى

سوى أثرٍ ما زال للشَّرح باقيا

وجاءا بمِنديل وطَسْتٍ ليَغسِلا

بماءِ الرِّضا قلبًا عن الله راضيا

وعاد أخوه فازعًا مُخبِرًا بما

جَرى من مَخُوفٍ كان للأمر جاريا

فسارَتْ به من حينِهِ نحوَ أُمِّهِ

تخافُ عليه إن أقام العَواديا

وما زال محروسًا أمينًا مؤمَّنًا

سَبُوقًا صَدُوقًا ساميَ القدرِ عاليا

حيِيًّا وفِيًّا خاشعًا متواضعًا .... كريمًا حليمًا يستفزُّ الرّواسيا

وفي سَيْرِهِ للشام شامَ بقُربِهِ

بُروقَ الهدى مَن لم يكنْ قطُّ رائيا

أكَبَّ عليه في طريقِ مسيرِهِ

إليها (بَحِيرا) للهدى مُتَراميا

ولمّا رأى تلك العلاماتِ لم يزَلْ

لِما وافَقَ الكُتْبَ القديمةَ باكيا

ص: 309

وكانت به من غلّةِ الشّوقِ علّةٌ

فساقَ له اللهُ الطبيبَ المداويا

وقصّتُه في ذي المَجاز وعمِّه

به ظمَأٌ قد صيَّرَ الصّبرَ فانيا

فأهوى ولا ماءٌ إلى الأرض راكضًا

ففجَّر ينبوعًا من الماءِ جاريا

وكم بان من يُسرٍ لميسرةٍ به

يَرُدُّ أخا سُكرِ الغواية صاحيا

فكان إذا اشتدَّ الهَجِيرُ أظَلَّهُ

غَمامٌ عليه لا يزالُ مُماشِيا

وأخبَرَه نِسطُورُ بُصرى ببَعْثِهِ

فأظهَرَ من غيبِ الرسالةِ خافيا

وبُغِّضت الأصنامُ للمصطفى فلم

يزَلْ هاجرًا فعلَ الضّلالةِ قاليا

وكان يَرى ضَوْءًا يَلُوحُ لوجهِهِ

ويسمَعُ تسليمًا عليه محُاذِيا

ويأتي حِراءً للتحنُّثِ قاصدًا

محبًّا لأسبابِ الوِصالِ مُراعيا

وَيخرُجُ من بينِ البيوتِ لعلّهُ

يحدِّثُ عنه النفْسَ في السرِّ خاليا

وكان رآه اللهُ أكرمَ خَلْقِهِ

فأرسلَهُ بالحقِّ للخَلْقِ هاديا

وأسرى به ليلًا إلى حضرةِ العُلا

فما زال فيها للحبيبِ مُناجيا

وسار على ظهرِ البُراقِ كرامةً

له راكبًا إذ سار جِبريلُ ماشِيا

ولمّا أتا الوحيُ وارتاع قلبُهُ

لشدّةِ ما قد كان منهُ مُلاقيا

فسارَتْ به عَمْدًا خديجةُ زوجُهُ

لتسألَ حَبْرًا بالزِّمانةِ فانيا

وكان امرءًا قد مارَسَ الكُتْبَ قارئًا

وبات لضِيفانِ المعارفِ قاريا

فبَشَّرَه أنْ سوف يطلُعُ صُبحُهُ

فيكشِفُ من ليل الغوايةِ داجيا

وقال له: يا ليتَني كنتُ حاضرًا

بها جَذِعًا أُوليكَ نفْسي وماليا

ووقتُك إنْ يُدرِكْ زمانيَ يومُهُ

ومَن لي به أنصُرْك نَصْرًا مُواليا

وآيتُهُ في الغارِ إذ نَزلا بهِ

وكان له الصِّدِّيقُ بالصِّدقِ ثانيا

ص: 310

وقد أرسَلَ اللهُ الحَمامَ لبابِهِ

وقارَنَه بالعنكبوتِ مُضاهيا

فباضَ على الفَوْر الحَمامُ وشَيَّدت

من النَّسج أيدي العنكبوتِ مَبانيا

فدافَعَ عن صِدِّيقِه ورسولِهِ

بأضعفِ أسبابِ الوجودِ مقاويا

وكم آيةٍ خَصَّت سُراقةَ إذ مشَى

على أثرِ المختارِ للغارِ قافيا

فشاهَدَ آثارًا من الخَسْفِ كاد أنْ

يكونَ لقارونَ السَّفاهِ مؤاخيا

ولمّا دعا بالهاشميِّ أجارَهُ

فأبصَرَه في الحِين من ذاك ناجيا

وأصحَبَه منه ظَهيرًا (1) مُكرَّمًا

بخطِّ أبي بكرٍ يُخيفُ الدّواهيا

وأخبَرَه أنْ سوفَ يفتحُ أمرُهُ

مدائنَ كسرى والبلادَ الأقاصيا

ويُجعَلُ في كفَّيْهِ من بعدِ فَتْحِهِ

سِواراهُ مما يُحرِزُ الدِّينَ ساميا

فأنجَزَها الفاروقُ في حينِ فَتْحِها

له عِدَةً الصِّدق فيها مُباهيا

وآياتُهُ في خَيْمتَيْ أُمِّ معبَدٍ

وفي الشاةِ إذ لم تَبْقَ تصحَبُ راعيا

وفي الذئبِ إذ أقعَى وأخبَرَ مُفصحًا

عن المصطفى والذئبُ ما زال عاوِيا

وفي الضَّبِّ لمّا أنْ دعاهُ أجابَهُ

وقال له: لبَّيْكَ لبَّيْكَ داعيا

وآيتُهُ إذ فارَقَ الجِذعَ فضْلُهُ

فحَنَّ إليه الجِذعُ في الحالِ شاكيا

وإنّ انشقاقَ البدرِ أعظمُ آيةٍ

تَرُدُّ على من كان للدِّين زاريا

وفي الجَمَل الآتي بحضرةِ صَحْبِهِ

ليشكوَ تكليفَ المشقّةِ راغيا

وقصّتُه في المَحْلِ لمّا دعا لهمْ

فأبصَرْتَ سُحْبًا كالجبالِ هَواميا

وسال بها وادي قناةٍ (2) لأجْلِهِ

ثلاثينَ يومًا لم يزَلْ متواليا

(1) الظهير في الاصطلاح المغربي الأندلسي: الصك. يشير إلى الكتاب الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة.

(2)

وادي قناة: واد بالمدينة المنورة، وفي الحديث أنه سال شهرًا ولم يأت أحد من ناحيته إلا حدث بالجود.

ص: 311

وفي قصّة الزَّوْراءِ للخَلْقِ اَيةٌ

وذِكرى لعبدٍ كان للذكْرِ ناسيا

دعا بإناءٍ ليس يَنقَعُ ماؤه

لقلَّتِه بالرّي من كان صاديا

ففاضَ نَمِيرُ الماءِ بينَ بَنانِهِ

وكان وَضوءًا للكتيبةِ كافيا

ورِكوتُهُ يومَ الحُدَيْبِيَةِ التي

أفاض بها اللهُ البنَانَ سواقيا

وإشباعُهُ الجَمَّ الغفيرَ بقبضةٍ

من التّمرِ حتى شاهدوا التمرَ باقيا

وإخبارُه بالشيءِ من قبلِ كونِهِ

فيأتي على النصِّ الذي قال حاكيا

فأخبَرَ ذا النّورَيْنِ أنْ ستصيبُهُ

على الأمر بلْوى تُعقِبُ الأجرَ وافيا

فأخبَرَ عمارًا بأنّ حياتَهُ

سيقطَعُها بالقتلِ من كان باغيا

وقال لذي السِّبطَيْنِ أشقَى الورى الذي

يُخضِّبُها من هامةِ الرأس عاصيا

يُصادفُ نورَ الشَّيبِ أبيضَ ناصعًا

فيسقيهِ صوْبَ الحَتْف أحمرَ قانيا

ونَصَّ على السِّبطِ الشهيدِ بِكَرْبَلا

فقام له الدِّينُ الحنيفيُّ ناعيا

وفي الحَسَن الزاكي أبان بأنهُ

سيُصلح بينَ الناس للأجرِ ناويا

وقال لقوم: إنّ آخرَكمْ بها

مَماتًا سيَصْلَى جاحمَ الجمرِ حاميا

وقال: إذا ما مات كسرى فما تَرى

سَمِيًّا له أخرى اللّيالي مُساميا

وأخبَرَ عن موتِ النَّجاشيِّ حينَهُ

وبينَهما بحرٌ من الموج طاميا

وقال على قُرب الحِمام لبنتِهِ:

تمَوتينَ بَعْدي فافرَحي بلقائيا

وآياتُهُ جَلَّت عن العدِّ كثرةً

فما تبلُغُ الأقوالُ منها تناهيا

وأعظمُها الوَحْيُ الذي خَصَّه بهِ

فبَلَّغَ عنه آمرًا فيه ناهيا

تحَدَّى به أهلَ البيانِ بأسرِهمْ

فكلُّهمُ ألفاه بالعجزِ وانيا

وجاء به وحيًا صَريحًا يزيدُهُ

مرورُ اللّيالي جِدّةً وتعاليا

ص: 312

تضمَّن أحكامَ الوجودِ بأسرِها

وعَمَّ القضايا مثبِتًا فيه نافيا

وأخبَرَ عمّا كان أو هُوَ كائنٌ

يُرى ماضيًا أو ما يُرى بعدُ آتيا

ووافَقَ أخبارَ النبيِّينَ كلِّهمْ

وتمَّم بالغاياتِ منها المَباديا

وما كتَبَتْ يُمناهُ قطُّ صحيفةً

ولا ريءَ يومًا للصّحائفِ تاليا

عليه سلامُ الله لازال رائحًا

عليه مدى الأيام منّا وغاديا

وهذه وثيقةٌ أنشَأَها في بَيْع قلبِه من ربِّه أثبتُّها عَقِبَ هذه القصائدِ الفرائد لأشفَعَ منظومَه بمنثورِه، وأشيرَ بأنّ الصادرَ عنه في الفنَّيْنِ من أفضلِ محفوظِ الكلام ومأثورِه، وهي هذه:

يقولُ العبدُ الذي اعتَرَف، بما اقتَرَف، لمَوْلاه، وأقَرَّ له بما أضاعَه، لا بما أطاعَه، على ما منَحَه من النِّعَم وأَوْلاه، المَيْمونُ بنُ عليِّ بن عبدِ الخالق الخَطّابيُّ جَبَرَ اللهُ بالتّقوى كسرَه، وفكَّ من حبائلِ الدّنيا أسرَه: لم أزَلْ مدّةَ أيام، بل عِدّةَ أعوام، أُخاللُ كلَّ مُخِلٍّ بديني، وأستظلُّ من إطالةِ البِطالة بكلِّ ظلٍّ مضلٍّ يُرديني، وأُخالفُ كلَّ صالح مُصلح، وأحالفُ كلَّ طالح غيير مُفلح، وأجُرُّ أذيالَ المجونِ على أرضِ الراحة، وأطلقُ عِنانَ مُهْرِ الغفلة في ميدانِ النّسيانِ فيطيلُ جِمَاحَه ومَراحَه، راكبًا مطايا التسويفِ دون إهمال، مستوطئًا فُرُشَ الكسَلِ والانهماكِ في الشّهَواتِ والانهمال، مستوطنًا رَبْعَ التّصابي بقلّةِ الأعمالِ وكرةِ الآمال، سالكًا سبيلَ الهَزْلِ وطريقَه، تاركًا قَبِيلَ الجِدِّ وفريقَه، لا أَثْني عِناني إلى ما يَعْنيني، ولا أزالُ أعاني ما يُعَنِّيني، ولطائفُ الله عز وجل التي يَضيقُ عن حَمْدِ أصغرِها الأمكنةُ الفسيحة، ولا تُطيقُ بلوغَ شُكرِها الألسنةُ الفصيحة، صافيةُ الورود، ضافيةُ البُرود، قد طَنَّبت عليَّ قِبابَها ورُواقَها، وخَلَعت بعُنُقي ثيابَها وأطواقَها، واطّردتْ بمياه النِّعمة مَذانبُها وأنهارُها، وتساوَى في القدوم بالكرم ليلُها ونهارُها، وأنا معَ ذلك لا أزيدُ إلّا غَفْلةً عن القَصْدِ السَّنِيِّ وسهوًا، ولا أستزيدُ إلا اشتغالًا عن المقصودِ السُّنِّيِّ ولهوًا، إلى أن أجرى اللهُ عادةَ إحسانِه وجُودِه، وأرادتِ

ص: 313

الإرادةُ السائقةُ السابقةُ إخراجَ العبدِ المذكورِ من عَدَم الغفلةِ إلى ظهورِ الإلهام ووجُودِه، فسَّلَطَ رَعْدَ الخَوْف على سحائبِ سمائي فكشَفَها وجلاها، وحَلَّ بساحةِ أرضِها سُكْرُ السُّلوِّ فسَكِرَ بها عن سواه وجَلّاها، وقلَّد أجيادَ فِكْرِه بقلائدِ حَمْدِهِ وشُكرِه وحَلّاها، وسَلَّ من سُوَيْداءِ قلبِه محبّةَ غيرِه فنزَّهَها عنه وسَلّاها، فلاحَ إصباحُ النجاح، وآذَنَ ليلُ الغفلةِ بالصَّباح، ونادى منادي الوَصْلة بمنارِ العُزلة: حيَّ على الفلاح، وصاحَ كالئُ صبح النُّجح بالسَّفَر المُعرِّسينَ: شُدُّوا المَطِيَّ فقد سال نهرُ النهار، ومال جُرفُ اللّيلِ وانهار، وانفَجَرَ عَمُودُ الفجر بنُورِه الوَضّاح، فلاح، فأفاق العبدُ المذكورُ من نوم الرُّكون إلى السكونِ والكرى، وشَمَّر للسَّيرِ ذيولَه، وضمَّر للسَّبْقِ خيولَه، إذ سَمِع: عندَ الصباح يَحمَدُ القومُ السُّرى.

ثم كتَبَ العبدُ المذكورُ عَقْدًا، وعَهِدَ معَ المولى الجليل عهدًا، وهُو على خوفٍ ووَجَل، من المولى عز وجل، يسألُه إدراكَ ما أمَّلَه، والوصولَ إلى ما أَمَّ له، ويتبرَّأُ من حولِه وقوّتِه إليه، ويتوكَّلُ في جميع أمورِه عليه، ويقفُ بقَدَم النَّدم بين يدَيْه، معترفًا بما كان له مُقترفًا، وراجيًا أن يكونَ من بحرِ الإحسان لدُرَرِ الامتنان مغترفًا، والعَقْدُ المذكور:

هذا ما اشتَرى المَوْلى اللّطيفُ الجَليل، من العبدِ الضَّعيفِ الذَّليل، المَيْمونِ بن عليّ، اشتَرى منه في صَفْقةٍ واحدة دونَ استبقاءٍ ولا تبعيض، ولا استثناءٍ بتصريح ولا تعريض، جميعَ المنزِل المعروفِ بمنزلِ القلبِ والفؤاد، الذي مِن سُكّانِه المحبَّةُ والإخلاصُ والوِداد، حَدُّه من القِبلة قَبُولُ الأوامرِ المطاعة، ومن الشّرقِ لزومُ السَّمع والطاعة، ومن الجَوْفِ الإقبالُ على ما عليه أهلُ السُّنّةِ والجماعة، ومن الغَرْب دوامُ المُراقبة في كلِّ وقتٍ وساعة، بكلِّ ما يَخُصُّ هذا المَبِيعَ المذكورَ وَيعُمُّه، وينثهي إليه كلُّ حدٍّ من حدودِه ويضُمُّه، من داخِل الحقوق وخارجِها، ومداخِلِ المنافع ومخَارجِها، وبكلِّ ما لهُ من الآلاتِ التابعة لهُ في التصريف، والحواسِّ الجاريةِ معَه في حالتَي الإضاعةِ والتشريف، السالكةِ مَسْلكَهُ في التنكيرِ والتعريف، من يدَيْنِ ورِجْلَيْن، ولسانٍ وشَفَتْين، وعَيْنيْنِ وأُذُنيْن،

ص: 314

اشتراءً صحيحًا تامًّا شائعًا في جميع المَبِيع المذكور، وعامًّا ثبتَتْ قواعدُه، وظهَرَت بالتسليم الصّحيح شواهدُه، بلا شَرْطٍ ولا ثنيّا ولا خِيَار، ولا بقيّا معَ حظِّ نفسٍ ولا اختيار، بثمن رُتبتُه العنايةُ الرَّبّانيّة، وقسمتُه المشيئةُ الإلهيّة، بين عاجلٍ وآجِل، فالعاجلُ: العَوْنُ على كلِّ مندوبٍ ومفترَض، والصَّونُ عن كلِّ غَرَض وعَرَض، والثناءُ على النِّعم الظاهرةِ والباطنة، وإهداءُ الآلاءِ المتحرِّكةِ والساكنة، والآجِلُ: الفوزُ بالدارِ القُدُسيّة، والحَضرة الأُنْسيّة، التي فيها ما امتَدَّ به جَناحُ التواتر بالخَبَر الصّادقِ وانتشَر، ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ سمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشَر، من النَّعيم المُقيم السَّرمَديّ، والحُبورِ الدائم الأبديّ.

سَلَّمَ العبدُ المذكورُ هذا المَبِيعَ المذكورَ تسليمًا تبرَّأَ به من المَلَكة، ورفَعَ به يدَ الاعتراضِ عن ما يفعلُ الولى الجليلُ فيما تمَلَّكَه، وأيقَنَ أنه المتصرِّفُ فيه في سرِّه وجَهْرِه، وعَلِم أن المُلكَ المذكورَ تحتَ يدِ عزّتِه وقهرِه، تجري فيه أحكامُه القاهرة، وتنفُذُ فيه قضاياهُ الباهرة، وتُحيطُ به قُدرتُه الظاهرة، وقد أحاط المَوْلى الجليلُ بهذا المَبِيع المذكور إحاطةَ ظهور، ولم يَخْفَ عليه شيءٌ من قليلِه وكثيرِه، وجليله وحقيره، ومَبانيه ومَساكنِه، ومتحرِّكِه وساكنِه، إلا اطّلعَ عليها اطّلاعَ عليمٍ قدير، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

ولمّا سَلَّم العبدُ المذكورَ المَبِيعَ المذكورَ وأمضاه، واستَسلَمَ لمَوْلاهُ فيما حَكَمَ به وقَضَاه، تفضَّلَ عليه مَوْلاه، وغمَرَه بجُودِه العميم وأوْلاه، وجعَلَ له السُّكنَى بهذا المنزلِ المذكور مدّةَ حياتِه، والإقامةَ فيه إلى حينِ مَماتِه وإتيانِ وفاتِه؛ إذ يستحيلُ على المَوْلى الجليلِ الحلولُ في شيّ أو السكون إلى شيّ، وهو مُوجِدُ كلِّ شيّ، وخالقُ كلِّ ميِّتٍ وحَيّ، ومُريدُ كلِّ رُشدٍ وغَيّ، ومُقدِّرُ كلِّ نَشْرٍ وطَيّ، وأيضًا فبالمولى تعالى قيامُ جميع العَبِيد، وعلى قَدْرِه غِناهم وفَقرُهم لأنهُ الفَعّالُ لِما يُريد، وهُو يُيسِّرُهم لليُسرى والعُسرى فمنهم شَقِيٌّ وسَعِيد، وله الغِنَى عن كلِّ شيءٍ واللهُ هو الغنيُّ الحميد.

ص: 315

وقد أمَرَ المولى الجَليلُ هذا العبدَ بخدمةِ هذا المنزِل المذكور خِدمةَ التقرُّبِ إليه، وجعَلَ له التصرُّفَ فيه لقَبُول أمرِه للفَوْزِ بما لدَيْه، وبهذا المنزلِ المذكور بَساتينُ تسَمَّى بساتينَ الإخلاص، وجنّاتٌ تُعرَفُ بجنّاتِ حضْرةِ القلبِ المعروف بمحلِّ الاستخلاص.

التَزَمَ العبدُ المذكورُ تسهيلَ أرضِها من شَوْكِ الشِّركِ والارتياب، وتذليلَها من حَجَرِ العُجبِ والاضطراب، في حالتَي الحضورِ والغياب، وتنقيتَها من أعشاب الحسَدِ والحِقد والكِبْر، وزَوالَ ما فيها من عوارضِ الغِشِّ والخَديعةِ والمَكر، وأن يَقطعَ منها كلَّ عُودٍ لا منفعةَ فيه بحديدِ الفِكْر، مثلَ عُودِ الحِرص والطَّمَع، وَيغرِسَ مكانَه شجرَ الزُّهد والوَرَع، ويقلِّمَ أغصانَ المَيْل إلى الأدرانِ والأقذار، وأفنانِ الركونِ إلى الأغيار والأكدار، وقُضبانِ السُّكونِ إلى الشّهَواتِ والأوطار، ويفتحَ أبوابَ البَذْلِ والإيثار، بمفاتيح الجُودِ الحميدِ المساعي والآثار، ويُطلقَ ينابيعَ التوكُّل على مُصرِّفِ الأقدار، وأن يَخدُم ما توعَّر من سواقي مياهِها الإخلاصيّة وحِيَاضِها، ويُمشيَ بالمَصْلحة المُصلحة لدوحتِها وغِيَاضِها، وَيفجُرَ بها مياهَ الصّفاءِ من الأكدار، المتّصلةَ بساقيةِ الوفاءِ في الإيرادِ والإصدار، والمُلاصقةَ بساقيةِ تَرْك الجَفافِ في هذه الدار، حتى يبدوَ إن شاء اللهُ صَلاحُها، ويَكثُرَ ببركةِ الله إصلاحُها، وتهُبَّ بقَبُولِ القَبُول أرواحُها، وتُثمرَ بجَنْي المُنى أدواحُها، فتُنبتَ قَرَنْفُلَ التنفُّل، وعودَ التبتُّل، وآسَ الأُنس والسَّوسان، وياسَمينَ اليأسِ من كلِّ إنسان، ونُعمانَ النِّعمة التي لا يَصِفُها لسان.

وقد عَلِمَ العبدُ المذكور أنّ بخارج هذا المنزلِ المذكور حَرَسَ اللهُ إيمانَه، وأدام أمانَه، جيشًا نَفْسِيًّا يُغيرُ عليه في مسائه وصَباحِه، وَينتهزُ فيه الفرصةَ في غُدوِّه ورواحِه، ويقطَعُ جادّةَ السبيل، بالمرور عليها بلا مسافةٍ إلى حضرةِ الملِك الجليل، وملِكُ هذا الجيشِ المذكور النفْسُ الكثيرةُ الأغراض، الميّالةُ إلى ما يَعرِضُ من الأعراض، المعتكفةُ على المآرب المُهلِكة والأعراض، وخادمُ الملِك المذكور الشَهوةُ الموقوفةُ على خدمتِه، المَعدودةُ في أعلى حُرمتِه، ووزيرُه المُفاخَرة،

ص: 316

وزِمامُه المُنافسةُ في زَهرةِ الدنيا وحاجبُهُ المُكاثَرة، وقيِّم جيشِه المقدَّم، وفارسُهُ الأقدم، شجاعُ الغَضَب، الذي عندَه يتولَّد الهلاكُ وبه يكونُ العَطَب. فطلَبَ العبدُ المذكورُ من مولاهُ الإمدادَ بعساكرِ العَزْم، وفوارس الحَزْم، ورَغِبَ في الإعانة بكتائبِ السَّدادِ والتوفيق، ومواكبِ الرُّشدِ والتحقيق، وإرسالَ جُيوش الاصطبار، وفوارسَ الانتصار، والتدرُّعَ بدروعِ الأذكار، وجَوَلانَ خَيْلِ السّعادة في ميادينِ الاختيار، والعَوْنَ بإعلام العِلم، والسكونِ في حِصْن الحِلم، حتى يُذهِبَ حِدّةَ النفْس ويُزيلَ كيْدَها، ويُميتَها في المجاهدة، بسيوفِ المجالدة، وَيقطعَ قوّتَها وأيْدَها، أو يمُدَّ يدَ التسليم بقَهْرِها واضطرارِها، ويَنطِقَ بلسانِ اعترافِها وإقرارِها، أنها أَسقطَت جُملةَ دَعْواها واختيارها، ودخَلَت تحتَ امتثالِ الأوامرِ الربّانيّة مسلّمةً لأقدارِها، والعبدُ يرغَبَ [إلى] مَوْلاه رغبةَ خاشع، ويسألُه سؤالَ فقيرٍ إلى رحمتِه خاضع، في تجميل جُودِه وكمالِه، وتحسينِ وَجْهِ علمِه وعَمَلِه بالإخلاص وجَمالِه، وبُلوغِه في الدّارَيْن غايةَ آمالِه، ويستغفرُ استغفارَ آمل بحُسن الرجاءِ عاملٍ ومعامَل، أنه إن لحِقَتْه العنايةُ الربّانيّة ودخَلَ من بابِ اللطيفِ في حَرَم كرم الإلهيّة، قَهَرَ الظهورُ لذلك نفْسَه، وأظهَرَ الحضورُ أُنسَه، حتى تتطهّرَ النفْسُ المذكورةُ من الأخلاق العَرَضيّة، وتتَرقَّى عن الأغيارِ الأرضيّة، وتظهَرَ عليها الشمائلُ الحميدةُ والأخلاقُ الرَّضِيّة، وتنادي:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28].

شَهِدَ على إشهادِ البائع المذكور مَن أشهَدَه به على نفسِه عارفًا بقَدْرِه، في صحّتِه وطَوْعِه وجوازِ أمرِه. وصَلّى اللهُ على سيّدِنا محمد وعلى آلِه وسلَّم تسليمًا.

وقَطَعَ مُددًا من عمُرِه في الارتسام بامتداح ملوكِ عصرِه، فكان يأتي في ذلك بما لم يُسمَعْ ذكْرُه ولا يُطمَعْ في لَحاقِه، سُرعةَ ارتجال، وحُسنَ افتنان، وبراعةَ إنشاء، له في ذلك أخبارٌ طريفة. ووَليَ بأخَرةٍ حِسبةَ السُّوق (1) في مَرّاكُش،

(1) من الشعراء الذين أسندت إليهم حسبة الطعام أو ما يشبهها: يحيى الغزال وعزوز الملزوزي في المغرب وابن حجاج في المشرق.

ص: 317

وتوجَّه صُحبةَ الرّشيد من بني عبد المؤمن إلى سَلَا فأدركتْه منيّتُه بها صدرَ سنةِ سبع وثلاثينَ وست مئة (1).

186 -

مَيْمونُ (2) بن عليِّ بن عيسى بن عِمران بن دافَالَ المِكْناسيُّ الوَرْدميشيُّ المَرّاكُشيُّ، أبو محمد.

تفَقَّه بطائفةٍ من أهلِ بلدِه وغيرِهم، وكان فقيهًا حافظًا فاضلًا، واستُقضيَ بمالَقةَ والمَرِيّة فحُمِدت سِيرَهُ وشُكِرت أحوالُه.

187 -

مَيْمونُ (3) بن محمد بن عبّاس، تاهَرْتيٌّ، مَسِيليُّ الأصل، أبو وكيل.

رَوى بإشبيلِيَةَ عن أبي الحُسَين بن زَرْقون.

188 -

مَيْمونُ (4) بن ياسِين اللَّمْتُونيُّ، حَليفُ بني محمد: إحدى قبائل لَمَتُونةَ، مَرّاكُشيٌّ، سَكنَ المَرِيّةَ قديمًا ثم إشبيلِيَةَ بأخَرة، [أبو عُمرَ.

رَحَلَ إلى المشرق] وحَجَّ وأخَذَ بمكّةَ شرَّفَها اللهُ عن أبي عبد الله الطَّبَريّ، وممّا أخَذَ عنه:"صحيحُ مسلم" بقراءةِ محمد بن هبة الله (بن مَمِيل) الدِّمشقيِّ في مجالسَ بتاريخ ثلاثٍ بقينَ من شوّالِ سبع وتسعينَ وأربع مئة (في نُسخة سفريّة) عِدّةُ ورَقها مئةُ ورقة وثلاثٌ وسبعونَ ورقةً، (في كلِّ صفح) منها خمسونَ سطرًا بخطِّ المُتقِن البارع أبي عبد الله مالكِ بن يحيى بن أحمدَ بن وُهَيْب (5)، وباقتراح أبي عُمرَ المذكور نَسَخَها كذلك عليه في نُسخةٍ أصغرَ منها قصَدَ بها تخفيفَ محمَلِها للرِّحلةِ والإغرابِ بها، وإنها لَمِن أغرب ما رأيتُ من نُسَخ "صحيح مسلم" وأشرفِه، وممّن سَمع بهذه القراءة أبو مَرْوانَ عبدُ الملِك بن عبد الجَبّار بن

(1) يعرف قبره اليوم بسيدي الخباز عند الباب المعروف بهذا الاسم.

(2)

تقدمت ترجمة والده وأعمامه.

(3)

ترجمته ومصادرها في برنامج الرعيني رقم (11).

(4)

ترجمه ابن الأبار في التكملة (1851)، وابن الزبير في صلة الصلة 3/الترجمة (102)، والذهبي في المستملح (369) وتاريخ الإسلام 11/ 516، والمراكشي في الإعلام 7/ 308.

(5)

ترجمته في الصلة البشكوالية (1365)، وتاريخ الإسلام 11/ 436.

ص: 318

ذي القَرْنَيْن الأندَلُسيُّ (1) في آخَرينَ، وابتاعَ أبو عُمرَ أيضًا هناك نُسخةً أخرى مَشْرِقيّةَ الخَطّ من "صحيح مسلم" مجَزّأةً تسعةً وعشرينَ جُزءًا تجمَعُها ستةُ مجلَّدات، سَمِعَ فيها أيضًا على الطَّبري، وقَفْتُ عليها، ورَوى هنالك أيضًا عن أبي عبد الله محمد بن أحمدَ الأندَلُسيِّ (2) المُجاوِر مكّةَ شرَّفَها الله، وأخَذَ عنه اختصارَه "تفسيرَ الطَّبريّ"، وعن محمدِ بن موسى بن الفَرَج الدَّربندي وتناوَلَ منه "تُحفةَ الأصحاب في شَرْح الشِّهاب" من جَمْعِه، وعن أبي مكتوم عيسى بن أبي ذرّ الهَرَويّ، واستَقْدَمَه من مسكَنِه سَراةِ بني شَبابةَ إلى مكّة شرَّفَها الله، وابتاعَ منه أصلَ أبيه بخطِّه من "صحيح البخاريِّ" الذي سَمع فيه على شيوخِه بمالٍ جَسِيم وسَمِعَه عليه في أشهُرٍ عِدّة (3)، وقد وقَفْتُ على أسفارٍ ثلاثةٍ منه وهو تجزِئةُ سبعةِ أسفار. ثم قَفَلَ إلى المغرِب وأسمَعَ الحديثَ بمَرّاكُشَ وتاسقيموتَ (4) وغيرِهما.

(1) ترجمته في السفر الخامس (51).

(2)

ترجمته في السفر السادس (193)"روى عنه أبو عمر ميمون بن ياسين اللمتوني".

(3)

روى الإمام الذهبي في ترجمة عيسى بن أبي ذر الهروي (ت 497 هـ) عن شيخه عبد المؤمن الدمياطي، قال:"قرأتُ على ابن رواج: أخبركم السلفي، قال: اجتمعنا أنا وأبو مكتوم بن أبي ذر في عرفات سنة سبع وتسعين لما حججتُ مع والدي، فقال لي الإمام أبو بكر محمد ابن السمعاني: اذهب بنا إليه نقرأ عليه شيئًا، فقلت: هذا الموضع موضع عبادة وإذا دخلنا إلى مكة نسمع عليه، ونجعله من شيوخ الحرم، فاستصوب ذلك. وقد كان ميمون بن ياسين الصنهاجي من أمراء المرابطين رغب في السماع منه بمكة، واستقدمه من سراة بني شبابة واشترى منه صحيح البخاري أصل أبيه الذي سمعه منه بحملة كبيرة وسمعه عليه في عدة أشهر قبل وصول الحجيج، فلما حج ورجع من عرفات إلى مكة رحل إلى السراة مع النَّفْر الأول من أهل اليمن"(تاريخ الإسلام 10/ 795)، ونقل هذا الكلام التقي الفاسي في العقد الثمين 6/ 462 عن الذهبي، وكلام السلفي هذا في كتابه "الوجيز في ذكر المجاز والمجيز" ص 124 (بتحقيق صديقنا الدكتور محمد خير البقاعي، دار الغرب 1991 م)، ونقل شيئًا منه أيضًا ابن الأبار في التكملة.

(4)

حصن بناه ميمون بن ياسين المترجم لمدافعة الموحدين ويقع جنوب مراكش في قيادة آيت ورير، وقد تغلب عليه الموحدون وقلعوا أبوابه وجعلوها على باب الفخارين في تنميل سنة 526 هـ وما تزال تاسقيموت معروفة وأطلالها موجودة (انظر أخبار المهدي: 41، 45 ونظم الجمان: 15، 85، 192 وهسبريس 1927).

ص: 319