الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله
1-
مصدر الإسلام ومشرِّع أحكامه ومناهجه هو الله تعالى، فهو وحيه إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم باللفظ والمعنى "القرآن الكريم"، وبالمعنى دون اللفظ "السنة النبوية"، فالإسلام بهذه الخصيصة يختلف اختلافًا جوهريًّا عن جميع الشرائع الوضعية؛ لأن مصدرها الإنسان، أما الإسلام فمصدره رب الإنسان. إن هذا الفرق الهائل بين الإسلام وغيره لا يجوز أغفاله مطلقًا، ولا التقليل من أهميته.
النصوص الدالة على أنَّ الإسلام من عند الله:
62-
بَيّنَّا فيما سبق أن القرآن من عند الله، وأثبتنا ذلك بدليل الإعجاز، ومعنى ذلك أنَّ كل آية فيه هي من عند الله، ومعنى ذلك أيضًا أنَّ الإسلام هو من عند الله، ومع هذا فمن المفيد ذكر بعض الآيات القرآنية الصريحة في أنّ القرآن الكريم هو من عند الله أنزله على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فمن هذه الآيات:
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 1.
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 2.
1 سورة القدر، الآية:1.
2 سورة الحجر، الآية:87.
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} 1.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 2.
{الم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3.
63-
والقرآن الكريم وفيه معاني الإسلام واجب الاتباع دون غيره من الكتب والأديان السماوية السابقة، قال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
64-
وسنة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام هي الأخرى كالقرآن واجبة الاتباع، وعلى هذا دلَّ القرآن، وذكرنا نصوصه في هذا الباب فيما سبق؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى عنه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
ما يترتَّب على كون الإسلام من عند الله:
أولًا: كماله وخلوه من النقائض
65-
ويترتَّب على كَوْن الإسلام من عند الله كماله وخلوه من معاني النقض والجهل والهوى والظلم؛ لسبب بسيطٍ واضح، هو أنَّ صفات الصانع تظهر في ما يصنعه، ولمَّا كان الله تعالى له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، ويستحيل في حقه خلاف ذلك، فإنَّ أثر هذ الكمال يظهر في ما يشرعه من أحكام ومناهج وقواعد، وبالتالي لا بُدَّ أن يكون كاملًا، وهذا بخلاف ما يصنعه الإنسان ويشرعه، فإنه لا ينفكُّ عن معني النقص والهوى والجهل والجَوْر؛ لأنَّ هذه المعاني لاصقة بالبشر، ويستحيل تجردهم عنها كل التجرُّد، وبالتالي تظهر هذه النقائص في القوانين والشرائع التي يصنعونها.
ويكفينا هنا أن نذكر مثالًا واحدًا للتدليل على ما نقول: جاء الإسلام بمبدأ المساوة بين الناس في الحقوق وأمام القانون، بغَضِّ النظر عن اختلافهم في الجنس أو
1 سورة النحل، الآية:6.
2 سورة الزمر، الآية:2.
3 سورة السجدة، الآية:2.
اللغة أو اللون أو الحرفة أو الغنى أو الفقر، وأقام ميزان التفاضل على أساس التقوى والعمل الصالح، وقد ورد المبدأ العظيم في القرآن والسنة النبوية، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وجاء في الحديث الشريف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلّا بالتقوى".
وقال عليه الصلاة والسلام: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وبلغت دقة تطبيق هذا المبدأ إلى حَدِّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على مسلم عربي قوله لمسلم غير عربي: "يا ابن السوداء"، واعتبر هذا القول من بقايا الجاهلية الأولى.
وواضح من ذلك أنَّ التشريع الإسلامي ارتفع إلى أعلى مستوى من العدالة والمساواة في نظرته إلى الأفراد وإن اختلفوا في الجنس واللون واللغة وغير ذلك، وطبَّق هذا المبدأ فعلًا في واقع الحياة.
وفي القرن العشرين، وفي عصرنا الحاضر، وبالرغم من الضجيج الهائل في العالم حول المساواة، وتسطير هذا المبدأ في دساتير الدولة، فإنه لا يزال مجرَّد كلام لا نصيب له في الواقع إلّا الشيء القليل، ففي الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال الفروق قائمة بين المواطنين في أبسط الحقوق على أساس اللون والجنس، فصاحب البشرة البيضاء أسمى منزلةً وأعلى قدرًا من صاحب البشرة السوداء، ولا مساواة بين الاثنين في الحقوق الآدمية ولا أمام القانون، ولو كان هذ التفريق والتمايز في واقع الحياة فقط لأمكن أن يدَّعي البعض أنه من انحراف الأفراد ولا تسأل عنه الدولة، ولكنَّ الواقع أن القانون نفسه يقرّ ويعترف صراحةً بهذا التمايز الظالم بين الأسود والأبيض ويحميه، وإن كان الاثنان يحملان الجنسية الأمريكية، فمن هذه النصوص القانونية في بعض الولايات الأمريكية:"إنَّ النكاح بين شخصين أبيض وآخر زنجي يعتبر نكاحًا باطلًا"، وبطلان العقد هنا لا يرجع إلى نقص في أهلية العاقدين، فأهليتهما كاملة، وإنما يرجع إلى شيء آخر خطير في نظر واضع القانون، هو أنَّ أحد طرفي عقد النكاح ذو بشرة بيضاء، بينما الطرف الآخر في العقد ذو بشرة سوداء.
ومن هذه النصوص أيضًا في بعض الولايات المتحدة الأمريكية: إنَّ كل من يطبع أو ينشر أو يوزِّع ما فيه دعوة أو حث للجمهور على إقرار المساواة الاجتماعية والزواج بين البيض والسود، أو تقديم حجج للجمهور، أومجرَّد اقتراح في هذا السبيل، يعتبر عمله جريمة يعاقب عليها القانون بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار، أو السجن مدةً لا تتجاوز ستة أشهر، أو بالعقوبتين. إنَّ هذا النص يوغل في اتباع الهوى والجَوْر والظلم دون حياءٍ أو خجل أو وخز من ضمير، إلى درجة أنه يعاقب من يدعو إلى المساواة بين مواطنين أمريكيين يحملون الجنسية الأمريكية، ولكنهم يختلفون في ألوان أجسادهم ووجوههم، فهل أدلّ من هذا على نقص الإنسان وجهله وجوره؟
أما التمايز بين رعايا المستعمِر -بكسر الميم- وأهل البلاد المنكبوبة بالاستعمار، فحدِّث ولا خرج، فالمستعمرين يضعون من القوانين ما يجعل أهل البلاد المستعمَرة بمنزلة البهائم، دون أن يشعر هؤلاء المستعمرون بتأنيب ضمير أو بجورهم على هؤلاء الآدميين، وما يعتبرونه ظلمًا في بلادهم، وبالنسبة لرعاياهم يعتبرونه حقًّا وعدلًا بالنسبة لأهل البلاد المنكوبة باستعمارهم. وهذا وغيره يدل على مدى ما عند الإنسان من ظلم وجَوْر وهوى ومحاباة وجهل.
66-
ثانيًا: ويترتَّب أيضًا على كون الإسلام من عند الله أنه يظفر بقدر كبير جدًّا من الهيبة والاحترام من قِبَل المؤمنين به، مهما كانت مراكزهم الاجتماعية وسلطاتهم الدنيوية؛ لأنَّ هذه السلطات وتلك المراكز لا تخرجهم من دائرة الخضوع لله تعالى واحترام شرعه، وطاعة هذا الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس، وتقوم على الإيمان، ولا يقسر عليها المسلم قسرًا، وفي هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون الإسلامي، وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على هذا الخروج. أمَّا القوانين والمبادئ الوضعية التي شرَّعها الإنسان فإنَّها لا تظفر بهذ المقدار من الأحترام والهيبة؛ إذ ليس لها سلطان على النفوس، ولا تقوم على أساس من العقيدة والإيمان كما هو الحال بالنسبة للإسلام، ولهذا فإنَّ النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك، وقدرة على الإفلات من ملاحقة القانون وسلطان القضاء، ورأت في هذه المخالفة اتباعًا لأهوائها وتحقيقًا لرغباتها. إنَّ القانون لا يكفي أن يكون صالحًا، بل لا بُدَّ له من ضمانات تكفل حسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات إيجاد ما يصل
هذا القانون بنفوس الناس، ويحملهم على الرضى به، والانقياد له عن طواعية واختيار.
ولا يحقق مثل هذه الضمانة مثل الإسلام؛ لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا الإيمان.
وللتدليل على صحة ما نقول نضرب مثلًا واحدًا بشأن واقعة معينةٍ عالجها الإسلام بتشريعه، ونجح في هذه المعالجة، وعالجت هذه الواقعة بالذات القوانين الوضعية، وفشلت في هذه المعالجة.
من المعروف أنَّ العرب قبل الإسلام كانون مولَعين بشرب الخمر، لا يجدون فيه منقصة ولا منكرًا، وكانت زقاق الخمر ودنانه في البيوت كالماء المخزون في القرَب والحباب، فلما أتى الإسلام بتحريم الخمر بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، كان لكلمة {فَاجْتَنِبُوه} قوة هائلة تفوق قوة الجيش والشرطة، وما يمكن أن تستعمله أي دولة لتنفيذ أوامرها بالقوة والجبر، لقد قام المسلمون إلى زقاق الخمر فأراقوها، وإلى دنانه فكسروها، وفطموا نفوسهم من شرب الخمر حتى غدوا وكأنهم لا يعرفون الخمر ولم يتذوقوها من قبل؛ لأن أمر الله ورد {فَاجْتَنِبُوه} ، وأوامر الله من شأنها الاحترام والطاعة.
وفي القرن العشرين أرادت الولايات المتحدة الأمريكية تخليص مواطنيها من الخمر، وقبل أن تشرِّع قانون تحريم الخمر مهدت له بدعاية واسعة جدًّا لتهيئة النفوس إلى قبول هذا القانون، وقد استعانت بجميع أجهزة الدولة، وبذوي الكفاية في هذا الباب. استعانت بالسينما والإحصائيات من قِبَل العلماء والأطباء والمختصين بالشئون الاجتماعية، وقد قدر ما أنفق على هذه الدعاية بـ"65" مليون من الدولارات، وكتبت تسعة آلاف مليون صفحة في مضار الخمر ونتائجه وعواقبه. وانفق ما يقرب من "10" عشرة ملايين دولار من أجل تنفيذ القانون. وبعد هذه الدعاية الواسعة والمبالغ المنفقة شرَّعت الحكومة قانون تحريم الخمر لسنة 1930، وبموجبه حرم بيع الخمور وشراؤها وصنعها وتصديرها واستيرادها، فما كانت النتيجة؟ لقد دلت
الإحصائيات للمدة الواقعة بين تشريعه وبين تشرين الأول سنة 1933، أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نفس، وحبس نصف مليون شخص، وغرم المخالفون له غرامات بلغت ما يقرب من أربعة ملايين دولار، وصودرت أموال بسب مخالفته قدرت بألف مليون دولار، وكان آخر المطاف أن قامت الحكومة الأمريكية بإلغاء قانون تحريم الخمر في أواخر سنة 1933، ولم تستطع تلك الدعايات الضخمة التي قامت بها الدولة أن توجد القاعدة التي يرتكز عليها القانون في نفوس المواطنين، وبالتالي يحملها على احترامه وطاعته، ومن ثَمّ فشل وألغي، أمَّا كلمة {فَاجْتَنِبُوه} التي جاء بها الإسلام وامتنعوا عنها، لا بقوة شرطي ولا بقوة جندي ولا رقيب، ولكن بقوة الإيمان وطاعة المسلمين لشرائع الإسلام واحترامهم لها.