الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والمرابطين ونحوهم، والرابع: ذوي الحاجات كما روي عن عمر رضي الله عنه أنَّه قال: "والله لئن بقيت لهم ليأتينَّ الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه"1، ويفهم من هذا كله أنَّ عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء، فيعطون منه بعد سدِّ النفقات الضرورية للدولة؛ كأرزاق الجند والولاة ونحوهم، وهذا ما تدل عليه الآية لكريمة، ويقدَّم ذوو الحاجات على غيرهم من الفاضل بعد سدّ النفقات الضرورية للدولة.
ويلحق بالفيء ويكون مصرفه مصرف الفيء الأموال التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمن وليس له وارث معين، وكالغصوب والعواري، والودائع، وغير ذلك من أمول المسلمين التي تعذر معرفة أصحابها2.
1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص44-46، زاد المعاد لابن القيم ج3 ص221، 222.
2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج8 ص276، 277.
المبحث السابع: نظام الجهاد
454-
الجهاد في اللغة: بذل الإنسان جهده وطاقته، وفي الاصطلاح الشرعي: بذل المسلم طاقته وجهده في نصرة الإسلام ابتغاء مرضاة الله، ولهذا قيِّد الجهاد في الإسلام بأنه في سبيل الله؛ ليدلَّ على هذا المعنى الضروري؛ لتحقق الجهاد الشرعي، وبهذا جاءت الآيات القرآنية معلنة أنَّ جهاد المسلمين ومنه القتال، إنَّما هو جهاد في سبيل لله، بخلاف الكافرين فإنَّ جهادهم وقتالهم في غير سبيل الله، أي: في سبيل الشيطان، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} 1، وقد يعبر عن المعنى الذي بيَّنَّاه بعبارة: القتال لتكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الشريف: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل لله"؛ لأنَّ المقصود بكلمة الله الإسلام، وجعلها هي العليا أي: هي النافذة الظاهرة، ولا شكَّ أن إظهار دين الله مما يرضي الله تعالى.
1 سورة النساء الآية 76.
445-
والجهاد أنواع، فهناك الجهاد باللسان ببيان شرائع الإسلام ودحض الأباطيل المفتراة عن الإسلام، والجهاد بالمال بإنفاقه في وجوه البر، لا سيما على الغزاة والمقالين في سبيل الله، بشراء العتاد والسلاح والأرزاق لهم، والجهاد بالنفس بمقاتلة أعداء الله، وإذا أطلق الجهاد فإنه يراد به -غالبًا- الجهاد بالنفس، أي: القتال، كما أنَّ الجهاد بالنفس يُقْرَن غالبًا بالجهاد بالمال، كما نلاحظ ذلك في آيات القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
546-
والجهاد بالنفس بمقاتلة الأعداء من فروض الكفاية في الأحوال الاعتيادية إذا حصلت به الكفاية، ولكنه يصير فرض عين إذا احتلَّ الكفرة بلدًا من بلاد الإسلام، أو إذا استنفر الإمام المسلمين، قال الإمام ابن العربي المالكي:"إذا كان النفير عامًّا لغلبة العدو على الحوزة، أو استيلائه على الأسارى، كان النفير عامًّا، ووجب الخروج خفافًا وثقالًا، وركبانًا ورجالًا، عبيدًا وأحرارًا، من كان له أب من غير إذنه حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة، ويخزي الله العدو ويستق الأسرى، ولا خلاف في هذا"1.
457-
ولما كان الجهاد من فروض الإسلام فقد عظمت به الوصية، وأمر الله تعالى بأخذ العُدَّة اللازمة له، قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، فكل ما به قوة وحاجة في القتال وجب تحصيله وإعداده، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، ولا شكَّ أنَّ من وسائل القوة المهمة في زماننا تعلُّم إتقان مختلف العلوم والفنون والصناعات اللازمة لإعداد القتال، وتعلم هذه الأمور من الفروض الكفائية في الأمّة؛ لأنَّ ما لا يتمّ
1 أحكام القرآن لابن العربي المالكية ج2 ص943.
2 سورة الأنفال الآية: 60.
الواجب إلّا به فهو واجب، ومن المستحبّ لكل مسلم أن يتعلَّم ما يستطيعه من أمور القتال؛ كالرمي والطعن واستعمال السلاح مبتغيًا بذلك وجه الله تعالى، ويعلمه للآخرين، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذه الأمور فقال رحمه الله:"وتعلم هذه الصناعات -أي: صناعات الحرب وآلات القتال- هو من الأعمال الصالحة لمن يبتغي بذلك وجه الله عز وجل، فمن علَّم غيره ذلك كان شريكه في كل جهاد يجاهد به، لا ينقص أحدهما من الأجر شيئًا"، وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يوصي المسلمين وولاتهم:"أن علِّموا أولادكم الرمي والفروسية"، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:".... ومن تعلَّم الرمي ثم نسيه فليس منَّا".
458-
والواقع أنَّ الجهاد ضروري لبقاء المسلمين أمة قوية مرهوبة الجانب، بعيدة عن أطماع الطامعين والحاقدين من الكافرين والمنافقين، كما أنَّ الجهاد بنفسه دليل قاطع على إيمان المسلم ومبادرته إلى ما يحبه الله تعالى، وإيثاره مرضاته وما عنده، ولهذا وبَّخ الله تعالى من يتقاعس عن الجهاد، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} 1.
459 ولعظيم أثر الجهاد ودلالته على الإيمان، قال الفقهاء: المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاث: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، وتعليل ذلك أنَّ الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج، وقال تعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} 2، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه سُئِل عن أيّ الأعمال أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم:"إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم جهاد في سبيله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم حج مبرور".
460-
وترك الجهاد سبب للمذلة والهوان وضياع الديار وتسلط الكفرة على بلاد الإسلام، وهذا من العذاب الذي توعَّد به الله تعالى تارك الجهاد، قال ربنا في
1 سورة التوبة الآية 38.
2 سورة التوبة، الآية:19.
القرآن الكريم {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، قال الإمام ابن العربي المالكي في تفسيره: في هذه الآية تهديد ووعيد مؤكَّد في ترك النفير والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا، أمَّا نوع العذاب فقال عنه الإمام ابن العربي:"هو الذي في الدنيا باستيلاء العدو على من يستولي عليه، وبالنار في الآخرة"، ووقائع التاريخ القديمة والحديثة تؤيِّد ما ذكرها ابن العربي، فما أصاب المسلمين من ذلٍّ وتسلط الكفرة عليهم إلّا بتركهم الجهاد المطلوب منهم.
461-
وعلى ذكر الجهاد والقتال في سبيل الله، يقول بعض الكتاب المحدثين: إن القتال في الإسلام أو الجهاد في الإسلام هو دفاعي لا هجومي، بمعنى أنَّه لا يجوز للدولة الإسلامية أن تهاجم دولة غير إسلامية إلّا إذا هاجمتها هذه الأخيرة، والواقع أنَّ هذا القول غير سديد وينقصه التحقيق والتدقيق، ولا تدل عليه دلائل الشريعة، ذلك أنَّ القتال في الإسلام له أسباب، منها: ردّ الاعتداء، وفي هذا قال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2، ومنها: القتال لنصرة ضعفاء المسلمين الذين يتعرَّضون لظلم الكفرة، قال تعالى:{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 3.
ومنها: أن يبدأ المسلمون قتال الكفرة إذا رفضوا الإسلام ومنعوا المسلمين من تولي الحكم والسلطان؛ لاقامة شرع الله وتطبيقه في الأرض، وهذا هو الذي يجادل فيه البعض ويعتبره من قبيل القتال الذي يبدأ به المسلمون غيرهم بلا مبرِّر، والحقيقة أنَّ القرآن والسنة النبوية يدلان على هذا النوع من القتال، وقال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 4، والفتنة معناها: الكفر والشرك، قال الإمام أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" في تفسير هذه الآية: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا
1 سورة التوبة، الآية:39.
2 سورة البقرة، الآية 190.
3 سورة النساء، الآية:75.
4 سورة الأنفال، الآية:39.
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} يوجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع، أمَّا الدين فهو الانقياد لله بالطاعة، والدين الشرعي هو الانقياد لله عز وجل والاستسلام له، ودين الله هو الإسلام؛ لقوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 1، فقول الإمام الجصاص: حتى يتركوا الكفر، أي: كفرهم المتعلق بتشريع الأحكام؛ لأنَّ التشريع من حق الله وحده، فمن نازعه ذلك فقد كفر وأشرك، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2.
ويؤيد ما قلناه أيضًا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2، قال الإمام الشافعي: الصَّغَار أن تؤخذ منهم الجزية وتجري عليهم أحكام الإسلام3، فهذا صريحٌ في أنَّ قتال المسلمين إنما هو لإظهار دين الله بتطبيق شرائعه بعد أن يتولَّى المسلمون الحكم والسلطان، وليس المقصود قتل غير المسلمين أو إكراههم على الإسلام؛ لأنَّه لو كان هذا هو المقصود لما شرِّعت الجزية، ولما أقرَّ الكافر على كفره في دار الإسلام.
وفي السنة النبوية ما يؤيد ما قلناه، فقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمراء الجند عند توجيههم إلى المشركين أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أَبَوْا فإلى الجزية، أي: الخضوع إلى سلطان الدولة الإسلامية، فإن أبوا قاتلوهم حتى يخضعوهم قهرًا لسلطان المسلمين4.
462-
والحقيقة أنَّ بدء المسلمين لغيرهم بالقتال إذا رفضوا الإسلام أو الجزية إنَّما هو لمصلحة عموم المشركين الذين يخضعون لسلطان الكفر؛ لأنَّ المسلمين يريدون بهذا القتال رفع هذا الحكم الكافر عنهم، وإزالة شرائعه الباطلة، ورفع
1 سورة آل عمران، الآية 19.
2 سورة الشورى، الآية:21.
3 سورة التوبة، الآية 21.
4 مختصر المزني ج8 ص277.
5 صحيح مسلم ج7 ص310، الخراج لأبي يوسف ص190، زاد المعاد ج2 ص65