المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: المستفتي - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المطلب الأول: المستفتي

‌المطلب الأول: المستفتي

من هو المستفتي؟

177-

المستفتي هو من يسأل عن حكم الشرع في مسألةٍ ما، وهذا يعني أنَّه جاهل بهذا الحكم، وإنما يسأل ليعرف وليعمل بما يفتيه به المفتي، مقلدًا بهذه الفتوى.

ولكن هل يجب على كلِّ جاهل بالحكم الشرعي أن يسأل عنه حتى يعرفه أم لا؟ وإذا علم الحكم أو كان قادرًا على معرفته بنفسه يجب عليه أو يسوغ أن يسأل عنه أم لا؟ الجواب على ذلك يختلف باختلاف الناس واختلاف أحوالهم، فقد يحرم على بعضهم الاستفتاء وقد يَجِبُ وقد يجوز، فلا بُدَّ من بيان هذه الأصناف من الناس.

الصنف الأول: المحرَّم عليهم الاستفتاء

178-

من توافرت فيه أهليه الاجتهاد وشروطه على النحو المذكور في كتب أصول الفقه صار مجتهدًا، والمجتهد يحرم عليه تقليد غيره؛ لأنَّ الواجب عليه -وقد صار مجتهدًا- أن يجتهد في المسألة حتى يعرف حكمها الشرعي على وجه اليقين أو غلبة الظن، وبالتالي يحرم عليه أن يستفتي أحدًا في بيان حكم هذه المسألة، والتحريم هنا يتعلق بالاستفتاء الذي يراد به تقليد المفتي بما يفتي به، أمَّا سؤال المجتهد غيره عن حكم مسألة على وجه المذاكرة وفحص المعلومات فهو جائز غير ممنوع، وإذا تبيِّن للمجتهد بعد هذه المذكراة أنَّ الصواب عند غيره وجب عليه اتباعه؛ لأنه صار من جملة ما عرفه باجتهاده.

ص: 141

179-

وإذا قلنا بأنَّ الاجتهاد يتجزأ، وهذا ما نرجِّحه، بحيث يكون المسلم مجتهدًا في بعض المسائل دون بعض، فإنه فيما يقدر عليه من الاجتهاد ينزل منزلة المجتهد المطلق، فلا يجوز له سؤال غيره وتقليده فيما يفتيه به، أمَّا فيما يعجز عن الاجتهاد فيه فإنه ينزل منزلة غير المجتهد، فيجب عليه الاستفتاء أو يجوز كما سنبينه فيما بعد.

الصنف الثاني: مَنْ يجب عليهم الاستفتاء

180-

يجب الاستفتاء على كلِّ من لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد ووجب عليه معرفة الحكم الشرعي، فشروط وجوب الاستفتاء شرطان:

الشرط الأول: أن يكون غير مجتهد، سواء كان بسبب ذلك عجزه عن الاجتهاد لعدم استعداده له وعدم قدرته عليه، أو لعدم الملكة الفقهية فيه، أو لعدم تفرغه لطلب العلم حتى يصل إلى مرتبة الاجتهاد، أو لأي سبب آخر.

الشرط الثاني: وجوب معرفة الحكم الشرعي، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فمَن بلغ عاقلًا لزمه أن يعرف أحكام الصلاة وكيفية أدائها وشروطها.

وإذا دخل عليه رمضان وجب عليه أن يعرف أحكام الصيام، وإذا صار عنده مال وبلغ النصاب وجب عليه أن يعرف أحكام الزكاة، وإذا استطاع الحج وجب عليه أن يعرف أحكام الحج، ومن نزلت به نازلة وجب عليه أن يعرف حكمها، ومن باشر التجارة والبيع والشراء وجب عليه أن يعرف أحكام هذه المعاملات، وهكذا. والأصل الجامع في هذا الشرط هو: كل من لزمته معرفة حكم شرعي معين وجب عليه أن يسأل أهل العلم عنه من يعرفه، أمَّا ما زاد على ذلك من معرفة تفاصيل الشرع فهو من الأمور المندوبة في حق الفرد، وإن كان من الفروض الكفائية في حق الأمة؛ إذ لا بُدَّ أن يوجد في الأمة من يعرف تفاصيل الشرع مع بلوغه رتبة الاجتهاد ليفتي الناس فيما يحتاجون إليه من أمور الدين.

181-

والخلاصة: فإنَّ العامي يجب عليه استفتاء العلماء فيما يلزمه من تكاليف الشرع؛ ليعرف كيف يؤدي هذه التكاليف على الوجه المشروع.

ص: 142

الصنف الثالث: من يجوز لهم الاستفتاء

182-

ويجوز الاستفتاء لغير المجتهد فيما لا تلزمه معرفته من أحكام الشرع، كالعامي الذي لا يجب عليه الحج، فلا يلزمه أن يعرف أحكامه، وبالتالي لا يجب عليه أن يسأل عن هذه الأحكام وإن كان يجوز له أن يسأله عنها؛ لأنَّ معرفة أحكام الشرع والاستزادة من هذه المعرفة من الأمور المندوبة في حق كل مسلم، وحيث كان الأمر مندوبًا فجوازه أولى.

183-

ولكن هل يجوز الاستفتاء لغير المجتهد فيما لا يلزمه معرفته فيما لم يقع عليه من الحوادث والنوازل؟ للعلماء قولان:

القول الأول: كراهة ذلك، وهذا هو المنقول عن الإمام مالك، فقد كان -رحمه الله تعالى- يكره السؤال عن حكم ما لم يقع، ولهذا كان بعض تلامذته إذا أراد معرفة حكم مسألة لم تقع دفع إلى الإمام مالك من يسأله عنها كأنَّها مسألة واقعة، وتعليل هذه الكراهة عند بعض العلماء هو أنَّ الإفتاء في أمور الدين شيء خطير ومسئولية كبيرة؛ لأنَّ الإفتاء في أمور الدين في حقيقته إخبار عن الشرع وحكمه، وهذا لا يسوغ إلّا بعد بذل الجهد المستطاع، فإذا قصر المجتهد في ذلك تعرَّض للمسئولية، وما دامت الواقعة لم تقع فلا حاجة ولا ضرورة للتعرُّض للإفتاء وما ينطوي عليه من مسئولية، بل إنَّ السلامة والاحتياط في الدين يوجبان الإعراض عن مثل هذا الإفتاء، كما أنَّ اجتهاد المجتهد قد يتغير، فلا حاجة للتسرع في الإفتاء والحادثة التي لم تقع بعد، فقد يتغير اجتهاد المجتهد ثم تقع الحادثة ولا يستطيع المجتهد إخبار المستفتي عن اجتهاده الجديد، ولهذا كله فيحسن بالمفتي أن يعرض عن الإفتاء عمَّا لم يقع بعد، كما يحسن بالعاميّ أن يستفتي عمَّا يحتاجه وعمَّا يقع له فعلًا، ويدع ما سوى ذلك مِمَّا لم يقع بعد.

184-

القول الثاني: عدم كراهيته السؤال عمَّا لم يقع بعد إذا كان غرض السائل معرفة الحكم مسبقًا لاحتمال وقوعها، وهذا ما نرجِّحه؛ إذ لا ضرر فيه، بل فيه احتياط لما يحتمل وقوعه؛ إذ قد تقع الحادثة ولا يتيسَّر لصاحبها الوصول إلى من يستفتيه فيها، فإذا حرص على معرفة حكمها قبل وقوعها كان حرصه في محله، وعلى المفتي أن يجيبه؛ لأنَّ كليهما محسن غير مسيء، السائل في حرصه على معرفة الحكم،

ص: 143

والمفتي في تعريفه بما حرص المستفتي على معرفته، وبناءً على هذا القول وجدنا بعض العلماء من يتصوَّر المسائل ويفترض الوقائع ويجيب عليها، ويدوّن ذلك حتى يقف عليها من يريد معرفة هذه الأحكام.

على المستفتي أن يسأل الصالح للإفتاء:

185-

وحيث وجب على المسلم أو جاز له الاستفتاء، فعليه أن يستفتي من توافرت فيه الصلاحية للإفتاء؛ لأنَّ استفتاءه يتعلق بالدين، فعليه أن يحتاط لدينه فيسأل من هو أهْلٌ للافتاء، ولكن كيف يعرف العامي الصالح الكفء ليسأله؟ قالوا: يعرف ذلك بالسؤال عنه، أو إخبار الثقة له عنه، أو باشتهار أمره بين الناس، وهذا هو المقدور للعامي.

186-

فإذا لم يجد العامي في بلده من يستفتيه فعليه أن يرحل إلى حيث يجد من يفتيه، فقد كان السلف الصالح إذا احتاج أحدهم إلى معرفة مسألة شرعية ولم يجد من يخبره بحكمها رحل إلى حيث يجد العالم الكفء الذي يخبره بذلك.

استفتاء الأصلح:

187-

وإذا وجب على المستفتي أن يستفتي الصالح للإفتاء، فهل يجب عليه أن يجب عليه أن يتحرَّى عن الأصلح إذا كثر المفتون في بلده؟

قولان للعلماء في هذه المسألة:

القول الأول: لا يجب عليه التحري عن الأصلح، فله أن يسأل من شاء من أهل الإفتاء ما داموا صالحين له؛ لأن العاميِّ لا قدرة له على معرفة الأصلح، ولا على وزن الرجال وتقدير منازلهم ومراتبهم في العلم، فتكليفه بذلك ضرب من التكليف بِما لا يطاق.

القول الثاني: يجب عليه التحري عن الأصلح واستفتاؤه دون غيره، وليس في ذلك تكليف له بما لا يطاق؛ إذ يستطيع أن يعرف الأصلح بالسؤال عنه أو بأخبار الثقة له عنه، أو باشتهار أمره وبروزه بين أقرانه، وهذا القدر كما يرى ممكن له ويؤدي إلى معرفة الأصلح غالبًا، وهذا هو المقدرو له والمطالب به، وإذا لم يصل إلى الأصلح مع ذلك كله، فلا لوم عليه ولا تثريب.

ص: 144

188-

والراجح عندي القول الأول؛ لأنَّ السلف الصالح من الصحابة والتابعين ما كانوا يوجبون على المستفتي استفتاء الأصلح أو البحث عنه، فدلَّ ذلك على جواز استفتاء الفاضل وترك الأفضل، ومع هذا يستحب للعاميّ التحري عن الأصلح واستفتائه كلما كان ذلك ميسورًا له.

من هو الأصلح:

189-

وإذا قلنا بوجوب التحري عن الأصلح، على القول الأول للعلماء، أو عن استحباب ذلك له على ما ذكرناه في ترجيحنا، فمن هو الأصلح للإفتاء؟ المستفاد من أقوال العلماء أنَّ الأصلح هو الأعلم الأورع، ولكن إذا وَجد المستفتي المفتي الأعلم، ووجد المفتي الأورع، فأيهما يسأل؟ قولان للعلماء:

القول الأول: يسأل الأعلم؛ لأنه هو الأصلح، فيتعين عليه استفتاؤه؛ لأن مدار الإفتاء على العلم، وما دام هو الأعلم فهو الأولى بالإفتاء، والأصلح له من غيره.

القول الثاني: الأصلح هو الأورع، فعليه أن يستفيته دون غيره. واستدلَّ أصحاب هذا القول بقوله جل جلاله:{اتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ، وبما روي عن السلف الصالح "إنَّ هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذونه".

190-

والراجح عندي أنَّ استفتاء الأورع أولى؛ لأنَّ ما عنده من العلم يكفي للإفتاء؛ ولأنَّ ورعه يحجزه عن التهجم على الفتوى والتساهل فيها، ويبعده عن مزالق الهوى الخفي، كما أنَّ ورعه يدفعه إلى البحث الشديد لمعرفة الحكم الصحيح، وبهذا البحث الشديد وخلوص النية تكون إصابته في الفتوى محتملة جدًّا، بل ويمكن القول أنَّ الأورع هو الأصلح للإفتاء في زماننا هذا، فيتعيِّن استفتاؤه دون غيره ما أمكن ذلك؛ لقلة الورع عند العامَّة وأكثر العلماء، فمن الاحتياط المطلوب في الدين أن يسأل المستفتي المفتي الأورع ما دام عنده من العلم ما يكفي للإفتاء، ويدع الأعلم الذي لا ورع عنده أو عنده من الورع ما لا يكفي لمنصب الإفتاء.

استفتاء المستفتي لأكثر من واحد:

191-

وإذا لم تطمئنّ نفس المستفتي إلى جواب المفتي، فماذا يعمل؟ قالوا: له أن يسأل غيره، ولكن إذا اختلفت عليه الفتوى فماذا يعمل؟ أقول في المسألة:

ص: 145

القول الأول: يأخذ المستفتي بقول من يفتيه بالحظر دون الإباحة أحوط.

القول الثاني: يأخذ بالقول الأخفِّ؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤخذ عزائمه".

القول الثالث: على المستفتي أن يتحرَّى عن الأعلم الأورع ويسأله إن لم يكن قد سأله، ويأخذ بفتياه، فإن لم يجد مثل هذا المفتي ووجد الأعلم فقط، والأورع فقط، استفتى الأورع وأخذ بقوله، وقال بعضهم: يستفتي الأعلى ويأخذ بقوله.

القول الرابع: يأخذ بقول من وافق قوله قول الآخرين للتعاضد، كتعدد الأدلة، ولزياد غلبة الظن بأنَّ هذا القول هو الراجح.

القول الخامس: يتخيِّر فيأخذ بأيّ قول شاء؛ لأن الجميع أهل للإفتاء.

192-

والراجح عندي التفصيل في المسألة بأن ينظر: إذا كان المستفتي قد استفتى الأعمّ الأورع فعليه أن يأخذ بقوله، ولا عبرة بعدم اطمئنانه وسكون نفسه، وليس له أن يسأل غيره، وإذا لم يكن المستفتي قد استفتى الأعلم الأورع فعليه أن يتحرَّى عنه فيسأله ويأخذ بقوله، فإن لم يجده ولكن وجد الأورع أخذ بقوله، وإذا كان الجميع متساوين بالعلم والورع كما يبدو للمستفتي، ولم تسكن نفسه إلى قول من استفتاه، فله أن يستفتي الآخرين، فإن اتفقوا فيها أخذ بفتياهم، وإن اختلفوا أخذ بما تطمئنّ إليه نفسه من أقوالهم دون تقيد بكثرة المتفقين أو قلتهم؛ لأنَّ الكثرة بذاتها ليست من المرجّحات في باب الفتاوى، وإنما الترجيح بالدليل، فإن لم يكن هناك دليل صريح يصلح باطمئنان كان الترجيح لقول الأعلم الأورع، ثم لقول الأورع، فإن انعدم هذا كان الترجيح باطمئنان النفس وسكونها عملًا بالحديث الشريف:"استفت نفسك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

إعادة الاستفتاء:

193-

وإذا استفتى العامي عن حادثة، فهل عليه أن يعيد استفتاءه إذا نزلت به مرة أخرى، أم يعمل بالفتوى الأولى؟ قولان للعلماء، منهم من قال بوجوب إعادة الاستفتاء؛ لاحتمال تغيّر اجتهاد المفتي، ومنهم من قال بعدم وجوب إعادة الاستفتاء

ص: 146

لأنَّ المستفتي قد عرف حكم الحادثة باستفتائه الأول، فلا حاجة إلى اعادته.

194-

والذي أميل إلى ترجيحه هو التفصيل، فإن كان الذي أفتاه أولًا هو الأعلم الأورع فلا حاجة في هذه الحالة إلى إعادة الاستفتاء إن لم يكن كذلك، ثم نزلت به الحادثة مرة أخرى، ووجد الأعلم فعليه أن يستفتيه؛ لأن اجتهاده مظنَّة الصواب أكثر من غيره، وقد وجده فعليه أن يسأله، أمَّا إذا لم يجد الأعلم الأورع فالأَوْلَى له أن يعيد استفتاءه إذا أمكنه ذلك؛ لأن اجتهاد المجتهد قد يتغيّر لظهور ما لم يكن ظاهرً له من الأدلة، فإذا جاءت الفتوى الثانية كالأولى عمل بها، وإن اختلف عليه الجواب كرَّر الاستفتاء وأخذ بما تسكن إليه نفسه على النحو الذي فصلناه من قبل.

كيفية الاستفتاء أو صيغته:

195-

والمستفتي حين يسأل عن حكم مسألة أو واقعة إنَّما يسأل عن حكم الشرع فيها، وبناء على ذلك ينبغي أن تكون صيغة الاستفتاء على النحو الآتي:"ما حكم الشرع الإسلامي في هذه المسألة"، أو يقول:"ما حكم الله في هذه المسألة"، أو نحو ذلك من الصيغ الدالة على هذا المعنى.

الاستفتاء بموجب مذهب معين:

196-

وقد أثار كثير من العلماء السؤال التالي: هل يجب على المستفتي أن يكون استفتاؤه بموجب مذهب معين؟ أم يجوز له الاستفتاء وفق أيّ مذهب شاء؟ وقد أجابوا على هذا السؤال بأن الجواب مبنيّ على مسألة أخرى، هي: هل يجب على العاميّ أن يتقيِّد بمذهب معين بعزائمه ورخصه، ويستغني بموجبه أم لا يجب عليه ذلك؟ وإذا انتسب إلى مذهب معيِّن والتزم به واستفتى بموجبه، فيما قيمة انتسابه والتزامه هذا في كيفية استفتائه؟

197-

وقد تعرَّض الأمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي لهذا السؤال وما ابنتي عليه، فقال ما خلاصته: إنَّ العامي إمَّا أن يكون منتسبًا إلى مذهب معين وإمَّا أن لا يكون، ولكل حالة حكمها على النحو التالي:

الحالة الأولى: أن يكون منتسبًا إلى مذهب معين: وفي هذه الحالة قولان للعماء:

ص: 147

القول الأول: إن انتسابه لمذهب معين لا يجعله ملتزمًا به؛ لأن المذاهب إنما تكون لمن يعرف الأدلة، والعامي لا معرفة له بها، وعلى هذا له أن يستفتي من شاء من المفتين وعلى أي مذهب يفتيه المفتي.

القول الثاني: إنَّ انتساب العامي إلى مذهب معين هو انتساب معتبر في حقه ملزم له؛ لأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، فعليه الوفاء بما اعتقده والتزم به.

ورتبوا على ذلك أنَّ عليه أن يستفتي من يفتيه بموجب مذهبه.

الحالة الثانية: عدم انتساب العاميّ إلى مذهب معين، وفي هذه الحالة قولان عند العلماء:

القول الأول: لا يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين، وبالتالي لا يلزمه أن يستفتي بموجب مذهب معين، بل له أن يستفتي أي عالم، ويأخذ بفتواه على أي مذهب جاءت فتوه. ودليل هذا القول أن السلف الصالح لم يلزموا العامي بتقليد علم معين ولزوم استفتائه دون غيره، بل كانوا يبيحون له استفتاء أي عالم شاء.

القول الثاني: يلزمه أن يتمذب بمذهب معين فيأخذ بعزائمه ورخصه ويستفتي بموجبه، واحتجَّ أصحاب هذا القول بأنه لو جاز للعامي اتباع أيّ مذهب شاء لأدَّى ذلك إلى التقاط رخص المذاهب اتباعًا لهواه، وهذا مسلك من شأنه أن يؤدي إلى الانحلال عن التكاليف الشرعية والتلاعب بالأحكام، ولا خلاص من هذه الفوضى إلّا بإلزام العامي بالانتساب إلى مذهب معين والاستفتاء بموجبه فقط، وقالوا عن حجة أصحاب القول الأول بأنَّ المذاهب لم تكن قد مهدت وحررت وعرفت في عهد السلف الصالح، ومن ثَمَّ أباحوا عدم التقيد بمذهب معين، ثم خلص أصحاب هذا القول إلى ضرورة الانتساب إلى مذهب معين يختاره بعد التحري والسؤال عن المذهب الأصلح، ويمكن أن يعرف ذلك بالسؤال كما قلنا، وبالشهرة وشيوع المذهب، ونحو ذلك، فإذا ما انتسب إلى مذهب معين كان عليه أن يستفتي بموجبه، ولا يستفتي وفق غيره.

القول الراجح في المسألة:

198-

والراجح في المسألة التفصيل بعد ذكر بعض المقدمات على النحو التالي:

ص: 148

أ- إن الواجب على كل مسلم أن يعرف حكم الله فيما يلزمه من أمور، كما ورد في الكتاب والسنة وبالاستباط الصحيح منهما، أو من المصادر التي أشارت إليها نصوص الكتاب والسنة.

ب- والأصل أن المسلم -ما دام قادرًا على الاجتهاد- أن يعرف حكم الله تعالى عن طريق البحث والنظر في معاني القرآن والسنة، وفيما دلت عليه نصوصهما من أدلة الاستنباط، وبهذا تكون معرفته للأحكام مبنية على الدليل والبرهان، وهي المعرفة التي أمر بها الشرع الشريف.

ج- وللمسلم القادر على البحث والاجتهاد أن يأخذ بمناهج المجتهدين في البحث والاستنباط ما دامت تلك المناهج سائغة وجائزة الاتباع بموجب الدليل والبرهان، وإن تفاضلت فيما بينها بالجودة والقرب من الصواب وبالأولوية بالاتباع.

د- وإذا كان المسلم عاجزًا عمَّا تقدم، فعليه أن يستعين بأهل العلم ليدلوه على أحكام الشرع ويقلّدهم بما يقولون، باعتبار أنَّ ما يخبرونه به هو حكم الشرع، والله تعالى أمر من لا يعلم أن يسأل من يعلم، وفائدة السؤال هو الأخذ بجواب أهل العلم والعمل به، وإلّا لم يكن للسؤال فائدة ولا معنى، وهذا ما ينزّه عنه الشارع الحكيم.

هـ- وللمسلم العاجز عن الاجتهاد أن يستعين بكتب العلماء الموثوقة والمشهود لأصحابها بالإمامة بالدين، مثل أصحاب المذاهب المعروفة، فيتفقه بها ويتخرَّج عليها، ويأخذ بما فيها باعتبار أنَّ ما فيها هي أحكام الشرع التي وصل إليها أصحابها، وهم علماء فقهاء أهل لمعرفة أحكام الشرع.

و وإذا تفَقَّه المسلم بفقه هذه المذاهب وانتسب إلى أحدها، فقيل عنه: إنه شافعي أو حنفي، فإن هذا الانتساب يعني: تفقه بفقه هذا المذهب، واتخاذه دليلًا وهاديًا له إلى أحكام الشرع، فالمذهب بحقه كاشف له عن أحكام الشرع، وليس مصادمًا للشرع، وعلى هذا الأساس انتسب إليه.

ز- وعلى هذا، فإذا تبيِّن لهذا المنتسب أنَّ مذهبه لم يوفق في الدلالة إلى الصواب في مسألة معينة، وأن الصواب فيها عند غير هذا المذهب، وبالتالي اتبع غير مذهبه في هذه المسألة، فهو في هذا المسلك محسن غير مسيء، ولهذا نقل عن أصحاب المذاهب أن

ص: 149

كل واحد منهم قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط.

لأنَّ الحديث هو القول الحق، وفيه حكم الله فيلزم اتباعه، ويقاس على قولهم هذا كل قول صحيح ظهرت صحته بالدليل والبرهان، فيلزم اتباعه وهجر ما خالفه.

ح- وبناءً على ما تقدَّم يجوز للمسلم أن ينتسب إلى مذهب معين، فيدرسه ويتفقه به باعتباره مظنَّة الصواب، ويستفتي بموجبه، كما يجوز للعاميّ أن لا ينتسب إلى مذهب معين، وإنما يتعلم ما يلزمه من أحكام الشرع بسؤال أهل العلم عنها ابتداءً، أو عند نزول الحادثة به، ولهذا العامي غير المنتسب إلى مذهب معين أن يستفتي دون تقيد بأي مذهب، فإذا استفتى بمذهب معين فإن استفتاءه هذا يمكن توجيهه وتصحيحه باعتبار أنَّ هذا العامي اعتقد أنَّ هذا المذهب أولى من غيره بالاتباع، وكما يجوز لغير المنتسب لمذهب أن يستفتي دون تقيد بمذهب، فإن المنتسب هو الآخر له أن يستفتي دون تقيد بمذهب، وتوجيه ذلك أنه يريد معرفة حكم الشرع كما يدله عليه هذا المفتي الذي هو أعلم منه، ولذلك جاء يستفيته.

ط- والخلاصة: فإنه في جميع الأحوال يسع العامي الذي لم يصل إلى رتبة الاجتهاد أن يستفتي دون تقيّد بمذهب معين، وإنما يسأل عن حكم الشرع، سواء كان هذا العامي منتسبًا إلى مذهب معين أو غير منتسب، وسواء تفقَّه على مذهب معين أو لم يتفقه، فيقول للمفتي: ما حكم الشرع في كذا وكذا؟ وهذه صيغة صحيحة سليمة، أمَّا السؤال بمذهب معين فغايته أنه سائغ وجائز على التوجيه الذي بيناه.

مطالبة المستفتي بالدليل:

199-

وهل للمستفتي أن يطالب مفتيه بدليل ما يفتيه به؟ قال بعضهم: ليس له ذلك، وإنما له أن يسأله عن الدليل في مجلس آخر، ولا نرى وجهًا لتعليق السؤال على مجلس آخر، والذي نرجِّحه أنَّ للعامي أن يطلب من مفتيه الدليل؛ لأن ما يفتيه به دين يدين الله تعالى به ويعمل به، فمن حقه أن يستوثق من ذلك، وأقل درجات الاستتيثاق أن يطلب منه الدليل، فإذا قال له المفتي: الدليل هو الحديث الشريف الذي نصه كذا وكذا، أو معناه كذا وكذا، سكن المستفتي واطمأنَّ؛ لأن المفروض في المفتي أنه عرف صحة الحديث ومعناه فأفتى بموجبه، أمَّا إذا قال له: إن الدليل هو رأي أو محض اجتهادي، فللمستفتي في هذه الحالة أن يستفتي غيره إذا لم يطمئن إلى

ص: 150

جواب المفتي كما قلنا من قبل، كما أنَّ للمستفتي أن يقبل جواب المفتي ولا يسأل غيره، باعتبار أنَّ المفتي من أهل العلم والفتيا، وأن اجتهاده سائغ ومظنَّة الصواب، ومع هذا كله يسوغ للمستفتي أن لا يطالب مفتيه بالدليل اكتفاءً منه بظاهر حال المفتي، وأنه لا يفتي إلّا بعلم ودليل.

أدب المستفتي:

200-

قال العلماء: يجب على المستفتي أن يكون مؤدبًا في استفتائه، وعددوا بعض مظاهر أدبه معه.

والواقع أنَّ آداب الكلام في الإسلام، وآداب التلميذ نحو أستاذه، وآداب المسلم نحو أهل العلم، كلها لازمة في حق المستفتي، فهو مسلم فعليه أن يلتزم بآداب الإسلام في هذا المجال، وهو يسأل أهل العلم فعليه أن يلتزم بآداب الإسلام نحو العلماء، وعلى هذا يجب عليه أن يظهر تواضعه نحو المفتي واحترامه له، فلا يعلي صوته عليه، ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يكلمه بلهجة جافة قاسية، وأن يستأذنه بالسؤال والجلوس، ويتخير الوقت المناسب والمكان المناسب لسؤاله، فلا يستفتيه وهو مشغول بغيره، ولا أن يطرق عليه بابه في وقت القيلولة أو النوم ليلًا، إلى غير ذلك من مظاهر الاحترام والتوقير وآداب السؤال، ولا شكَّ أن هذه المظاهر والآداب تتأثَّر بالعرف والعادات، فيجب مراعاتها ما دامت هذه العادات والأعراف لا تصادم معاني الشريعة الإسلامية.

ص: 151