الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله
معنى الشهادة:
19-
الشهادة تعني: العلم والإعلام والإخبار والبيان، ولهذا سمي الشاهد شاهدًا؛ لأنه يخبر بما علم. والبيان والإخبار كما يكون بالقول يكون بالفعل، فمن الشهادة بالفعل قول الله تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 1 فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه، أي: إنَّ أفعالهم بينت وأظهرت أنَّهم كفرة.
وتتضمن كلمة الشهادة الإقرار والاعتراف والاعتقاد، فإن الشاهد يعتقد صحة ما يشهد به ويخبر عنه، فإذا شهد بما لا يعتقده كانت شهادته كاذبة؛ لأنَّ إخباره لا يطابق اعتقاده، قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 2 فهم كاذبون لأنهم لا يعترفون بصحة ما يقولون، ولا يعقتدون ما يقولون.
فكلمة "أشهد" إذن تدل على معنى العلم والمعرفة والبيان، وتتضمَّن معنى الإقرار والإذعان والاعتقاد.
1 سورة التوبة، الآية:17.
2 سورة المنافقون، الآية:1.
معنى الإله:
20-
أمَّا كلمة "إله" فيراد بها المعبود، وهي تستعمل بمعنى المعبود بحقٍّ أو بباطل، وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 1 كما تستعمل بمعنى المعبود الحق، وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 2 وبهذا المعنى أيضًا وردت في قوله عليه الصلاة والسلام: "أن تشهد أن لا إله إلا الله".
معنى كلمة التوحيد:
21-
وعلى هذا يكون معنى كلمة التوحيد -أشهد أن لا إله إلا الله: إنِّي أعلم وأقرّ وأعترف وأعتقد بأن المعبود الحق الذي لا يستحق العبادة غيره هو الله تعالى، وأن أبين ذلك وأظهره بلسان وأفعالي وسلوكي.
هذا، وإنَّ إفراد الله تعالى بالعبادة، وهو الذي يسمَّى بتوحيد الألوهية، يتضمَّن توحيد الربوبية ومعناه: الاعتقاد بأن الله تعالى وحده هو رب العالمين، فصار عندنا التوحيد نوعين1 توحيد الألوهية. 2 توحيد الربوبية.
أولًا: توحيد الألوهية
22-
توحيد الألوهية هو الذي بعث الله به جميع رسله، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3 وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} 5.
1 سورة الجاثية، الآية:23.
2 سورة محمد، الآية:19.
3 سورة الأنبياء، الآية:26.
4 سورة النمل، الآية:36.
5 سورة المؤمنون، الآية:23.
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1.
23-
والعبادة لله تقوم على الحب الخالص لله مع الذلِّ الكامل له، ومظر ذلك توجيه العبد إلى الله تعالى بالتوكل عليه، والثقة به، والخوف منه، والإنابة إليه، والطلب منه، والأنس بذكره، والفرار إليه، ونشاط الجوارح بتنفيذ شرعه وأقامة دينه، والانصباغ بصبغته، وإيثار محبته وطاعته، وجعل السلوك والأقوال والأفعال وسائر الأحوال على الوجه المرضي عند الله، وبهذا كله يحقق المسلم معنى أشهد أن لا إله إلا الله بالقول والعمل، فيكون صادقًا في شهادته.
24-
وتزداد معاني العبودية ويرسخ أصلها ويعظم أثرها بقدر علم العبد بمدى فقره وحاجته إلى الله، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ويزداد حب العبد لله وخضوعه له بقدر معرفته بكمال الله وعظيم نفعه ونعمه عليه، وتفكره في آلائه التي لا تُعَدُّ ولا تحصى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، وفي تفكره في صفاته ومعاني أسمائه الحسنى.
25-
وبقدر امتلاء القلب بمعاني العبودية يحترز من عبودية غير الله تعالى، حتى يصبح عبدًا خالصًا لله، وهذه أسمى درجة ينالها الإنسان، ولذلك وصف الله تعالى رسوله الكريم بوصف العبودية في أرفع منازله، وصفه بها في مقام تنزل الوحي عليه، وحين الدعوة إليه، وحين أسري به صلى الله عليه وسلم وعرج به إلى السماء، قال تعالى:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} ، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} .
ثانيًا: توحيد الربوبية
26-
كلمة الرب تدل على جملة معاني منها: السيد ومالك الشيء وموجده والمتصرِّف فيه، والمربِّي لغيره، والمتكفل بمصلحة الإنسان، وصاحب السلطان والسيادة، النافذ أمره في غيره. ومعاني الربوبية هذه وما تتضمَّنه أو تستلزم من معاني أخرى لا يوصف بها ولا يمكلها على وجه الحقيقة والكمال إلّا الله تعالى، وأمَّا غيره فهو مربوب لله، وإذا وجد فيه شيء من معاني الربوبية فعلى وجه المجاز والعارية، فإن كل ما سوى
1 سورة الأعراف: الآية: 65.
الله مخلوق لله، منه يستمد وجوده وبقاءه، وكل ما عنده من صفات الكمال المناسبة للمخلوق، الله تعالى هو رب العالمين على وجه الحقيقة، فلا ربَّ سواه، فهو الخالق المحيي المميت النافذ أمره وحكمه في جميع خلقه، بيده الملك وهو على كل شيء قدير، يتصرَّف في الكون كما يشاء، لا معقب لحكمه ولا لتصرفه، وهو القائم على شئون خلقه، والمتكفل بما يصلحهم، وهو القادر على النفع والضرر، إذا أراد نفعَ أحد فلا رادَّ لفضله، وإن أراد بأحدٍ غير ذلك فلا مانع له من ذلك، قال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1 فالله تعالى هو المتفرِّد بالعطاء والمنع والنفع والضر، وكل ما عدا الله فإنَّه فقير إليه محتاج إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} ، فالفقر وصف ذاتي لكل مخلوق، كما أن الغني وصف ذاتيّّ لله رب العالمين.
دلائل توحيد الربوبية:
27-
والدلائل الدالة على ربوبية الله وتفرُّدِه بها وعدم مشاركة أحد له فيها كثيرة جدًّا، فما من شيء في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر جرم إلّا وهو يشهد أنَّ الله هو رب العالمين، وبالتالي فهو الإله الحق للعالمين. إنَّ هذا الكون العجيب الغريب المتناسق المنظَّم يقول بلسان الحال: إن له خالقًا عظيمًا هو الله تعالى، وإنَّ العقل السليم لا يمكنه أصلًا أن يتصوَّر أن هذا الكون وُجِدَ بلا موجد، وحدث بلا محدث، فإنَّ قبول هذا التصور مخالف لأي عقل سويّ. إن عقولنا تأبى قبول قول من يقول: إن هذا حدث "صدفة"، بأن أثَّرت الأمطار في جبلٍ فحفرت فيه حفرًا صارت غرفًا، وأنّ عقلنا يرفض من يزعم أنَّ هذا الكتاب حدث بفعل تجمع الحديد وإنصهاره بفعل الحرارة، ثم تشقَّقَ الحديد المنصهر فصار حروفًا، ثم تجمعت الحروف ووقعت عليها مادَّة سوداء، ثم حصلت عجينة الخشب بسبب سقوط الأشجار وبفعل الأمطار، ثم جفَّت وصارت صحائف، فجاءتها ريح وضعتها على الحروف، ثم إنَّ هذه الحروف انطبعت على الصحائف بعد تغيِّر ترتيبها بعد طبع كل صحيفة بفعل
1 سورة الأنعام: الآية: 17.
الرياح.. إنَّ هذا الكلام لا يصدقه عاقل، فكيف يصدق أنَّ هذا الكون الهائل، وهذا الإنسان العجيب، وهذه المخلوقات الغريبة من حيوان ونبات، كل ذلك حدث صدفة بلا موجِد ولا مدبِّر ولا منظِّم، إنَّ هذا شيء لا يكون قبوله أبدًا. أذكر أن أحد الطلاب سألني: لماذا لا يمكن أن يوجد هذا العالم صدفة بفعل المادة؟ فأجبته: انظر إلى هذه السبورة وهي أمامك -وكان عليها بعض الكتابات، لو قال إنسان: إن هذه الأسطر على السبورة لم يكتبها كاتب، وإنما حدثت صدفة بأن حملت الرياح ذرات التراب ودخلت بها من نوافذ الغرفة وأسقطتها على السبورة، فظهرت بشكل كلام مفهومٍ مكونًا هذه الأسطر، أيمكن لعاقل أن يصدق هذه القول؟ فقال: لا، قلت: فإذا كان هذا غير مقبول ويرفضه العقل، وهو شيء بسيط وتافه للغاية، فكيف يمكن لعقل سليم أن يصدِّق أن المادَّة الصماء العمياء أبدعت هذا الكون، أو أنَّ هذا الكون بكل ما فيه انبثق من هذه المادة؟ ولهذا فإن الإقرار بربوبية الله وإنفراده بها أمر شائع عند البشر، ومركوز في فطرة كل إنسان، ويعترف به حتى المشرك، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 2.
القرآن الكريم وتوحيد الربوبية في النفوس:
28-
والقرآن في آياته يذكِّر الناس بما هو مركوز في فطرهم ويقرره، وهو أنَّ الله وحده رب العالمين، قال تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 3، ومن أنكر وجود الخالق عز وجل بلسانه فإنه مستيقن في باطنه بوجود الله تعالى، قال تعالى مخبرًا عن أمثال هؤلاء الجاحدين المنكرين:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 4، فالإنكار والجحود من البعض لوجود الخالق هو إنكار وجحود محض على وجه المكابرة والعناد، ولا يعني خلوَّ فطرة الإنسان من الإحساس العميق بوجود الخالق، ولهذا إذا زالت الغشاوات عن فطرة الإنسان وزالت مكابرته وعناده، فإنه يجد نفسه بلا اختيار منه متوجهًا إلى الله، هاتفًا بلسانه
1 سورة الزخرف، الآية:87.
2 سورة الزخرف، الآية:9.
3 سورة إبراهيم الآية: 10.
4 سورة النمل، الآية:14.
مستنجدًا به بكل كيانه. أذكر أني قرأت في مجلة كانت تصدر في أيام الحرب العالمية الثانية حديثًا لصحفيٍّ أجراه مع أحد الطيارين، وقد سأله الصحفي عن أحرج الساعات التي مرت به أثناء قيامه بواجبه، وما كان شعوره في تلك الساعة الحرجة، فأجابه الطيار بأنَّه نشأ في بيت ليس فيه ما يذكِّره بالله، فقد كان أبوه ملحدًا، ونشَّأَه على الألحاد، وكذا كان أخوته، وعند انخراطه بسلك الطيران استمرَّ في الحاده وإنكاره لكل شيء عدا ما يراه بعينه ويلمسه بيده، وفي أثناء قيامه بأعماله الحربية أحسَّ أن طائرته توشك أن تسقط، وأن الهلاك محتم، فإن لم يهلك بسقوط الطائرة فإنه سيهلك على يد العدو إذا وصل إلى الأرض سالمًا. قال الطيار: في تلك الساعة الحرجة لم أفكِّر في شيء على الأرض من أهلٍ أو قريبٍ أو صديقٍ أو زوجةٍ، وإنما رأيت نفسي وبلا شعور منِّي متوجهًا إلى الله تعالى، هاتفًا باسمه، طالبًا العون منه، وهكذا كان، فقد نجوت باعجوبة، والفضل في ذلك لله وحده، الذي لم أفكِّر فيه قط منذ ثلاثين سنة وهي عمري الآن. إنَّ هذه القصة صحيحة على ما أعتقد؛ إذ لا داعي لتلفيقها، بل وإنها تتكرَّر في كل يوم مئات المرات بأشكال آخرى. إنَّ الإنسان الغافل الناسي الذي لا يخطر بباله الله تعالى، يجد نفسه مدفوعًا إلى التوجّه إلى الله تعالى كُلَّمَا ألمَّت به مصيبة، أو وجد نفسه في ضيق، فالمريض الراقد في سريره أو في غرفة العمليات، وراكب الطائرة الذي يخبره قائدها أنَّ خطرًا يواجه الطائرة، هؤلاء لا يفكرون في تلك الساعة بشيء، ولا يخطر ببالهم شيء سوى الله تعالى، به يستجيرون وإليه يتوجهون. وصدق الله العظيم إذ يقول مخبرًا عن المشركين:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} 1.
إنَّ مسألة وجود الله من البدهيات التي لا توجد بدهية مثلها في الوضوح والظهور، بل نقول: إذا لم تصح هذه المسألة في العقول فلا يمكن مطلقًا أن تصحَّ مسألة أخرى غيرها، فليس هناك شيء عليه من الأدلة من حيث الكثرة والتنوع مثل مسألة وجود الله تعالى.
توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية:
29-
وتوحيد الربوبية وإفراد الله تعالى بجميع معانيها، يستلزم قطعًا توحيد
1 سورة لقمان. الآية: 32.
الألوهية، أي: إفرادالله بالعبادة، وأنَّه وحده هو المعبود الحق الذي لا يستحق غيره ذرة واحدة من العبادة، ولهذا يذكر القرآن المشركين بربوبية الله وانفراده بها، وأنها تستلزم توحيده في الألوهية، وهذا مسلك سديد واضح جليّ لا يجوز إغفاله والاستعاضة عنه بمسالك ملتوية غير مجدية، فمن هذه النصوص القرآنية قوله تعالى:
{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1 {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 3.
فهذه الآيات تذكِّر المشركين بحقيقة واضحة، وهي أنَّ معبوداتهم من دون الله عاجزة لا تستيطع خلق شيء ولو ذبابة، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستطيعون تخليصه منه، كيف يجوز في العقل السليم أن يعبد غير الله، ويسوي مع الله في العبادة وهو الخالق وحده، وما سواه عاجز ضعيف مخلوق؟
ويحاجج القرآن المشركين ذاكرًا لهم أنَّ ما يعبدونهم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يشاركون الله تعالى في ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، وليس لله بمعبوداتهم البالطة حاجة ولا أيّ عون، وإذا كان الأمر كذلك كما يرون فيجب عليهم إخلاص العبادة لله تعالى. قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 4.
والقرآن يقرر بعض الحقائق التي يعترف بها المشركون، وهي أنَّ الله هو مالك السماوات والأرض والمتصرِّف فيها، وهو الذي يجير المستجيرين به، فيجب إذَنْ أن يعبدوا الله دون غيره، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ
1 سورة الأعراف، الآية:191.
2 سورة النمل: الآية: 17.
3 سورة الحج، الآية:73.
4 سورة سبأ، الآية:22.
وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 1.
العلوم الحديثة وعقيدة التوحيد:
29-
والعلوم الحديثة المتعلقة بالكون وبالذرة، أو بالإنسان، أو بالنبات وبالصناعات والكشوف الحديثة والمخترعات الحديثة، كل هذه تقوي عقيدة التوحيد وتزيد إيمان المؤمن؛ لأنها تكشف عن دقة نظام الكون وعجائب خلق الله ولطائف صنعه الدالة على عظمته وواسع قدرته وعلمه، فإن دقة المصنوع تدل على عظمة الصانع، وأنَّ وراء هذه الصنعة البديعة والنظام الدقيق خالق عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 2 {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3.
مكانة التوحيد في الإسلام:
30-
التوحيد في الإسلام هو كل الإسلام، والقرآن كله يدور حول التوحيد، فآيات القرآن إمَّا إخبار عن الله وصفاته وخلقه وأفعاله وتدبيره، وإمَّا أمر ونهي وهما من لوازم ربوبيته وقيوميته على خلقه، وإمَّا بيان للثوب بأنواعه، وهو جزاء من أطاعه واتَّبَع رسله الذين أرسلهم بشريعته القائمة على توحيده في الألوهية والربوبية، وإمَّا بيان للعقاب بأنواعه وهو جزاء المخالفين لشرعه، وإمَّا إخبار عن أحوال المكذبين الماضين وهو بيان لمن خرج عن مقتضى توحيده وعبادته.
فالتوحيد هو لب الإسلام وأساسه، ومنه تنبثق سائر نظمه وأحكامه وأوامره ومناهجه، وكل ما فيه عبادات وأحكام يرسخه ويقويه ويثبته في قلوب المؤمنين.
1 سورة المؤمنون: الآيات: 84-90.
2 سورة فصلت: الآية: 53.
3 سورة الذاريات، الآية:21.