الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصالح الذي يجب أن يقوم عليه نظام المجتمع، ويسعى لتثبيت هذا الأساس وإقامة نظام المجتمع عليه، وبهذا تتيسَّر للأفراد سبل الخير والسعادة، ويتحقق أكبر قدر ممكن من الحياة الطيبة المستقرة الهادئة لأفراده.
134-
والواقع أن الإسلام كفانا مئونة البحث والتحرِّي عن هذا الأساس الذي يقوم عليه النظام الصالح والمجتمع، كما كفانا مئونة البحث عن طبيعة هذا النظام الصالح وخصائصه، مما يجعل الأمر سهلًا ميسورًا لبناء المجتمع الصالح الذي يسعد به الناس جميعًا، فما هو إذن أساس النظام الصالح في نظر الإسلام. وما هي خصائص هذا النظام؟ هذا ما سنجيب عليه في المطلبين التاليين الذي يتَّسع له بحثنا في هذا المقام.
المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام
135-
إن أساس نظام المجتمع في الإسلام هو العقيدة الإسلامية؛ لأن المطلوب من كل إنسان أن يحمل هذه العقيدة ليعرف مركزه في الحياة وعلاقته بالكون والغرض الذي من أجله خُلِق، وهذه العقيدة هي الموجِّهة لأفكار الإنسان وسلوكه وسائر تصرفاته، ولا يمكن التخلي عنها في شأن من الشئون؛ وحيث إنَّ الإنسان اجتماعي بالطبع كما قلنا، فمن البديهي أن تكون العقيدة الإسلامية هي الموجِّهة له في بناء هذا المجتمع، والنظام الذي يختاره له، وبكلمة أخرى: يجب أن يكون العقيدة الإسلامية هي الأساس لبناء المجتمع ونظامه، حتى يعمل الأفراد في ضوء عقيدتهم كأفراد وكأعضاء في المجتمع، كما يعمل المجتمع كجماعة منظمة في ضوء هذه العقيدة التي يحملها أفراده، ويترتّب على ذلك أنَّ كل من يحمل هذه العقيدة ويدين بها ويلتزم بمقتضاها يكون أهلًا للانتماء إلى هذا المجتمع الإسلامي، فيصبح عضوًا فيه، ويساهم في بقائه وتحقيق أغراضه، والتمتع بمزاياه، وتحمّل تبعاته مهما كان جنسه أو نوعه أو لونه أو لغته أو إقليمه أو حرفته
…
والحقيقة أنَّ تقديم الإسلام هذا الأساس لإقامة المجتمع البشري كان حدثًا ضخمًا وفريدًا في التاريخ البشري ما كان الناس
يعرفونه، ولم يخطر ببالهم، فالرومان واليونان والفرس والعرب قبل الإسلام أقاموا مجتمعاتهم على أساس الجنس أو القبيلة أو السلالة أو الإقليم، وبنوا على هذا الأساس أباطيل كثيرة تولَّد عنها الظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان، فلمَّا جاء الإسلام بهذا الأساس الجديد لبناء المجتمع ونظامه، كان ذلك انقلابًا هائلًا في الحياة البشرية، تكريمًا للإنسان، ووضعًا للأمور في نصابها، فليس من اللائق بالإنسان بناء مجتمعه على أساس الجنس أو القبيلة أو الأقليم، كما كانت تفعل المجتمعات الجاهلية قبل الإسلام؛ لأنَّ أصل البشر واحد، ولا يمكن حجب هذه الحقيقة باختلاف الناس بالأنساب والأجناس؛ لأن أجناسهم وشعوبهم المختلفة كالأغصان للشجرة الوحدة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"كلكم لآدم وآدم من تراب" وكذلك لا معنى لاتخاذ الإقليم أساسًا للمجتمع البشري؛ لأنَّ الأرض خلقها الله للناس، فهي إقليمهم، وهي وطنهم المشترك، قال تعالى:{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} ، وأيضًا فإنَّ الجنس والقبيلة والسلالة لا يصلح واحد منها أن يكون أساسًا للمجتمع البشري، لأنه بطبيعته ضيق لا يمكن ان يسع الناس جميعًا، فليس بمقدور أحد أن يكون من هذا الشعب أو القبيلة أو الجنس بعد أن خلقه الله من غيرها، وإنما الممكن المقدور للإنسان أن يعتنق العقيدة الإسلامية، فيكون من أعضاء المجتمع الإسلامي، ومن يرفض اعتناق هذه العقيدة فإنَّ المجتمع الإسلامي لا يرفض قبوله فيه إذا رغب هو في الانتماء إليه، بشرط إعلان ولائه له وخضوعه لنظامه عن طريق عقد الذمة، وفي هذه الحالة سيجد غير المسلم مكانًا أمينًا في هذا المجتمع الفكري، ويتمتع بالحقوق العامة والخاصة، وبحماية تامَّة لنفسه وماله وعرضه، وعلى هذا، فقول البعض: إن إقامة المجتمع على أساس العقيدة الإسلامية بغير اضطهاد غير المسلمين وإكراههم على تبديل دينهم قولٌ باطل، هو من قبيل التشويش والتضليل والجهالة، فالإسلام يقرر في القرآن لكريم:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، والفقهاء يقررون قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، والواقع يشهد بأنَّ غير المسلمين عاشوا في المجتمع الإسلامي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى اليوم دون أن يمسَّهم أذى أو تضييق بسبب دينهم، والواقع يثبت أنَّهم طفروا بحماية ورعاية من المسلمين لا نجد لهما نظيرًا مطلقًا في أيِّ مجتمع بالنسبة للأقليات التي فيها والتي لا تدين بدينه، ويكفي أن نذكر هنا مأساة الأندلس وما أصاب المسلمين هناك
عندما دالت دولتهم وذهب سلطانهم.
نتائج إتخاذ العقيدة الإسلامية أساسًا لنظام المجتمع:
أولًا: الرباط الإيماني
136-
يعتبر الإسلام المؤمنين بالعقيدة الإسلامية إخوة في الدين، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، وفي الحديث الشريف:"المسلم أخو المسلم"، والإخوة الإيمانية أعظم الروابط بين المسلمين، وعلى أساسها تكون الموالاة، وقد يشترك المسلم مع أخيه المسلم بروابط أخرى كرابطة النسب أو الإقليم، وهذه الروابط غير منكورة ولا مرفوضة في الإسلام، ولكن بشرط أن لا تحمل شيئًا من الباطل، وأن لا تعلو على رابطة الإيمان ومستلزماتها.
والرابطة الإيمانية لا تقتضي اضطهاد غير المسلمين أو إيذائهم، فقد قلنا: إن الإسلام يقبل في عضوية المجتمع الإسلامي غير المسلم ويأمر بحمايته، فإذا فات غير المسلم رابطة الإيمان وأخوة الدين، فلن تفوته حماية المسلمين وعدل الإسلام وبر المجتمع الإسلامي، قال تعالى:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، وقال تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا خصمه يوم القيامة".
ثانيًا: زوال العصبية
137-
المقصود بالعصبية التناصر بالحق وبالباطل؛ لاشتراك المتناصرين بالنسب، أي: بنسب القبيلة أو السلالة أو الأسرة، وكان هذا المفهوم للعصبية هو الشائع عند العرب قبل الإسلام، فكان أفراد القبيلة ينصر بعضهم بعضًا في الحق وفي الباطل؛ لانتسابهم إلى قبيلة واحدة، وقد أنكر الإسلام هذه العصبية وأمر بنبذها، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس منَّا مَن دعا إلى عصبية، وليس منَّا من مات على عصبية"، وقال عليه الصلاة والسلام عن العصبية:"دعوها فإنها منتنة".
وبعد أن كان شعار الجاهلية: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، بمعنى: كن بجانبه في
الحالين، أصبح الشعار في الإسلام: أنصر أخاك ظالمًا، بأن تمنعه من الظلم، أو مظلومًا بأن تقف بجانبه ضد ظالمه.
وذم العصبية في الإسلام لا يقف عند حد العصبية القائمة على أساس المشاركة في القبيلة أو الجنس، وإنما تتعداها كل عصيبة قائمة على سبب آخر ما دام جوهر العصبية موجودًا، وهو نصرة الغير بالباطل بسب هذه المشاركة، وعلى هذا فانتصار الباطل هو من العصبية المقيتة المذمومة. إنَّ خلوَّ المجتمع الإسلامي من العصبية بأنواعها يقلّل فرص الاعتداء والظلم والبغي، ويساعد على شدِّ الأفراد إلى معاني الحق والعدل، وفي هذ كله خير مؤكد للمجتمع ولأفراده.
ثالثًا: تقوى الله هي ميزان التفاضل بين الناس
138-
وبزوال العصبية تزول نتائجها، ومنها: التفاخر بالأحساب والأنساب والعظام البالية، فليس مجرَّد انتساب الفرد إلى قبيلة معينة مدعاة إلى الفخر، ولا إلى فضله وعلو منزلته؛ إذ لا علاقة بين فضل الإنسان وبين انتسابه إلى قوم معينين، أو إلى قبيلة معينة، وإنما المعقول أن يقدَّر فضل الإنسان بقدر ما تحمله نفسه من فضائل وأخلاق كريمة، وبقدر ما يقدّمه من صالح الأعمال. وهذا كله يحققه تقوى الله عز وجل، ومن هنا كان أساس التفاضل في الإسلام تقوى الله، وأمَّا الانتساب إلى القبائل فهو للتعارف فقط، كانتسابه إلى بلدة معينة أو حرفة معينة أو بيت معين، أو تسميته باسم معين، فكل هذه الأشكال من الانتساب أو الأسماء يقصد بها التعارف وما يترتب عليه من تعاون أو تكاليف، قال تعالى:{أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
وبهذا الميزان الدقيق العادل لمعرفة أقدار الناس وفضلهم أصبح المجال واسعًا للتنافس في الخير وبلوغ المنزلة العالية التي يطمح إليها الإنسان، فلا يمنعه منها مانع، من فقر أو لون أو ذكورة أو أنوثة أو خسَّة نسب، أو كثرة ماله، أو سعة سلطانه، أو كثرة ولده، أو فصاحة لسانه، أو كثرة أتباعه، أو جمال صورته، وقد أشار الرسول الكريم إلى هذه الأمور بقوله الموجز البليغ:"من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، وذكر النسب إشارة إلى غيره من الأشياء التي لا علاقة في تقييم الشخص ومعرفة مقدار فضله.