الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: الفتوى
تعريفها:
242-
هي نصّ جواب المفتي، أو هي حكم الشرعي الذي يخبر عنه المفتي بإفتائه.
أساس الفتوى:
243-
وما دامت الفتوى تتضمَّن حكم الشرع، فيجب أن تقوم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما دلَّ عليه هذان الأصلان الكبيران من أدلة الأحكام كالإجماع.
244-
أما الرأي فإن كان مقبولًا صلح أن يكون أساسًا للفتوى، وإن كان فاسدًا لم يصلح، والفاسد هو المخالف للكتاب والسُّنَّة، أمَّا الرأي المقبول فهو أنواع:
الأول: رأي الصحابة الكرام لاعتماده على النظر السديد والفقه العميق والاستنباط الدقيق؛ لمشاهدتهم التنزيل، وصحبتهم للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولما عرفوا به من جودة الذهن وإحاطةً بمقاصد الشرع ومعانيه.
الثاني: الرأي الذي يفسِّر النصوص ويبيِّن دلالتها ويسهل الاستنباط منها، مثل رأي الصحابة في العول في الميراث.
الثالث: ما قبلته الأمة من الآراء الفقهية، ويدخل في هذا النوع الأقيسة الصحيحة التي توافرت فيها شروط القياس الصحيح ولم تخالف النصوص.
245-
وإذا كانت الفتوى تتضمَّن حكم الشرع، وبالتالي يجب أن تقوم على الكتاب والسنة وما دلت عليه نصوصهما، فمن البديهي أن لا تقوم الفتوى على الحيل المحرَّمة شرعًا، ولا على الشُّبَه الباطلة تحليلًا لحرام أو تحريمًا لحلال، قال صلى الله عليه وسلم:"لعن الله اليهود والنصارى حُرِّمت عليهم الشحوم فجمَّلوها -أي: أذابوها- وباعوها وأكلوا ثمنها"، ولكن يجوز أن تقوم الفتوى على الترخّص المباح الذي يجوز للمستفتي أن يأخذ به، ويجوز للمفتي أن يفتي به، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، وفي الحديث الشريف:"إن الله يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤخذ عزائمه".
تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء:
246-
الأصل في الفتوى أن تكون متعلّقة بموضوع الاستفتاء مطابقة له؛ ليحصل المستفتي على بغيته من استفتائه غير خارجة عنه.
247-
ولكن يجوز أن تكون الفتوى أوسع من موضوع الاستفتاء، بمعنى: إنها تتعلق به وبغيره، إذا رأى المفتي أنَّ في هذا التوسُّع فائدة للمستفتي، ودليل ذلك أنَّ بعض الصحابة الكرام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، وهل يجوز التوضؤ به، فقال صلى الله عليه وسلم:"هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته"، فأجابهم صلى الله عليه وسلم عن ميتة البحر ولم يسألوه عنها؛ لعلمه صلى الله عليه وسلم بفائدة بيان هذا الحكم لهم.
248-
كما يجوز أن تكون الفتوى متعلقة بموضوع آخر غير موضوع الاستفتاء، وهذا يكون إذا رأى المفتي أنَّ الجواب على موضوع الاستفتاء لا يفيد المستفتي، أو لا يقوى على إدراكه وفهمه، فيحيد عن جواب سؤاله إلى بيان بعض ما يحتاجه المستفتي، ويدل على ذلك قوله تبارك وتعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ} .
وضوح الفتوى:
249-
ولما كانت الفتوى تتضمَّن بيان حكم الشرع وتبليغه، فيجب أن تكون واضحة مفهومة؛ لأنَّ التبليغ يجب أن يكون بالأسلوب المبيّن، ولهذا قال تعالى في تبليغ الرسالة وقيام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التبليغ:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، ويتأتَّى وضوح الفتوى باللغة السهلة والأسلوب المفهوم لدى المستفتي، بعيدةً عن الاصطلاحات التي لا يفهمها المستفتي، كما ينبغي أن تكون خالية من التردد وعدم القطع في الجواب، كأن يقول المفتي: في المسألة قولان؛ لأن المستفتي يريد الجواب القاطع الذي يقلد المفتي فيه، ويعمل بموجبه.
ومن لوازم وضوح الفتوى وإيضاحها للمستفتي أن يمهد المفتي إذا كان فيها حكم مستغرب، حتى يزول هذا الاستغراب عند المستفتي بهذ التمهيد.
الإيجاز والإطالة في الفتوى:
250-
والوضوح في الفتوى لا يستلزم الإطالة بالضرورة، ولهذا كان الأصل في الفتوى الإيجاز والاختصار حتى تبدو وكأنَّها نص قانوني؛ لأنَّ الغرض من الفتوى بيان الحكم الشرعي في المسألة للمستفتي، وليس الغرض منها مناقشة الآراء وسوق الأدلة، وعلى هذا يجوز للمفتي ويسعه أن يقول في فتواه جوابًا للمستفتي: يجوز، أو لا يجوز.
أو يقول: نعم، أو لا.
251-
ولكن يجب أن يعلم أن الإيجاز في الفتوى لا يجوز إذا كان على حساب الإخلال بالبيان المطلوب والوضوح المطلوب، وعلى هذا يجب على المفتي أن يطيل في فتواه إذا كان ذلك لا بُدَّ منه لوضوح الفتوى وتخليصها من الإبهام والغموض، فمن
استفتى عن حكمِ مَنْ قال قولًا يكفِّر قائله، فلا يبادر المفتي بالقول: إنَّه حلال الدم، وإنما يجب أن يكون الجواب بشيء من التفصيل والإطالة، كأن يقول في الجواب: إذا ثبت ذلك عليه بالبينة الشرعية، أو بالإقرار، استتابه ولي الأمر، فإن تاب قبلت توبته، وإن أصر ولم يتب قُتل. وكذلك إذا سُئِل المفتي عن كلام يحتمل معنيين فليقل في فتواه: إن أراد المستفتي بكلامه كذا وكذا، فالحكم كذا، وإن أراد كذا، فالحكم كذا.
252-
وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق المفتي الجواب بل يفصله، وإذا كان السؤال يتضمَّن جملة مسائل فصلها المفتي وذكر مع كل مسألة الفتوى التي تخصها.
ذكر دليل الفتوى:
253-
ويجوز أو يندب للمفتي أن يذكر في فتواه الدليل الذي استند إليه، كأن يذكر نصًّا من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الفقهاء، أو قياسًا جليًّا، وإذا كانت المسألة مما اختلفت فيها أنظار المجتهدين فيندب للمفتي أن يذكر في فتواه الأدلة التي جعلته يرجِّح أو يأخذ بفتواه هذه، كما يجوز للمفتي أن يناقش أدلة الآراء الأخرى التي لم يأخذ بها.
وكذلك يندب ذكر الدليل إذا كانت هناك فتوى باطلة تتعلق بموضوع الاستفتاء حتى يعلم المستفتي وغيره دليل فتواه، وبطلان الفتوى السابقة.
وما قلناه يفعله المفتي من تلقاء نفسه، أمَّا إذا سأله المستفتي عن الدليل، فقد قلنا فيما سبق: إنَّ على المفتي أن يجيبه ويذكر له الدليل.
تغيُّر الفتوى بتغيُّر المكان والزمان:
254-
والفتوى قد تتغيِّر بتغيُّر المكان والزمان، وهذا إذا كان الحكم الشرعي مبنيًّا على عرف بلد وتغيِّر هذا العرف، ولم يكن العرف الجديد مخالفًا للنصِّ الشرعي، أو كان الحكم الشرعي مبنيًّا على معنى معين وتغيِّر ذلك المعنى، كما في صدقة الفطر، فقد جاء الحديث الشريف بإخراج صاعٍ من تمرٍ أو شعيرٍ أو زبيبٍ أو أقط، وقد قال العلماء: يجوز إخراج صدقة الفطر من الذرة أو الأرز أو غيرهما إذا كانت هذه
الأصناف غالب أقوات البلد، وعلّل العلماء ذلك بأنَّ الأصناف الواردة في الحديث الشريف إنما جاءت لأنَّها كانت هي غالب أقوات أهل المدينة، ولم تأت على سبيل الحصر والتخصيص.
وكذلك إذا كان الحكم الشرعي واردًا بالنسبة لمكانٍ معيِّن وزمان معين، فيجب الإفتاء فيه في ذلك المكان والزمان دون الإفتاء بالحكم العام، كالسرقة، الحد فيها هو قطع اليد، وهذا هو حكمها العام، ولكنَّ السرقة في الغزو في أرض العدو حكمها عدم القطع هناك، ولزوم تأحيل إقامة الحدِّ؛ لورود الحديث الشريف:"لا تقطع الأيدي في الغزو".
وكذلك إذا كان الحكم ملحوظًا فيه تحقيق غرض معين، ورأي الفقيه المفتي أنَّ هذا الغرض لا يتحقق في موضوع الاستفتاء، فلا ينبغي أن يفتي به، مثل أن يستفتيه أحد في إزالة منكر معين باليد، ورأي الفقيه أنَّ أزالته يترتَّب عليه شرٌّ ومنكر أكبر من المنكر القائم، فينبغي له أن لا يفتيه بالحكم العام وهو إزالة المنكر باليد، ما دام المفتي يرى ترتب منكر أكبر من المنكر المزال، وهذا باب واسع يعتمد على فطنة المفتي وملاحظته الأحوال والأمكنة والأزمنة والظروف وحالة المستفتي.
التشدد في عبارات الفتوى والحلف عليها:
255-
ويجوز التشدد في عبارة الفتوى عند الحاجة أو المصلحة، فيقول المفتي في فتواه مثلًا: وهذا عليه إجماع المسلمين، أو لا أعلم فيه خلافًا، أو من خالف حكم هذه الفتوى فقد أثم وعصى الله تعالى، ونحو ذلك، كما يجوز الحلف على ثبوت الحكم الشرعي الوارد في الفتوى في بعض الأحيان، وفي الأمور الخطيرة، ما دام الحكم ثابتًا بدليلٍ قطعيٍّ، يدل على هذا الجواز قوله تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
ما يراعى في كتابة الفتوى أو النطق بها:
256-
والفتوى كما يجوز شفاهًا تجوز كتابة، وفي الحالتين ينبغي للمفتي أن يبدأ فتواه بالبسملة وحمد الله تعالى والصلاة والسلام علي نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يختم فتواه بقوله: وبالله التوفيق، أو والله هو الموفق، أو والله أعلم.
257-
وإذا كانت الفتوى مكتوبة فعلى المفتي أن يقارب سطورها وكلماتها، ولا يترك فواصل فيما بينها؛ لئلَّا يزوّر أحد عليه ويضيف إليها ما لم يقله، وأن تكون موصولة بآخر سطر من السؤال، وإذا ضاقت ورقة الاستفتاء عن الفتوى لطولها، فينبغي أن يكتب الجواب او يكمله في ظهر الورقة، ولا يكتبها في ورقة مستقلة منفصلة خوفًا من الاحتيال عليه.
258-
وإذا كان في ورقة الاستفتاء فتوى مَنْ ليس أهلًا للفتوى، فللمفتي أن يشطب اسم صاحب هذه الفتوى وإن كانت صحيحة، أمَّا إذا كان الفتوى خطأ فيشطب اسمه ويشطب الفتوى، ولكن هذا الشطب يكون بإذن صاحب الاستفتاء، وإذا رفض فللمفتي أن يمتنع عن إعطاء الفتوى كتابة، وإنما يجيبه شفاهًا، والسبب في ذلك أنَّ في ذكر اسم المفتي مع اسم من سبقه وهو غير أهل للإفتاء تقريرًا للناس لما يتوهمونه من صلاحية وأهلية ذلك الشخص للإفتاء إذا رأوا اسمه مقرونًا باسم المفتي، أمَّا إذا كان اسم من سبقه أهلًا للإفتاء، ولكن كانت فتواه خطأ قطعًا فله شطبها بإذن صاحب الاستفتاء، إو إعادتها إلى صاحب الفتوى ليصحِّحها، أو ينبه على ما فيها من خطأ عندما يحرِّر فتواه، أمَّا إذا كانت سائغة فليس له أن يتعرَّض له بالشطب أو التخطئة، وإن خالفت اجتهاده.
العمل بالفتوى:
259-
والفتوى متى صدرت مِمَّن هو أهل للإفتاء عمل بها المستفتي، وكان في عمله هذا مقلدًا لصاحب الفتوى، ولكن إذا رجع المفتي عن هذه الفتوى قبل أن يعمل بها المستفتي وعلم برجوعه حرِّم عليه العمل بها، وعليه أن يعيد استفتاءه ويعمل بما يفتي به، وأمَّا لو عمل بالفتوى ثم رجع المفتي عن فتواه وعلم المستفتي برجوعه، فعلى المستفتي إعادة استفتائه والعمل بالفتوى الجديدة، حتى ولو استلزمت نقض عمله السابق ما دام هذا العمل له صفة الاستمرار، كما لو نكح من لم يجز له نكاحها بموجب فتوى سابقة رجع عنها صاحبها، ثم استفتى فأفتي بعدم الجواز، فإنه يفارق زوجته، هذا ما قالوه، ويبدو لي أنَّ هذا النقض إنما يكون إذا كانت الفتوى السابقة التي رجع عنها صاحبها باطلة قطعًا؛ لمخالفتها للدليل القاطع، أمَّا إذا كانت سائغة ورجع عنها صاحبها، وكان المستفتي قد عمل بها، فلا أرى وجوب نقض عمل المستفتي بها؛ لأنه
عمل بما هو سائغ، وبزعم شرعي.
الفرق بين الفتوى والحكم:
260-
هناك جملة فروق بين الفتوى التي تصدر عن المفتي وبين الحكم الذي يصدر عن القاضي، ومن هذه الفروق:
أ- الفتوى تعتبر محض إخبار عن الله تعالى بما هو مطلوب شرعًا من المستفتي، أو بما هو مباح له، أما حكم القاضي فهو وإن كان إخبارًا عن حكم الشرع أيضًا، إلّا أنَّ فيه إلزامًا للمحكوم عليه بما تضمَّنه الحكم.
ب- إنَّ كل ما يجري فيه حكم القاضي تجري فيه الفتوى أيضًا ولا عكس، فالعبادات تجري فيها الفتوى، ولكن لا يجري فيها حكم القضاء، فليس لحاكم أن يحكم أنَّ هذه الصلاة صحيحة أو فاسدة، أو أنَّ هذا الماء نجس لا يجوز الوضوء به، ولكن للمفتي أن يفتي في هذه المسائل ونحوها، ويلحق بالعبادات أسبابها، كما لو شهد شاهد أو شاهدان بهلال رمضان، وأثبت ذلك حاكم وأمر بإعلانه، فإن ذلك منه فتوى وليس بحكم، وهذا ما قاله المالكية.
ج- فتوى المفتي أعظم خطرًا من حكم القاضي؛ لأنَّ الفتوى تعتبر شريعة عامَّة تتعلّق بالمستفتي وغيره، أمَّا حكم القاضي فهو خاصّ لا يتعدَّى إلى غير المحكوم عليه وله.