المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

أخلاق الداعي هي أخلاق الإسلام:

547-

أخلاق الداعي المسلم هي أخلاق الإسلام التي بَيَّنَها الله تعالى في قرآنه، وفصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وانصبغ بها صحابته الكرام في سلوكهم، وهي لازمة لكلِّ مسلم، وما عليه إلّا أن يعرض نفسه عليها؛ ليزن نفسه في ميزانه، ليعلم ما عنده منها، وما لم يصل إليه بعد منها، وقد ذكرنا جملة من هذه الأخلاق في فصل سابق، فارجع إليه إن شئت، ونريد هنا أن نذكر بعض تلك الأخلاق الإسلامية التي لها صلة وثيقة بعمل الداعي، ويحتاج إليها حاجة ملحة تبلغ حَدَّ الضرورة إذا أراد النجاح في عمله الطيب المبرور.

أولًا: الصدق

548-

في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تتحدث عن الصدق وفضليته، وتأمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 1، وأنَّه في يوم القيامة ينفع العبد وينجيه من سخط الله، ويؤدي به إلى الجنان {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهم} 2.

وحقيقة الصدق حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه، هكذا قال ابن

1 سورة التوبة، الآية:119.

2 سورة المائدة، الآية:119.

ص: 346

قيم الجوزية في مدارجه، ويكون في القصد والقول والعمل، ومعناه في القصد: كمال العزم وقوة الإرادة على السير إلى الله وتجاوز العوائق، ويكون ذلك بالمبادرة إلى أداء ما افتراضه الله عليه، وفي مقدمته الجهاد في سبيله، ومنه: الدعوة إلى الله، والصدود عن كل معوّق أو مثبِّط، والانصراف عنهم والنفرة منهم؛ لأنهم أناس في غفلة يعيشون، ولا يعلمون إلّا ظاهرًا من الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم، وهو في حقيقته الجهالة والهوى. والحقيقة أنَّ قلب الصادق شديد الحساسية لا يحتمل هؤلاء المثبطين، ولهذا فهو يضيق بهم، ولا يستطيع مجاورتهم ولا مصاحبتهم ولا مجالستهم، إنَّه ينشرح صدره ويهِشُّ لمن يشوقه إلى الإسراع في سيره إلى الله والدعوة إليه، أمَّا صدق القول فمعناه: نطق اللسان بالحق والصواب فلا ينطق بالباطل، أيّ باطلٍ كان، ويكون الصدق في الأعمال بأن تكون وفق المناهج الشرعية والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ما تحقَّق للمسلم الصدق في القول والقصد والعمل أدَّى به ذلك إلى درجةٍ أخرى في الصديقية، وهي التي أمر الله عباده المؤمنين بطلبها، موجِّهًا جل جلاله الخطاب إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} ومعنى مدخل الصدق ومخرجه أن يكون دخول المسلم في أي شيء، ومباشرته لأيِّ عمل، وخروجه منه وتركه له بالله ولله، بمعنى أنَّ أفعاله وتروكه موصولة بالله وموصولة إليه، مستعينًا على أدائها بالله، ومقصوده مرضاة الله، فغايته هي الله وحده {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فإذا بلغ المسلم هذه الدرجة من الصديقية لم يعد في نظره غرض مقبول لرغبته في الحياة إلّا إذا كان بقاؤه فيها وسيلة لمرضاة الله، فإذا فاته هذا الغرض أو لم يستطعه رَغِب عن الحياة وأحبَّ الموت.

روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: "لولا ثلاث لما أحببت البقاء، لولا أن أحمل جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر، ويريد الإمام عمر بهذه الثلاث التي ذكرها: الجهاد والصلاة والعلم النافع، وكلها ترضي الرب عز وجل"1.

1 مدارج السالكين ج2، ص281، 282.

ص: 347

549-

والداعي المسلم الصادق يظهر أثر صدقه في وجهه وصوته، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتحدث إلى من لا يعرفونه، فيقولون: والله ما هو بوجه كذَّاب ولا صوت كذاب1، ولا شكَّ أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعي وصوته يؤثر في المخاطب، ويحمله ذلك على قبول قوله واحترامه، إلّا إذا كان عمى القلب قد بلغ منه مبلغًا عظيمًا، ومهما يكن من أمر فإنَّ الصدق والنفاق أساسه الكذب، فكيف يمكن أن يكون الداعي كذابًا؟ والكذي يهدي إلى الفجور كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن أن يكون الفاجر داعيًا إلى الله؟

ثانيًا: الصبر

550-

الصبر من فروض الإسلام وهو نصف الإيمان، وذكره القرآن الكريم في أكثر من ثمانين موضعًا أمر به {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} ، ونهيًا عن ضده {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} ، ومحبة لأهله {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين} ، ومعيته تعالى لهم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} ، وعاقبته خير {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُم} ، وجزاؤه عظيم {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وأهل الصبر هم المنتفعون بالآيات والعظات {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، وهو سبب لدخول الجنان {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ، وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، هذا بعض ما في القرآن الكريم عن الصبر، وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة في الصبر، منها:"ما أعطي أحد عطاء خيرًا له أوسع من الصبر"، "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا اللمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له".

551-

والصبر لغة: الحبس والكف، وشرعًا: هو على ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر على معصية الله، وصبر على المصائب والبلاء.

أمَّا الصبر على طاعة الله فيكون بالمحافظة عليها دومًا، والإخلاص فيها ووقوعها

1 تذكرة الدعاة للبهي الخولي.

ص: 348

على مقتضى الشرع، ومما يعين على تحصيله المعرفة بالله وحقه على العباد، وحسن الجزاء للمطيعين، وأمَّا الصبر عن المعصية فيكون بهجر السيئات والفرار من المعاصي، والدوام على هذا الفرار، وذلك الهجر مما يعين على تحصيل هذا الصبر واستحضار الخوف من عذاب الله، وأعلى من هذا استحضار الحياء من الله والمحبَّة له، مع استحضار ثمرة هذا الصبر وهي إبقاء الإيمان وتقويته وإنماؤه؛ لأن المعصية تنقص الإيمان أو تضعفه أو تكدره أو تذهب نوره وبهاءه.

أما الصبر على البلاء والمصائب فيكون بترك التسخُّط واحتمال المؤلم المكروه، وترك الشكوى للناس، فإن الصبر الجميل ينافيه الشكوى للمخلوق، أمَّا الشكوى لله فلا ينافيه، قال تعالى عن يعقوب عليه السلام:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} ، وقال عن أيوب:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، مع قوله تعالى عنه في آية آخرى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، ومما يستدعي هذا الصبر استحضار نعم الله التي لا تُعَدّ ولا تحصى، فتهون على المصاب مصيبته، ويقل وقعها على نفسه، ويكون مثله مثل من يعطي ألف دينار ويفقد فلسًا واحدًا، ومما يعين أيضًا على الصبر على البلاء تذكر الجزاء العظيم للصابرين.

الصبر بالله ولله:

552-

والصبر بأنواعه إنما هو بالله، بمعنى: إنَّ المسلم يؤمن بأنَّ صبره إنما يكون بعون الله، فالله هو المصبِّر له، قال تعالى:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} ، وصبر المسلم لله، أي: إنَّ المسلم يصبر طاعةً ومرضاة له، فالباعث على صبره محبة الله وطلب مرضاته، وهذا النوع من الصبر وهو يشمل الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على الابتلاء؛ لأنَّ في الأول اختيارًا وإيثارًا ومحبة، أمَّا الثاني فهو صبر ضرورة ولا اختيار للصابر.

حاجة الإنسان إلى الصبر:

553-

الصبر من الصفات اللازمة لكلِّ إنسان؛ إذ بدونه لا يستطيع بلوغ ما يريد؛ لأنَّ المراد لا ينال غالبًا إلّا بتحمُّل المكاره وحبس النفس عيها، وهذا مطَّرد في جميع أمور الحياة، فالطالب يحبس نفسه على المذاكرة والدرس وكفّ نفسه عمَّا تهواه

ص: 349

من لذةٍ وراحةٍ حتى يستوعب الدروس لينجح في الامتحان، وكذلك التاجر، وكذلك أيّ صاحب غرض يريد نواله، وما يقال عن الأفراد يقال عن الأمم، فالأمة التي تريد بلوغ ما تصبوا إليه تحتاج إلى صبر عظيم وتحمّل للمشاق، والانتصار في الحروب يكون بجانب الذي يملك أسبابه، ومن أعظم أسبابه الصبر، فالصبر إذَن ضروري لكل إنسان في الحياة، وإلّا صار هشًّا سريع الانكسار أمام الأحداث، وما أكثرها في الحياة، فإنها مملوءة بالمنغَّصَات والمشقَّات والصعاب والمؤلفات، فإذا لم يقابلها بشيء من الصبر انكسر وتفتَّتَ وتمزَّقت شخصيته في دروب الحياة، فتسحقه الأقدام وتلقيه بعيدًا عن طريق المارِّين.

554-

وإذا كان الصبر لأيِّ إنسانٍ من لوازم بقائه وسيره في الحياة وبلوغ ما يريد، فإنَّ الصبر أشدَّ ضرورة للمسلم من غيره؛ لأنَّ المسلم مطلوب منه أن يحبس نفسه ويكفّها عن المعصية، وفي المعاصي لذة للنفس يصعب عليها فراقها، فيحتاج إلى قدر كبير من ضبط النفس ومن الإرادة القوية التي تكفّ النفس وتمنعها من مقارفة الخطئية.

ومطلوب من المسلم أيضًا فعل الطاعات، وهذا يقتضيه أن يحبس نفسه عليها، وهو الصبر على الطاعة، وهو مطالب أيضًا بأن يصبر على المقدَّر ولا يجزع لئلَّا يتحمَّل إثمًا ووزرًا، بالإضافة إلى ضياع الأجر والثواب.

ضرورة الصبر على المسلم:

555-

وإذا كان الصبر ضروريًّا لأيِّ إنسان، لا سيما للمسلم، فإنَّ الصبر للداعي المسلم أشدّ ضرورة له من غيره؛ لأنَّه يعمل في ميدانين: ميدان نفسه؛ يجاهدها ويحملها على الطاعة ويمنعها من المعصية، وميدان خارج نفسه، وهو ميدان الدعوة إلى الله، ومخاطبة الناس في موضوعها، فيحتاج إلى قَدْر كبير من الصبر في المجالين: مجال النفس ومجال الدعوة، حتى يستطيع تجاوز العقبات وتحمُّل الأذى، فإن فقد الصبر قعد أو انسحب من الميدان، وحق عليه الحساب، وفاته الثواب.

556-

الابتلاء لا بُدَّ منه:

والابتلاء لا بُدَّ منه، فلا بُدَّ من الصبر لاجتياز الامتحان بنجاح، قال تعالى:

ص: 350

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ، وقال تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ، قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، فالإبتلاء من سُنَّة الله في الحياة، يبتلي عباده بمن يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء؛ ليظهر ما في نفوسهم من إيمان ونفاق، وهذا الابتلاء يكون بأشياء كثيرة على رأسها التكاليف الشرعية، فهي ابتلاء وامتحان، وقد يكون في تزاحم محبوبات الرب مع محبوبات النفس، فإذا آثر محبوبات الله عز وجل على محبوبات النفس اجتاز هذا الامتحان، وإلّا رسب وفشل، وقد يكون الابتلاء في المصائب والآلام التي يصاب بها كالمرض وفقد الأعِزَّة وتلف الأموال، فإذا صبر وسلَّم واسترجع ولم يجزع أثابه الله ثواب الصابرين، وكان في هذا الامتحان من الناجحين، وإلّا كان من الخاسرين.

ابتلاء الدعاة إلى الله:

557-

وإذا كان الابتلاء مما قضت به سُنَّة الله في الحياة، فإنَّ ابتلاء الدعاة إلى الله مما جرت به السُّنَّة الإلهية أيضًا، فهم يبلتون بأذى الكفرة والمارقين بالقول والكيد واليد، قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} 1، وقال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 2.

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ، ومعنى يسخفَّنَّك3: يحملونك على الخِفَّة والطيش بعدم الصبر، والدعاة إلى الله

1 سورة الأنعام، الآية:34.

2 سورة الحجر، الآيات: 97-99.

3 تفسير ابن كثير ج3، ص70.

ص: 351

يكيد لهم أهل الباطل، ويفترون عليهم الكذب، ويؤذونهم بأنواع الأذى؛ لأنهم قوم يجهلون وضالون، وقد أوذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أشدّ الأذى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالصبر:"صبرًا آل ياسر إن موعدكم الجنة"، فعلى الداعي المسلم أن يقابل الأذى الذي يلقاه بالصبر الجميل، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ومن قبلهم رسل الله، فإنَّ هذا الصبر مما ينعقد عليه عزم المؤمنين وتتوجَّه إليه إرادتهم {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، وقال تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

استدعاء البلاء ودفعه:

558-

وإذا كان البلاء والابتلاء مما يصيب الدعاة إلى الله، وبهذا جرت سنة الله، فهل معنى ذلك أنَّ على الداعي المسلم أن يستدعي البلاء ويعمل على وقوعه، ولا يجوز له دفعه؟ في المسألة تفسير وتوضيح؛ لأنَّ هذه المسألة مما يقع فيها الاشتباه والخلط بسبب سوء الفهم، لا بسبب سوء النية والقصد، ولتوضيح هذه المسألة أذكر ما يأتي:

أولًا: المطلوب من الدَّاعي المسلم أن يدعو الله على بصيرة بالوسائل والكيفيات المشروعة التي بيّنَها القرآن الكريم وطبَّقها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أدَّت هذه الوسائل إلى أذى يصيب الداعي، فعليه أن يتقلبه بالصبر لا بالجزع، وبالثبات لا بالفرار.

ثانيًا: إذا كان للداعي المسلم مندوحة من الأذى، أي: يستطيع أن يتوقاه ولا يجب عليه أن يقابله، فله أو عليه أن يتوقاه حسب الظروف والأحوال، فقد يباح له الابتعاد عنه وعدم مباشرة ما يستدعيه، وقد يجب عليه الابتعاد وعدم مباشرة ما يستدعيه؛ لأن الابتلاء صعب على النفس، فلا يجوز الحرص عليه ولا الرغبة فيه؛ لأن فيه فتنة مجهولة العاقبة، وقد يحس المسلم من نفسه القدرة على الثبات، ومن ثَمَّ لا يبالي بالابتلاء، بل ربما رغب فيه إمَّا طمعًا بثواب الله، وإمَّا لتدخل وسوسة الشيطان؛ ليقال عنه: ما أثبته وما أصبره على البلاء، فإذا نزل البلاء ضعف عن الاحتمال ووقع في

ص: 352

الافتتان، ورسب في الامتحان، كما روي عن أحدهم أنه قال: يا رب امتحني بما شئت، فأنا راضٍ بقدرك، صابر على ابتلائك، فابتلاه الله باحتباس البول، فأخذ يصيح ويولول ويطوف على الأولاد ويقول لهم: ارموا عمَّكم الكذاب بالحجارة.

ثالثًا: لا ينبغي للمسلم أن يتعرَّض لما لا يطيقه من البلاء فيرسب في الامتحان، جاء في الحديث الشريف:"لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه"، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: "يتحمَّل من البلاء ما لا يطيق"1.

رابعًا: من الأدعية المأثورة أن يسأل المسلم ربَّه العفو والعافية،

والعافية يدخل فيها المعافاة من الابتلاء والمؤذيات، وهذا يدل على أنَّ التخلص والخلاص من أذى أهل الباطل ممدوح ومحمود غير مذموم.

خامسًا: وفي وصيته عليه الصلاة والسلام لأسامة بن زيد وقد جعله أميرًا على الجيش لغزو الروم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بأيام، قال له:"ولا تمنَّوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللهمَّ اكفناهم وأكفف بأسهم"2.

وقال ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ، وهذا يشعر بأنَّ عدم احتياج المؤمنين للقتال لكفاية الله تعالى يُعْتَبر من نعمة الله على المؤمنين، والقتال فيه أذى ونصب وألم، فلو كان تعريض المسلم نفسه للابتلاء والأذى مطلوبًا لذاته لما كان عدم الاحتياج إليه مما يمنّ الله به على المؤمنين.

سادسًا: إيذاء أهل الباطل للمؤمنين غير مطلوب قطعًا، بل هو من سيئات أهل الباطل؛ لأنه إيذاء لأهل الحق، فكيف يسوغ تسليم المسلم نفسه للمبطل يؤذيه ويهينه ويذله؟ ألا يكون في هذا التسليم إعانة على وقوع ما يسخط الله تعالى، وإلقاءً للنفس في التهلكة والمهانة والذلة؟ وكل هذا لا يجوز.

سابعًا: أَذِنَ الله للمكرَه أن يقول كلمة الكفر تخليصًا لنفسه من الأذى والتلف، وهذا يدل على إباحة دفع الأذى، وأنَّ للمسلم أن لا يساعد على وقوعه عليه.

1 إمتاع الأسماع، ص38.

2 سيرة بن هشام، ص330.

ص: 353

ثامنًا: عند انسحاب خالد بن الوليد بمن معه من جند المسلمين في معركة مؤتة ودخولهم المدينة المنورة، جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليسوا بالفرار ولكنَّهم الكرار إن شاء الله تعالى"، وجه الدلالة في هذا الخبر أنَّ خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين انسحبوا من ملاقاة العدوة تخلصًا من الأذى والضرر، فعابهم المسلمون في المدينة ووصفوهم بالفرَّار، ولكن سيد العارفين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نظر إلى غير ما ينظرون، ورأى في انسحابهم الناجح نوعًا من النصر لتخلُّصهم من القتل ومن أذى المشركين واحتمال أسرهم، وأن انسحابهم كتحوّل الجند في ساحة المعركة من جهة أخرى، فدلَّ ذلك على أنَّ دفع البلاء أمر مطلوب إذا أمكن المسلم دفعه، وأن تسليم المسلم نفسه للأذى والضرر حيث يمكنه الخلاص ليس بالأمر الممدوح، بل ولا المشروع.

تاسعًا: هاجر المسلمون من مكّة إلى الحبشة فرارًا بدينهم وتخلصًا من أذى قريش، فدلَّ ذلك على جواز دفع البلاء والأذى، وعدم الاستسلام له بحجة تحمُّل الأذى في سبيل الله؛ لأن نفس المسلم ليست ملكه، وإنما هي ملك الله، فلا يجوز إتلافها بلا فائدة تعود إلى الإسلام، وليس من الفائدة أن يقول الناس: ما أثبت هذا الداعي وأجرأه على تحمُّل الأذى في سبيل الله، بل قد يكون تحمُّل الأذى بهذا الدافع ولهذا الغرض رياءً وطلبًا للسمعة والجاه عند الناس، وهذا لا يجوز.

عاشرًا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير بأسًا من عون عمه أبي طالب -وكان على دين قومه- في دفع ما يستطيعه من أذى قريش عنه، ولما ماتت خديجة وعمه في عام واحد سمَّاه "عام الحزن"، وقال:"ما نالت قريش مني شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب"؛ لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حامٍ له، ولا ذابّ عنه غيره1.

وعندما رجع عليه الصلاة والسلام من الطائف، وانتهى إلى حراء، بعث رجلًا من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلِّغ رسالة ربه فأجاره، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فأقام بها، وجعل يدعو إلى الله2.

1 إمتاع الأسماع، ص18.

2 إمتاع الأسماع، ص28.

ص: 354

وجه الدلالة في هذه الآثار أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي بحماية عمِّه أبي طالب له، ودفعه الأذى عنه، وكذلك دخوله عليه الصلاة والسلام بجوار المطعم، فدلَّ ذلك على جواز دفع البلاء والأذى عن الداعي ولو عن طريق حماية المشرك، وعدم استحباب تسليم المسلم نفسه لأهل الباطل، وكذلك فعل أصحاب رسول الله الذين هاجروا إلى الحبشة، فعندما رجعوا إلى مكة "لم يدخل منهم أحد إلّا بجوار أو متخفيًا"1، ويجب أن يعلم هنا أن الداعي المسلم في رغبته وسعيه لدفع الأذى عن نفسه إنما يقصد التمكين وإيجاد الجو المناسب لدعوته إلى الله، ويوضِّح ذلك ما جاء في السيرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى القبائل أيام الموسم ويدعوها إلى الإسلام ويقول:"من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ رسالة ربي"2.

خلاصة القول في استدعاء البلاء ودفعه:

559-

ومن هذا العرض الذي قدمته، والنصوص التي ذكرتها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والسوابق القديمة في سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وهم أفقه المسلمين بشريعة الإسلام، يتبيِّن لنا بكل وضوح ما يأتي:

أولًا: الأذى أو الضرر الذي يلحق الداعي المسلم هو بمنزلة الأمراض والمصائب التي تنزل على الإنسان، فكما أنه لا يحبها ولا يرغب فيها ولا يريد إيقاعها على نفسه، ولا يقدح ذلك في إيمانه، فكذلك لا يقدح في إيمانه عدم محبته ولا رغبته في وقوع أذى أهل الباطل عليه، وعدم استدعاء الضرر على نفسه.

ثانيًا: إن احتمال وقوع الأذى والضرر به لا يقعد به عن دعوته إلى الله، ولكن الداعي لا يستدعي الأذى لنفسه، بل يعمل على عدم وقوعه، وإذا وقع عَملَ على دفعه بكل وسيلة مشروعة في ضوء ما جاء في القرآن والسنة.

ثالثًا: إذا وقع الضرر والأذى على الداعي المسلم بالرغم من التزامه بالسير المشروع

1 سيرة ابن هشام ج1، ص388.

2 إمتاع الأسماع، ص31.

ص: 355

في الدعوة إلى الله، فعليه أن يستعين بالله ويصبر الصبر الجميل، وليعلم أنَّ الأمور كلها بيد الله تعالى، وأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

ثالثًا: الرحمة

560-

من أخلاق الداعي الضرورية: الرحمة، وقبل أن أبيِّنَ أهميتها للداعي أذكر ما ورد في السنة النبوية1.

قال صلى الله عليه وسلم: "لا يُرْحَم من لا يَرْحَم الناس"، "لا تنزع الرحمة إلّا من شقي"، "الراحموان يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة من الولد ما قَبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:"من لا يَرْحَم لا يُرْحَم"، "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض".

561-

ومن صفات وأخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم رحمته وشفقته على أمته، قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، ومن شفقته صلى الله عليه وسلم دلالته على ما يبعدهم عن النار، وقد مثَّل ذلك بمثل بليغ، قال صلى الله عليه وسلم:"إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه"2.

ضرورة الرحمة للداعي:

562-

إنَّ الداعي لا بُدَّ أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس، وإرادة الخير لهم والنصح لهم، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام؛ لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار وفوزهم برضوان الله تعالى. إنَّه يجب لهم ما يحب لنفسه، وأعظم ما يحبه لنفسه الإيمان والهدى، فهو يحب ذلك إليهم أيضًا. إنَّ الوالد من شفقته على أولاده يحرص على إبعادهم عن الهلكة، ويتعب نفسه في سبيل ذلك، وأيَّة هلكة أعظم

1 تيسير الوصول ج2، ص12-16.

2 رواه الإمام مسلم في صحيحه ج5، ص911. الحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزرار والسراويل، والتقحم: الوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبيت.

ص: 356

من الضلال والتمرد على الله؟ والداعي بدعوته إنما يسعى لتخليص المتمرِّدين العصاة من الهلاك والخسران المبين.

إنَّ الداعي الرحيم لا يكف عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض؛ لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة، وأنَّ إعراضهم بسبب جهلهم، فهو لا ينفكّ عن إقناعهم وإرشادهم، وقد ذكرنا في شفقة رسول صلى الله عليه وسلم المثل الذي ضربه لنفسه الكريمة مع أمته، وهكذا كان الأنبياء رحماء بمن أرسلوا إليهم، مشفقون عليهم من العذاب، قال تعالى حكايةً عن نوح عليه السلام:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1، فقوله عليه السلام {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لا يصدر إلّا عن قلب رحيم، وشفقة ظاهرة عليهم، وكذلك قوله عليه السلام وقد رموه بالضلالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2، فجواب نوح عليه السلام مشحون بالرحمة والشفقة عليهم واللطف في مخاطبتهم، ولم يغضبه كلامهم؛ لأنهم قوم يجهلون؛ ولأن الداعي الرحيم لا يغضب لنفسه قط، وهكذا كان خُلُقُ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله، ثم في جواب نوح أنَّه ينصح لهم، أي: يُخْلِص في القول النافع المفيد لهم، بالرغم من قولهم الباطل فيه، ويبيِّن لهم أنه رسول من رب العالمين؛ ليعلموا أن ما يخبرهم به هو الحق الصريح الواجب قبوله، وفي قبوله رحمة بهم، دليل على ما كان في قلبه عليه السلام من عظيم الرحمة بقومه.

الرحمة تهوّن على الداعي ما يلقاه من الجهلاء:

563-

والرحمة تهوّن على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة؛ لأنه ينظر اليهم من مستوى عالٍ رفيع أوصله إليه إيمانُه وصلته بربه، ولذا فهو ينظر إليهم

1 سورة الأعراف، الآية:59.

2 سورة الأعراف، الآيات: 61-63.

ص: 357

كصغار يعبثون، والشأن في الصغار الأطفال والجهل وعدم إدراك ما ينفعهم، ولذلك لا يعجب الداعي من مقابلة نصحه بالإعراض والصدود والأذي، كما يفعل الطفل إذا نصحته أو أبعدته مثلًا عن مسِّ النار أو الشيء المؤذي، فإنه يصيح ويغضب وربما آذاك. إنَّ الداعي لا يعجب من صدودهم كما قلت، ولذلك فهو يعيد الكَرَّة معهم، ويتحمَّل أذاهم ويدعو لهم بالهداية، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرِّر دعوته إلى قريش ويتحمَّل أذاهم، ويقول:"اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". إنَّ الإنسان ذا القلب الرحيم لا يستكثر على الصغير أن يصدر منه الصدود عن الناصح والأذى له؛ لأنه جاهل، ومن ثَمَّ يشفق عليه ذو القلب الرحيم، ولا يؤاخذه على إساءته إليه، قال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .

الرحمة تثمر العفو الصفح:

654-

وما دام الداعي المسلم ينظر إلى من يدعوهم نظرة الرحمة والشفة عليهم، فإنه يعفو ويصفح عنهم في حقّ نفسه، قال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وإذا كان هذا هو شأن الداعي المسلم بالنّسبة لمن يدعوهم ويحتمل صدور الأذى منهم، فإنَّ عفو الداعي وصفحه عن أصحابه أوسع، قال تعالى:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} .

الفظاظة تؤدي إلى انفضاض الناس:

565-

والداعي المحروم من الرحمة الغليظ القلب لا ينجح في عمله، ولا يُقْبِلُ الناس عليه وإن كان ما يقوله حقًّا وصدقًا. هذه هي طبيعة الناس ينفرون من الغيظ الخشن القاسي ولا يقبلون قوله؛ لأن قبول قول الناصح يستلزم إقبال قلب المنصوح إليه، ولا يحصل هذا الإقبال مع خشونة الطبع وغلظة القلب، قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، فإذا كان هذا يمكن أن يقع بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لو حصل ما ذكرته الآية الكريمة.

والرسول لا ينطق إلّا بالحق، ومؤيَّد بالحق، فكيف يمكن تصور تخلف الانفضاض عن الداعي إذا كان فظًّا غليظ القلب؟

فليتق ربهم الدعاة إلى الله، وليتكلَّفوا الرحمة والرفق إن لم يكونوا رحماء حتى

ص: 358

يكتسبوها ويألفوها، ولا يكونوا منفردين عن الإسلام بسوء أخلاقهم وغلظة قلوبهم وخشونة طبعهم وبذاءة كلامهم، فإن عجزوا عن اكتساب الرَّحْمة وحمل نفوسهم على أخلاق الإسلام فمنَ الخير لهم وللدعوة ترك الدعوة والانصراف إلى علاج نفوسهم.

رابعًا: التواضع

التكبُّر حماقة وجهل:

566-

التكبُّر حماقة وجهل ودليل قاطع على جهل المتكبر بربه وبنفسه، فلو عرف ربَّه لعَلِمَ أنَّ الكبرياء لله وحده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: "العز إزاري والكبراء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته" 1، ولو عرف المتكبر نفسه، وأنَّ أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة قذرة، لخجل من نفسه ووقف عند حده، قال محمد بن الحسين بن علي كما ذكر صاحب "الإحياء": ما دخل قلب امرئ شيء من التكبر قط إلّا نقص عن عقله بقدر ما دخل من ذلّ قلَّ أو كثر.

جزاء المتكبرين:

567-

من جزاء المتكبر حرمانه من الاتعاظ والانتفاع بآيات الله؛ لأن تكبره يمنعه من الانصياع للحق، فيطبع الله على قلبه ويصرفه عن آياته، ونتيجته الخيبة والفشل وسخط الله تعالى، ودخول جهنم داخرًا، وفقده ما يناله المتواضعون لربهم من نعيم الآخرة، وبهذه المعاني نطق القرآن والسنة النبوية، قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} ، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .

وفي السنة النبوية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم"، ومعنى يذهب بنفسه يرتفع ويتكبَّر، وقال عليه

1 رواه مسلم، رياض الصالحين للنووي، ص216.

ص: 359

الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، "ألا أخبركم بأهل النار: كل عتلٍّ جوَّاظ مستكبر".

النهي عن الكبر:

568-

وما ذكرناه من نصوص كلها تتضمَّن النهي عن الكبر، وقد جاءت نصوص أخرى فيها النهي الصريح عن التكبُّر، منها قوله تعالى:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .

حقيقة الكبر:

569-

جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس"، أي: رد الحق واحتقار الناس. فحقيقة الكبر استعظام المتكبر نفسه واستصغار قدر غيره، فيدفعه ذلك إلى رذائل ومهلكات.

فالمتكبر يرد الحق ولا يقبله، ولا يذعن إليه، قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، ولا يعترف بخطئه ولا تقصيره ولا سوء عمله؛ لأنه معجب بنفسه، وفي الحديث الشريف:"ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوًى متَّبَع، وإعجاب المرء بنفسه".

والمتكبِّر يحتقر الناس ولا يرى لهم قدرًا، ويستنكف أن يسألهم عمَّا يجهله، ولا يقبل تعليم من يعلمه، ولا يقبل نصيحة ناصح؛ لأنه لا يراه شيئًا، ويرى أنَّ على الناس أن يلهجوا بالثناء عليه، يأنف من مجالستهم ومحادثتهم، يرى أنه هو الناجي وهم الهلكى، إلى غير ذلك من آثار الكبر وأفعال المتكبرين.

سبب الكبر:

570-

وسبب الكبر عجب الإنسان بنفسه؛ لعلمه أو ماله أو جاهه أو حسبه أو نسبه أو سلطانه، وغير ذلك مما يدعو إلى الإعجاب بالنفس، ناسيًا هذا المعجب أن الله تعالى هو المُنْعِم بهذه الأشياء وأن لو شاء لسلبها منه، فيؤدي به هذا الإعجاب إلى استعظام نفسه، ورؤية قدره فوق أقدار الناس، فيحتقرهم ويزدريهم.

ص: 360

علاج الكبر:

571-

وعلاج هذا الداء العضال الصعب -الكبر، واكتساب حقيقة التواضع، يكون بالمعرفة اليقينية: معرفة المتكبِّر لربه ولنفسه، فيعرف أنَّ الكبرياء هو لله وحده حصرًا، ولا يجوز مطلقًا لأي أنسان أن يسمح لذرَّة من الكبر أن تتسرب إلى قلبه، فإنها جرثومة خطرة فتَّاكة كثيرة التوالد، تطمس نور الإيمان وتكدِّر الأعمال وتحبطها، وأن يعرف المتكبِّر قدر نفسه، فهو نشأ من نطفة قذرة، ثم يصير جيفة قذرة، وأنَّ كل ما عنده من علم ومال وجاه وسلطان هو محض عطاء الله له، وأن لو شاء الله لسلبه ذلك كله، وأن ليس له من نفسه إلّا العدم، ثم يأتي المتكبر على أسباب إعجابه بنفسه ثم إلى تكبره سببًا سببًا فينقضه، فالعلم الذي عنده قليل جدًّا بالنسبة إلى ما يجهله {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، وهناك من هو أعلم منه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، فلِمَ العجب والكبرياء؟ وأنَّ العلم الحقيقي هو الذي يثمر المعرفة بالربِّ جل جلاله، ويحجز النفس عن الرذائل والحماقات مثل الكبر، ويروّضُها على الفضائل مثل التواضع. أمَّا العبادة التي يقوم بها المتكبِّر والتقوى والورع فلا تصلح سببًا للإعجاب بالنفس والإدلال بها على الله، والتكبُّر على الخلق.

فما يدري هذا المسكين أنَّ عبادته مقبولة، وأنه من الصالحين عند الله، وخاتمته مجهولة، وتزكية النفس ممنوعة {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ، والعبادة هي حق الله على العبد، ولا يحق للعبد أن يمُنّ بها على الله، ولا أن يتكبَّر على الغير لقيامه بما هو حقٌّ عليه، والله هو الذي مكَّنه منها وهداه إليها {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، وأي تقوى هذه التي لا تقي صاحبها من منازعة الله حقه الخالص في الكبرياء، ولا تعصم صاحبها من التمرغ في رذيلة أخرجت إبليس من ملكوت السماوات والأرض، وجعلته طريدًا معلونًا إلى يوم الدين، يوم امتنع من السجود لآدم تكبرًا منه عليه، وإعجابًا بنفسه؛ حيث قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْه} ، وهكذا القول في المال والسلطان والجاه وقوة الأنصار والأتباع والتعزز بالأحساب والأنساب، فكلها من الأباطيل وإيحاءات من الشيطان الرجيم. فالمال غاد ورائح، والسلطان لا يبقى فالأيام دول، والجاه مثله، وقوة الأنصار والأتباع لا تغني من الله شيئًا:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} ، والتعزز بالأحساب والأنساب يعني تشبث وتعزز بعظام بالية إن بقيت العظام!! وما يغني

ص: 361

الآباء الصالحون عن الأبناء الصالحين {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

التواضع:

572-

وإذ قد بيَّنَّا الكبر وأسبابه وبعض عواقبه وآثاره، ظهرت لنا حقيقة التواضع، فهو ضد التكبُّر، وهو ثمرة المعرفة بالله وبالنفس، فلا يمكن أبدًا أن يتكبَّر ولا يتواضع إنسان عرف ربه وعرف قدر نفسه، وعلى هذا فإذا كان المتكبِّر جاهلًا بربه، فالمتواضع عارف بربه، وإذا كان المتكبر محتقرًا غيره يراهم كالذباب وكالعبيد، فإن المتواضع يفقه جيدًا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"لا يحتقرَنَّ أحدٌ أحدًا من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير"، وإذا كان المتكبر يستنكف عن مجالسة الصالحين والفقراء والضعفاء بالرغم من أنَّ أحدهم يعدل ملء الأرض من أمثاله، فإن المتواضع يفقه جيدًا معنى قوله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، وقد قال المفسرون في أسباب نزولها: إنَّ قريشًا قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: إنَّا لا نرضى أن نكون أتباعًا لهؤلاء من ضعفاء المسلمين مثل صهيب وعمار وبلال وخبَّاب، فاطردهم عنك ولا تبقهم في مجلسك إذا دخلنا عليك، فإذا فرغنا وخرجنا فأدخلهم إن شئت، فأنزل تعالى هذه الآية، وأتبعها بآية عن أولئك المتكبرين المتعجرفين الذين طلبوا طرد الضعفاء من مجلس رسول الله، فقال تعالى عنهم:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} 1، ويفقه المتواضع جيدًا معنى قول الله تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وإذا كان المتكبر يجحد الحق ويرده ولا يذعن له، فإن المسلم المتواضع يفقه جيدًا معنى قول العارف المتواضع الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- وقد سئل عن التواضع فقال: التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.

1 شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير، ص103، 104.

ص: 362

حاجة الداعي إلى التواضع:

573-

والداعي إلى الله أحوج من غيره إلى خلق التواضع، فهو يخالِط الناس ويدعوهم إلى الحق وإلى أخلاق الإسلام، فكيف يكون عاريًا من التواضع وهو من ركائز أخلاق الإسلام؟ ثم إنَّ من طبيعة الناس التي جبلهم الله عليها أنَّهم لا يقبلون قول من يستطيل عليهم ويحتقرهم ويستصغرهم ويتكبَّر عليهم، وإن كان ما يقوله حقًّا وصدقًا، هكذا جُبِلَت طبائع الناس، فإنهم ينفرون عن المتكبِّر ويغلقون قلوبهم دون كلامه ووعظه وإرشاده، فلا يصل إليه من قوله شيء، بل قد يكون ذلك سببًا إلى كرههم الحق منه ومن غيره، فعلى الداعي أن يفقه هذا الأمر جيدًا، وليتق الله ربه ولا يكون سببًا لنفرة الناس من الدعوة إلى الله، ونزيد هنا شيئًا آخر له علاقة بالموضوع، وله أهميته البالغة، ذلك أنَّ من طبائع الناس أنَّهم لا يحبون من يكثِرُ الحديث عن نفسه، ويكثر الثناء عليها، ويكثر من قول: أنا أنا، ولهذا فعلى الداعي أن يحذر ذلك وأن لا يدَّعي شيئًا يدل على تعاليه، كأن ينسب إلى نفسه المزيد من العلم أو الفصاحة أو المعرفة، إنَّ على الداعي أن يعرف أن جميع ما عنده هو محض فضل الله عليه، فليتحدَّث إلى الناس وهو بهذا اليقين وبهذا الشعور يتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه، فإذا عرف الناس منه ذلك فتحوا له قلوبهم، أو على الأقل لم يغلقوها دون كلامه، فيقع فيها من معانيه الطيبة النافعة ما يشاء الله وقوعه، والله المستعان.

574-

ومن التواضع العظيم الذي قد يغفل عنه الداعي وهو مهم وضروري طاعة من أمره الشرع بطاعته، كالأمير ومن يتولى شئونه أو تعليمه، وأن لا يستنكف عن هذه الطاعة، ولا يحس منها بغضاضة، ولا يمنعه منها كِبْرٌ خفي في نفسه، فيرفضها ويستثقلها، أو يتهرب منها بتأويلاتٍ فاسدة، هي في حقيقتها من إيحاءات الشيطان، كأن يقول: هذا الأمير أو المعلم غير صالح ولا كفء أو صغيرًا، أو أنا أعلم منه وأكفأ، أو هذا المعلم لا يصلح للتعليم ونحو ذلك، وليتذكَّر جيدًا تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وكان شابًّ على جيش كان فيه سادات المهاجرين والأنصار ومشايخهم وكبارهم، قال صاحب "إمتاع الأسماع" في هذه الحادثة: "ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر- أسامة بن زيد، قال: يا أسامة، سِرْ على اسم الله وبركته حتى

ص: 363

تنتهي ألى موت أبيك فأوطئهم الخيل، وقد وليتك هذا الجيش

فلمَّا كان يوم الأربعاء ابتداء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدع وحُمَّ، وعقد يوم الخميس لأسامة لواءً بيده، وقال:"يا أسامة، اغز باسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة، ولا تتمنَّوا لقاء العدو، فإنَّكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكنكم قولوا: اللهم اكفناهم واكفف بأسهم عنَّا، فإنَّ لقوكم قد أجلبوا وضجوا فعليكمم بالسكينة والصمت، ولا تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم، وقولوا: اللهمَّ إنا عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تغلبهم أنت، واعلموا أنَّ الجنة تحت البارقة" 1 ثم يذكر صاحب "إمتاع الأسماع" أنَّ بعض الناس تكلَّموا عن تأمير أسامة على الجيش باعتباره شابًّا لا خبرة له، وأنَّ هذا الجيش يضمّ المهاجرين والأنصار، وأن عمر بن الخطاب ردَّ على هذا الكلام على من تكلَّم به، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الذي قاله البعض، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب لذلك غضبًا شديدًا، وأنه عليه الصلاة والسلام خرج وقد عصب على رأسه عصابة، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:"أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ والله لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنَّه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقًا لها" 2، وقد ذكرت معظم ما ورد في قصة تأمير أسامة لما في هذا من دلالات وعِبَر وعظات وأحكام، وأخيرًا فإنَّ الداعي الفقيه يزداد تواضعًا لله تعالى كُلَّمَا وُفِّقَ في دعوته ونجح في مساعيه، ونصره الله على أعدائه. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دخل مكة فاتحًا وهو منكِّس الرأس تواضعًا لربه، واعترافًا له بفضله.

خامسًا: المخالطة والعزلة

أيهما أفضل: المخالطة أم العزلة؟

575-

أيهما أفضل للمسلم: المخالطة مع الناس أم العزلة عنهم؟ قال بعضهم: العزلة أفضل، وقال أكثرهم: المخالطة أفضل، والصواب أن يقال: الأفضل للمسلم أحبهما إلى الله تعالى، فإذا كانت المخالطة أحب إلى الله بالنسبة لهذا المسلم نظرًا

1 إمتاع الأسماع، ص536، 537.

2 سيرة ابن هشام ص257، 258، وإمتاع الأسماع، ص 537.

ص: 364

لظروف حاله ومكانه وزمانه، فهي أفضل في حقه، وإذا كانت العزلة بالنسبة إليه أحب إلى الله؛ لظروف حاله وزمانه، فالعزلة أفضل في حقه.

المخالطة لا بُدَّ منها:

576-

والمخالطة لا بُدَّ منها، فإنَّ الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه، لا يستطيع العيش بمفرده، ولو استطاعه لكان أمرًا شاذًّا لا يستطيع جميع الناس متابعته عليه، هذا في أمور الدنيا وحوائجها، أمَّا بالنسبة لأمور الدين فكذلك الحال، فإنَّ من فرائض الإسلام ومستحباته ما لا يمكن تأديته إلّا بالمخالطة مع الناس وتعاونهم، مثل: صلاة الجمعة والعيدين وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وتعلُّم أمور الدين وتعليمها، إلى غير ذلك من المطلوبات التي تسلتزم المخالطة.

المخالطة واجبة على الداعي:

577-

الدعوة إلى الله من وجائب الإسلام، ومن وسائلها مخالطة الناس، فتكون المخالطة واجبة؛ لأنَّ ما لا يؤدَّى الواجب إلّا به فهو واجب، والواقع أنَّ طبيعة الإسلام تقتضي المخالطة، فالإسلام ليس معنًى خاصًّا بالفرد، بل هو أيضًا عمل المسلم خارج نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أكرمه الله بالنبوة وأمره بالتبليغ، عاش مع الناس وخالطهم وغشي مجالسهم يدعوهم إلى الله، ويحذرهم مما هم فيه، وكذلك فعل أصحابه الكرام؛ خالطوا الناس وبثّوا فيهم ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم والدين، وما روي عن بعض التابعين من استحباب العزلة وكراهية المخالطة فهو أمر يتعلّق بأحوال طارئة وظروف استثنائية، فليس ما ذكروه هو القاعدة التي يستهدي بها المسلمون من بعدهم؛ لأن وجوب الدعوة إلى الله أمر ثابت في الشرع، والمخالطة هي المقدِّمة إلى الدعوة، فلا يمكن التخلي عنها، بل إنَّ هذا الواجب أصبح أشد في زماننا من أيِّ زمان مضى؛ لما غشي البشر من غاشية رهيبة قاسية من المدنية الصمَّاء السوداء، التي حجبت عنهم أنوار الحق، وقطعت صلاتهم بالله عز وجل، مما جعل لزامًا على كل مسلم أن يسهم في الدعوة إلى الله بقدر طاقته، وبأيِّ نوع من أنواع القدرة يستيطعه، وهذا يستلزم مخالطة الناس ليدعوهم إلى الله.

ص: 365

حدود المخالطة الواجبة:

578-

والمخالطة الواجبة هي ما كانت ضروريَّة لأعمال الدعوة إلى الله تعالى، أو أداء فروض الإسلام الأخرى، فإذا خلت من هذا المقصود زالت عنها صفة الوجوب وصارت مباحة أو مكروهة أو حرامًا، فالمباحة كالمخالطة لغرض تحصيل مباح دنيوي، والمكروهة إذا فوَّتت على الداعي فائدة أخروية إذا حملته إثمًا، وعلى هذا فإنَّ المأمول من الداعي أن تكون مخالطته كلها بدافعٍ من الدعوة إلى الله، فإذا زار شخصًا أو تعارف معه أو صادقه أو رافقه أو آخاه، أو غشي مجلسًا، أو تكلم في جمع، فإنه يصدر عن رغبة في الدعوة إلى الله، أو بالإعداد والتهيئة لها.

الحب في الله والبغض في الله:

579-

والداعي في مخالطته يقيم علاقاته معهم على أساس الحب في الله والبغض في الله، والمقصود بهذه العبارة أنَّ المسلم لا يحب الشخص إلّا لطاعته لربه، ومسارعته إلى مرضاته، ولا يبغضه إلّا لعصيانه ومخالفته أمر ربه، وكلما اشتدت محبَّة المسلم لربِّه اشتدت محبته لأحباب الله، حتى تصير موالاة ونصرة وذَبًّا عنهم بالنفس والمال، وليس هذا الذي نقوله خيالًا أو مبالغة، فإنَّ مَنْ أحبَّ إنسانًا أحبَّ من يحبه محبوبه، ومن يحب محبوبه يقوم بخدمته ويثني عليه، فإذا كان هذا معروفًا بين الناس فالشأن أعظم في مسالة محبَّة المسلم لربه، وآثارها في محبة أحباب الله وأوليائه، وإذا اجتمع في الشخص طاعات وسيئات أحبه المسلم لطاعته وأبغضه لسيئاته.

المختارون لصحبة الداعي:

580-

وما دام الداعي يحب في الله ويبغض في الله، فمن البدهي أنه يختار لصحبته ورفقته وأخوته، المطيعين لله القائمين بحق العبودية لله، فهم نِعْمَ الرفيق له، ونعم الإخوة له، يشتدُّ ارتباطه بهم، ويعتزُّ بهم، ويحافظ على أخوتهم، ويرفض مصاحبة ومواددة العصاة والفُسَّاق المعرِضين عن أوامر ربهم، قال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، وهو إذ يرفض مصاحبة ومخالطة العصاة والفُسَّاق لا ينفَكّ عن دعوتهم إلى الله، والدعاء لهم بالهداية والرحمة والرشاد.

ص: 366

سلوك الداعي مع من يصاحب ومن لا يصاحب:

581-

والداعي يعرف حقوق الصحبة، ويحمل نفسه على الوفاء بهذه الحقوق، ومنها: مواساته لأصحابه، وقضاء حوائجهم، وسكوته عن عيوبهم، فالأنسان لا يخلو من عيب، إلّا إذا وجب عليه النطق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتحمَّل إساءتهم في حق نفسه، ويقبل أعذارهم، فالمؤمن الكريم يحضر في نفسه محاسن أخيه، والمنافق اللئيم يحضر في نفسه معايب أخيه، قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى:"المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العثرات".

582-

أمَّا سلوكه مع من لا يصاحبه ولا يرافقه لفسقه وعصيانه، فهو سلوك المؤمن، فلا يخاصمهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ، ولكن ينصحهم ويعظهم، وقد يضطر إلى هجرهم ومقاطعتهم إذا كانت معصيتهم تقتضي الهجر والمقاطعة، كما لو كانوا يدعون إلى بدعة في الدِّين، أو يفرِّقون صفوف المسلمين، أو يكيدون لهم، أو يعملون لإلحاق الأذى بهم، أو يسعون لظلمهم والبغي عليهم، فإنَّه في هذه الحالة وبعد الأعذار لهم وإفراغ الجهد في نصحهم، إذا لم يكفوا عمَّا هم فيه يضطر إلى هجرهم ومقاطتعهم وعدم الكلام معهم، زجرًا لهم عن بغيهم وكيدهم وعدوانهم وبدعتهم، حتى يتحاشاهم الناس ويعرفوهم فيحذروهم، بل وللداعي أن لا يرُدَّ عليهم السلام إذا سلموا، إمعانًا في زجرهم، وأظهارًا لإنكار عملهم، ويعلّل الإمام الغزالي عدم رَدِّ السلام عليهم، مع أنَّ رده واجب بقوله:"ورد السلام وإن كان واجبًا فإنَّه يسقط بأدنى غرض فيه مصلحة، حتى يسقط بكون الإنسان في الحمَّام وقضاء حاجته، وغرض الزجر أهم من هذه الأغراض؛ لأنَّ فيه زجرًا وتنفيرًا عنه"1، وبهذا المعنى أيضًا قال شيخ الإسلام ابن تمية"2.

عزلة الداعي:

583-

وإذا كانت المخالطة من مقدِّمات الدعوة إلى الله تعالى، وأنَّ الداعي لا يستغني عنها كما قلنا، فإنه مع ذلك يحتاج إلى شيء من العزلة والوحدة والانفراد بنفسه؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا بُدَّ للعبد من أوقاتٍ ينفَرِد بها بنفسه في

1 إحياء علوم الدين للغزالي ج2، ص149.

2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج8، ص216-218.

ص: 367

دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه"1 ويلاحظ في هذه العزلة شيئان:

الأول: أن تكون في الأوقات التي نَدَب الشرع فيه إلى نوعٍ معين من العبادة، كالاعتكاف في رمضان، وقيام الليل والصلاة فيه، والجلوس في المساجد انتظارًا للصلاة، فإنَّ في هذه الأوقات والقيام فيها بعبادة الله بالصلاة والذكر والدعاء نوعًا ممتازًا من العزلة والخلوة المشروعة، وهي على قِصَرها ذات أثر بليغ جدًّا.

الثاني: إذا احتاج الداعي إلى عزلة أكثر مما ورد في النوع الأول، كأن يخلو في مبيته أيامًا؛ لِمَا يحسه من حاجة إلى هذه الخلوة للراحة والاستجمام ومراجعة الحساب مع نفسه، وتدارك ما فاته، فلا بأس في ذلك، بشرط أن يكون قصده من ذلك إعداد نفسه وتهيئتها إلى المزيد من الدعوة إلى الله، فيكون مثله في هذه الحالة مثل المجاهد الذي يتحوّل عن ميدان القتال ليشحذ سيفه، أو يعلف فرسه، أو يصلح رمحه، أو يداوي جرحه، وقلبه معلق بالجهاد، ونيته الرجوع إليه من قريب، فهو في جهاد في الحالتين، والأعمال بالنيات، والله المستعان.

584-

هذا وإنَّ للداعي عزلة أخرى من نوعٍ آخر، وهي غياب فكره عن الحاضرين مع بقاء جسمه معهم، وهذه العزلة يحتاجها كُلَّما وجد نفسه مضطرًا بين قوم سوء، ومجلس غيبة، وكلام باطل لا يستطيع الخروج منه، ولا تحويل مجراه الخبيث، فيغيب عنه بروحه، ويبقى جسده معهم.

585-

وهناك عزلة ثالثة للداعي، وهي مفارقة الكفرة والتحوّل عنهم إلى غيرهم، إذا بدا له أنَّ بذل الجهد معهم عبث أو لا يجدي، أو أنَّ احتمال إجابتهم في الوقت الحاضر احتمال ضعيف، أو أنَّ أذاهم لا يطاق، فيتحول عنهم إلى غيرهم ويوجِّه جهده إليهم، فيدعوهم إلى الله تعالى؛ لأنَّ جهد الداعي محدود، ووقته محدود، فإذا لم يجد الإجابة عند قومٍ تحوَّل إلى غيرهم، واعتزل الأوَّلين، وله أن يعتزل الجميع إلى حين، وقد يستأنس لهذا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وبقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَإِنْ لَمْ

1 مجموع الفتاوى، ج1، ص637.

ص: 368