الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: الاحتساب
معنى الاحتساب:
314-
نريد بالاحتساب القيام فعلًا بالحِسْبة؛ كأن يأمر المحتسب بفعل معيِّن بكيفية معينة، أو يزيل منكرًا بيده؛ كأن يكسره أو يمزِّقه أو يتلفه، أو يدفع صاحب المنكر بيده، وبالقوة عمَّا هو فيه.
ما يتم به الاحتساب:
315-
الاحتساب الكامل يتمّ بازالته تمامًا ومحوه فعلًا ولو بالقوة عند الاقضاء من قِبَل المحسب أو أعوانه، أو من قِبَل صاحب المنكر نفسه، بأن يأمره المحتسب بتكسير آلة المنكر فيطيع أمره، فإن عجز المحتسب عن التغيير باليد انتقل إلى الاحتساب بالقول عن طريق الوعظ والإرشاد والتخويف من الله تعالى، وقد يزول المنكر بهذ الطريق وقد لا يزول، ويبقى صاحب المنكر مصرًّا على منكره، فإذا عجز المحتسب عن الإنكار بالقول تحوَّل إلى الإنكار بالقلب، بأن يكرهه بقلبه ويودّ لو استطاع تغييره، ودليل ما قلناه الحديث الشريف:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقبله، وذلك أضعف الإيمان".
مراتب الاحتساب:
316-
وبناء على ما تقدَّم تكون مراتب الاحتساب ثلاثة:
المرتبة الأولى: تغيير المنكر باليد، أي: تغييره فعلًا ولو باستعمال القوة واستعمال
السلاح والاستعانة بالأعون، كما في دفع الصائل لتخليص النفس البرئية من الموت، وتخليص العرض المصون من الهتك، ويدخل في نطاق التغيير باليد ضرب المحتسب عليه أو حبسه أو دفعه لمنعه من مباشرة المنكر.
المرتبة الثانية: الاحتساب بالقول، وهو أنواع:
أ- التعريف: أي تعريف المحتَسَب عليه بالحكم الشرعي لفعله أو تركه؛ إذ قد يكون المحتَسَب عليه جاهلًا بذلك فارتكب المنكر.
ب- الوعظ والنصح والإرشاد والتخويف من الله تعالى، وقد يقلع العاصي عن معصيته إذا سمع لناصحٍ ووعظ الواعظ، فيحصل المقصود من الاحتساب.
جـ- التقريع والتعنيف بالقول الغليظ؛ كقول المحتسب للمحتَسَب عليه: يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل، ولكن لا يجوز للمحتسب استعمال الكلمات والألقاب المنوّعة شرعًا، كما لا يجوز لعن أبيه.
د- التهديد والتخويف بإنزال الأذى به من قِبَل المحتسب، وينبغي أن يكون ذلك مما يقدر عليه المحتسب فعلًا، وبما هو غير ممنوع شرعًا؛ لأنه إذا هدده بما لا يقدر عليه لم يؤثر تهديده، وإذا هدد بغير الجائز شرعًا كان ذلك غير جائز؛ لأن على المحتسب أن لا يخالف الشرع في احتسابه.
المرتبة الثالثة: الاحتساب بالقلب: وهذا إذا عجز عن المرتبتين السابقتين، وهذه المرتبة لا يجوز أن يخلو منها أيّ مسلم يسمع بمنكر أو يراه؛ إذ لا ضرر فيه، ثم يتبع ذلك بالاحتساب القولي أو الفعلي.
فقه الاحتساب:
317-
الغرض من الاحتساب إزالة المنكر من الأرض وإيجاد المعروف فعلًا، وإذا كان هذا الغرض من الاحتساب فيجب الوصول إليه بأيسر طرق وأقصره، بشرط أن يكون مشروعًا، وأن ينظر إلى ما يئول إليه احتسابه من جهة ما يترتَّب عليه من زوال مفسدة المنكر وحلول مصلحة المعروف مكانه، وفي ضوء ذلك يقدم أو يحجم عن الاحتساب، وما يعين على تفهم فقه الاحتساب بيان القواعد التالية:
القاعدة الأولى:
318-
الإنكار القلبي يجب أن يكون كاملًا ودائمًا وبالنسبة لكل منكر.
وفائدته بقاء القلب في حساسيته ضد المنكر، وبقاء عزمه على التغيير عند الإمكان، أمَّا الإنكار القولي أو الفعلي فيكون حسب الاستطاعة، ودليل ذلك قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وما جاء في الحديث الشريف الذي ذكرنا:"من رأى منكم منكرًا فليغيره.... إلخ "، ويلاحظ هنا أنَّ الثواب يكون كاملًا -إن شاء الله تعالى- إذا كان المحتسب ينكر المنكر بقلبه، ويكرهه كراهية تامَّة، ويفعل لازالته بقدر استطاعته.
القاعدة الثانية:
319-
إنما يطلب الاحتساب إذا كان من ورائه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة، فإذا كان ما يترتَّب عليه فوات معروف أكبر أو حصول منكر أكبر لم يكن هذا الاحتساب مطلوبًا شرعًا، وإن كان المحتَسَب عليه قد ترك واجبًا أو فعل محرَّمًا؛ لأن على المحتسب أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم، وليس من تقوى الله أن يتسبَّب باحتسابه في فوات معروف أكبر أو حصول منكر أكبر؛ لأن الشرع إنما أوجب الحسبة لقمع الفساد وتحصيل الصلاح، فإذا كان ما يترتب على الاحتساب مقدارًا من الفساد أكبر من الفساد القائم، أو يفوّت من الصلاح مقدارًا أكبر من الصلاح الفائت، لم يكن هنا الاحتساب مما أمر به الشرع، ولا شكَّ أنَّ ما قلناه يختلف باختلاف الاشخاص والأحوال والظروف، وعلى المحتَسِب أن يتبصَّر فيها ويزن مقادير المعروف والمنكر التي تنتج عن احتسابه، ثم يقدم بعد ذلك على احتسابه، أو يحجم عنه، وهذا كله بالنسبة للواقعة المعينة والشخص المعين، أما بالنسبة للعموم فهو يأمر بالمعروف مطلقًا، وينهى عن المنكر مطلقًا.
320-
وبناءً على هذه القاعدة نستطيع أنْ نفهم لماذا قال العلماء: لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح وإن ظهر منه شيء من الفسوق؛ لأن الغالب في هذا الخروج حصول مفاسد أعظم من مفسدة فسقه، وحيث كانت المفسدة أعظم لم يجز الاحتساب، كما أنَّ الإمام لا يزال في دائرة الإسلام ولم يخرج منه بفسقه، فيبقى له حق الطاعة على الرعية ما لم يأمر بمعصية، فلا يستوجب الاحتساب عليه بالقوة وحمل السلاح وإحداث الفتنة والاقتتال بين المسلمين.
القاعدة الثالثة:
321-
الأخذ بالرفق ما أمكن ذلك، ومستند هذه القاعدة ما يأتي:
أ- الحديث النبوي الشريف: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف.
ب- إنَّ الإنسان بطبيعته وما فُطِرَ عليه يقبل الأمر والنهي باللطف والرفق ولين القول أكثر من قبوله عن طريق العنف، بل ربما حمله العنف على الإصرار على المنكر مراغمةً للآمر وعنادًا له، وربما دَلَّ على ما نقول قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلّا بالمعروف، ولا ينطق إلّا بالحق.
جـ- إنَّ الاحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتَسَب عليه قابلًا للاحتساب راضيًا به، مقتنعًا بضرورته ومضمونه، حتى يكون له من نفسه وازع يمنعه من العودة إلى المنكر، وهذا كله يحتمل حصوله بقدر أكبر إذا كان الاحتساب بالرفق وعدم الغضب والعنف، وبالمحاجَجَة والمناقشة الهادئة المقنعة، جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- عن أبي أمامة أنَّ غلامًا شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قرِّبوه، ادن" فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:"أتحبّه لأمك"؟، فقال: لا، جعلني الله فداك، قال:"كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك"؟ حتى ذكر صلى الله عليه وسلم العمّة والخالة، والغلام يقول في كل واحدة: لا، جعلني الله فداك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"كذلك الناس لا يحبونه"، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال:"اللهم طهِّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه"، فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنى.
د- الاحتساب يجري على السلطان كما قلنا، والسلطان بحاجة إلى التلطُّف معه لما يحسّ من نفسه من سلطة؛ ولأنه محتاج إلى الهيبة، وقد يتطاول عليه المغرضون بحجة الاحتساب، فمنعًا لذلك ومراعاةً لما يحسّ هو من نفسه، كان الرفق معه في الاحتساب هو المطلوب، وبهذا أشار الفقهاء، ويقاس على السلطان نوَّابه وولاة الأمور، وقد يدل على ما قلناه أو يؤيده أنَّ الله تعالى أمر نبيه موسى عليه السلام وأخاه هارون وقد
أرسلهما إلى فرعون أن يقولا قولًا ليِّنًا لعلَّه يتذكَّر أو يخشى.
322-
وما قلناه لا يعني أنَّ الرفق هو الأسلوب الوحيد للاحتساب، أو أنَّه لا يجوز تركه في بعض الأحيان، وإنَّمَا يعني ما قلناه التأكيد على الرفق والأخذ به كلما أمكن ذلك، ولا يستعاض عنه بغيره إلّا عند الحاجة أو الضرورة، فمن مجالات الرفق اللازمة للمحتسب إذا غلب على ظنِّه أن المحتَسَب عليه قام بالمنكر جهلًا منه بحكمه، أو استجابة لهوًى عابرٍ، أو لضعف في إرادته، كما أنَّ الرفق يلازم الاحتساب بالتعريف بالحكم، أو بالوعظ والإرشاد، أو التخويف من الله تعالى، فإذا لم ينفع الرفق تحوَّل المحتَسِب إلى الشدة، وكذلك إذا كان المنكر جسيمًا لا يمكن معه الانتظار، أخذ المحتسب بالشدة الكافية لدفعه، ولا يعتبر ذلك خروجًا عن قاعدة الرفق؛ لأنَّ من معاني الرفق الحرص على مصلحة المحتَسَب عليه بإبعاده عن المنكر وتخليصه من المعصية، وما يترتَّب عليه من عقاب.
متى يجب الاحتساب:
323-
الاحتساب القلبيّ واجب على كل مسلم في جميع الأحوال إذا ما سمع بمنكره أو رآه كما قلنا.
أمَّا الاحتساب باليد أو بالقول فهذا يجب بالقدرة على هذا النوع من الاحتساب، بشرط أن يأمن المحتَسِب على نفسه من الأذى والضرر، كما يأمن على غيره المسلمين من الأذى والضرر.
وتعليل ذلك أنَّ الخوف من لحوق الأذى والضرر بمنزلة العجز الحسيّ، والعجز الحسي يفوت شرط القدرة، فلا يجب الاحتساب إلّا أنَّه يجب هجران أصحاب المنكرات وعدم مخالطتهم.
هل يشترط الانتفاع بالاحتساب لوجوبه:
324-
وإذا توفَّرت القدرة وأمِنَ المحتسب من الأذى والضرر، فهل يشترط الانتفاع باحتسابٍ لوجوب الحسبة عليه؟ قولان للعلماء:
القول الأول: لا يجب الاحتساب، وإنما يستحب عند عدم رجاء الانتفاع، فإذا كان مرجوًّا وجب الاحتساب، ودليل هذا القول ما فهموه من قوله تعالى: {فَذَكِّر
إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} ، جاء في تفسير ابن كثير بصدد هذه الآية: منهم من حملها على ظاهرها فيكون المعنى: ذكِّر حيث تنفع التذكرة.
القول الثاني: يجب الاحتساب سواءً نفع أو لم ينفع؛ لأنَّ احتسابه قيام منه بواجب شرعي، فلا يتوقف على انتفاع الغير به، ولأنَّ على المسلم أن يؤدي ما عليه، وليس عليه أن يقوم الغير بما عليه، مثل ترك صاحب المنكر منكره، وأجابوا على احتجاج أصحاب القول الأوَّل بأن الكريمة:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} لا تعلق الوجوب على حصول الانتفاع؛ للأدلة التالية:
أ- إن المعلق "بأن" على الشيء لا يلزم أن يكون عدمًا عند عدم ذلك الشيء، يدل على ذلك آيات منها قوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} ، فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف، وقوله تعالى:{وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} والرهن جائز مع وجود الكاتب.
ب- إنَّ ذكر الشرط في الآية الكريمة: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} لفوائد، منها: إنَّه سبحانه وتعالى ذكر أشرف الحالتين عند التذكير وهي حالة الانتفاع، وسكت عن الحالة الأخرى وهي عدم الانتفاع منبهًا عليه، كما في قوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وتقدير الآية: وتقيكم البرد، وعلى هذا فقوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} تقديرها: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، ومن الفوائد أيضًا أنَّ المراد الحثّ على الانتفاع بالذكرى كما يقول الشخص لغيره إذا بَيِّنَ له الحق: قد أوضحت لك الأمر إن كنت تعقل، فيكون مراده الحثّ على القبول.
325-
والراجح عندي من القولين الوجوب كلما كان الانتفاع مرجوًّا أو ممهدًا لتحقيق الانتفاع، أو كان فيه إظهار شعائر الإسلام، أو يحقق مصلحة مشروعة غير انتفاع المحتَسَب عليه، فإذا عري عن ذلك كله كان مستحبًّا لا واجبًا.
من يستحب الاحتساب:
326-
ويستحَبُّ الاحتساب القولي إذا عَلِمَ المحتسب أنَّ قوله لا يفيد، ولكن لا يلحقه أذى منه، وهذا على رأي بعض العلماء، وقد قيدنان هذا الاستحباب بما قلناه في الفقرة السابقة.
كما يستحب الاحتساب إذا علم المحتسب أن إنكاره يفيد ولكن يلحقه أذى.
ووجه الاستحباب إزالة المنكر مع تَحمُّله الأذى، وحتى إذا علم المحتَسِب أنَّ احتسابه لا يفيد المحتَسَب عليه ولا يمنعه من منكره، ولكن احتسابه يفيد من ناحية أخرى؛ كأن تقوى به قلوب المؤمنين وتنكسر أو تضعف شوكة الفاسقين، أو يمهد لإزالته، ففي هذه الأحوال يصير مستحبًّا برغم الأذى الذي يناله ما دام يتحمله، ولا يتعدَّى إلى غيره.
متى يحرم الاحتساب:
327-
ويحرم الاحتساب إذا لحق المحتسب من جرَّائه أذًى جسيمًا بغيره من أصحابه أو أقربائه أو رفقائه أو عموم المسلمين، حتى ولو قدَّرنا زوال المنكر؛ لأنه يفضي إلى منكر آخر، هو إلحاق الأذى بالآخرين، وهذا لا يجوز؛ لأن للمسلم أن يتسامح في حق نفسه ويتحمَّل الأذى، ولكن ليس من حقه أن يتسامح في إيذاء غيره عن طريق احتسابه، وكذلك يحرم الاحتساب إذا أدَّى إلى وقوع منكر أكبر من المحتَسَب عليه من لحوق الأذى بالآخرين، وكذلك يحرم الاحتساب إذا لم يكن من ورائه إلّا إلحاق الأذى الجسيم بنفسه؛ كقتله أو هتك عرضه دون أن يكون لاحتسابه أيّ مصلحة، أو أيّ أثر في إزالة المنكر ورفعه.
328-
والأذى المخوف من جرَّاء الاحتساب، وبالتالي ينقله إلى الاستحباب أو الحرمة على النحو الذي بيناه، هو الأذى الذي يتحقَّق به زوال ما هو حاصل للمحتسب أو لغيره من سلامة وعافية في جسمه أو عرضه أو حريته أو ماله، وليس هو خوف امتناع حصول هذه الأشياء له؛ لأن الضرر الحقيقي هو فوات شيء موجود فعلًا من هذه الأشياء، وليس هو -أي: الضرر- امتناع حصولها، وعلى هذا فالضرب الشديد المؤلم والجرح وهتك العرض وإتلاف عضو من البدن أو إزهاق الروح أو التعذيب الشديد أو السجن الشديد، كل هذا ونحوه يعتَبَر من الأذى الذي ينقل الاحتساب من الوجوب إلى الاستحباب أو الحرمة على النحو الذي فصَّلناه.
الشرط في مباشرة الاحتساب:
329-
من لمعلوم أنَّ القاضي لا يباشر النظر في حقوق الناس ودعاويهم إلّا إذا
رفعوها إليه، فالشرط في نظر القاضي فيها هو رفع الدعوى، فهل يشترط للمحتَسِب لمباشرة احتسابه رفع المنكر إليه من قِبَلِ مَنْ وقع عليه هذا المنكر أو شاهده؟ الجواب على ذلك: إن كان الاحتساب يتعلّق بحقٍّ خاصٍّ توقَّف نظر المحتسب فيه على طلب صاحب الحق وإعلامه بحقه، ووجّه الاعتداء عليه، وليس للمحتسب أن يتدخَّل فيه من تلقاء نفسه؛ لأن المحتسب إنما يتدخل في منكر ظاهر، وقبل رفع صاحب الحق ظلامته إليه لا يكون ظاهرًا، ولكن بعد إعلامه به يصير ظاهرًا، فيحقّ للمحتسب النظر فيه والاحتساب فيه، فإذا رفع إليه المنكر المتعلق بحق خاصٍّ كان على المحتسب أن يثبت من وجوده بطريق المشاهدة أو بإقرار المعتدي، أمَّا عند الخفاء والإنكار والجحود ممن نسب إليه الاعتداء فلا يتدخَّل المحتسب؛ لأنه لا يسمع بينة كما قلنا من قبل، ولا يوجه يمينًا عند الإنكار، ولا يتجسس.
أمَّا إذا كان الاحتساب في حقٍّ من حقوق الله تعالى، أو يغلب فيه حقّ الله، أو كان في حقٍّ عام يتعلق به نفع الناس؛ كاعتداء على مرفق عام، فإنَّ الاحتساب حينئذ يقوم على المشاهدة والعلم الشخصي المستند إلى قيام المنكر ووجوده.
الاحتساب في الوقت الحاضر:
330-
يمكن لولي الأمر المسلم في الوقت الحاضر أن ينظم شئون الحسبة على النحو الذي يتحقق المقصود من الاحتساب، وأن يتخذ ما يلزم لذلك، فله أن يفتح المدارس لتخريج المحتسبين الأكفاء، كما له أن ينظم شئون الحسبة بين المحتسبين، فيعيِّن لأمور المساجد محتسبين، وللأسواق محتسبين، ولمنكرات الطرق محتسبين، وهكذا، كما له أن يرسل بعضهم إلى القرى والأرياف لتعليم الناس أمور دينهم؛ لأن الغالب عليهم الجهل.
أما إذا لم يقم وليّ الأمر بما ذكرنا، جاز أو وجب على المسلمين القيام بمهمة الاحتساب، وتهيئة المحتسبين والإنفاق عليهم، على أن يقوموا بالاحتساب في حدود الوعظ والإرشاد والتذكير فقط، دون استعمال العنف؛ لئلَّا يؤدي ذلك العنف إلى الفوضى والفتنة، مما يجعل المغرضين يستغلون ذلك ويتقولون بالباطل على الحسبة والمحسبين، وتأليب ولاة الأمر على المحتسبين.