الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: مقاصد الإسلام
تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل:
502-
إنَّ مقاصد الإسلام التي دلَّ استقراء نصوص الشريعة عليها، هي تحقيق مصالح العباد وردء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل، وبهذا كله تتحقق لهم السعادة الحقة في حياتهم هنا وحياتهم هناك، وبهذا صرَّح المحققون من علماء الإسلام، قال الإمام العز بن عبد السلام:"إن الشريعة كلها مصالح؛ إمَّا درء مفاسد، أو جلب مصالح"1، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"2، وقال تلميذه الإمام ابن قيم الجوزية:"الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة، ومصالح كلها وحكمة كلها"3، وقال الشاطبي في موافقاته:"إنها -أي: الشريعة- وضعت لمصالح العباد"4.
الواقع أنَّ ما ذكره هؤلاء الأئمة الأعلام حقّ ووصف ثابت للإسلام، تدلّ عليه نصوصه كما قلنا، ويكفي هنا أن نذكر نصًّا في تعليل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يتضمَّن ما قالوه، قال جل جلاله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وإنما كانت رسالته عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين؛ لأنها تتضمن تحقيق المصالح للعباد في دنياهم وآخرتهم، وتدرأ عنهم المفاسد والأضرار.
1 القواعد للعز بن عبد السللام ج1 ص9.
2 منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج1 ص147، ح2 ص240، ج3 ص118.
3 إعلام الموقعين ج3 ص1.
4 الموافقات للشاطبي ج2 ص6.
أنواع مصالح العباد:
503-
ومصالح العباد التي يعنَى بها الإسلام إيجادًا وحفظًا هي ثلاثة: المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، وقد شرع الإسلام من الأحكام ما يحقق هذه المصالح ويحفظها، فيتحقق للناس سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد فصَّلنا القول في هذه المصالح فلا نعيده.
معيار المصلحة والمفسدة:
504-
معيار المصلحة والمفسدة هو الإسلام، فما شهد له الإسلام بالصلاح فهو المصلحة، وما شهد له بالفساد فهو المفسدة، والخروج عن هذا المعيار معناه اتباع الهوى، والهوى باطل لا يصلح لتمييز الصلاح من الفساد، قال تعالى:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 2، فليس هناك إلّا الحق والهوى، والحق هو ما أنزله الله، وفيه بيان للمصلحة والمفسدة، وما عداه الهوى وهو باطل، وفيه فساد للناس، فالمصلحة إذن في اتباع الحق المنزَّل من عند الله وهجر ما سواه.
عجز الإنسان عن إدراك المصلحة والمفسدة:
505-
والإنسان عاجز بطبيعته عن إدراك المصالح الحقيقية وطرق الوصول إليها في الدنيا والآخرة، وإذا أدرك بعضها في الدنيا فإنه عاجز عن معرفة مصالحه في الآخرة وطريق الوصول إليها، وإنما يستطيع ذلك إذا سار خلف الشريعة واستنار بنورها، ووقف عند حدودها، ووزن الأمور بميزانها.
مصلحة الإنسان الحقيقية في اتباع ما أنزل الله:
506-
ومصلحة الإنسان الحقيقية في اتباعه ما أنزل الله، وإقامة الدنيا وفق النظام الإسلامي؛ لأنَّ في ذلك تحقيقًا مؤكدًا لمصالحه الحقيقة وسعادته في الدنيا.
ومع هذه السعادة الدنيوية سعادة عظمى له في الآخرة بالظفر برضوان الله، والدخول
1 راجع الفقرة "75-84" من هذا الكتاب.
2 سورة ص، الآية:26.
إلى دار النعيم، وهذا من مزايا الإسلام العظيم، فإنَّ تطبيق أحكامه واتباع تعاليمه ومناهجه في الحياة لا يفوت على الإنسان الحياة الطيبة في الدنيا -كما يظنّ بعض الجهال، بل يحققها له على وجهٍ سليمٍ خالٍ من العثار والشطط، وإنَّ هذه الحياة القائمة على معاني الإسلام تسهّل له سلوك سبيل الآخرة بيسر وسلامة، حتى توصله إلى الله تعالى راضيًا، بخلاف المعاني غير الإسلامية، فإنها تكدر حياة الإنسان وتشقيه في الدنيا وتقطع صلته بالله، ولا توصله في الآخرة إلّا إلى النار.
مصالح الدنيا معتبرة بمصالح الآخرة:
507-
يقول الفقيه الشاطبي: "المصالح المجتلبة شرعًا، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تمام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية1.
ومعنى هذا الكلام أنَّ تقدير الإسلام لمصالح العباد وتشريعه الأحكام والمناهج لتحصليها، إنما يقصد من ذلك كله تهيئتهم للظفر بسعادة الآخرة، فمصالح الدنيا في الحقيقية ليست مطلوبة لذاتها، وإنما هي وسيلة لمصالح الآخرة، فأيُّ شيء يعارض ظفره بسعادة الآخرة يجب أن يترك أو يؤخَّر، وأيّ شيء يؤدي إلى سعادته في الآخرة يجب أن يؤخذ ويقدَّم، فلا يجوز التفريط بالآخرة من أجل الدنيا ومنافعها الزائلة، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 3، وفي هذا المعنى قال الإمام الشاطبي في موافقاته:"والمصالح والمفاسد الأخروية مقدَّمة في الاعتبار على المصالح والمقاصد الدنيوية باتفاق؛ إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أنَّ ما يخلّ بمصالح الآخرة غير موافِق لمقصود الشارع فكان باطلًا"4، فالممنوع إذن تقديم الدنيا على الأخرة، وليس الممنوع تحصيل الدنيا واستعمالها للآخرة، قال تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، فالدنيا مرزعة الآخرة، ومتاعها وسيلة للوصول إليها،
1 الموافقات للشاطبي ج2 ص384.
2 الموافقات ج2 ص38.
3 سورة النازعات الآية: 37.
4 سورة القصص، الآية:77.
فلا يجوز تخريب المزرعة، ولا الخروج منها على وجه الفرار؛ لأن الإنسان جاء إليها ليعمل الخير ويتزوَّد بزاد التقوى، ويفني عمره في ذلك، ولكن عليه أن لا ينسى هذه المهمة، فيجعل الدنيا مقصوده وغايته، وقد أرادها الله وسيلةً للآخرة وخادمةً لها لا مزاحمة لها، فإذا تعارضت مصلحته الدنيوية مع مصلحته الأخروية قدَّم الثانية على الأولى غير آسفٍ عليها؛ لأنه غير مغبون ولا خاصر في هذا التقديم؛ لأنَّ المصلحة الكبرى تقدم على الصغرى في نظر الإسلام وفي نظر العقلاء، ومصلحة الآخرة أكبر قطعًا من مصلحة الدنيا؛ لأنَّ تقييم المصلحة إنما يكون بقدرٍ من لذة وراحة ومنفعة من حيث الكم والكيف، وبقدر دوامها للإنسان، ولا شكَّ أن مصلحة الآخرة أعظم من مصلحة الدنيا من هاتين الناحيتين، ذلك أنَّ ما في الدنيا من لذائذ ومنافع وراحة لا يقاس بما في الآخرة كمًّا ولا كيفًا، فإنَّ لذائذ الدنيا مشوبة بالمنغِّصات وتافهة من حيث الكيف والكم، أما الآخرة فلذائذها خالصة من المنغصات والمكدرات، وفريدة من حيث نوعها وكيفيتها، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها رضوان الله ورؤية وجهه الكريم، والقرب منه في جنات النعيم، وكل هذه الأمور العظام لا يساوي اليسير منها كل نعيم الدنيا.
وأمَّا من حيث الدوام فإنَّ سعادة الآخرة ولذائذها دائمة غير منقطعة، بينما نعيم الدنيا ولذائذها منقطعة قطعًا، فهي لا تتجاوز عمر الإنسان، إذا فرضنا أنه يتنعَّم في عمره كله، وأية نسبة بين سعادة مقدَّرة بعمر الإنسان المتناهي، وسعادة الآخرة الدائمة لمدة غير متناهية؟ فالمسلم العاقل لا يمكن أن يؤثر الدنيا على الآخرة أبدًا؛ لأنَّ الشرع يأمر بتقديم الآخرة، والحساب يقتضي هذا التقديم، ومصلحة الإنسان تدعو إلى هذا التقديم، وهذا هو الحق، وماذ بعد الحق إلّا الضلال والجهل والخسران المبين.