الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الداء والدواء
تحديد أصل الداء والدواء:
651-
إنَّ طيب الأبدان يشخِّص الداء أولًا، ثم يعيِّن العلاج ثانيًا، وهذا هو الأسلوب الصحيح في المعالج، والداعي إلى الله تعالى طبيب القلوب والأرواح، فعليه أن يسلك نفس هذا الأسلوب في معالجة الأرواح، فيشخص الداء أولًا، ثم يعيِّن العلاج ثانيًا، ولا يقف عند أعراض الداء محاولًا علاجها، تاركًا أصلها وعلتها، فما أصل داء البشر وما هو أصل الدواء؟
أصل داء البشر وأصل دوائهم:
652-
وأصل داء الناس في القديم والحديث جهلهم بربهم وشردوهم عنه، أو كفرهم ورفضهم الدخول في العبودية الكاملة له، والسير على النهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه، واغترارهم بالدنيا وركونهم إليها، وغفلتهم عن الأخرة أو إنكارهم لها، هذه هي مقوّمات الداء، وهي تجمع مع الكفر بالله، وتتفرَّق مع أصل الأيمان به، كما نجده في ضعاف العقيدة من المسلمين، فإذا وجد أصل الداء بكلِّ مقوماته وجدت الشرور والمفاسد بكل صنوفها وأنواعها، وإذا وجدت بعضها وجد من الشرور والمفاسد بقدرها.
أمَّا أصل الدواء لهذ الداء فهو الإيمان بالله ربًّا وإلهًا لا إله غيره، والكفر بالطاغوت بكل أنواعه ومظاهره، والإقبال على الله وعدم الركون إلى الدنيا، قال تعالى عن نوح عليه السلام:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيم} ، وكذلك قال سيدنا محمد
-صلى الله عليه وسلم لرؤساء قريش، وقد جاءوا إلى أبي طالب يسألونه: ماذا يريد منهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول الكريم:"تقولون: لا إله إلّا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه" 1، وهكذا قالت رسل الله جميعًا بلا استثناء، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .
التأكيد على معاني العقيدة الإسلامية:
653-
وإذ قد تبيِّنَ لنا أصل الداء وأصل الدواء، فعلى الداعي المسلم في دعوته إلى الله تعالى أن يؤكِّد على معاني العقيدة الإسلامية، فهي الدواء لأصل الداء الذي بيناه، فيؤكد على الإيمان بالله ربًّا وإلهًا، وعلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، وعلى البعث بعد الموت بالروح والجسد، وعلى ضرورة العمل الصالح للنجاة من العذاب في الآخرة.
فالعقيدة الإسلامية وتجلية معانيها وأصولها وما تستلزمه وتتضمَّنه هي الأساس في دعوة الداعي وما يؤكد عليه دائمًا، ولا يغفل عنه مطلقًا؛ لأنها هي الأصل في دعوته، وما عداه فروع، فإذا استقام له هذا الأصل واستجاب له المدعوون بعد كفرهم، سهل عليه إقناعهم بمعاني الإسلام وفروعه المختلفة، وإذا رفضوه رفضوا سائر فروعه ومعانيه، وهذا هو النهج الصحيح الذي دلَّ عليه القرآن الكريم، وسار عليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فإن القرآن ظلَّ يتنزَّل في مكة بالسور والآيات في بيان أصول العقيدة ومعانيها، مثل: الإيمان بالله ووحدانيته في الربوبية والألوهية، والإيمان بيوم الحساب، ومآل الناس إلى الجنة والنار، وضرورة الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، والقيام بالعمل الصالح المشروع.
فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ
1 سيرة ابن هشام ج2 ص27.
2 سورة الأنعام، الآيات: 14-17.
عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 1، وقال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.
وهذ النهج القرآني في التأكيد على العقيدة الإسلامية ظلَّ مستمرًّا حتى بعد الهجرة إلى المدينة، فكانت الآيات تنزل ببيانها، أو تختم آيام المعاملات بأصول العقيدة كالأيمان بالله واليوم الآخر. والتأكيد على العقيدة -وهو النهج السليم كما قلنا- لازم كالإيمان للداعي في دعوته بالنسبة لضعاف العقيدة من المسلمين الذين يظهر ضعف عقيدتهم بعصيان أوامر الشرع واستثقال تكاليفه، والتخبط في كثير من دروب الغواية والضلال، بل إنَّ هذا النهج لازم حتى بالنسبة للمسلمين الذين لا يظهر عليهم عصيان ظاهر؛ لأنَّ هذا التأكيد على العقيدة وتذكيرهم بمعانيها يقيهم الانحراف والعصيان.
اعتراض ودفعه:
654-
وقد يعترض علينا بأنَّ في دعوة الأنبياء لأقوامهم إنكارًا منهم لبعض مفاسدهم، كما في قصة لوط وشعيب عليهما السلام، فكيف يقال: إنَّ التأكيد يكون على معاني العقيدة أولًا، فإذا حصلت الاستجابة انتقل الداعي إلى الفروع، والجواب على ذلك أنَّ التأكيد على العقيدة معناه: جَعْلُ معاني العقيدة في المقام الأول وعدم نسيانها أبدًا، وربط المفاسد الخطيرة في المجتمع بمعاني العقيدة، وبيان أنها بعض آثار التمرُّد على الله، هذا هو المقصود مما قلناه من لزوم التأكيد على العقيدة، وليس المقصود إغفال ما يراه الداعي من مفاسده خطيرة في المجتمع، يدل على ذلك ما جاء
1 سورة الحج، الآيات: 5-7.
2 سورة النحل، الآية:97.
فلوط عليه السلام بدأهم بالأمر بتقوى الله، وأعلمهم بأنَّه رسول الله، وأن من حق الرسول أن يطاع فيما يخبرهم به من مناهج العبادة لله وحده، ثم أتبع ذلك أنْ بَيِّنَ لهم بعض مفاسدهم المخالفة لأمر الله.
وعن شعيب عليه السلام، قال ربنا تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2.
فشعيب عليه السلام بدأهم بعبادة الله وحده، ثم بَيِّنَ لهم أنَّ ما جاء به من الله هو الحق الواضح المبين، الذي يستلزم وفاء الكيل والميزان، وعدم ظلم الناس وارتكاب الفساد في الأرض، فهذا هو الخير لهم إن كانوا مؤمنين بالله ورسوله.
فلوط وشعيب عليهما السلام بَيَّنَا لقوميهما أن لا إله إلا الله، ثم زادا على ذلك أن ذكَّرُوهما ببعض نتائج تمرُّدهم على الله، ومنها: سواء أفعالهم كاللواط والتطفيف، مثل هذا ما نزل بمكة بشأن المطففين، قال تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3.
فربط التطفيف والنهي عنه بأصل من أصول العقيدة وهو يوم الحساب، وقيام الناس لرب العالمين.
1 سورة الشعراء، الآيات: 160-166.
2 سورة الأعراف، الآية:85.
3 سورة المطففين، الآيات: 1-5.
ابتعاد الداعي عن النهج الصحيح:
655-
وقد يبتعد الداعي عن النهج الصحيح، فلا يهتم بأمور العقيدة، ويهوى الخوض فيما يهواه الناس ولا يكلفهم شيئًا، كالخوض فيما تعورف عليه من أمور ما يسمَّى بالسياسة والثرثرة فيها، وتحليل الأمور تحليلًا بعيدًا عن مفاهيم العقيدة وشمولها، كل ذلك يفعله الداعي استجابة لرغبات الناس أو لرغبة في نفسه هو، وهذا المنهج خطأ؛ لأنَّ الداعي إلى أمور بعيدة عن أصل الداء والدواء، وهو الانحراف عن العقيدة الإسلامية ولزوم تعميق معانيها في النفوس، ونتيجة ذلك بقاء أصل الداء والسير في البناء من السطح أو بلا أساس.
الكليات لا الجزئيات:
656-
وما دام أصل الأمر وسنامه التأكيد على أصل الداء والدواء، فعلى الداعي أن لا يبدِّد جهوده في الجزئيات واستئصالها إن كان في ذلك تعويق له عن غرس معاني العقيدة الإسلامية في النفوس، ودعوته إلى الله.
ودليلنا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى الأصنام تلوث بيت الله، وتحيط به، وهي تطل بعيونها الجامدة القبيحة، وهو عليه الصلاة والسلام لا يرفع يده لتحطيمها، ولا يأمر أصحابه بتكسيرها، ولو أراد الأمر، ولو أمر لنفَّذَ المسلمون ما يأمرهم به، ولكنه لم يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ المسألة ليست مسألة تكسير أصنام آنذاك، وإنما هي تكسير أقفال القلوب حتى تفقه الحق، ثم يأتي اليوم الذي تخرم فيه تلك الأصنام تحت ضربات المؤمنين، وقد كان ذلك في يوم فتح مكة، فكان صلى الله عليه وسلم يشير بعصاه إلى الأصنام وهو يقول:"لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا" فتخِرّ إلى الأرض مكسَّرة محطَّمة.