الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الإيمان العميق
حقيقة الإيمان العميق:
533-
نريد بالإيمان العميق أنَّ الداعي المسلم تيقَّن بأنَّ الإسلام الذي هداه الله إليه، وأمره بالدعوة إليه، حقّ خالص؛ لأنه هُدى الله، وما عداه باطل وضلال قطعًا، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} 1، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2، وإنَّ هذا اليقين بأحقية الإسلام صار عند الداعي المسلم كالبدهية وكالواحد زائد واحد يساوي اثنين، ومن ثَمَّ لا تقبل هذه البدهية أيَّ نقاش أو جدال أو شكٍّ أو مراجعة أو إعادة نظر، وتيقن أنَّ أيَّ تحوُّلٍ عن هذا اليقين وميلٍ إلى غيره يعني اتباع الأهواء الباطلة التي فيها الضلال وضياع الإيمان، قال تعالى:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 3، إنَّ هذا الإيمان العميق بأحقية الإسلام قائم على علم قطعي وبينة راسخة لا شكَّ فيها، وإن كذَّب بها المبطلون الضالون الذين لا يبصرون الحق المنزَّل من عند الله، لا لخفائه، ولكن لعمى أبصارهم وموت قلوبهم، فلا يتصوّر ميل الداعي المسلم إلى باطلهم، ولا يتصور منه الشك في دعوته، كما لا يتصور ارتياب البصير في بصره إذا وجد نفسه بين العميان، قال تعالى:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} 4، وإنَّ هذه البينة التي أقام عليها الداعي المسلم إيمانه العميق
1 سورة البقرة، الآية:120.
2 سورة يونس، الآية:32.
3 سورة الأنعام، الآية:56.
4 سورة الأنعام، الآية:57.
مستمدَّة من ذات الإسلام وطبيعته، لا من شيء خارج عنه، ولهذا فإنَّ إيمانه العميق ينبض به كيانه كله، ويسري فيه مسرى الدم، ولا يمكن أن يتأثَّر أو يضعف أو يزول لأيِّ سبب خارجي مهما كان نوع وطبيعة هذا السبب الخارجي، فهو ليس من الذين قال الله فيهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} 1، فهذا شأن المنافق أو ضعيف الإيمان المرتاب، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:"هو المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلّا لما صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر"1.
فإيمان الداعي العميق ثابت لا يتزعزع مهما صادفته محنة أو شدة، ومهما كانت حاله من ضعف وقلة، ومهما كان حال الكفرة من قوة ومنعة، حتى لو بقي وحده في الأرض، وهكذا كان إيمان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحوالهم يوم كانوا في مكة محاصَرين يعذّبهم الكفرة، ويوم هاجروا فارين بدينهم إلى الحبشة، ويوم هاجروا إلى المدينة، ويوم انتصروا في بدر، وانكسروا في أحد، وحوصروا في الخندق، إنَّهم في جميع تلك الأحوال التي تقلَّبوا فيها لم يتزعزع إيمانهم، ولم يتسرَّب إلى قلوبهم ذرةٌ من الشكِّ في كونهم على الحق، وموصولين بالحق، ويدعون إلى الحق، وأنَّ الكفرة في ضلالٍ مبين، قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} 3، ولا يضعف إيمان الداعي انصراف الناس عنه وعدم إجابتهم له.
فقد لبث نوح عليه السلام كما أخبرنا الله عنه {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 4، ولم يؤمن له إلّا القليل، كما لا يدل انصراف الناس عنه أنَّه مقصِّر في دعوته ما دام قد أفرغ جهده، فالتقصير يعرف -إن وجد- من قلة ما يقدمه الداعي للدعوة، لا من عدم إجابة المدعو.
1 سورة الحج، الآية: رقم 11.
2 تفسير ابن كثير ج3 ص209.
3 سورة الرعد، الآية:14.
4 سورة العنكبوت، الآية:14.
ضرورة هذا الإيمان للداعي المسلم:
534-
إنَّ مثل هذا الإيمان العميق ضروريّ لكل مسلم، وهو للداعي أشد ضرورة في الوقت الحاضر، الذي ضعفت فيه كلمة الإسلام، وعلت فيه كلمة الكفر، ونضب معين الإيمان في النفوس، وازدادت مِحَن المسلمين، وصال الكفرة عليهم وجالوا، وصارت لهم دِوَل كبار تحميهم، وتقذف بالباطل وتثير الشبهات والشكوك حول أحقية الإسلام، وزاد من هذه المحنة وجود أدعياء الإسلام وعلماء السوء البائعين دينهم بدنياهم، والمستترين وراء كلمة الإسلام يقولونها بألسنتهم، ويخفون وراءها باطلًا كثيفًا، وضلالًا عظيمًا، ومع هذا فإنَّ المسلم ولا سيما الداعي المسلم الصادق يجب أن لا تدهشه هذه المحن وهذه الأحوال، بل يجعلها دافعًا للمزيد من بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله وتلمُّس الدواء والعلاج لما آل إليه أمر الإسلام، وأن لا يبقى مفتوح العينين محدِّقًا بالكفرة إعجابًا بهم وإكبارًا لهم، فإنهم والله على ضلال مبين، يحتاجون إلى تقويم وتهذيب وتأديب، لا إلى تعظيم وتفخيم، وليستحضر الداعي المسلم في ذهنه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا حديثًا عن الدجَّال، فكان فيما حدثنا به أنه قال:"يأتي الدَّجَّال وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينزل بعض السباخ 1 التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل، وهو خير الناس أو من خير الناس، فيقول: أشهد أنك الدجَّال الذي حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكّون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقلته ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشدّ بصيرة مني الآن، قال: فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه" 2، وفي هذا الحديث الشريف فوائد عظيمة جدًّا، منها: أنَّ الدجال ادَّعى الألوهية والربوبية، وفتن الناس بدعوته لِمَا أوتيه من الخوارق، ومنها أنَّه يقتل الشخص ويحييه، ويأمر الأرض بالإنبات فتنبت، ويأمر المطر بالنزول فينزل، كما وردت بذلك الآثار، ويتبعه دهماء الناس وجهلتهم الخالية قلوبهم من معاني الإيمان وأنواره، ولكنّ ذلك المسلم
1 نقاب المدينة أي: طريقها وفجاجها، وهو جمع نقب، وهو الطريق بين جبلين، والسباخ سبخة، وهي أرض لا تنبت لملوحتها.
2 صحيح البخاري ج9 ص109، صحيح مسلم ج16 ص71، 72.
الذي يخرج له لم يشك قط في أنه هو الدجال الكذاب، ولم تؤثر في ذلك المسلم خوارقه ولا كثرة أتباعه، ولا في اعتزازه هو بالإسلام؛ لأنَّ دعوة ذلك الدجال باطلة قطعًا؛ لمخالفتها لمعاني الإسلام الحقَّة، فلا يمكن أبدًا أن ينقلب الباطل حقًّا لأيِّ سبب خارجي مقترن به، ولو كان من خوارق العادات، كما لا يمكن أبدًا أن يصيِّر الإسلام الحق باطلًا بكون المؤمن به رجلًا واحدًا أعزل، ولهذا ولمَّا قتل الدجال ذلك المسلم ازداد يقينًا بأنه على الحق، وأنَّ الدجال مبطل كذاب، وأن خوارقه تصديق لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتالي يظل ذلك المسلم على إيمانه وإن كان وحيدًا، لا حول له ولا قوة ولا ناصرًا.
ثمرات هذا الإيمان ولوازمه:
535-
إنّ لهذا الإيمان العميق لوازم وثمرات لا بُدَّ منها ويستحيل تخلفها، وإذا ما تخلفت أو ضعفت كان ذلك دليلًا قاطعًا على عدم وجود هذا النوع من الإيمان، أو دليلًا على ضحالته وضعفه، فما هي هذه الثمرات واللوازم؟ الواقع أنَّها كثيرة وهي مذكورة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في باب صفات المؤمنين، فما على المسلم إلّا أن يتلو تلك الآيات والأحاديث الشريفة، ويقف عند كل صفة وردت فيها ويتمعَّن في معناها، ويتأمَّل في مدلولها، ثم يرجع إلى نفسه ويتفحَّصها ويسبر مقدار ما فيها من معاني تلك الصفة، فإن وجدها فيه فليحمد الله تعالى، وإن لم يجدها أو وجدها هزيلة فليتدرك إيمانه، ويعيد النظر فيه ويقويه ويعمقه ويغذيه بالغذاء الإيماني الخاص، فإنه سيثمر إن شاء الله تعالى الثمر المطلوب، وتنصبغ نفسه بصبغة أهل الإيمان العميق، ويكفينا هنا أن نذكر بعض هذه الثمار الطيبة للإيمان العميق وبعض لوازمه؛ لأهميتها، ونترك غيرها لمقامٍ آخر إذا يسَّر الله تعالى ذلك.
أولًا: المحبة
536-
محبة العبد لربِّه ومحبة الرب لعبده من ثمرات الإيمان المنوَّه به في القرآن، قال تعالى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1، وهي ثمرات الإيمان العميق قطعًا، بل هي
1 سورة المائدة، الآية:54.
روح الإيمان ولبّه؛ لأنَّ الإيمان يقوم على المعرفة اليقينية بالرب جل جلاله كما قلنا، ومن عرف ربه أحبَّه، كما قال الحسن: وكلما قويت المعرفة ازداد عمق الإيمان، وازدادت محبة العبد لربه، وقوة المعرفة إنما تكون بالفكر الصافي في صفات الربِّ وعظمته ونعمائه، التي أعظمها هدايته للداعي المسلم إلى الإيمان به {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 1، وحب المسلم لربه تعالى يمتدُّ إلى ما يحبه المحبوب جل جلاله؛ ولهذا يحب المسلم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حبيب الله ورسوله إلى الناس، ومبلغهم الإسلام، وكذلك يحب المسلم القرآن وتعاليم الإسلام؛ لأنَّها رسالة الله، ويحب المؤمنين؛ لأنهم عباد الله المطيعين الذين يقومون بعبادة مولاهم، وحب المسلم لله وما تعلّق به يترك أثرًا طيبًا حلوًا في نفس المسلم، يحس بحلاوته وطيبه، قال صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار، وأن يحب المرء لا يحبه إلّا الله"، فحب العبد لربه يستلزم هذه الأمور قطعًا، ولا يمكن أن تتخلف عنه، وقد يكون من المفيد أن أتبسَّط ولو قليلًا في لوازم محبة المسلم لربه جل جلاله، وأجعل هذه اللوازم في فقرات، زيادة في إيضاحها وإظهارها لعظيم أهميتها، فأقول:
لوازم محبة العبد لربه:
537-
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} 1، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2، فلوازم محبَّة المسلم لربه في ضوء هاتين الآيتين الكريمتين هي:
أولًا: أذلَّة على المؤمنين: فالمسلم رقيق رحيم شفيق على أخيه المسلم، والداعي وهو
1 سورة الأعراف، الآية:43.
2 سورة المائدة، الآية:54.
3 سورة آل عمران، الآية:31.
يدعو آخاه المسلم إلى ما يرضي الله، يستشعر هذه الشفقة والرحمة التي تصل إلى صورة الذلة المشروعة، وسنتكلم عن هذه فيما بعد، وهذه مثل قوله تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1.
ثانيًا: أعزَّة على الكافرين، وهذا مثل قوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} 2 لا يهين ولا يستكين ولا يشعر بصغار أمامهم ولا في غيبتهم، لا في ظاهره ولا في باطنه، فهو قويّ عليهم بقدر ما هو ليِّن على المؤمنين.
ثالثًا: يجاهدون في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله يعني: جهاد النفس الدائم حتى تستقيم وتثبت وتستمر على طاعة الله، وجهاد العدو حتى يخنس وينكف ضرره، وجهاد الدعوة إلى الله حتى يتمَّ التبليغ والتبيين ويتيسَّر للناس سبل الهداية، وهذا الجهاد المبذول من الداعي المسلم في دعوته إلى الله تعالى يظهر ويتميز بالانشغال التامّ في أمور الدعوة والافتكار بها، وتقليب وجوه الرأي في وسائلها، والحرص على نجاحها، وإيثارها على الولد والمال والنفس والراحة وحطام الدنيا كلها، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2.
رابعًا: لا يخافون لومة لائم، أي: لا يردُّهم عمَّا هم فيه من طاعة الله والدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردُّهم عن ذلك رادّ، ولا يصدُّهم عن ذلك صادّ، ولا يمنعهم منه لوم اللائمين ولا عذل العاذلين3.
خامسًا: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في هديه في جميع أحواله، بالإضافة إلى طاعة أمره، والابتعاد عمَّا نهى عنه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4، فهو قدوة الداعي إلى الله، يقتدي به في سيرته، في دعوته إلى الله خطوة خطوة {لَقَدْ
1-2 سورة الفتح، الآية:29.
3 سورة التوبة، الآية:24.
4 تفسير بن كثير ج2 ص70.
5 سورة الحشر، الآية:7.
كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1، وأنفع شيء للداعي المسلم أن يتفقَّه في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته في الدعوة إلى الله منذ أن بعثه الله إلى أن أختاره إلى جواره الكريم، ووجه هذا النفع للداعي أنَّ سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام هي ترجمة عمليّة للمنهج الرباني للدعوة إليه، الذي جاءت به آيات الله في قرآنه، وما من حالة قط يمرُّ بها الداعي إلى الله إلّا يجد مثيلها أو شبيهًا لها أو قريبًا منها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تصرَّف إزاءها سيد الدعاة إلى الله. إنَّ التفقه في السيرة النبوية إذا انضمَّ إلى التفقه في القرآن، لا سيما فيما يخصّ الدعوة إلى الله، يجعل الداعي على نور من ربه، وفرقان مبين يبيِّن له الصواب في الأمور المشتبهة والدقيقة، والذي يعين على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم استحضار شخصه الكريم في فكر الداعي، ومصاحبته مصاحبة روحية وجدانية، وتخيل مواقفه المختلفة، واستحضار صفاته الكريمة وعظيم شفقته على الأمَّة، فإنَّ هذا ونحوه سيزيد من محبة المسلم لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكلما ازدات محبته له ازداد تعلقه به ومتابعته له.
538-
ومن لوازم محبة الداعي المسلم لربه المستفادة من القرآن الكريم والسنة، وطبيعة المحبَّة، أمور أخرى منها:
أ- الولع بذكره تعالى في كل حين، فلا يفتر عنه لسان الداعي ولا يخلو منه قلبه، فمن أحبَّ شيئًا أكثر بالضرورة من ذكره وذكر ما يتعلق به، ومن هنا كان من علامات المحبيين الإكثار من تلاوة كتابه جل جلاله، فهو ربيع قلوبهم، وأنيسهم في وحدتهم، والنور الذي ينير صدورهم، وكذلك ذكر الله في كل حين، وفي كل مناسبة، ولهذا يستَحبّ للداعي المسلم أن يأخذ نفسه بأوراد الذكر التي وردت بها السنة النبوية يتلوها بعد صلاة الصبح وعند النوم، وعند الخروج والدخول، والأكل والشرب واللباس، والسفر والإقامة، وفي الأسحار.
ب- يأنس بمناجاة الله بالخلوة، فهو لا يستوحش منها ولا يضيق بها، بل يستغلها فرصة لهذه المناجاة.
جـ- يتنعَّم بطاعته ولا يستثقلها، فإن المُحِبَّ يتلذَّذ بخدمة محبوبه وينشط لها، ولهذا
1 سورة الأحزاب، الآية:21.
كانت الصلاة قُرَّة عينٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وراحة لنفسه الكريمة من تعب الدنيا، قال الجنيد رحمه الله: علامة المحبّ دوام النشاط في طاعة الله.
د- لا يتأسَّف على ما يفوته مما سوى الله عز وجل، ويعظم تأسُّفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله وعن القيام بخدمته وطاعته.
هـ- يؤثر ما يحبه الله على ما يحبه هو في ظاهره وباطنه، فإنَّ المحبَّ الصادق يؤثر دائمًا ما يحبه محبوبه، ولا يبالي بالمشاق والأتعاب في هذا الإيثار.
ز- يحب لقاء الله، لأنَّ المحب يحب لقاء الحبيب، وبالتالي فهو لا يكره الموت إذا جاء؛ لأنه مفتاح اللقاء وطريق الوصول إلى الله.
ح- الغيرة لله، وعلامتها الغضب إذا انتهكت محارم الله، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لربه إذا انتهكت محارمه، ومع هذه الغيرة حزن يصيب المسلم إذا رأى مخالفة المسلمين لشرع الله، روي أنَّ أحد الصحابة -وأظنُّه أبا الدرداء- دخل إلى بيته يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: دخلت المسجد فرأيت الناس لا يقيمون صلاتهم على النحو الذي شاهدته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: الخوف
539-
ومن ثمرات الإيمان العميق ولوازمه الخوف من الله، فإنَّ رأس الحكمة مخافة الله، ومن عرف الله خافه، ومن خاف الله لم يخف أحدًا من الناس، وخافه الناس.
وبيان ذلك أنَّ حقيقة الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع المؤلم في المستقبل، وسبب هذا الخوف العلم بالمفضي إلى وقوع هذا المؤلم في المستقبل، فالخوف من الله علم المسلم بما يفضي إليه عقابه، وهو عصيانه وعدم القيام بحقِّه تبارك وتعالى، ويزداد هذا الخوف كلما فَقِه المسلم عِظَم الجناية في مخالفة الربِّ تبارك وتعالى، وأنه جل جلاله لو أهلك العالمين لم يمنعه من ذلك مانع. وأعظم ما يقوي جانب الخوف في العبد تدبر آيات الوعيد في القرآن، فإنها حق وصدق، لا مبالغة فيها ولا تخييل، وإنَّ العباد مجزيُّون على أعمالهم حتى الذرة من الخير أو الشر يعملونها، فإذا حصل عنده هذا الإيمان العميق بأثر الذنوب ودقة الحساب، وتفرُّد الله بالحكم يوم الحساب، ومجهولية الخاتمة، انبعثت في القلب الخشية من الربِّ جل جلاله، وابتعد المسلم عن مفضيات
المكروه المؤلم، ثم لا تلبث هذه الخشية وحرقة الخوف أن تفيض من القلب على البدن، فلا يُرَى المؤمن إلّا وجلًا كالمصاب الحزين، لا يمزح ولا يهزل ولا يضحك إلّا تبسمًا، فإنَّ الحزين الخائف المشدوه لا يجد فرصة للهزل، وأن وجدها لا يستطيع ولا يقدر عليه، وللخوف أثره القطعي، فإنَّ من خاف من شيء هرب منه وابتعد عنه وأخذ الوقاية منه، ولهذا يفِرُّ من الأسد الهائج والنار المحرقة، والذنوب والمعاصي عقارب وحيات ومؤذيات ومحرقات لا بُدَّ أن يفِرَّ منها كل خائف من الله، ولا بد أن يغلبها بالطاعات.
إنَّ الداعي المسلم إذا ما استشعر خوف الله انكفَّ وانزجر عن المخالفات، واندفع إلى ما يقي نفسه من المؤذيات والمؤلمات في الآخرة، وعلى رأس الوقاية تقوى الله، وفي مقدمة تقوى الله الجهاد في سبيل الله، ومنه الدعوة إليه، وازداد بخشيته من ربه هدى ورحمة، قال تعالى:{هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} فالهدى والرحمة للخائف لا للآمن.
ثالثًا: الرجاء
540-
ومن ثمرات الإيمان العميق الرجاء وعدم القنوط من رحمة الله، ذلك أنَّ الله تعالى وَعَد عبادة المؤمنين بما وعدهم به في كتابه المجيد، ومنعهم من القنوط، والشان في صاحب الإيمان العميق أن يؤمن بهذا الوعد الصادق من الربِّ القادر الرحيم،
فيحمله هذا الرجاء على تحقيق أسبابه، وأسبابه هي طاعة الرب ومنها الدعوة إليه؛ لأنَّ حقيقة الرجاء ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب للنفس عند حصول أكثر أسبابه، فإن كان انتظاره مع فقد أسبابه كان حُمْقًا وغرورًا، فرجاء رحمة الله وتأييده ورضوانه يكون بتحصيل أسباب ذلك التي أخبرنا الرب بها، ووعد عليها الرحمة والتأييد والنصر والرضوان، فيندفع المسلم ذو الإيمان العميق إلى تحصيل هذه الأسباب جهد الإمكان بلا تسويف ولا تأخير، راجبًا من الله تعالى أن يوفقه إلى تصحيح هذه الأسباب، والاستمرار على تحصيلها وقبولها منه، إنَّ حالته حالة الذي نثر البذر في الأرض الخصبة الجيدة، وأوصل اليها الماء والسماد وظلَّ يتعهدها إلى وقت
الحصاد راجيًا الله تعالى أن يحفظ زرعه ويدفع عنه الآفة. والداعي المسلم في رجاءٍ دائم لا يقنط أبدًا؛ لأنه آمن بوعد الله للعالمين الداعين بالنصر والتأييد والثواب الجزيل، فهو مضمون النصر والتأييد من الرب الجليل.