المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

المطلب الثاني: خصاص النظام الاجتماعي في الإسلام

139-

والآن وقد بيّنَّا أساس النظام الاجتماعي في الإسلام وما ترتَّب على هذا الأساس، نبيِّن خصائص هذا النظام أو معالمه البارزة، والواقع في خصائصه مشتقة من أساسه أو قائمة عليه، وهي كثيرة، أهما في نظرنا: مراعاة الأخلاق، والالتزام بمعاني العدالة، والعناية بالأسرة، وتحديد مركز المرأة، وتحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع، ونتكلم عن هذه الخصائص أو المعالم بإيجاز:

ألًا: مراعاة الأخلاق

140-

قلنا فيما سبق: إنَّ للأخلاق منزلة رفعية جدًّا في الإسلام، ولها آثار ظاهرة في مختلف أنظمته، ومنها: النظام الاجتماعي، فهذا النظام يمتاز بحرصه الشديد على طهارة المجتمع ونظافته من القبائح والرذائل، فالزنى محرَّم وعقوبته الجلد والتغريب أو الرجم، والقذف -وهو رمي الغير بالزنى- محرَّمٌ وعقوبته الجلد لئلَّا تعتاد الألسنة على هذا القول البذيء فتألفه، وفي هذا تلويث للمجتمع وتسهيل لوقوع الفاحشة، ولهذا كان عقابه غليظًا، ولكنَّه عادل، ويتفق ورعاية الأخلاق الفاضلة، وبذاءة اللسان مثل السباب والشتم محظورة في الإسلام، وعقوبته التعزير، والقمار بأنواعه محرَّم في شرع الإسلام ولا يقره المجتمع الإسلامي، وشهادة الزرو من الكبائر في الإسلام، والتجسس والنميمة وكل ما يوقع العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع منكرات لا يقبلها النظام الاجتماعي في الإسلام، والمعاملات يجب أن تقوم على الطهر وحسن النية والأمانة، فلا يجوز الخداع والتضليل والغش والكذب في أية معاملة بين الناس، والمنكرات لا يجوز إقرارها في المجتمع أبدًا؛ لأنها كالجراثيم، إن بقيت انتشرت وصارت كالوباء، ولهذا يشدِّد الإسلام النكير على من يظهر هذه المنكرات أو يتكلم بها إذا جرَّه الشيطان، ويجعل إعلانها والتحدث بها جريمة ثانية، فقد جاء في الحديث: "أيها الناس، من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات فاستتر

ص: 108

فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد".

وفي النظام الاجتماعي الإسلامي جملة من الوسائل الوقائية التي تقي المجتمع من الأسواء والمنكرات، وتسد المنافذ والثغرات في وجه الشيطان، وهذه الوسائل لازمة ولا يجوز تجاوزها، فلا يجوز للمرأة أن تخلو برجلٍ غير زوجها أو من محارمها، وإذا خرجت من بيتها فيجب أن يكون لباسها شرعيًّا على النحو الذي سنفصِّله فيما بعد، ومن مظاهر مراعاة الأخلاق في النظام الاجتماعي الإسلامي التوادد والتراحم والتعاطف بين أفراده، فإن الإسلام دعا إليها، وقد شبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حال المؤمنين في التراحم بمثل عظيم، فقد جاء في الحديث:"مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى"، وفي حديث آخر:"الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وفي حديث آخر:"لا يرحم الله من لا يرحم الناس"، وفراغ القلب من معاني الرحمة علامة على شقوة الإنسان، جاء في الحديث:"لا تنزع الرحمة إلّا من شقي"، والشفقة على الصغار والأولاد من علامات عمارة القلب بالرحمة، جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعنده الأقرع بين حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم واحدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لا يرحم لا يُرْحَم"، وفي القرآن الكريم في وصف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ، فالتراحم بين المؤمنين من الصفات الأصلية فيهم، وتجعل المجتمع الإسلامي كالأسرة الواحدة، والحق أنَّ مجتمعًا يصل فيه التراحم إلى هذا الحد لَمُجَتَمَعٌ سعيد حقًّا.

ومع الرحمة تعاون نظيف على الخير، وأيد كريمة تمتد إلى كل محتاج؛ لأنَّ الإسلام دعا إلى التعاون، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وهذا التعاون المطلوب يشمل الأسرة والجيران والأصحاب والرفيق في السفر والمنقطع والغريب، واليتيم والمسكين وكل ذي حاجة في المجتمع الإسلامي، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ

ص: 109

بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وفي السنة النبوية جملة من الأحاديث في باب التعاون، منها:"من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، وفي الوصية بالجار المتضمنة إعانته ومساعدته:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، والتعاون المطلوب لا يقف عند حد إعانة المحتاجين والمعوزين، وإنما يتجاوزه إلى آفاق واسعة ومجالات مختلفة؛ لأنَّ دائرته أعمال الخير، وهي واسعة جدًّا، فالتعاون على تشييد مسجد، أو فتح مدرسة، أو إنشاء مستشفى، أو بناء قنطرة، أو طبع كتاب نافع يخدم الإسلام، والتعاون على إزالة منكر أو فساد أو ظلم أو صدٍّ عدوان، ونحو ذلك كله من التعاون المطلوب؛ لأنه تعاون على البر، ولا شكَّ أن شيوع التعاون بين أفراد المجتمع سيقضي على عوامل الأثَرَة والجفاء والحقد والقطيعة والبغضاء، ويعمِّر القلوب بالحب والود والشفقة، مما يجعل الحياة طيبة في هذا المجتمع الطيب؛ لأنَّها تقوم على الود والرحمة لا على البغض والقسوة.

ثانيًا: الالتزام بمعاني العدالة

141-

الالتزام بمعاني العدالة من أنواع الأخلاق الفاضلة، بل في ذروتها، وإنما أفردناها بالذكر لأهميتها ولتشعبها وتعدد مظاهرها، وبروزها في النظام الاجتماعي الإسلامي، ومما يدل على أهمية العدل في الإسلام ورود الآيات الكثيرة فيه، بالدعوة إليه بصورة عامَّة أو خاصَّة، فمن الآيات التي تأمر بالعدل بصورة عامَّة قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} ، {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} ، ومن الآيات التي أمرت بالعدل في مسائل معينة، العدل في القول:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ، والعدل في الكتاب:{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} ، والعدل في الحكم:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} ، والعدل في الكيل والوزن:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} ، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ، والحساب يوم القيامة يكون بالعدل، فلا تظلم نفس شيئًا، قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ

ص: 110

الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وإذا ضممنا إلى هذه الآيات الناهية عن الظلم تبيِّنَ لنا أهمية العدل في الإسلام، حتى يمكن أن يقال دون مبالغة بأنَّ الإسلام هو دين العدالة في كل شيء، إنَّ تأكيد الإسلام على معاني العدل وضرورة الالتزام به والنهي عن الظلم وضرورة تجنبه، تترتَّب عليه نتائج خطيرة، وذلك أنَّ المجتمع الذي يشيع فيه العدل يحسّ أفراده بالاطمئنان على حقوقهم؛ لأنَّ القانون يكون مع المحق وإن كان ضعيفًا، لا مع المبطل وإن كان قويًّا، وبعكس ذلك إذا شاع الظلم وندر العدل أحسّ الأفراد بالقلق الدائم على حقوقهم، وزال عنهم الاطمئنان والاستقرار، وكان ذلك إيذانًا بدمار هذا المجتمع، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أثر التفريط بالعدل، وكيف يؤدي بالأمة إلى الهلاك، فقد جاء في الحديث:"إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وتعليل هلاك الأمم بسبب الظلم أنَّ الظلم كالنار يحسّ بوطأتها المظلومون، فإذا شاع الظلم وغارت معاني العدل كثير الملظومون الذين لا يرون في هذ المجتمع حمايةً لهم ولا حفظًا لحقوقهم، وإما يرون فيه هضم حقوقهم، وهذا يجرّهم إلى عدم الاهتمام به وببقائه، وهذا قد يجرّهم حتى إلى المعاونة على هلاكه وإفنائه، وهذا بخلاف المجتمع العادل؛ حيث يحرص الأفراد على بقائه ورَدِّ الأعداء عنه؛ لأنهم يرونه كالبيت الذي يئويهم، فيكون هذا الحرب منهم عليه، وبذلك الجهد لبقائه سببًا لبقائه، ولهذا قيل: إن الدولة العادلة تبقى وإن كانت كافرة، وإن الدولة الظالمة تفنى وإن كانت مسلمة، ومن أجل هذا كله قد قام المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام على معاني العدل والالتزام به، فما كان هناك ظلم ولا محاباة ولا إجحاف، وإنما كان هناك العدل الصارم الذي يتساوى أمامه الشريف والوضيع.

والقانون الإسلامي الذي يخضع له الجميع الخليفة ومن عداه، وقد ترتَّب على ذلك أنَّ الضعيف كان معه المجتمع بكل قوته ما دام محقًّا، ولا يضيره ضعفه؛ لأنَّ قوة المجتمع والقانون معه، وكان القوي لا تغني عنه قوته ما دام مبطلًا؛ لأنَّ قوة المجتمع والقانون ضده، ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه يقول:"القوي منكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف منكم قوي حتى آخذ الحق له"، بل بلغت العدالة في المجتمع الإسلامي الأوَّل إلى حد الالتزام بالمساوة بين الخصوم في مجلس القضاء، حتى في نظرة

ص: 111

القاضي ونبرات صوته وكلامه، وفي قولٍ مأثور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لقاضيه أبي موسى الأشعري:"سوِّ بين الخصمين في مجلسك وإشارتك وإقبالك"، ولما كان العدل والالتزام به من مقومات النظام الاجتماعي الإسلامي، فإن أيَّة شفاعة أو جهد يبذل لتعطيل سريان العدالة أو للإنحراف بها عن مجراها المستقيم يُعتَبر مما لا يجوز في شرع الإسلام، ولهذا لما سرَقت المرأة المخزومية وأهمَّ الناس أمرها، سألوا أسامة بن زيد أن يستشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فعل ذلك غضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له:"أتشفع في حَدٍّ من حدود الله"؟! ثم خطب صلى الله عليه وسلم الناس وقال: "ما بال أقوام يشفعون في حَدٍّ من حدود الله، إنما أهلك الذين من قبلكم

" إلى آخر الحديث الذي ذكرناها قبل قليل.

ثالثًا: العناية بالأسرة

142-

الأسرة هي أساس كيان المجتمع؛ لأنَّ من مجموعها يتكوّن المجتمع، فهي بالنسبة له كالخلية لبدن الإنسان، ويترتَّب على ذلك أنَّ الأسرة إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع، ولهذا اعتنى النظام الاجتماعي الإسلامي بالأسرة عناية كبيرة تظهر في الأحكام الكثيرة بشأنها، وأكثر هذه الأحكام وردت بها آيات القرآن الكريم يتعبَّد المسلمون بتلاوتها في صلاتهم وفي خارج صلاتهم، فضلًا عن الأحاديث النبوية الكريمة الواردة في موضوع الأسرة، وليس من شأننا هنا أن نفصِّل القول في أحكام الأسرة، فهذا أمر يطول ولا تتسع له دراستنا ولا هو مطلوبنا، وإنما يكفينا أن نشير إلى معالم التنظيم الإسلامي في موضوع الأسرة، وهو من صميم النظام الاجتماعي في الإسلام.

أ: الزواج

143-

الزواج هو السبيل الطبيعي لتكوين الأسرة وبقاء الجنس البشري، وقد رغَّب فيه الإسلام وجعله من سننه، فقد جاء في الحديث الشريف:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغَضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"، والغرض من الزواج إيجاد النسل وتكوين الأسرة الصالحة، جاء في الحديث:"امرأة ولود أحب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".

ص: 112

ب: إجراءات الزواج

144-

وقد شرع الإسلام للزواج إجراءات معينة تشريفًا وتكريمًا لهذه العلاقة؛ علاقة الزواج، وأوّل هذه الإجراءات الخطبة، أي: طلب الرجل المرأة للزواج بالطرق المعروفة عند الناس، إذا كان من الجائز شرعًا أن يتزوجها، والغرض منها أن يعرف كلٌّ من الرجل والمرأة عن الآخر ما يجعله يقدم على النكاح أو يحجم عنه، ولهذا أباح الإسلام للخاطب أن يرى مخطوبته، ولكن لا يجوز الخلوة بها؛ لأنها لا تزال أجنبية عنه، والخلوة بالأجبنية حرام؛ لأن الخِطبة وعدٌ بالزواج وليس بعقد زواج، والمرغوب فيه في شرع الإسلام تخيُّر المرأة الصالحة، كما أن على المرأة أن تتخير الرجل الصالح، فإن صلاح الشخص وتقواه وخلقه أرجح في ميزان الشرع مما عدا ذلك من كثرة المال أو المنصب أو الجاه، وفي الحديث الشريف:"تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فأظفر بذات الدين تربت يداك"، والمرأة ذات الدِّين لها تأثير كبير جدًّا في صلاح الأسرة وتربية أبنائها على معاني الإسلام وحسن الأخلاق، ولذلك وجَّه أعداء الإسلام غارتهم على المرأة المسلمة لاستئصال ما في نفسها من معاني الخير والدين.

فإذا حصل الاتفاق أفرغ في عقد النكاح الشرعي القائم على الإيجاب والقبول، والمتضمِّن رضى الطرفين بحضور شهود عدول، تكريمًا لهذا العقد وتمييزًا له عن السفاح، ويستحب أن يكون المهر قليلًا لا كثيرًا؛ لأنه ليس ثمنًا للزوجة، ولكنه رمز التكريم للمرأة في عقد النكاح، وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على استحباب عدم المغالاة في المهر، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خير الصداق -أي المهر- أيسره"، "أخف النساء صداقًا أعظمهنَّ بركة"، والواقع أن شيوع عادة المغالاة في المهور يجعل الراغبين في الزواج قلة، ويبقى الكثيرون عازفين عنه لعدم قدرتهم عليه، وهذا العزوف عن الزواج يجرُّ إلى مفاسد لا تخفى، والحقيقة أنَّ الإسلام بسَّط إجراءات النكاح وسهَّل الوصول إليه، فعقد النكاح يتمّ بإيجاب وقبولٍ كما قلنا، ولا يشترط له إجراءات شكلية معينة ولا تراتيل دينية ولا لغة معينة ولا مكان معين، وإنما يشترط له مع الإيجاب والقبول موافقة ولي المرأة؛ لأن عقد النكاح لا يهمّ المرأة وحدها، بل يهمّ وليها وعائلتها، والضرر الذي يحلقها بسبب سوء اختيارها ينسحب إلى عائلتها

ص: 113

وعلى رأسهم وليها كالأب والأخ، فمن العدل أن يكون للولي رأي مسموع في زواجها، كما يشترط حضور الشهود عند عقد النكاح؛ لكي يُعْرَف العقد ويشيع، وتحفظ حقوق المرأة، ويثبت مركزها القانوني كزوجة، وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات، كما يشترط شرط آخر لصحة النكاح، وهو أن لا تكون المرأة محرَّمة على الرجل؛ كالأخت والخالة وسائر المحرمات.

ج- حقوق الزوجة:

145-

ويترتب على عقد النكاح حقوق معينة للزوجة، منها: المهر، وهو حق خالص لها دون ذويها، ولا تكلف أن تشتري به جهازًا لها إلّا إذا رغبت هي؛ لأن تجهيز بيت الزوجية بما يلزمه من أثاث وفراش ونحوه من واجبات الزوج لا الزوجة، كما يترتَّب على عقد النكاح حق النفقة للزوجة على زوجها؛ لأنها متفرِّغة لشئون البيت وتربية الأطفال، فكان من العدل أن يقوم الزوج بالنفقة عليها؛ لأن كل واجب يقابله حق، وفي الحديث الشريف:"ولهن عليكم رزقهنَّ وكسوتهن بالمعروف"، وحق النفقة يبقى للزوجة ما دامت قائمة بواجباتها نحو زوجها، فلو خرجت على طاعته وتركت بيت الزوجية عُدَّت ناشز وسقطت نفقتها عنه مدة نشوزها، فإذا عادت عادت النفقة لها، وللزوجة على زوجها حق المعاملة بالحسنى، قال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وفي الحديث الشريف:"خيركم خيركم لأهله"، والإسلام يوصي بالصبر على المرأة، فلا ينبغي للزوج أن يتعجَّل إذا رأى منها ما يكره، قال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} .

د- حقوق الزوج:

146-

وكما للزوجة حقوق على زوجها فإنَّ له حقوقًا عليها، فالحقوق متقابلة بين الطرفين، فمن حقوقه طاعته بالمعروف؛ لأن القوامة له، قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، وقوامة الرجل على زوجته شيء طبيعي جدًّا ومقعول ولا بُدَّ منه؛ لأنَّ الحياة الزوجية شركة خطيرة، وكل شركة لا بُدَّ فيها من رئيس، فيكف بالعلاقة الزوجية التي تخص

ص: 114

أخطر علاقات الإنسان بغيره؟ إنَّ هذه العلاقة الكريمة والشركة الخطيرة لا بُدَّ لها من رئيسٍ يطاع في موضع الخلاف حتى تبقى قائمة بلا انفصام، والرجل أحق بهذه القوامة من المرأة، وهذا ما قرره الإسلام ويشهد له الواقع ويطبقه البشر، وإن جادل بعضهم فيه، ثم إنَّ هذه القوامة لا غضاضة فيها على المرأة؛ لأنها خالية من الاستعلاء والتسلط والأهواء والتعسُّف وإرادة الشر؛ لأن الزوج يحرص على الخير لزوجته، ولا يريد برياسته عليها استعلاء ولا تكبرًا ولا تسلطًا ولا تعسفًا في استعمال قوامته عليها، وفضلًا عن ذلك كله فإنَّ علاقته بزوجته مبنية على المودة والرحمة، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، فقوامة الرجل على المرأة قائمة على المودَّة والرحمة اللتين غرسهما الله تعالى في قلبيهما، فلا يتصور فيها ما يضايق المرأة ويجرح كرامتها، إنَّ الإنسان يطيع باختياره وبكل سرور صديقه المخلص المحب له، بل ويفرح إذا صار رئيسًا له في دائرة من دوائر الدولة، فيكف الحال برئاسة الزوج وقوامته على زوجته، وما بينه وبين زوجته من المودَّة والرحمة والإخلاص، والحرص على ما ينفع الطرفين ما لا نسبة بينه وما بين صديقين مخلصين، إنَّ بعض الناس يسارعون وينكرون حق الزوج في القوامة عى زوجته، ويوغرون المرأة على التمرّد على هذه القوامة التي يسمونها عبودية، وهذا الاتجاه من هذا البعض لا يجوز في شرع الله، وقد يكون كفرًا إذا أصرَّ عليه الإنسان؛ لأنه مصادمة لنصوص الشريعة، كما أنَّه يدل على جهالة صاحبه أو هواه أو إرادته السوء والشر بالمرأة، أو رغبته في تفكيك الأسرة وإشاعة الفوضى فيها، كل هذه الأمور نتائج لازمة للدعوة إلى تمرد المرأة على قوامة الزوج، فيجب أن تمنع كما يمنع أي شيء ضارّ، وأن تبصر المرأة المسلمة بضلال هذا القول وضرره. وقد يكون من النافع أن نذكر لهذا البعض من الناس أن مكلة الإنكليز عندما تزوَّجت سألها الكاهن قبل أن يجري الطقوس الدينية لعقد النكاح، سألها: هل تطيعين زوجك؟ قالت: نعم، ومن هذا كله يتضح لكل منصفٍ أنَّ قوامة الزوج على زوجته هو ما جاء به الشرع ويقرّه العقل السليم ويطبقه البشر، فعلى المرأة المسلمة والمدركة لمصلحتها أن تطيع زوجها في المعروف، فإن أمرها بمعصية وجب عليها أن تعصيه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ص: 115

ومن حقوق الزوج على زوجته أن لا تخونه في شيء، وأن تعاونه؛ لأنها شريكة حياته، وأن تقوم بتربية أولاده وهم أولادها أيضًا، وهي أقدر على هذه المهمة الخطيرة من غيرها، بل لا يسد مسدَّها أحد في هذه التربية، فليس أحد يملك مثل حنانها وعاطفتها على أولادها، فإذا ما قامت بمهمتها هذه ساهمت في تنشئة جيل سليم، وكان عملها هذا أفضل من أيِّ عمل آخر تقوم به خارج بيتها.

هـ- تعدد الزوجات:

147-

ومن حق الزوج أن يتزوَّج أكثر من واحدة إلى حد أربع زوجات، وهذا ما نطق به القرآن وثبت بالسُّنة وذكره الفقهاء جميعًا، ولم يخالف فيه أحد من المسلمين، ففي القرآن:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، والمقصود بالعدل هنا العدل بين الزوجات في النفقات ونحوها مما يمكن فيه العدل،

وتعدد الزوجات ليس واجبًا ولا مندوبًا، وإنما هو مباح، والمباح يجوز فعله وتركه، فهو خاضع لتقدير الشخص نفسه، فإن رأى المصلحه فيه فعله، وإلّا تركه، ولا تثريب عليه في الحالين، ولا داعي لإقحام القاضي أو غيره لتقدير مدى الحاجة أو المصلحة في التعدد؛ لأنَّ هذه المسألة خاصَّة بالإنسان، والأصل في كل إنسان عاقل أنه أحرص من غيره على تقدير ما يصلح له لا سيما في مسألة الزواج؛ حيث تترتب على الزوج تبعات ثقيلة مالية وغير مالية، فهو لا يقدم على التعدد إلّا إذا وجد الحاجة داعية إلى ذلك، ولا نستطيع هنا أن نحصر مبررات التعدد التي تدفع الرجل إليه، وإنما نذكر منها على سبيل التمثيل: عقم الزوجة وتطلُّع الزوج للذرية، ومرض الزوجة وعدم صلاحيتها للقيام بمهام الزوجية، ونبل الزوج إلى غير ذلك من الدوافع النبيلة للتعدد، وفي التعدد علاج حاسم لمشكلة اجتماعية خطيرة تتعرَّض له المجتمعات البشرية في أعقاب الحروب، بل حتى في الأوقات العادية، وهي كثرة عدد النساء وقلة عدد الرجال، وهذه المشكلة لا يمكن حلها بصورة شريفة وناجحة إلا بإباحة التعدد شرعًا، وإلّا حلت نفسها عن طريق السفاح والعلاقات غير المشروعة، ولا شكَّ أن كل امرأة عاقلة تفضِّل أن تكون زوجة ثانية ولا تكون عشيقة لرجل، وعلى هذا فما يقوله البعض من

ص: 116

اعتراضٍ على مبدأ التعدد، إنما هو قول متهافت في نفسه هزيل في حجته، مخالف لشرع الإسلام، وقد يكون من المفيد أن أبيِّن هنا أنَّ بعض الفقهاء ذهب إلى أنَّ للمرأة أن تشترط على زوجها في عقد النكاح عدم الزواج عليها، وإذا تزوَّج فمن حقها أن تطلق نفسها منه، يمكن الأخذ بهذا الرأي الفقهي الاجتهادي؛ لأن المسلمين عند شروطهم.

و الطلاق:

148-

ومن حق الزوج أن يطلق زوجته، والطلاق في الأصل غير مرغوب فيه في نظر الشريعة الإسلامية، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، وعلى هذا فلا ينبغي للمسلم أن يقدِمَ عليه بدون مبرِّر مقبول.

وقد ذهب بعض الجهَّال إلى الاعتراض على مبدأ الطلاق، وطالبوا بإلغائه، وكثيرًا ما نسمع شيئًا من هذا اللغو أو نقرؤه في صحيفة أو كتاب، والواقع أنَّ هذا القول لا يصدر إلّا عن جاهل أو معاندٍ لشرع الإسلام، فإنَّ الطلاق في الإسلام من محاسن الشريعة وواقعيتها، وهو بمثابة العلاج الذي تقدمه الشريعة؛ حيث لا ينفع غيره، ولا عيب في تحضير العلاج استعدادًا لحالات الطوارئ والمرض، وخلاصة القول في مسألة الطلاق وحكمته: إنَّ الإسلام يرغِّب في إبقاء الرابطة الزوجية وإدامتها على المودة والوئام لتحقق أغراضها المرسومة لها، وفي سبيل ذلك سهَّل الإسلام إجراءات النكاح، وشرَّع فيها الخطبة، وأباح رؤية المخطوبة؛ لضمان بقاء الرابطة، وندَب الزوج إلى الصبر على المرأة إذا رأى منها ما يكرهه كما بينَّا، وبيِّن الإسلام أن من الفضل للزوج أن يكون حسن الأخلاق مع زوجته، ومع هذا فإن الإسلام لا يغفل عن الواقع، فقد ينشب الخلاف بين الزوجين مما يؤدي إلى الطلاق، ولعلاج هذه الحالة قرر الإسلام ما يأتي:

أولًا: شكك الإسلام الزوج في وجدانه إذا أحسَّ بكره زوجته وذكره باحتمال خطئه وتسرعه، قال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} .

ثانيًا: إذا استمرَّت الزوجة في مشاكساتها ومخالفاتها فللزوج أن يؤدبها عن طريق

ص: 117

الوعظ والنصيحة والهجر في المضاجع والضرب غير المبرّح، قال تعالى:{وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} .

ثالثًا: إذا استشرى الخلاف وجب اللجوء إلى التحكيم، بأن يختار الزوج حكمًا من أهله، وتختار الزوجة حكمًا من أهلها، فيجتمعان وينظران في الخلاف بين الزوجين وأسبابه، ويعملان على إزالته، وكثيرًا ما ينجح هذ التحكيم؛ لأن كلًّا من الحكمين حريص على حسم الخلاف لمصلحتها في حسمه، كما أنهما -لعلاقتهما العائلية- يمكنهما الوقوف على أسباب الخلاف، ولا شكَّ أن معرفة الأسباب الحقيقية تسهِّل معالجتها.

قال تعالى في التحكيم بين الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} .

رابعًا: إذا لم ينفع التحكيم واستمرَّ الخلاف وأراد الزوج الفراق، فعليه أن يسلك فيه مسلكًا يقيه شرَّ العجلة والتسرّع والغضب، فأوجب عليه الإسلام أن يوقع الطلاق بالكيفية الآتية:

أ- أن يطلقها وهي طاهرة غير حائض، ولم يكن قد مسها في طهرها هذا، والحكمة في ذلك أنَّ الزوج إذا طلقها في هذه الحالة فإنَّ ذلك يعني أنَّ نفسه راغبة عنها، وأن هناك من الأسباب القوية ما يحمله على فراقها إلى درجة أنَّه امتنع عن مسها قبل طلاقها.

ب- ومع هذا فإنَّ الشرع الإسلامي احتاط احتياطًا آخر، فقد يكون الزوج لم يقدِّر المسألة حقَّ قدرها، وتسرَّع في تصميمه على الطلاق، ولهذا أوجب عليه أن يطلقها طلقة واحدة، هي التي تسمى في الاصطلاح الشرعي بالطلقة الرجعية، ويكون له في هذا الطلاق الرجعي الحقّ في إرجاع زوجته خلال مدة العدة، وهي عدة تمتد إلى ما يقرب من ثلاثة أشهر، فإذا فكَّر بهدوء فقد يظهر له أنَّه قد تسرَّع في طلاقه، وقد يحمله تفكيره الهادئ إلى ترجيح إبقاء الرابطة الزوجية على قطعها، وإن كان هناك ما يبرر قطعها إيثارًا لمصلحة أولاده الصغار من الضياع، ولهذا أعطاه الشرع الإسلامي الحق في إرجاع زوجته خلال مدة العدة كما قلنا، وقد يكون هذا الطلاق نذيرًا للمرأة، فلا تعود لما أدَّى إليه.

ص: 118

ج- فإذا انتهت مدة العدَّة ولم يراجعها الزوج، ثم أسف الزوج على ما وقع، وأراد إرجاع زوجته، ففي هذه الحالة يشترط أن ترضى الزوجة بالرجوع، وأن يتمَّ ذلك بعقد نكاح جديد ومهر جديد.

د- فإذا كرَّر الزوج الطلاق مرَّتين بالكيفية التي بينَّاها، ثم طلقها المرة الثالثة، ففي هذه الحالة لا يمكنه إعادتها إليه إلّا بشروط ثقيلة، هي: أن تنتهي عدتها، ثم تنكح زوجًا غيره نكاحًا حقيقيًّا لا صوريًّا، ثم يفارقها هذا الزوج بموتٍ أو طلاق، ثم تنتهي عدتها من هذه الفرقة، ثم تعقد عقد نكاح جديد مع مطلقها الأول برضى تامّ منهما وبمهر جديد.

149-

هذه هي إجراءات الشرع الإسلامي لمنع وقوع الطلاق، أو لمنع إساءة استعماله بدون رويِّة وتأمّل، فإذا لم تنفع كل هذه الإجراءات الطويلة لمنع أو إزالة أسباب الطلاق، فإنَّ وقوعه هو الحلّ الوحيد لفضِّ النزاع، وإنهاء هذه الرابطة التي لم تعد مبعث ارتياح واستقرار، وإنَّما أصبحت مبعث شر وخصام، ولإفساح المجال لكلٍّ من الزوجين ليجرِّب حظه في زواج آخر.

وقد يقال هنا: ما الحكمة في إعطاء الزوج حق الطلاق دون الزوجة؟ والجواب: إنَّ الرجل عادةً أكثر سيطرة على عواطفه من المرأة؛ ولأنَّ الطلاق يحمِّله أعباء مالية كثيرة قد تدفعه إلى الرويِّة وعدم الاستعجال، ومن هذه الأعباء: المهر المؤجَّل، ونفقة العدة، ونفقة الأولاد، ومع هذا فيجوز للمرأة أن تشترط لنفسها في عقد النكاح حقَّ الطلاق، فتطلق نفسها منه بموجب هذا الشرط. كما أنَّ للمرأة أن تطلب من القاضي أن يفرِّق بينها وبين زوجها إذا أصابها من الزوج ضرر يبرّر حل الرابطة الزوجية.

ومن هذا العرض السريع الموجز لبيان نظام الطلاق في الإسلام يتبيِّن لكل منصفٍ أنه نظام كامل يعتَبَر من محاسن الشريعة الإسلامية؛ إذ ليس من المنطق ولا المصلحة إبقاء الرابطة الزوجية بعد أن ظهر عدم الفائدة من بقائها، أو ظهر أنَّ بقاءها مضر، ولهذا نجد الدول الغربية تقرر جواز الطلاق المدني؛ لأن الكنائس لا تجيزه، وحتى إيطاليا التي كانت إلى عهد قريب تأخذ بالتفريق الجسماني بين الزوجين عند وجود أسبابه، ومعناه أنَّ الزوجين يعيشان منفردين، ولكن يعتبر كلّ منهما زوجًا للآخر بحكم القانون، ولا يحق لأحدهما الزواج؛ لأن الرابطة الزوجية تعتبر باقية قانونًا، إلّا

ص: 119

أنها أجازت أخيرًا الطلاق بموجب القوانين التي شرَّعتها.

وقد يقال هنا أيضًا: لماذ لا يشترط إذن القاضي لصحة وقوع الطلاق؟ والجواب: لا فائدة ولا مصلحة في هذا الإذن؛ لأنَّ هناك من الأسرار الزوجية ما لا يحسن كشفه أمام القاضي، فمن الخير ومصلحة الزوجة أن يبقي هذه الأسرار مكتومة غير مفضوحة، ولهذا لم يشترط أحد من الفقهاء أخذ إذن القاضي لصحة وقوع الطلاق، وما قرَّره الفقهاء هو الصواب الذي لا يجوز غيره.

حقوق الصغار في الأسرة:

150-

ثمرة النكاح إنجاب الذرية وإيجاد النسل، ولهم حقوق مقرَّرَة على أبويهم، منها: ثبوت النسب وما يترتَّب عليها من حقوق، والإنفاق عليهم من قِبَل الأب لا الأم، كما يجب على الأم إرضاعهم، قال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وإذا وقعت الفرقة بين الزوجين فإنَّ حق حضانة الصغار وتربيتهم يكون للأم حتى يبلغوا السنّ التي يستغنون فيها عن حضانة الأم، فيأخذهم الأب لإكمال تربيتهم وحفظهم، وسنّ الحضانة تقدَّر ببلوغ سبع سنين بالنسبة للأولاد الذكور، وتسع سنين بالنسبة للإناث.

حقوق الأبوين على أولادهما:

151-

الأبوان سبب وجود الولد وتحمَّلا الشيء الكثير في تربيته، فمن الوفاء لهما القيام بحقوقهما، وعدم التفريط بها، ولهذا عظمت الوصية بهما، وقرن الله تعالى برهما بعبادته، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .

التضامن بين أفراد الأسرة:

152-

يقوم بين أفراد الأسرة ودّ ورحمة وشفقة جبلية فطرية، وقد عزَّزها الإسلام بتشريعات كثيرة تحقق التضامن والتعاون والتكافل فيما بينهم، ومن هذه

ص: 120

التشريعات ما هو ملزم يخضع لحكم القضاء، ومنها ما هو ملزم ولكن لا يخضع لحكم القضاء، فمن الأولى وجوب النفقة لمستحقيها على القادر عليها من أفراد الأسرة، فنفقة الزوجة على زوجها، ونفقة الصغار على أبيهم، نفقة الأب الفقير على أولاده القادرين على الإنفاق، وهكذا القول في بقية نفقات أفراد الأسرة، تخضع لسلطان القضاء، ويجري فيها الحكم والإلزام إذا ما توافرت شروطها، ومن أمثلة ما هو ملزم ولكن لا يخضع لسلطان القضاء حسن المعاملة بين أفراد الأسرة، فهو واجب ولكن لا يخضع لإلزام القاضي، وإنما يترك لديانة وتقوى عضو الأسرة.

ويقابل واجب الإنفاق بين أعضاء الأسرة حق الميراث لهم؛ لأن الغرم بالغنم، ومن أسباب الميراث: الزوجية والقرابة، وقد حدَّد الإسلام أنصبة الورثة، وأقام هذا التحديد على أساس العدل الدقيق الذي قد لا يتفطَّن إليه بعض الناس، مثل: جعل حصة الابن ضعف حصة البنت، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ؛ لأنَّ الأنثى مكفية المئونة، فهي إن لم يكن لها مال فنفقتها قَبْل الزواج على أبيها إلى أن تتزوج، ولا تكلف بالاكتساب، وإذا تزوَّجت فنفقتها على زوجها، وهي لا تدفع مهرًا في الزواج، ولا تلزم بالإنفاق على أولادها، أمَّا الذكر فإنه إذا بلغ وقدر على الاكتساب فنفقته على نفسه، وإذا تزوَّج فهو يدفع المهر ويتحمّل نفقة زوجته وأولاده الصغار، فالتكاليف المالية على الرجل أكثر بكثير من تكاليف المرأة، فمن العدل إذن أن يأخذ أكثر منها في الميراث.

والميراث يقوم على أساس من الفطرة ورغبة الإنسان، فإن كل شخص لا يكتسب المال لسدِّ حاجة نفسه فقط، بل لكفاية غيره أيضًا من أفراد أسرته؛ كأولاده مثلًا، فإيصال ثمرة أتعابه بعد موته إلى هؤلاء يدفعه إلى المزيد من السعي؛ لأنه يتفق ورغبته وإرادته، وفي الميراث فوائد وحِكَم، منها: توفير شيء للورثة يستعينون به في حياتهم، ويستغنون به عن سؤال الناس، كما أن في الميراث تفيتيًا للثروة وتوزيعها في عدد كبير من الأفراد، وبهذا تتداول الأمول ولا تتكدَّس بأيدي قليلة.

ومن صور التضامن داخل الأسرة الولاية على النفس والولاية على المال، فأما الولاية على النفس فيدخل فيها حضانة الصغير عند أمه إلى سنٍّ معينة كما ذكرنا من قبل، ثم ضمّه إلى من له الولاية على النفس كالأب والجد، فيتمّ تربيته وحفظه

ص: 121

وتقويمه، ومَثَل الصغير في خضوعه للولاية على النفس المجنون والمعتوه، فإذا بلغ الصغير عاقلًا، أو أفاق المجنون، وزال عته المعتوه، زالت عنه الولاية على النفس، وصار له الحق في الذهاب حيث يشاء، إلّا أنَّ الصغيرة إذا بلغت فإن الولاية تستمر عليها، ويستمر وليها بالمحافظة عليها ورعايتها حتى تتزوّج، ولمَّا كانت الولاية على النفس تتضمَّن الحفظ والرعاية والتربية والتوجيه، وكلها لمصلحة الصغير أو الصغيرة، فقد ذكر الفقهاء الشروط الواجب توافرها في الوليّ، فقالوا: يشترط فيه أن يكون بالغًا عاقلًا أمينًا قادرًا على القيام بمهام الولاية، يتفق دينه مع دين المولى عليه.

أما الولاية على المال: فهذه تثبت على الصغير في ماله، وعلى من هو في حكم الصغير كالمجنون والمعتوه، وتثبت هذه الولاية للأب والجد وغيرهما على التفصيل المذكور في كتب الفقه، وقد شرعت هذه الولاية لمصلحة الصغير ومَن في حكمه، ولهذا يشترط في الولي الأمانة والقدرة على حفظ مال الصغير وتنميته، وتبقى هذه الولاية ما دام سببها قائمًا، فإذا زال زالت، كما لو بلغ الصغير عاقلًا وكان رشيدًا، أي: قادرًا على تثمير ماله والتصرف به تصرفًا حسنًا، فإن الولاية تزول عليه، قال تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، وكذلك تزول الولاية على المجنون إذا عقل وكان رشيدًا.

ويجب على الأولياء أن يتصرَّفوا في أموال المولى عليهم على وجه المصلحة لهم، وعلى هذا لا يجوز لهم هبة أموالهم أو تبذيرها.

رابعًا: تحديد مركز المرأة في المجتمع

153-

والخصيصة الرابعة من خصائص النظام الاجتماعي الإسلامي تحديده مركز المرأة في المجتمع دقيقًا واضحًا صريحًا مفصَّلًا، حتى لا تدخل الأهواء في هذه المسألة الخطيرة جدًّا، وحتى تتحقق للمجتمع طهارته ونظافته وعفَّته واستقامته، وتنشأ فيه الأجيال القوية الأمينة، فيبقى المجتمع على صلاحه واستقامته ويسعد أفراده، وقد تناول القرآن الكريم بآيات كثيرة شئون المرأة وتحديد مركزها الاجتماعي، وما لها وما عليها، وكذلك فعلت السنة النبوية، ولا شَكَّ أنَّ معالجة موضع المرأة في القرآن بآيات كثيرة، وفي السنة بأحاديث كثيرة، يدل دلالة قاطعة على

ص: 122

أهمية هذا الموضوع وعظيم عناية الإسلام به. والواقع أنَّ حالة المرأة في المجتمع ومدى ما لها وما عليها من الحقوق والواجبات، ونوع الضوابط التي تحكم سلوكها، كل ذلك كان ولا يزال من أعظم المؤثِّرات في سير المجتمع، وفي مدى صلاحه وفساده، ولهذا كله فقد أولى الإسلام مسألة المرأة كل ما تستحق من عنايةٍ وتوضيح حتى تستبين الأمور، ويعرف الناس المسلك السديد في معالجة هذه المسألة على الوجه الصحيح.

ونحن في هذا البحث لا نريد الإحاطة بكل جزئيات الموضوع، وإنما نريد ذكر النقاط البارزة فيه على وجهٍ يعطي فكرة جيدة عن مركز المرأة في المجتمع في نظر الإسلام.

مركز المرأة في المجتمع قبل الإسلام:

154-

من المفيد أن نذكر شيئًا عن مركز المرأة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام؛ لترى مدة الإصلاح العظيم الذي جاء به الإسلام في هذا الموضوع، ثم نعرف المعايب والأخطاء والأباطيل التي كان عليها الناس قبل الإسلام في مسألة المرأة، حتى لا يقع المجتمع الإسلامي فيها، وقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية"؛ لأنه إذا لم نعرف قبائح الجاهلية لم نتوقها، وربما خالطناها أو وقعنا فيها.

والمجتمعات غير العربية قبل الإ سلام، أو التي لم تهتد بهديه بعد بزوغ شمسه، لم تكن أحسن حالًا من المجتمعات العربية الجاهلية.

ونذكر فيما يلي بعض الأوضاع التي كانت عليها المرأة في المجتمعات الجاهلية العربية وغير العربية:

أولًا: كان العرب قبل الإسلام ينظرون إلى المرأة نظرة احتقار وامتهان، ويحزنون لولادة الأنثى، وقد بيِّنَ القرآن الكريم هذه الحالة النفسية التي كانت تنتابهم، فقال تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، حتى آلَ الأمر ببعضهم إلى وأد البنات وهي في قيد الحياة، قال تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} .

ص: 123

ثانيًا: ما كانت المرأة ترث؛ لأنَّ الأرث عند عرب الجاهلية كان محصورًا بالرجال.

ثالثًا: كانت كثيرًا ما تخضع للتعسّف والظلم، فإذا مات الرجل وترك زوجة وأولادًا من غيرها، فللابن الحق في تزويجها ولو كانت كاهرة، كما كان له أن يمنعها من التزوج.

وللزوّج أن يطلقها ما شاء من الطلقات ويراجعها قبل أن تنتهي عدتها، وهكذا يجعلها كالمعلقة، لا هي مطلقة فتذهب إلى حال سبيلها، ولا هي بالزوجة التي تمتَّع بحقوق الزوجية.

رابعًا والأقوام الجاهلية الأخرى ما كانت أحسن حالًا من عرب الجاهلية، فقد وقع الاختلاف في أوربا حول المرأة من جهة مساواتها مع الرجل في تلقِّي الدِّين والقيام بالعبادة واستحقاق الجنة في الآخرة، حتى إنَّ بعض المجامع الكنسية في روما قرَّرت أنَّها حيوان نجس لا روح له ولا خلود1.

خامسًا: وفي القانون الروماني: للزوج الحق -في الزواج مع السيادة- أن يبيع زوجته، وأن يأخذ ما يكون عندها من أموال.

سادسًا: ما كانت هناك قيود على الآداب تلتزم بها المرأة، بل كان التحلُّل عن هذه القيود هو الشائع في المجتمعات الجاهلية، العربية منها وغير العربية، وقد أشار القرآن الكريم إلى شيء من هذا التحلّل، قال تعالى:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} ، ومن معاني تبرُّج الجاهلية الأولى خروج المرأة مكشوفة الرأس والصَّدر والعنق تخالط الرجال وهي بهذه الحالة، وتتغنج في مشيتها بينهم، وهكذا ذكر أهل التفسير بصدد هذه الآية الكريمة.

مركز المرأة في المجتمع الإسلامي:

155-

يعرف مركز المرأة في النظام الاجتماعي الإسلامي بمعرفة الحقوق التي لها والواجبات التي عليها، والوظيفة التي اختُصَّت بها، والآداب التي تلتزم بها، فلا بُدَّ من

1 الوحي المحمدي للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، ص320، طبع المكتب الإسلامي.

ص: 124

بيان هذه الأمور الأربعة المكونة لمركز المرأة في المجتمع الإسلامي.

أولًا: حقوق المرأة

156-

القاعدة في حقوق المرأة أنَّها فيها كالرجل، إلّا فيما يختلفان فيه من استعدادٍ وكفاية وقدرةٍ على مناط هذه الحقوق، وبشرط أن لا تعارض هذه الحقوق ما عليها من واجبات، وعلى هذه القاعدة تتمتَّع المرأة بالحقوق التالية:

أ- تتمتَّع بحق الحياة؛ لأنها نفس معصومة كالرجل؛ ولهذا حرَّم الإسلام وأد البنت، وأوجب القصاص في قتلها عمدًا كما هو الحكم بالنسبة للرجل.

ب- هي أهل للتكريم؛ لأنها إنسان، والله تعالى يقول:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} .

ج- لها حق اكتساب الأموال بالطرق المشروعة؛ لأنَّ لها ذمة صالحة لاكتساب الحقوق المالية وغير المالية، فهي فيه كالرجل. ومن أسباب اكتساب الأموال: الميراث، وقد أثبته الشرع الإسلامي لها بعد أن حرمها الجاهليون منه، قال تعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} ، ولها حق التصرف بأموالها كما تشاء، دون حاجة إلى إذن أحد ما دامت عاقلة رشيدة.

د- لها حق المهر في عقد النكاح، قال تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ، وحق النفقة على الزوج:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وحق النفقة على أولادها باعتبارها أمًّا.

هـ- حق الحضانة على أولادها الصغار إذا وقعت الفرقة بينها وبين زوجها.

و لها حق تعلّم العلوم النافعة لها بالكيفية المناسبة لطبيعتها، وبشرط الالتزام التامّ بالآداب الإسلامية اللازمة لها، وأعظم ما ينفعها تعلّم شريعة الإسلام وما فيها من حلال وحرام، أمَّا العلوم الدنيوية فهي مباحة، فإذا شاءت المرأة أن تتعلّم منها شيئًا فلا بأس، ولكن بالشرط الذي قدمناه وهو الالتزام بالآداب، وبالكيفية المناسبة لها، والمحافظة على عفتها، كما ينبغي أن تتعلم ما يلائم طبيعتها ويقوي اختصاصها الفطري في تربية الأولاد ورعاية البيت، فتتعلّم فنون الخياطة والطبخ وأصول تربية الولد ونحو ذلك، فإذا أرادت المزيد من المعرفة فلا بأس، بشرط أن لا تؤثر في قيامها بواجباتها

ص: 125

المطلوبة منها كزوجة أو أمّ، وبشرط أن يكون التعلُّم بالكيفية المشروعة، فلا يجوز اختلاطها بالشباب بحُجَّة التعلُّم، ولا تكشفها أمام الرجال، أو ظهورها بالمحرَّم من اللباس، فكل هذا وأمثاله حرام لا يباح ولا يجوز ولو بحجة طلب العلم.

ز- أمَّا الحقوق السياسية، ومنها الاشتغال بالأمور العامة، والانتخابات، فالمسألة فيها شيء من التفصيل:

أمَّا الاهتمام بأمور المسلمين العامة فهذا من حقها بل من واجبها، جاء في الحديث:"من لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم"، ومن أمر المسلمين شئونهم العامَّة التي يصلحون بها أو يشقون، ومن مظاهر الاهتمام التفكير بشئونهم وإشاعة المفاهيم الإسلامية فيمن يحيط بالمرأة من زوج وأبناء وأقارب وجيران، كما أنَّ حقها إبداء رأيها في الأمور العامة، وإبداء النصح بالكيفية المستطاعة والملائمة لطبيعتها مثل: الكتابة والتأليف وعقد الاجتماعات للنساء وتعليمهنَّ، وإشاعة الأخلاق الفاضلة فيهنَّ، وحثهنَّ على القيام بواجبهنَّ، ونحو ذلك. وبنهيهنَّ عن المنكرات، قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .

أما الاشتراك في الانتخابات بالكيفية المعروفة في الوقت الحاضر لاختيار رئيس الدولة أو أعضاء مجلس الأمَّة، فالظاهر لنا أنه غير جائز للمرأة؛ لعدم وجود السوابق في هذا المجال، فقد جرى انتخاب الخلفاء الراشدين وبايعهم المسلمون، ولم ينقل إلينا اشتراك النساء في ذلك.

ثانيًا: واجبات المرأة

157-

القاعدة في الواجبات المرأة كالقاعدة في حقوقها، فهي فيها كالرجل، إلّا فيما يختلفان فيه مما هو مناط التكليف، وأساس هذه القاعدة أنَّها إنسان، ولها أهلية وجوب، أي: صلاحية اكتساب الحقوق وتحمُّل الواجبات، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} ، فالنساء كالرجال مطالبات بتقوى الله، أي: بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه، ويترتَّب على هذه القاعدة ما يأتي:

أ- إنَّها كالرجل مخاطبة بالتكاليف الشرعية في باب الاعتقاد والعبادات

ص: 126

والمعاملات، إلّا بما تقتضيه طبيعتها كما هو معروف، أو بسبب عدم قدرتها على هذا الواجب، كالجهاد يُكَلَّف به الرجل لا المرأة، إلّا إذا رغبت في الخروج مع المجاهدين فلا تمنع، وتقوم بما تقدر عليه من أمور الجهاد، كمداواة الجرحى وإعداد الطعام ونحو ذلك، وقد ورد في القرآن الكريم أنَّ النساء المؤمنات بايعن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما باعيه الرجال، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مما يدل على أنَّ النساء مكلَّفات بما كُلِّفَ به الرجال من أمور الدين.

ب- وترتَّب على مخاطبة المرأة بالتكاليف الشرعية أنَّها مجزية على عملها وقيامها بما كلفت به، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} ، وقال تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ، وقال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

ج- إن الخطابات في القرآن التي تخاطب المؤمنين وتكلفهم بالتكليفات الشريعة يدخل فيها النساء، إلّا إذا قام الدليل على خلاف ذلك، فقوله تعالى:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} يشمل الرجال والنساء، وقد يذكر القرآن الكريم النساء مع الرجال فيما يخاطبهم به من تكليفات، أو فيما يمدحهم عليه، قال تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .

د- وعلى المرأة واجب الطاعة لزوجها بالمعروف، ووفائها بحقه عليها، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة

ص: 127

أن تسجد لزوجها"، فاذا أطاعته بالمعروف وأدَّت حقه عليها كانت من النساء الفضيلات، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه: قيل يا رسول الله، أيّ النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره".

هـ- والمرأة مسئولة عن البيت وشئونه ومؤتمنة عليه، فعليها القيام بهذه الأمانة، والخروج عن عهدة هذه المسئولية، جاء في الحديث الشريف:"كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته..... والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها".

ثالثًا: الوظيفة التي اختصت بها

158-

خلق الله سبحانه وتعالى كلَّ مخلوق على نحوٍ يمكِّنه من أداء الغرض الذي خُلِقَ من أجله، وقد خلق الله تعالى المرأة على نحوٍ يمكِّنُها أن تكون زوجة وأمًّا، وأودع فيها التطلع والحنين إلى ذلك، وقد وهبها الله تعالى القابلية والقدرة على تربية أولادها، والصبر عليهم في جوٍّ من حنان الأمومة الفطرية بها. فالوظيفة الأصلية التي اختصت بها المرأة هي وظيفة الزوجة والأم، وتربية الأولاد وتنشئتهم النشأة الصالحة، وتربية الأولاد تكون في البيت لا في الطريق، وتحتاج إلى انصراف إلى أداء هذه الوظيفة ووقت كافٍ لها، وقد وفَّر لها الإسلام ذلك، فقد رفع عنها مؤنة العيش والاكتساب بما فرضه على الزوج من واجب الإنفاق عليها وعلى أولادها، ومن ثَمَّ تعد لها حاجة للعمل خارج البيت؛ لأنَّ العمل يُقْصَد به الكسب وتحصيل الرزق، وقد كفيت ذلك لقاء انصرافها إلى عمل جليل هو تربية الأولاد في البيت. كما أنَّ الإسلام رعف عنها إيجاب بعض ما فرضه على الرجل تحقيقًا لأغراض معينة منها: توفير الوقت الكافي للانصراف إلى مهمتها، فالقتال في سبيل الله ليس بواجبٍ عليها وجوبه على الرجل، والصلاة في المساجد واجب أو من السنن المؤكدة على الرجال دون النساء، وصلاة الجمعة تجب على الرجل دون المرأة، فهذا وأمثاله يدل على أنَّ الإسلام يرغِّب في بقاء الزوجة في بيتها، وعدم الخروج منه إلّا لحاجة أو سبب معقول؛ لتنصرف إلى مهمتها الخطيرة: تربية الأولاد وتهيئة المسكن المريح للزوج الذي يأوي إليه بعد تعبه خارجه، قال تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وليس المقصود بالقرار في البيوت عدم الخروج منه مطلقًا، ألَا يرى أن المرأة تخرج

ص: 128

للحج، وتخرج لأداء الصلاة في المساجد إذا شاءت، وتخرج لزيارة أهلها وتخرج للمعالجة

إلخ، وإنما المقصود أنَّ المرأة تقرُّ في بيتها ولا تخرج بلا غرض مشروع ولا سب معقول؛ لأنَّ هذا هو المرغوب فيه في نظر الشرع.

رابعًا: الآداب التي تلتزم بها

159-

هناك جملة آداب وأخلاقٍ يجب أن تلتزم بها المرأة لتسهم في بقاء طهارة المجتمع ونظافته مما يشين، ولتبقى هي نفسها بعيدة عن مظنَّة التُّهَم ومزالق الشيطان، ومن هذه الآداب ما يأتي:

أولًا: لا يجوز للمرأة أن تخلو بأيِّ رجل يحلّ له نكاحها حتى ولو كانت قريبًا لها؛ كابن العمِّ وابن الخال، وهذا المنع كما هو واضح يسري على الرجل سريانه على المرأة، فلا يجوز لمسلم أن يخلو بامرأة يحلّ له نكاحها، وتعليل هذا المنع هو سد منافذ الشيطان، فإنَّ الشيطان كما جاء في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيزيِّن له الخطيئة، ويهيج فيه الشهوة، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إياكم والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده، ما خلا رجل بامرأة إلّا ودخل الشيطان بينهما"، وفي حديث آخر:"لا يخلونَّ أحدكم بامرأة إلَّا مع ذي محرم"، ولا يقال: إن الثقافة عاصمة من الوقوع في الخطيئة، فلا ضرر من الخلوة بالأجنبية؛ لأنَّ المسألة مسألة ضعف النفس وما فيها من شهوات وقابليات للاستجابة لغواية الشيطان، والمثقَّف والمثقفة كالجاهل والجاهلة في هذه المسائل، والواقع شاهد على صحة ما نقول، وأيضًا فإنَّ الثقافة لا تقلع الشهوات، وإنما الذي يضعفها ولا يستأصلها تقوى الله والخشية منه وعمارة القلب بالإيمان، بدليل أنَّ الحديث الشريف يخاطب المؤمنين أصحاب رسول الله وهم خيار خلق الله بعد رسول الله، فكيف بغيرهم ممن عشَّشَ الشيطان في قلبه وباض وفرَّخ، وإن ملأ رأسه ببعض ما يسمَّى ثقافة وعلمًا، ومثل المنع من الخلوة منع المرأة من السفر وحدها بدون زوجها أو أحد محارمها؛ لأنَّ الوحدة في ديار الغربة تفتح للشيطان منافذ للإغواء وللإيقاع في الخطيئة.

ثانيًا: لزوم ابتعادها عن الاختلاف بالرجال خوف الفتنة يدل على ذلك أنَّ الإسلام في سبيل عدم الاختلاط بالرجال لم يفرض على المرأة صلاة الجمعة، ولم يوجب عليها صلاة الجماعة، ولا يستحب لها اتباع الجنائز، وإذا حضرت للصلاة في

ص: 129

المسجد وجب عليها أن تقف مع النساء في الصف الأخير خلف الرجال، فإذا كان الأمر هكذا في بيوت الله، فكيف يجوز الاختلاط في غير أماكن العبادة؟

ومع هذا، فإذا وجدت الضرورة والحاجة إلى مثل هذا الاختلاط جاز في حدود الأدب والاحتشام؛ كخروج المرأة مع المجاهدين تُعِدُّ الطعام وتداوي الجرحى، فقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه بعض نساء المسلمين إلى القتال، وقمن بمداوة الجرحى وسقي المقاتلين من المسلمين، بل وقد تضطر المرأة إلى القتال الفعليِّ مع المسلمين كما حصل لبعضهنَّ في موقعة أحد، وهذا يستلزم الاختلاط، وكذلك قد تضطر المرأة إلى الخروج من بيتها لقضاء حاجتها، فتركب السيارة العامة أو القطار، وتختلط بالرجال، فهذا ونحوه يجوز عند الحاجة بشرط الالتزام بالآداب الإسلامية في المشي واللباس والكلام.

ثالثًا: إخفاء زينتها إلّا ما ظهر منها، فقد جاء في القرآن في آداب النساء:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فلا يجوز تعمُّد إظهار شيء من زينتها إلّا ما ظهر منها بغير قصد، أو كان ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه كالرداء والثياب، وهذه هي الزينة الظاهرة التي يجوز إبداؤها على رأي ابن مسعود رضي الله عنه، أو هي الكحل والخاتم على رأي ابن عباس رضي الله عنه، أو هي الوجه والكفَّان على رأي بعض العلماء1، فالوجه واليدان يجوز كشفهما، أمَّا غيرهما فلا يجوز كشفه، وبعض العلماء أجاز كشفهما بشرط عدم وجود الزينة فيهما.

رابعًا: ويجب أن يكون لباس المرأة شرعيًّا، أي: وفق ما أمر به الشرع، قال تعالى:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ} ، والخمار ما يوضع على الرأس، فالآية الكريمة تأمر بإنزال الخمار إلى العنق والصدر لإخفائهما.

وقال تعالى في آية آخرى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} والجلباب هو الملاءة التي تغطي جسم المرأة وتلبسه فوق ثيابها فلا يظهر منها

1 أحكام القرآن لابن العربي المالكي ج3 ص1356-1357.

ص: 130

شيء، وهو يشبه العباءة التي تستعملها بعض نسائنا اليوم، وكانت شائعة بالأمس.

ومن الشروط الأخرى في لبس المرأة في حكم الإسلام، أن لا يكون شفَّافًا ولا ضيقًا؛ حتى لا يظهر أعضاء المرأة ولا يصفها، وقد جاء في الحديث الشريف:"سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رءوسهن كأسمنة البخت، العنوهن فإنَّهنَّ ملعونات" فهن كاسيات بالاسم عاريات أو كعاريات في الحقيقة والواقع، وهذا الحديث من أعلام النبوة، فقد وقع ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث آخر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تلبس ما يصف حجم عظامها.

ومن شروط لباس المرأة الشرعي أيضًا أن لا يكون معطرًا إذا خرجت من بيتها، وأن لا يشبه لباس الرجال ولا زيّهم، فقد جاء في الحديث الشريف:"ليس منَّا من تشبَّه بالرجال من النساء، ولا من تشبَّه بالنساء من الرجال".

وخلاصة القول في لباس المرأة الشرعي الذي تتحقق فيها الآداب الإسلامية في اللباس بالنسبة للمرأة: "أن يكون ساترًا لجميع بدنتها إلّا وجهها وكفيها، وأن لا يكون -أي: لباسها- زينة في نفسها، ولا شفَّافًا ولا ضيقًا يصف بدنها، ولا مطيبًا -أي: معطرًا، ولا مشابهًا للباس الرجال ولباس الكفار، ولا ثوب شهرة"1.

خامسًا: من آداب الإسلام في مشي المرأة وكلامها ما أشار إليه القرآن الكريم: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ، أي: لا تضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخاليها، فإذا فعلت ذلك بالتبرج والتعرّض للرجال فهو حرام2، والواقع أنَّ هذا يدخل في باب سد الذرائع، وعلى هذا، لا ينظر إلى القصد وإنما ينظر إلى مآل الفعل، وعلى هذا ينبغي للمرأة أن لا تفعله لئلَّا يثير ما لا ينبغي في الرجال، بأن ينتبهوا إليه وإلى مشيها، فيقعون في إثم النظر إليها أو الظنِّ السيء بها، يقاس على ذلك المنع منع أيّ مشية فيها إثارة للفتنة، فينبغي أن تمشي المرأة مشية لا تغري الفسَّاق وضعيفي الأخلاق، وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ

1 حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة للأستاذ ناصر الدين الإلباني ص89، طبع المكتب الإسلامي.

2 ابن العربي، المرجع السابق، ص136.

ص: 131

اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} ، يقول الإمام ابن العربي في تفسير هذه الآية: "أمرهنَّ الله أن يكون قولهن جزلًا، وكلامهن فصلًا، ولا يكون على وجه يحدث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المطمع للسامع، وأخذ عليهن أن يكون قولهن معروفًا

قيل: المعروف هو السر، فإنَّ المرأة مأمورة بخفض الكلام1، فعلى المرأة المسلمة أن تلتزم بهذه الحدود في كلامها.

خامسًا: تحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع

واجب الفرد في إصلاح المجتمع:

160-

ومن خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام تحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع، بمعنى أنَّ كل فرد فيه مطالب بالعمل على إصلاح المجتمع وإزالة الفساد منه على قدر طاقته ووسعه، والتعاون مع غيره لتحقيق هذا المطلوب، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، ومن أعظم التعاونِ التعاونُ على إصلاح المجتمع، وإذا كان الفرد مطالبًا بإصلاح المجتمع، فمن البديهي أنَّه مطالب بعدم إفساده، قال تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} . من القواعد الفقهية "ما حرِّم أخذه حرِّم إعطاؤه"؛ لأنَّ إعطاء الحرام للغير من الفساد والإفساد، وعلى هذا لا يجوز إعطاء الرشوة، كما لا يجوز أخذها، ولا يجوز إعطاء الربا، كما لا يجوز أخذه، جاء في الحديث:"لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"، وفي حديث آخر:"الراشي والمرتشي والرائش بينهما".

أدلة مسئولة الفرد على إصلاح المجتمع:

161-

أولًا:" من القرآن الكريم

قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

1 ابن العربي، المرجع السابق ص123.

ص: 132

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، والمعروف اسم جامع لكل ما طلبه الشرع الإسلامي، والمنكر اسم جامع لكل ما نهى عنه، ويدخل في ذلك بداهةً ما يصلح المجتمع ويطهِّره من الفساد، وفي وصية العبد الصالح لقمان لابنه التي قصَّها الله علينا:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

ويؤكِّد القرآن الكريم مسئولية الفرد عن إصلاح المجتمع بما يقصّه من أخبار الأمم السابقة التي فرَّط أفرادها بواجب الإصلاح، فلحقهم الذم والهلاك، وحتى يعتبر كل مسلم بما حلَّ بهم فلا يفرِّط تفريطهم؛ لئلَّا يصيبه ما أصابهم، قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} ، أي: هلَّا كان من الأمم التي قبلكم أولوا بقيِّة -أي: أصحاب طاعة ودين وعقل- ينهون قومهم عن الفساد في الأرض1، وقال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} ، فهذه الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الذين نجوا من العذاب إنما نجوا بسبب نهيهم عن السوء والفساد، فدلَّ ذلك على وجوبه2.

162-

ثانيًا: مِنَ السُّنَّة النبوية

وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تقرِّر مسئولة الفرد عن إصلاح المحتمع، منها الحديث الشريف:"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، وإصلاح المجتمع وإزالة الفساد عنه، والتفكير في تحقيق ذلك من الاهتمام بأمور المسلمين، وفي حديثٍ آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، فهذا الحديث الشريف صريح في تحميل الفرد مسئولية إزالة الفساد المطلوب من المسلم إزالته، وهذا الحديث الشريف يأمر أيضًا بأن يكون المسلم في حالة استعداد وتهيئوا للإصلاح وإزالة للفساد، وهذا المعنى يفهم من عبارة:"فإن لم يستطع فبقلبه"؛ لأنَّ التغيير بالقلب يعني كراهية المنكر، يقول الإمام

1 تفسير القرطبي ج9 ص113.

2 إحياء علوم الدين للغزالي ج2 ص27.

ص: 133

النووي: "فبقلبه معناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه"1 فالتغيير بالقلب يعني كراهية المنكر، وهو إن لم يكن إزالة وتغييرًا كما يقول الإمام النووزي، إلّا أنه مقدمة للتغير وتهيئو له وإعداد النفس لتغييره فعلًا؛ لأنَّ الأنسان عادة لا يزيل شيئًا يحبه، وإنما يزيل ويغيِّر شيئًا يكرهه، فكراهية الشيء مقدمة لإزالته وسابقة لتغييره، فجاز إطلاق اسم التغيير على كراهية القلب للمنكر بهذا الاعتبار، وكراهية القلب للمنكر يجعل القلب حيًّا عامرًا بالإيمان، ذا حساسية كافية ضد المنكرات والفساد، ولا يسع المسلم ترك هذه الكراهية، وإذا فقدها كان ذلك علامة مرض قلبه، فليسارع إلى تطبييه بعلاج الإيمان قبل فوات الأوان، وقد اعتبر الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عدم الإنكار القلبي رِدَّة عن الإسلام، فقد قال رحمه الله:"والمرتد من أشرك بالله تعالى، أو كان مبغضًا للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، أو ترك إنكار منكر بقلبه"1.

ومن السنة أيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذنَّ على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنَّه على الحق قصرًا، أو ليضربنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنَّكم كما لعنهم" وهذا الحديث الشريف صريح في الدلالة على تحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع ورفع الفساد عنه، وفيه تأكيد على منع الظالم من الظلم؛ لأنَّ الظلم من أعظم الفساد في الأرض.

تعليل مسئولية الفرد عن إصلاح المجتمع:

163-

وإذا كان الفرد مسئولًا عن إصلاح المجتمع، فما تعليل ذلك؟ ولمذا يطالب الفرد بهذا الواجب مع مطالبته بإصلاح نفسه؟ الذي نراه إنَّ تعليل هذه المسئولية أو هذه المطالبة ما يأتي:

164-

أولًا: الفرد يتأثر بالمجتمع

الإنسان كائن اجتماعي يتأثَّر بالمجتمع الذي يعيش فيه، فتمرض روحه أو تهزل،

1 شرح صحيح مسلم للنووي ج2 ص25.

2 اختيارات ابن تيمية في الجزء الخامس من الفتاوى ص182.

ص: 134

أو تصح وتقوى تبعًا لصلاح المجتمع أو فساده، وقد أشار النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة، فقد جاء في الحديث الشريف: "ما من مولود إلّا يولد على الفطرة، فأبواه يهوداه وينصرانه

إلخ "، فالأبوان بالنسبة للصغير مجتمعه الصغير الذي يؤثر فيه، فيدفعه إلى الفساد أو الصلاح، فإذا كان الأبوان ضالّيْن دفعاه إلى الضلال، وإخرجاه عن مقتضى الفطرة السليمة التي خلقه الله عليها، وإذا كانا صالحين أبقياه على الفطرة التي خلقه الله عليها، ونمَّيَا فيه جانب الخير، وهكذا شأن المجتمع الكبير في تأثيره في الفرد صلاحًا وفسادًا.

165-

ثانيًا: ضرورة قيام المجتمع الصالح

وقيام المجتمع الصالح ضروري للفرد؛ لأنَّ المطلوب من المسلم تحقيق الغرض الذي خُلِقَ من أجله وهو عبادة الله وحده، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، والعبادة اسم جامع لما يحبه الله تعالى من الأقول والأفعال والأحوال الظاهرة والباطنة1، وهذا المعنى الواسع للعبادة يقتضي أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرافته وعلاقاته مع الناس على وفق ما جاءت به الشريعة الإسلامية، والمسلم لا يستطيع أن يصوغ حياته هذه الصياغة، أي: أن يكون مجتمعًا إسلاميًّا صحيحًا، فإن لم يكن كذلك بأن كان مجتمعًا جاهليًّا صرفًا، أو مجتمعًا مشوبًا بمعاني الجاهلية، فإن المسلم لا يستطيع فيه أن يحيا الحياة الإسلامية المطلوبة، أو يتعذَّر عليه ذلك، ولهذا يأمر الإسلام بالتحول من المجتمع الجاهلي إلى المجتمع الإسلامي ما دام عاجزًا عن إزالة جاهليته، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، وقد جاء على تفسير هذه الآية الكريمة أنَّها نزلت "في كل مَنْ أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدِّين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع"2 ولهذا يجب على كل

1 مختصر فتاوي ابن تيمية ص172، 173.

2 تفسير ابن كثير ج1 ص542.

ص: 135

مسلم تعهد المجتمع الذي يعيش فيه وإزالة المنكر حال ظهوره أو وقوعه، وأن لا يستهين به؛ لأنَّ المنكرات كالجراثيم التي تؤثر في الجسد قطعًا، وإذا لم تمرض البعض فإنها تضعف مقاومته، فيسهل عليها فيما بعد التغلُّب عليه، ولهذا كانت أولى مهمات الدولة الإسلامية إقامة هذا المجتمع الإسلامي الفاضل، وإزالة المنكرات منه، قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .

166-

ثالثًا: النجاة من العقاب الجماعي

وقيام الأفراد بإصلاح المجتمع ينجيهم وينجي المجتمع من الهلاك الجماعي أو العقاب الجماعي أو الضيق والضنك والقلق والشر يصيب المجتمع، وتوضيح هذه الجملة يحتاج إلى شيء من التفصيل لأهمية الموضوع وخطورته، فنقول:

من سنة الله تعالى أنَّ المجتمع الذي يشيع فيه المنكر وتنتهك فيه حرمات الله، وينتشر فيه الفساد، ويسكت الأفراد عن الإنكار والتغيير، فإنَّ الله تعالى يعمَّهم بمحنٍ غلاظٍ قاسية تعمّ الجميع وتصيب الصالح والطالح، وهذه في الحقيقة سنة مخيفة، وقانون رهيب يدفع كل فرد لا سيما من كان عنده علم وفقه أو سلطان، أو المسارعة والمبادرة فورًا لتغيير المنكر دفعًا للعذاب والعقاب عن نفسه وعن مجتمعه، والدليل على ما نقول القرآن والسنة.

167-

أ: من القرأن الكريم

قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، قال ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعهم العذاب2، فمقصود الآية: واتقوا فتنة تتعدَّى الظالم فتصيب الصالح والطالح، كما قال الإمام القرطبي2.

وفي تفسير ابن كثير بصدد هذه الآية الكريمة: "يحذر الله تعالى عباده المؤمنين

1 تفسير القرطبي ج7 ص391.

2 تفسير القرطبي ج7 ص391.

ص: 136

فتنة، أي: اختبارًا ومحنة يعمّ بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمها".

168-

ب: من السنة النبوية المطهرة

جاء في صحيح الإمام البخاري -رحمة الله تعالى، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وأن أخذوا على أيديهم نجو ونجوا"، ففي هذا الحديث دليل كما يقول الإمام القرطبي على تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة للجماعة كلها عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وأنَّه إذا لم تغير المنكرات وترجع الأمور إلى حكم الشرع وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران ذلك البلد1، ويمكن القول أيضًا أنَّ في هذا الحديث الشريف دلالة أخرى، وهي أنَّ الانحراف عن النهج الصحيح والمسلك السديد يؤدي إلى الهلاك أو الضرر، ولا ينفع في دفعهما عن الجماعة كون المنحرفين حسني النية والقصد؛ لأن الذين أرادوا خرق السفينة إنما أرادوا بخرقها عدم إيذاء من فوقهم، فلم يغن عنهم حسن مقصدهم؛ لأن فعلهم خروج عن النهج السديد في معالجة ما يهم الجميع.

وعن أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- قال: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه"، فهذا يدل على أن وقوع الفساد في المجتمع والسكوت عليه وعدم تغييره سبب للعقاب الجماعي.

ميزان صلاح المجتمع وفساده:

169-

وإذا كان الفرد مسئولًا عن إصلاح المجتمع وإزالة فساده، فما هو

1 تفسير القرطبي ج7 ص392.

ص: 137

الميزان لصلاحه وفساده، والجواب: إنَّ المجتمع الصالح هو المجتمع الإسلامي، أي: القائم على أساس العقيدة الإسلامية التي ينبثق عنها النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي ينظم شئونه المختلفة، والذي بيِّنَّا بعض خصائصه، والمجتمع الفاسد هو الذي يقوم على غير أساس العقيدة الإسلامية، ولا يحكمه النظام الاجتماعي، وتشيع فيه المنكرات، وهو الذي يسميه الإسلام بالمجتمع الجاهلي، وبكلمة أخرى: المجتمع الصالح هو القائم على معاني الإسلام وأفكاره ومناهجه، والتي تطبق فيه أحكامه، والمجتمع الفاسد بخلافه.

ص: 138