الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: المفتي
شروط المفتي:
201-
المفتي من يقول بالإفتاء، والإفتاء إخبار عن حكم الله، فلا بُدَّ أن يكون أهلًا لذلك، وهذه الأهلية تكون بشروط، ومن هذه الشروط أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا فقيهًا مجتهدًا عدلًا، وليس من الشروط المطلوبة الذكورة ولا الحرية ولا النطق، فتصح فتوى المرأة والعبد والأخرس. وهذا الإجمال في الشروط لا يغني عن شيء من التفصيل في بعضها على الأقل.
الشرط الأول: الإسلام
202-
وهذا الشرط في الحقيقة مفهوم؛ لأنَّ المفتي يخبر عن حكم الله، ويبلغ شرع الله، ويطبق أحكامه على الوقائع والأحداث، فلا بُدَّ أن يكون مؤمنًا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبشرع الله الذي بلَّغه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
هذا، وإنَّ الإسلام وما به يصير الشخص مسلمًا، وما به يفقد المسلم إسلامه فيصير مرتدًا، كل ذلك مبين في كتب العقائد وليس هو موضوع بحثنا، ويكفينا هنا أن نقول: إنَّ العنوان الظاهر للمسلم أن يتلفَّظ بالشهادتين معتقدًا بهما، فيقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأن يظهر ما تقتضيه هذه الشهادة من أقوال وأفعال، فيؤدي العبادات الظاهرة كالصلاة والصيام، ويؤدي الزكاة إن كان ذا مال وبلغ النصاب، وأن يحج البيت إن استطاع إليه سبيلًا، وعليه أن ينطوي قلبه على الانقياد التامِّ والاستسلام لله رب العالمين، فلا يكون في قلبه معارضة ولا كراهية ولا مزاحمة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا في خبر، ولا في أمر، ولا في نهي، وعلم المسلم أيضًا أن لا يأتي ما يناقض حقيقة الإسلام وما تلفظ به من الشهادتين، لا في الاعتقادات، ولا في الأقوال، ولا في الأفعال، وإلّا وقع في العصيان والابتداع، وقد يؤدي به ذلك إلى الارتداد عن الإسلام، فيصير مرتدًّا، والمرتد لا يصلح للإفتاء. أمَّا الابتداع والعصيان إذا لم يصلا إلى درجة الردة فإنهما قادحان في الأهلية للإفتاء، وقد يصلان إلى درجة سلب هذه الأهلية عن صاحبها.
الشرط الثاني: البلوغ والعقل
203-
لا بُدَّ أن يكون المفتي ذا عقل يعقل به أحكام الشرع ويفهمها ويعرفها، وأقلّ درجات العقل المعتبرة يكون بالبلوغ، ولهذا كان شرط التكليف أن يكون المسلم بالغًا عاقلًا، فلا يكفي البلوغ وحده مع عدم العقل، ولا يكفي العقل وحده بدون بلوغ؛ لأنَّ البلوغ مظنَّة نضج العقل، ولذلك علق به التكليف، والتكليف إنما يقوم على
القابلية على فهم الخطاب الشرعي وأحكام الشريعة، والإفتاء يحتاج إلى قدر أكبر من الفهم، فيسلتزم العقل من باب أَوْلَى، ولهذا ما علمنا أنَّ أحدًا أفتى أو تصدَّى للإفتاء وهو دون البلوغ، ولا ينتقض قولنا بصحة تحمّل الحديث الشريف قبل سن البلوغ، بل وصحة روايته أيضًا عند بعض العلماء؛ لأنَّ تحمل الحديث يقوم على القدرة على حفظ المسموع وضبطه، وروايته مبنية على القدرة على الأداء، كما سمع وحفظ، وهذه القدرة يتصوّّر وجودها فيمن هو دون سن البلوغ، أمَّا الإفتاء فيقوم على إدراك معاني الشريعة وفهم أحكامها، وهذا لا يتأتى عادة لمن هو دون سن البلوغ.
الشرط الثالث: العدالة
204-
ويشترط في المفتي أن يكون عدلًا، والعدالة هيئة يكون عليها المسلم، من مقتضياتها ولوازمها فعل المطلوب شرعًا وترك المنهيّ عنه شرعًا، وهجر ما يخرم المروءة ويوقع في التهم والشكوك، وأن تكون أخلاق صاحبها وسلوكه على النحو اللائق بعلماء الإسلام، ولا يعني ما قلنا اشتراط العصمة من الذنوب حتى تتحقق العدالة بعلماء الإسلام، وإنما المقصود أن تكون أحوال المسلم العدل ظاهرة الحسن والطاعة للشرع، فلا يفعل كبيرة إلّا على وجه الندرة أو الخطأ أو غلبة الطبع، ولا يصدر على صغيرة، فهو يجتهد ليكون سلوكه كله وفق مقتضيات العدالة، وإن انحرف عنها الغالبة فيه، ولا يصدر عنه ما يعتبر قادحًا في عدالته إلّا على وجه الندرة أو الغفلة مع الخلوص من الإصرار على المعصية.
هذا وإنَّ ما يناقض العدالة ليس على درجة واحدة من القبح وشدة المناقضة، ولهذا كان بعضها مسقطًا للعدالة دون بعض، فالمسقط منها مثل القول على الله ورسوله بغير علم، إما عن طريق الابتداع في الدين، أو بالتأويلات الفاسدة الظاهرة الفساد والبطلان، ومثل مجاراة الظَّلَمَة والإفتاء لهم بما يشتهون، وأخذ الرشوة ونحو ذلك، وغير المسقِط للعدالة مثل ارتكاب الصغيرة من المعاصي وعدم الإصرار عليها.
الشرط الرابع: الاجتهاد
205-
ويشترط في المفتي كما ذكر العلماء: أن يكون فقيهًا مجتهدًا، والمجتهد هو
من قامت فيه أهلية معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية من أدلتها المعتبرة عن طريق البحث والاستنباط، مع إحاطته بالأمور الضرورية للاجتهاد، ولا يشترط لثبوت هذه الأهلية كثرة الاجتهاد واستخراج الأحكام، بل يكفي وجودها، ولا يشترط كثرة عملها وفعاليتها؛ لأن المنظور إليه وجود هذه الأهلية بوجود مقوماتها التي ذكرناها، وهي القدرة على البحث واستخراج الأحكام ومعرفتها عن طريق الاستدلال من مصادرها المعتبرة. إنَّ مثل صاحب هذه الأهلية مثل الشاعر الذي قامت فيه ملكة نظم الشعر وأهليته، فهو شاعر سواء أكثر من نظم الشعر أو لم يكثر.
أقسام المجتهدين:
206-
هذا وإنَّ العلماء وهم يتكلمون عن الاجتهاد كشرطٍ في المفتي، قسَّموا المجتهدين إلى أقسام، وبينوا من يصلح من هذه الأقسام للإفتاء، فقالوا: قد يكون المجتهد مجتهدًا مطلقًا، أو مجتهدًا في مذهب معين، أو مجتهدًا في نوعٍ من العلم، أو مجتهدًا في مسألة أو مسائل معينة، فلا بُدَّ من التعريف بهؤلاء، وبيان من يصلح منهم للإفتاء ومن لا يصلح.
أولًا: المجتهد المطلق
207-
وقالوا في تعريفه: إنَّه "من حفظ وفهم أكثر الفقه وأصوله وأدلته في مسائله إذا كانت له أهليِّة تامَّة يمكنه بها معرفة أحكام الشرع بالدليل وسائر الوقائع إذا شاء، فإن كثرت إصابته صلح -مع بقية الشروط- أن يفتي ويقضي، وإلّا فلا" وقالوا: إنَّ الاجتهاد المطلق لا بُدَّ لتحصيله من توافر المعرفة الجيدة بالكتاب والسنة، وما ورد فيهما مما يتعلق بالأحكام، وأن يعرف الأمر والنهي، والمجمل والمبيّن، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمستثنى والمستثنى منه، وتوافر المعرفة الجيدة بالسنة النبوية الشريفة؛ بحيث يستطيع المجتهد التمييز بين صحيح السنة وسقيمها، ومراتب ما روي منها، وطرق الاحتجاج بها، وغير ذلك مما هو ضروري ولازم لمعرفة الحكم الشرعي من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
وقالوا أيضًا: لا بُدَّ للمجتهد المطلق أن يعرف ما أجمع عليه الفقهاء، وما اختلفوا فيه، وأن يعرف القياس وشروطه، وأن يكون على قدر كافٍ من المعرفة باللغة العربية وأساليبها ونحوها وصرفها.
ولا خلاف بين العلماء في أنَّ المجتهد المطلق أهل للإفتاء، وأنه يصلح أن يكون مفتيًا.
ثانيًا: المجتهد في مذهب معين
208-
ولهذا المجتهد أربعة أحوال، ولكلِّ حالة حكمها، كما قال العلماء:
الحالة الأولى: أن يتبع إمام مذهبه في مناهج البحث والاستدلال والاستنباط، ولكن لا يقلده فيما وصل إليه هذ الإمام باجتهاده من أحكام تفصيلية، ولمثل هذا المجتهد الحق في أن يكون مفتيًا. ومن هذا النوع الإمام أبو يوسف والإمام محمد صاحبا أبي حنيفة -رحمهم الله تعالى جميعًا، والقاضي أبو يعلى الحنبلي في المذهب الحنبلي، والمزني وابن سريج في المذهب الشافعي.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهدًا في مذهب إمامه مستقلًّا بتقريره بالدليل، ولكن لا يخرج على أصول إمامه وقواعده مع قدرته على التخريج والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول التي قررها إمامه، ولصاحب هذه الحالة الأهلية لِأَنْ يكون مفتيًا، ويعتبر مستفتيه مقلدًا لإمامه وليس مقلدًا له؛ لعدم استقلال هذا المجتهد المفتي بتصحيح نسبة من يقوله إلى الشرع الشريف رأسًا بلا واسطة إمامه، ولكن قد يكون لهذا المجتهد نوع من الاستقلال بالفتوى، كما في إفتائه في مسألة لا يجد لها حكمًا منقولًا عن إمامه، فيفتي عن طرق التخريج على مذهب إمامه، والتفريع على أقواله في المسائل المشابهة لهذه المسألة التي يفتي فيها، ولكن هل ينسب ما يقوله هذا المجتهد في فتواه إلى إمامه، فيكون من مذهب هذا الإمام، أم أنه ينسب إلى المجتهد نفسه، ويعتبر من قوله واجتهاده؟ فيه خلاف، والظاهر أنَّه تصح النسب إلى الاثنين، ولكن باعتبارين، فينسب القول إلى إمام مذهبه باعتباره مخرجًا على أصول هذا الإمام، وعلى هذا يكون المستفتي مقلدًا لهذا الإمام، كما يمكن نسبة ما يقوله هذا المفتي إلى نفسه باعتبار أنه هو الذي قام بالإفتاء، وإن كان عن طريق التخريج على أصول إمامه، وعلى هذا يكون المستفتي مقلدًا لهذا المجتهد فيما يفتيه به غير مقلد لإمامه.
الحالة الثالثة: أن لا يصل المجتهد إلى مرتبة أصحاب الحالة الثانية، وإنما يقف عند رتبة أصحاب الوجوه والتخريج في المذهب، مع حفظه لفقه مذاهب إمامه ومعرفته
بأدلته وقدرته على تقرير أقواله ونصرتها والاستدلال لها، كما أنه قادر على الترجيح بين أقول إمامه المذكورة في المذهب.
ولصاحب هذه الحالة الحق في الإفتاء وأن يصير مفتيًا، وتكون فتواه مقبولة وإن لم تبلغ فتوى أصحاب الحالة الثانية.
الحالة الرابعة: أن يكون قادرًا على فهم فقه مذهبه مع حفظٍ لهذا الفقه أو لأكثره، ويفهم ضوابطه وتخريحات أصحابه، ويستطيع الرجوع إلى مصادر هذا المذهب.
ولصاحب هذه الحالة أن يفتي وأن يصير مفتيًا، ولكن في المسائل التي بَيِّنَ أحكامها أصحاب المذهب والمجتهدون فيه، وكذلك له الإفتاء فيما يندرج تحت ضابط مفهوم وواضح من ضوابط المذهب.
ثالثًا: المجتهد في نوعٍ من العلم
209-
وقد مثَّلوا لهذ النوع بقولهم: من عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل القياس، وكذلك من عرف الفرائض والمواريث وأصولها وقواعدها أن يفتي فيها.
ويبدو لي أنَّ مثل هذا المجتهد لا يصلح أن يعيِّنَ مفتيًا؛ لأن المفتي لا يفتي فقط في هذا النوع من العلم الذي علمه، ولكن له أن يفتي فيما علمه دون أن يعيِّن مفتيًا.
رابعًا: المجتهد في مسألة أو مسائل معينة
210-
وهو من كان مجتهدًا في مسألة معينة أو مسائل معينة من الفقه، فله أن يفتي فيها دون غيرها، ويبدو لي أنَّ مثل هذا لا يصلح أن يعيِّنَ مفتيًا، وإن جاز له الإفتاء في المسائل التي علمها واجتهد فيها.
الخلاصة والترجيح:
211-
والخلاصة: إنَّ مدار الأهلية للإفتاء هو العلم المقبول بما يفتي به، وهو المبني على المبحث ومعرفة الدليل والاجتهاد فيه، فكل من حصل على مثل هذا العلم في مسألة من المسائل كان له أن يفتي فيها، وهذا متوجّه على القول بتجزئ الاجتهاد، وهو من نرجّحه. كل من جهل حكم مسألة فليس له أن يفتي فيها وإن كانت عنده
أهلية الإفتاء من حيث الجهة، هذا من جهة الصلاحية للإفتاء في مسألة معينة، أمَّا من جهة صلاحية التعين في منصب الإفتاء، أي: في أن يعيِّنَ مفتيًا، فهذا المنصب يحتاج إلى أهلية الاجتهاد على النحو الذي ذكره العلماء، ولا تلازم بين الأهليتين بالنسبة للإفتاء في مسألة معينة، فقد يكون الشخص مجتهدًا الاجتهاد الذي يؤهله للتعيين في منصب المفتي، ويعيِّن فعلًا في هذا المنصب، ولكن لا يكون أهلًا للإفتاء في مسألة معينة لجهله بحكمها، أو لعدم وصوله إلى معرفة حكمها، وقد يكون الشخص أهلًا للإفتاء في مسألة معينة أو مسائل معينة، ولكن ليس أهلًا لأن يعيِّنَ مفتيًا للناس.
شروط أخرى:
212-
وقد اشترط العلماء شروطًا أخرى في المفتي ليتمكَّن من أداء وظيفته على نحوٍ جيد وسليم، فقالوا: يشترط فيه أن يكون على قدر كافٍ من اليقظة وجودة الذهن والمعرفة بالناس ومكرهم وخداعهم، حتى لا يقع في هذا الخداع وذلك المكر، وأن يكون صلبًا في دينه لا تأخذه في الحق لومة لائم، وأن لا يتأثر بوعد أو وعيد، وأن يكون على قدرٍ كبير من الورع والزهد ومخافة الله تعالى.
ولا شكَّ أن هذه الشروط ضرورية للمفتي، ولا يسد مسدها أو يقوم مقامها مجرَّد علمه وعدالته الظاهرة، ولكن هذه الصفات لا يمكن معرفتها على وجه جيد إلّا بالعمل وممارسة الإفتاء فعلًا، ولهذا يصعب جدًّا معرفتها ابتداءً إذا أريد تعيين شخص ما في منصب الإفتاء، وعلى هذا يجب على ولي الأمر عند إرادته اختيار شخص ليعينه مفتيًا أن يتحرَّى عن سلوكه وأحواله، والسؤال عنه مِمَّن يعرفه، ويثق بأخباره قبل الإقدام على تعيينه.
وجوب وجود المفتي:
213-
وجود المفتي الكفء المستجمِع لشروط الإفتاء من فروض الكفاية، فيجب أن يوجد في كل قرية أو بلدة مفتٍ يقوم بإفتاء الناس فيما يسألون عنه من أمور الدين، أو يعلمهم بها ابتداءً دون أن يسألوه، وقد قال بعض العلماء: يجب تعدد المفتين بحيث يكون في كل مسافة قصر -أي: المسافة التي تقصر فيها الصلاة- مفتٍ واحد.
ولأهمية وجود المفتي في البلد، قال العلماء: إذا لم يوجد مفتٍ في مكانٍ ما حرِّم السكن
فيه، ووجب الرحيل منه إلى حيث يوجد من يفته في أحكام الدين، وما ينزل به من نوازل.
العمل على إيجاد المفتين:
214-
وإذا كان وجود المفتي من فروض الكفاية فيجب العمل على إيجاده باتخاذ الوسائل الضرورية لذلك، ولهذا قال الإمام ابن حزم "فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو حصن أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ويتعلم القرآن كله، وما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام
…
إلخ، ثم يقوم بتعليمهم، فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله، ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين في صنوف العلم وإن بعدت ديارهم، وإن كانوا بالصين، فالجماعة إذن تهيئ من يتعلم أحكام الدِّين ويتفقه فيه، ثم يقوم بتعليم الجاهلين ابتداءً أو يفتيهم عمَّا يسألون.
215-
وحيث إنَّ ولي الأمر يمثل جماعة المسلمين وينظر في مصالحهم، فعليه أن يقوم بواجب إيجاد المفتين الأكفاء بتهيئة الوسائل الضرورية اللازمة لذلك، مثل تأسيس المدارس لتعليم الفقه، واختيار الطلبة، وتخصيص المال اللازم لهم حتى يكملوا تحصيلهم العلمي، ثم يعيِّنهم في مناصب الإفتاء، ويجعل لهم رواتب كافية تغنيهم عن الكسب، وتعينهم على التفرغ للإفتاء.
منع المفتي الماجن والمفتي الجاهل:
216-
ولوليِّ الامر أن يمنع المفتي الماجن والمفتي الجاهل من الإفتاء، سواء كان هذا المفتي قد عَيِّنه ولي الأمر أو أنَّه يقوم بالإفتاء بلا تعيين، فإن كان قد عينه فله أن يعزله عن منصبه ويولي غيره من الأكفاء، وإن كان يفتي الناس بلا تعيين من ولي الأمر منعه من الإفتاء، وتوعده إذا عاد، والمفتي الماجن هو الذي يفتي الناس بما يشتهون، فيُحِلّ لهم الحرام ويحرِّم عليهم الحلال بالشُّبَه الباطلة والتأويلات الفاسدة إرضاءً لهم واتباعًا لأهوائهم، أمَّا المفتي الجاهل فهو الذي يجهل أحكام الإسلام فيفتي بغير علم، وكلاهما -الماجن والجاهل- لا يصلح لمنصب الإفتاء، ومن لا يصلح للإفتاء يجب منعه فيه، قال الفقيه ابن نجيم الحنفي: "ينبغي للإمام أن يسأل أهل العلم المشهورين في
عصره عمَّن يصلح للفتوى؛ ليمنع من لا يصلح، ويتوعَّده بالعقوبة إذا عاد"، وقال الشافعية والحنابلة: ينبغي للإمام أن يتصفَّح إحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وهدده بالعقوبة إذا عاد، وهذا الكلام ينطبق على المفتين الذين يباشرون الإفتاء بلا تعين من ولي الأمر، ولكن إذا كان لولي الأمر منع هؤلاء لعدم صلاحهم، فله من باب أوْلَى أن يعزل المفتي الذي عينه إذا ظهر أنَّه غير كفء للإفتاء لمجونه أو جهله.
كفاية المفتي من بيت المال:
217-
ويحلّ للمفتي أن يأخذ من بيت المال ما يكفيه؛ لأنه يقوم بالإفتاء، وهو من المصالح العامة كالأذان، ولهذا يجوز لولي الأمر أن يخصص مرتبًا شهريًّا للمفتي من بيت المال بالقدر الذي يكفيه ويغنيه عن الكسب؟
ضمان المفتي:
218-
إذا أفتى المفتي مستفتيه بفتوى معينة فتعلّم بها وأدى علمه إلى إتلاف نفس أو مال، وحكم على المستفتي بالضمان، فهل يرجع على مفتيه بما ضمن أم لا؟ ينظر، فإن كانت فتوى المفتي باطلة بالضمان قطعًا لمخالفتها للنص القاطع أو الإجماع الظاهر، كان للمستفتي أن يرجع بما ضَمِن على المفتي؛ لأنه هو المتسبِّب في ذلك، وإن كانت فتوى المفتي سائغة، ولم يضمن المفتي شيئًا، لا يكون للمستفتي أن يرجع بما ضمن، أمَّا إذا كان المفتي غير أهل للافتاء فإنه يضمن مطلقًا؛ لأنه غرَّ من استفتاه، ومعنى ذلك أنَّ للمستفتي أن يرجع عليه بما ضمن، وقيل: لا يضمن ولا يكون للمستفتي حق الرجوع عليه؛ لأن المستفتي هو المقصِّر؛ إذ سأل من لا يصلح للإفتاء.
واجبات المفتي وآدابه:
219-
على المفتي أن يعلم أنَّ ما يقوله ويفتي به دِينٌ يحاسب عليه أمام الله تعالى، ولهذا يجب عليه أن يطيل النظر والفكر ولا يسرع في الإجابة، وإذا لم يعرف الجواب فليقل: لا أدري، فإن نصف العلم لا أدري، وقد كان الإمام مالك يسأل عن مسائل فيقول عن بعضها أو أكثرها: لا أدري، فقد روى الهيثم بن جميل قال: شهدت مالكًا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري. وعن عبد الله
ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: من أفتى عن كل ما يسأل عنه فهو مجنون.
220-
هذا وينبغي للمفتي أن يلاحظ عرف البلد وعاداته؛ ليعرف مقصود المستفتي، وإذا لم يفهم السؤال من السائل عن مراده، وإذا جهل لغته كفاه ترجمة واحة ثقة، كما ينبغي للمفتي أن يشاور الفقهاء الحاضرين في موضوع الاستفتاء إذا رأى حاجة لذلك، وأن يتحرَّز من الميل في إفتائه إلى المستفتي أو إلى خصمه، فيبيِّن في فتواه ما لأحدهما من حقٍّ دون أن يبيِّن ما عليه من واجب.
221-
وعلى المفتي، كما قال العلماء، أن يقدِّم رقاع الفتوى حسب تسلسل تقديمها، فيجيب على استفتاء الأسبق ثم الذي يليه، وهكذا، ولكن يجوز تقديم استفتاء المسافر والمرأة إذا كان تأخير الجواب يضرّ بهما.
222-
وعلى المفتي أن يبتعد عن مظانِّ التُّهَم والريب ليكمن قوله مقبولًا عند المستفتي وغيره، وأن لا يقبل هدية ممن يستفتيه لئلَّا يجره ذلك إلى التساهل معه في الفتيا دون أن يشعر.
223-
وعلى المفتي أن يكون لينًا متواضعًا لا فظًّا، وأن يُقْبِلَ على المستفتي بلطف وبشاشة، وإذا رآه بطيء الفهم فليترفَّق به حتى يفهمه الجواب، وأخيرًا فإنَّ المفتي من حملة العلم، فيجب أن يكون له حلم ووقار وسكنية وسمت على النحو اللائق بالعلماء.