الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: المحتَسِب
من هو المحتسب؟
271-
المحتسب من يقوم بالاحتساب، أي: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن شاع عند الفقهاء إطلاق هذا الاسم على من يعيِّنُه ولي الأمر للقيام بالحسبة، وأطلقوا عليه أيضًا اسم: والي الحسبة، أمَّا من يقوم بها من دون تعيينٍ من ولي الأمر فقد أطلقوا عليه اسم: المتطوع، ثم راحوا يفرِّقون بين المحتَسِب والمتطوِّع.
الفرق بين المحتسب والمتطوع:
272-
أ- الاحتساب فرض متعين على المحتسب بحكم الولاية، أي: بحكم تعيينه محتسبًا، أمَّا فرضه على غيره فهو من فروض الكفاية، ومن ثَمَّ لا يجوز للمحتسب أن يتشاغل عمَّا عُيِّنَ له من أمور الحسبة بخلاف المتطوع.
ب- وقالوا: إن المحتَسِب عُيِّنَ للاستعداء إليه وطلب العون منه عند الحاجة، ومن ثَمَّ تلزمه إجابة من طلب ذلك منه، بخلاف المتطوع؛ إذ لا يلزمه من ذلك شيء.
جـ- وقالوا: إن المحتسب عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة حتى يتمكَّن من إزالتها، كما أنَّ عليه أن يبحث عمَّا ُترِكَ من المعروف الظاهر حتى يأمر بإقامته، أمَّا المتطوع فلا يلزمه ذلك.
د- وقالوا: للمحتسب أن يستعين على أداء مهمته بالأعوان، فيتخذ له من الأعوان والمساعدين بقدر ما يحتاج لأداء مهمته التي عُيِّنَ لها، وليس للمتطوع ذلك.
هـ- قالوا: وللمحتسب أن يعزِّر على المنكرات الظاهرة، ولا يتجاوزها إلى إقامة الحدود، وليس للمتطوع ذلك.
و للمحتسب أن يأخذ على عمله أجرًا من بيت المال، وليس للمتطوع ذلك.
ز- للمحتسب أن يجتهد في المسائل المبنية على العرف، فيقر منها ما يراه صالحًا للإقرار، وينكر منها ما يراه مستحقًّا للإنكار، وليس للمتطوع ذلك.
رأينا في هذه الفروق:
273-
هذه الفروق بُنِيَت على أساس التفريق بين المعيَّن للحسبة وغير المعيَّن لها.
والواقع أنَّ الحسبة من فروض الإسلام، فلا يتوقف القيام بها على التعيين من قِبَل ولي الأمر، ومن ثَمَّ كانت تسمية غير المعيَّن بالمتطوِّع تسمية غير دقيقة؛ لأنها تشعر بأنَّ القيام بالحسبة من قِبَل غير المعيَّن لها هو من قبيل القيام بالأمور المستحبَّة غير الواجبة.
ومع هذا، فإن تنظيم الحسبة وضبطها من قِبَل ولي الأمر، وتعيين الأكفاء لها، حتى لا تسود الفوضى في المجمتع باسم الحسبة أقول: إن هذه التنظيم من الأمور الحسنة، ولكن يشرط أن لا يكون هذا التنظيم مانعًا من قيام الآخرين بواجب الحسبة على الوجه المشروع، وعلى هذا لا نرى ما قاله الفقهاء من أنَّ المحتسب له أن يتَّخذ أعوانًا، أمَّا التطوع فليس له ذلك؛ لأن اتِّخَاذ الأعوان على الحسبة من التعاون على البر والتقوى، فلا ينبغي منع من يقوم بالحسبة من هذا التعاون بحجّة أنه غير معيَّن من قِبَل ولي الأمر، ما دام صالحًا للحسبة وتتوفَّر فيه شروط الحسبة. وكذلك لا نرى منع المتطوع من التعزيز على المنكرات الظاهرة، أو على الأقل: لا نرى منعه من التعزير مطلقًا؛ لأنَّ التعزير درجات، فينبغي أن لا يمنع إلّا من بعضها لا كلها، كأن يمنع من الضرب والجلد.
ولاية المحتسب:
274-
ولاية المحتسب يستمدُّها من الشرع الشريف؛ لأنَّ المسلم مكلَّف بالحسبة، وحيث يوجد التكليف توجد الولاية على القيام بما كلف به، إلّا أنه في حالة قيام ولي الأمر بتنظيم أمور الحسبة وتعيين الأكفاء لها، فإن المعيَّن يملك من الولاية أكثر مما يملكه غير المعيَّن، ومع هذا فإنَّ ولاية المحتسب المعيَّن من قِبَل ولي الأمر يستمدها من الشرع، وإن جاءت عن طريق ولي الأمر، باعتبار أنَّ تنظيم ولي الأمر للحسبة سائغ مشروع، فكأن الشرع خوله ذلك.
مقصود هذه الولاية:
275-
ومقصود ولاية المحتسب سواء عُيِّنَ من قِبَل ولي الأمر أو لم يعيِّن، هو إقامة شرع الله في الأرض وتطهيرها من الفساد؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وهذا المقصود في الحقيقة هو مقصود كل ولاية في الإسلام، وكل الفرق بين ولاية وأخرى هو في سعتها ومتعلقاتها، وهكذا تعمل جميع الولايات منسجمة لتحقيق مقصود واحد، هو إقامة شرع الله في الأرض، وتطهيرها من الفساد والمفسدين.
ولاية المحتسب وولاية القاضي:
276-
وقد بحث الفقهاء أوجه الفرق والاختلاف بين ولاية المحتسب وولاية القاضي، وخرجوا من بحثهم هذا ببيان أوجه الفرق والخلاف بينهما، على النحو التالي:
أ- أوجه الاتفاق:
تتفق الولايتان في جواز الاستعداء إلى المحتسب والادِّعاء أمامه في حقوق الآدميين في دعاوي خاصَّة هي المتعلقة ببخسٍ أو تطفيفٍ في كيل أو وزن، أو متعلقة بغشٍّ أو تدليسٍ في بيع أو ثمنٍ، أو متعلقة بمطل أو تأخير لدَيْن مستَحَق الأداء مع القدرة على الوفاء، وإنما جاز للمحتسب أن ينظر في هذه الدعاوي دون غيرها؛ لأنها كما قالوا:"تتعلق بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بيِّنٍ هو مندوب إلى إقامته".
وللمحتسب كما للقاضي أن يلزم المدَّعي عليه بأداء الحق الواجب عليه إلى مستحقه في الدعاوي التي له حق النظر فيها، إذا ثبتت تلك الحقوق بإقرار المدَّعَى عليه، وثبتت قدرته على الوفاء. وإنما كان للمحتسب إلزام المدَّعى عليه بأداء هذه الحقوق؛ لأن تأخير وفائها مطل، والمطل منكر نهى الشارع عنه، قال صلى الله عليه وسلم:"مطل الغني ظلم يحل ماله وعرضه"، والمحتسب منصوب لإزالة المنكر.
ب- أوجه الاختلاف:
أولًا: تقصر ولاية المحتسب عن ولاية القاضي من وجهين:
الوجه الأول: ليس للمحتسب سماع الدعاوى التي تخرج عن نطاق المنكرات الظاهرة، أي: التي تخرج عن نطاق الدعاوى الثلاث التي أشرنا إليها في أوجه الاتفاق.
الوجه الثاني: له النظر في الحقوق المعترف بها، أمَّا ما يدخله التجاحد والتناكر لا ينظر فيه؛ لأنَّ الحق لا يثبت عند ذاك إلّا ببينة من المدعي، أو تحليف المنكر اليمين، وهذا للقاضي لا للمحتسب.
ثانيًا: وتزيد ولاية المحتسب على ولاية القاضي من وجهين:
1-
للمحتسب أن يأمر بما هو معروف وينهى عمَّا هو منكر، وإن لم يرتفع إليه في ذلك خصم، ولم يتقدم إليه أحد بدعوى، وليس للقاضي ذلك إلّا برفع دعوى ومطالبة خصم.
2-
للمحتسب من سلاطة السلطة فيما يتعلق بالمنكرات الظاهرة ما ليس للقاضي؛ لأن الحسبة -كما يقول الفقهاء: تقوم على الرهبة، فلا تجافيها الغلظة واتخاذ الأعوان وسللاطة السلطة، أما القضاء فموضوع لإنصاف الناس واستماع البينات، حتى يتبيِّن المحِقُّ من المبطِل، فكان الملائم له الأناة والوقار والبعد عن الغلظة والخشونة والرهبة.
227-
ويمكن أن نضيف إلى ما قاله الفقهاء فرقًا ثالثًا تزيد به ولاية المحتسب على ولاية القاضي، وهي ولاية المحتسب على الأمر والنهي، فما لا يدخل في صلاحية القاضي ولا يجري فيه الحكم، فللمحتسب أن يأمر العامّة بالصلاة في أوقاتها، ويأمر بالجمعة والجماعات، وينهى عن منكرات المساجد، وعن تأخير الصلاة عن أوقاتها، ونحو ذلك مما لا يجري فيه حكم القضاء، ولا ينظر فيه القاضي.
شروط المحتسب:
278-
اشترط الفقهاء شروطًا معينة في المحتسب ليكون أهلًا للاحتساب، وهذه الشروط:
أولًا: أن يكون مكلفًا؛ لأن غير المكلَّف لا يلزمه أمر ولا يجب عليه تكليف.
والمكلَّف في اصطلاح الفقهاء هو البالغ العاقل، وهذا في الحقيقة شرط وجوب الاحتساب على المسلم، أمَّا إمكان الحسبة وجوازها فلا يستدعي إلّا العقل، حتى إنَّ الصبي المميِّز وإن لم يكن مكلفًا فله إنكار المنكر، وليس لأحد منعه من ذلك؛ لأن احتسابه
من القربات، وهو من أهلها كالصلاة، وليس حكم احتسابه حكم الولايات، حتى يشترط له التكليف.
ثانيًا: أن يكون مسلمًا، وهذا شرط واضح؛ لأن الحسبة نصرة للدِّين، فلا يكون من أهل النصرة من هو جاحد لأصل الدين.
279-
ثالثًا: الإذن من الإمام أو نائبه، وهذا شرط محلّ نظر، ذلك أنَّ المحتسب إذا عُيِّنَ من قِبَل ولي الأمر فلا حاجة له للإذن؛ لأنه ما عُيِّنَ إلّا للاحتساب، أما إذا لم يكن معينًا وهو الذي يسمونه: المتطوع، فإن اشترطوا له الإذن لكلِّ نوعٍ من أنواع الحسبة، فإن اشتراطهم هذا لا دليل عليه، بل إنَّ النصوص تدفعه؛ لأنَّ كل مسلم يلزمه تغيير المنكر إذا رآه وقدر على إزالته دون اشتراط إذن من الإمام، ويؤيد ذلك استمرار السلف الصالح على الحسبة دون إذن من الإمام، فضلًا عن أنَّ الحسبة تجري على الإمام نفسه، فكيف يحتاج المحتَسب إلى إذن منه للإنكار عليه؟
وإن اشترطوا الإذن بالنسبة لبعض أنواع الحسبة، وهي التي تجري فيها التعزير واتخاذ الأعوان واستعمال القوة، فهذا الشرط له وجه مقبول لابتنائه على المصلحة؛ لأن إباحة هذا النوع من الاحتساب لكلِّ أحد قد يؤدي إلى الفتنة والفوضى ووقع الاقتتال بين الناس بحجة الحسبة، وباشتراط الإذن تندفع هذه الأضرار، فيلزم الإذن لأنَّ دفع الضر واجب، وما يستلزمه هذا الدفع يكون مشروعًا، ومع هذا التوجيه المقبول نرى جواز تغيير المنكر من المتطوع إذا أمِنَ الفتنة، وإن استلزم التغيير اتخاذ الأعوان واستعمال القوة ومباشرة التعزير، كلما كان ذلك ضروريًّا، ولا يحتمل التأخير حتى يتحصَّل الإذن.
280-
رابعًا: العدالة، وهذا شرط قال به البعض، فعندهم لا بُدَّ أن يكون المحتسب عدلًا غير فاسق، ومن مظاهر عدالته أنَّه يعمل بما يعلم، ولا يخالف قوله عمله، ويمكن أن يستدلَّ لهذا القول بما يأتي:
أ- قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} .
ب- المطلوب من المسلم أن يعمل بما يدعو الناس إليه، ولا يخالف قوله فعله؛ ليكون لقوله التاثير المطلوب في رفع المنكر واستجابة الناس له، ولهذا قال شعيب عليه السلام-
لقومه، كما أخبرنا الله تعالى:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} ، وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاهمم بالمقاريض، فقلت له: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطبأء أمتك الذين يأمرون الناس بالبرِّ وينسون أنفسهم".
281-
وقال البعض الآخر: العدالة ليست شرطًا، وإنما الشرط القدرة على إزالة المنكر؛ لأنه ما من أحد إلّا ويصدر منه العصيان، والمعصية تثلم العدالة، فكيف يشترط ما يتعذّر تحققه في المسلم؟ ولهذا قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى:"إذا كان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلّا من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء".
282-
والراجح عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ، ومن حيث الجملة دون التفصيل؛ لأن الاحتساب فرض كسائر الفروض الإسلامية لا يتوقَّف القيام به على أكثر مما يتطلبه ويحتاجه هذا الفرض، وليس مما يتوقَّف عليه أن يكون المحتسب عدلًا بالاصطلاح المعروف عند الفقهاء؛ لأنَّ ما يأمر به المحتسب أو ينهى عنه هو من الأمور الحسنة والمشروعة، والحقّ ينبغي أن يُتَّبع ويقبل من قائله بغضِّ النظر عن فعله وسلوكه، وما احتجَّ به المشترطون لا حجة لهم فيه؛ لأنَّ الذمَّ على من يأمر غيره بالمعروف وينسى نفسه إنما استحق هذا الذم بسبب ارتكابه ما نهى عنه، لا على نهيه عن المنكر، وإن كان النهي عن المنكر ممن يأتيه مستقبحًا في النفوس، كما أنَّ أمره بالمعروف دلَّ على قوة علمه، وعقاب العالم وذمه إذا ارتكب المنكر أشد من الجاهل إذا ارتكب المنكر، وعليه فإنَّ الإنكار في قوله:{وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} ، إنما كان عليهم بسبب أنَّهم نسوا أنفهسم لا بسبب أنَّهم أمروا غيرهم بالمعروف.
283-
ومع ترجيحنا عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ والأصل، إلّا أنَّ العدالة لها تأثير في بعض أنواع الحسبة وفي وجوبها أو عدم وجوبها، ومن ثَمَّ يكون لاشتراط العدالة وجه مقبول، وبيان ذلك أنَّ الحسبة إذا كانت بالوعظ والإرشاد فإنَّ نفعها المرجوّ يحصل إذا كان المحتسب ورعًا تقيًّا عدلًا؛ حيث يكون لكلامه ووعظه -عادة- تأثير في الناس وقبول عندهم، فيتركون المنكر؛ وحيث كان نفع الحسبة مرجوًا بالوعظ ولا ضرر للمحتسب منه كانت الحسبة عليه واجبة،
فيكون اشتراط العدالة في هذه الحالة لوجوب الحسبة اشتراطًا مقبولًا، أمَّا إذا كان المحتسب فاسقًا غيرعدل فالغالب أنَّ وعظه لا يؤثِّر ولا يقبل فلا يفيد، وإذا لم ينفع وعظه لم تجب عليه الحسبة لفقدان شرط وجوبها وهو العدالة.
أما إذا كانت الحسبة بالقوة والقهر فالعدالة ليست شرطًا في المحتسب لوجوب الحسبة عليه؛ إذ الشرط لوجوبها عليها القوة والقدرة وليست العدالة؛ ولأن الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
284-
ومع هذا التفصيل الذي بيناه، فإنَّه مما لا ريب فيه أنَّ من المرغرب فيه بالنسبة لجميع المحتسبين أن يكونوا على أكبر قدر ممكن من العدالة وتجنب ما يخدشها، وكلما كان المحتسب أكثر عدالة من غيره، كان كما قالوا:"أزيد في توقيره وأنفى للطعن في دينه"، وتؤثر حسبته وتُقْبَل وإن كانت بالقوة والقهر.
285-
خامسًا: العلم، ويشترط في المحتَسِب أن يكون عنده من العلم ما يستطيع أن يعرف المنكر فينهى عنه، ويعرف المعروف فيأمر به، حسب الموازين الشرعية، وبهذا يكون احتسابه عن علم ومعرفة لا عن جهل وتخبُّط، وقد جاء في الأثر:"لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلّا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه"، ويدخل في حدِّ العلم المطلوب علم المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها؛ ليقف عند حدود الشرع كما سنبينه فيما بعد، ولكن هل يشترط في المحتَسِب أن يكون مجتهدًا؟ الجواب بالإيجاب إذا قلنا: للمحتسب أن يحمل الناس على رأيه في الأمور المختلف فيها، أمَّا إذا قلنا: ليس للمحتسب ذك، فالاجتهاد ليس شرطًا، وإنما يكفي أن يكون عالمًا بالمنكرات المتفق عليها، وبالمعروف المتفق عليه، وعدم شرط الاجتهاد هو ما نرجِّحه.
286-
وهل يشترط في المحتسب أن يكون عارفًا بالصنائع الدنيوية والمهن والحرف التي يباشرها الناس؟ الواقع أنَّ هذا التساؤل وارد؛ لأنَّ عمل المحتسب يشمل مراقبة هذه المهن والحرف؛ ليتأكد من عدم غشِّ أصحابها واحتيالهم وإضرارهم بالناس، فقد ذكر الفقهاء أنَّ على المحتسب أن يراقب أصحاب المِهَن والصنائِع المختلفة، ويمنعهم من الغش فيها، كما يمنع مباشرتها من قِبَل الجهال بها، ومن البديهي أنَّ ذلك لا يتأتَّى للمحتسب إلّا إذا كان عارفًا بهذه الصنائع والحِرَف، بل ذهب
الفقهاء إلى أنَّ المحتَسِب يمتحن بعض أصحاب المهن العلمية كالكحال -طبيب العيون؛ ليتأكَّد من صلاحيته لهذه المهنة، وهذا يستلزم معرفة المحتسب لهذا الجانب من العلم، قال الفقيه عبد الرحمن بن نصر الشيزري:"وأمَّا الكحالون فيمتحنهم المحتسب.. فمن وجده فيما امتحنه عارفًا بتشريح عدد طبقات العين السبعة.. وكان خبيرًا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير، أذِن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس"، كما صرَّح الفقهاء بضرورة معرفة المحتسب بالأوزان ونحوها، فمن أقوالهم:"لمَّا كانت هذه -أي: القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم- أصول المعاملات، وبها اعتبار المبيعات، لزم المحتسب معرفتها وتحقيق كميتها؛ لتقع المعاملة بها من غير غَبْنٍ على الوجه الشرعي".
287-
على هذا يجب على المحتسب أن يعرف ما يحتسب فيه من المِهَن والحِرَف والصنائع، ولكن يمكن أن يقال: إن إلزام المحتسب بمعرفة هذه الأشياء كلها أو أكثرها، بل وحتى بعضها، مما يشق عليه ويعسر، ولهذا نرى أنَّ وجوب هذه المعرفة في المحتسب يمكن أن تتحقق باستعانته بذوي الخبرة بهذه الأشياء، سواء كان هؤلاء الخبراء من أعوانه الدائمين أو من غيرهم، فيستشيرهم فيما يحتسب فيها من شئون هذه المهن والحرف والصنائع، ويأخذ بأقوالهم ما داموا أمناء ثقاة.
288-
سادسًا: القدرة، ويشترط في المحتسب أن يكون قادرًا على الاحتساب باليد واللسان، وإلّا وقف عند الإنكار القلبي، وهذا الشرط مفهوم فيمن يقوم بالاحتساب من تلقاء نفسه وبدون تعيين من ولي الأمر، أمَّا المعيَّن فإنَّ القدرة حاصلة فيه؛ لأنَّ الدولة معه، هذا ولا يقف سقوط وجوب الحسبة على العجز الحسي، بل يلحق به ما يخاف من المكروه الذي ينزل به ولا يطيقه على النحو الذي سنبينه فيما بعد إن شاء الله.
آداب المحتسب:
289-
ذكر الفقهاء جملةً من الآداب التي يجب على المحتسب التحلي بها حتى بنجح في عمله، ويؤدي واجب الحسبة على الوجه المرضي المقبول، فمن ذلك ما قالوه: إنَّ على المحتسب أن يقصد باحتسابه وجه الله تعالى وطلب رضاه، ولا يقصد بحسبته الرياء والسمعة والجاه والمنزلة عند الناس، والواقع أنَّ خلوص النية مما يلزم المسلم في
جميع أعماله، فإنَّ الله تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان خالصًا لوجه الكريم، ولكنَّ حاجة المسلم إلى الإخلاص تعظم وتشتد كلما كان علمه بطبيعته ظاهرًا أو متعلقًا بالآخرين، ولهذا قد يتسرَّب الوسواس إلى بعض الأتقياء، فيتركون الحسبة بحجّة عدم خلوص النية، ونقول لهؤلاء الطيبين الورعين: إنَّ عليهم أن يقوموا بالحسبة ويدفعوا هواجس الرياء، ولا يتعقَّموا في ذلك أو يسترسلوا في الخوف من الرياء؛ لأنَّ الشيطان قد يفتح عليهم بابًا من الوسواس الذي لا ينتهي.
290-
وقالوا: إنَّ المحتسب يلزمه الصبر والحلم بالإضافة إلى بقية الأخلاق الحسنة، والواقع أنَّ تأكيد فقهائنا -رحمهم الله تعالى- على الصبر والحلم له ما يبرره؛ لأنَّ الغالب لحوق الأذى والمضايقات بالمحتسب، فإن لم يكن صبورًا حليمًا كان ضرره أكبر من نفعه، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وفاته ما كان مرجوًّا من احتسابه.
291-
وقالوا أيضًا: يجب أن يكون المحتسب رقيقًا رفيقًا في أمره ونهيه، بعيدًا عن الفظاظة مع صلابة بالدِّين، وقد يبدو قولهم لأوَّل وهلة متناقضًا؛ إذ كيف يتفق الرفق مع الصلابة، والحقيقة لا تناقض، فالرفق وعدم الفظاظة مِمَّا أمر به الشرع، فقد جاء في الحديث الشريف:"إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"، وفي القرآن الكريم:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، فالمحتسب يستطيع أن يوصِّل أمره ونهيه بأسلوب رقيق يفتح مغاليق القلب، وسيأتي مزيد للكلام عن هذه المسالة فيما بعد إن شاء الله تعالى، أمَّا الصلابة بالدِّين فتعني: عدم التهاون في بيان أحكامه، ولا المداهنة للمحتسب عليه، ولا مجازاته على حساب الدِّين، وهذا لا يتناقض مع الرفق.
292-
وقالوا أيضًا: على المحتسب أن يقلل علاقاته مع الناس حتى لا يكثر خوفه من انقطاعها، وأن يقطع طمعه من الخلائق حتى تزول معاني الملق والمداهنة، وأن لا يقبل هداياهم فضلًا عن رشاواهم التي هي حرام وسحت، وأن يلزم أعوانه بما التزمه من الأخلاق والآداب، فإذا علم أن أحدًا من أعوانه خرج عن هذا النهج والسلوك عزله وأبعده إذا لم ينفع مع التحذير؛ لتنتفي عن المحتسب الظنون، وتنجلي عنه الشهبات، كما قال الفقهاء رحمهم الله: لأنَّ الناس -غالبًا- يحمِّلُون المحتسب أوزار أعوانه، وقليل منهم من يفصل بين أعمالهم وأعماله، فلا خلاص من ذلك إلا بإبعاد الأعوان السيئين عنه.