الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية
المطلب الأول: المثالية في الإسلام
…
المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية
تمهيد:
103-
من خصائص الإسلام أنَّه يحرص على إبلاغ الإنسان أعلى مستوى ممكن من الكمال، وهذه هي مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعية الإسلام. فلا بُدَّ من الكلام عن هاتين الناحيتين في مطلبين متتاليين.
المطلب الأول: المثالية في الإسلام
المقصود بالمثالية:
104-
قلنا: إنَّ الإسلام يحرص على إبلاغ الإنسان الكمال المقدور له، وهذا يكون بجعل تصرفاته وأقواله وأفعاله وتروكه وقصوده وأفكاره وميوله وفق المناهج والأوضاع والكيفيات التي جاء بها الإسلام، وقد تحقق ذلك كله في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمرنا الله تعالى بالتأسي به {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وقوام هذه المثالية الاعتدال والشمول.
أولًا: الاعتدال
105-
ونقصد بالاعتدال عدم الإفراط والتفريط في أي شيء، واعطاء كل ذلك حق حقه، يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ، وقال تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} وقال صلى الله عليه وسلم: "خير الأمور أوسطها".
106-
والاعتدال مطلوب حتى في العبادات، فلا ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه أو يؤذي جسده، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؟ قال أحدهم: أمَّا أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنِّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
107-
وتعذيب الجسد وتحميله ما لا يطيق ليس من مناهج الإسلام ووسائله لبلوغ الكمال المنشود؛ إذ ليس من لوازم هذا الكمال أو مقتضياته فعل ذلك، ولا من مقاصد الإسلام تعذيب الجسد، لا قصد الغايات ولا قصد الوسائل، ومن ظنَّ ذلك فهو واهم، فإن مثالية الإسلام يمكن بلوغها بنهجٍ معتدل وسير مريح، وإن الخروج عن هذا النهج يضعف الجسد ويقعد به عن أداء الفرائض فضلًا عن النوافل، ومن خرج من هذا النهج وجب رده إليه، جاء في الحديث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس، فسأل عنه فقالوا: يا رسول الله، إنه نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم. فقال عليه الصلاة والسلام:"مروه فليتكلم وليقعد وليتمَّ صومه"، فالصوم مطلوب، ولكنَّ الوقوف في الشمس حيث يمكن الوقوف في الظل غير مطلوب، ولا معنى فيه، وكذلك الصمت الدائم طيلة النهار لا داعي له ولا فائدة فيه، وسِرّ المسألة أنَّ الجسد مركب الروح، وليس من الحكمة خرق المركب أو إضعافه، والجسد مستقرّ الروح ومسكنها، وليس من المصلحة تخريبه، ولا من الكمال المنشود هضمه حقه، وأنَّ الروح هي الأخرى لها حق في الراحة والاستجمام، لا يجوز التفريط فيه، جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال:"ما هذا"؟ قالوا: حبل
لزينب، فإذا فترت تعلقت به. فقال:"لا، حلوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد".
وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مظعون: "فإنَّ لأهلك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، فصم وافطر، وصلِّ ونم".
107-
وحرمان الإنسان نفسه أو جسده من الطيبات والمتع الحلال ليس من منهاج الإسلام في بلوغ الكمال، وإنما منهاجه في الاعتدال، فإذا وجد الإنسان أو تيسَّر له شيء من الطيبات بطريق الحلال أخذه وتناوله، ولا يقدح ذلك في تعلقه بمثالية الإسلام، وإذا لم يجده لم يأس عليه، وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} ، فالمطلوب لبلوغ الكمال تقوى الله، وليس تحريم الطيبات وحرمان الجسد أو النفس منها.
108-
ومع هذا، فقد يسوغ أو يندب أو يجب أخذ الإنسان نفسه بالشدة وخشونة العيش، ورضاه بالضيق إذا كان ذلك لغرض مشروع أو مقصد نبيل أو لسبب مقبول، كما لو كان المسلم في مقام القدوة، أو بسبب إيثار الغير على نفسه، أو بسبب امتناعه عمَّا لا يجوز له، فيتعرَّض إلى ما ذكرنا، وعلى هذا الأساس يجب أن نفهم سيرة أسلافنا الصالحين، وما روي عنهم من أخذ نفوسهم بالشدة، وامتناعهم عن كثير من طيبات العيش ونعومته.
ثانيًا: الشمول
109-
والمثالية في الإسلام تتصف بالشمول؛ لأن الإسلام يريد من المسلم أن يبلغ الكمال المقدور له بتناسقٍ، وفي جميع شئونه، فلا يقبل على جانب واحد أو عدة جوانب، ويبلغ فيه المستوى العالي من الكمال، بينما يهمل الجوانب الأخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى المطلوب، إنَّ مَثَله مَثَل من يقوي يديه ويترك سائر أعضائه رخوة هزيلة ضعيفة، وعلى هذا الأساس فَهِمَ الصحابة الكرام مثالية الإسلام، فلم تأسريهم عبادة، ولم تقيدهم عادة، وإنما تقلَّبوا في جميع العبادات والأحوال، وبلغوا فيها المستوى العالي من الكمال، فلم يحبسوا نفوسهم في مكان، ولا على نوع من العبادات، ولا على نمطٍ معين من الأعمال، وإنما باشروا الجميع، فعند الصلاة كانوا في المسجد يصلون، وفي حلقات العلم يجلسون معلمين أو متعلمين، وعند الجهاد يقاتلون، وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون، وهكذا كان شأنهم في جميع الأحوال.