المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: الشورى - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المطلب الثاني: الشورى

‌المطلب الثاني: الشورى

وجوب الشورى:

347-

مبدأ الشورى من أهمِّ مقومات نظام الحكم في الإسلام، به نطق القرآن، وجاءت السنة، وأجمع عليه الفقهاء، وهو حق للأمة وواجب على الخليفة، والتفريط به سبب لعزله كما سنذكره. والأدلة على وجوبه تستفاد من القرآن ومن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال الفقهاء:

أولًا: قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، وظاهر الأمر يدل على الوجوب، ومن أقوال الفقهاء والمفسرين بصدد هذه الآية قول ابن تيمية:"لا غنى لوليِّ الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه -صلى الله عليه وسلم1، وجاء في تفسير الطبري بصدد آية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} : إنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاروتهم فيه تعريفًا منه أمته؛ ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم"2، وفي تفسير الرازي:"قال الحسن وسفيان بن عيينة: إنما أمر بذلك -أي: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمشاورة؛ ليقتدي به غيره في المشاروة ويصير سنة في أمته"3.

ثانيًا: ومما يؤكّد وجوب المشاروة على رئيس الدولة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على جلالة

1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص169.

2 تفسري الطبري ج4 ص94.

3 تفسير الرازي ج9 ص66.

ص: 217

قدره وعظيم منزلته كان كثير المشاورة لأصحابه، شاروهم يوم بدر في التوجُّه إلى قتال المشركين، وشاورهم قبل معركة أحد أيبقى في المدينة أم يخرج إلى العدو.

وشاور السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق، فأشاروا عليه بترك مصالحة العدو على بعض ثمار المدينة مقابل انصرافهم عنها، فقبل رأيهما1، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لأصحابه، حتى قال العلماء:"لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.

ترك المشاورة موجب لعزل رئيس الدولة:

348-

وإذا كانت المشاورة حقًّا للأمَّة وواجبًا على رئيس الدولة، فإنَّ التفريط بها إلى حدِّ تركها موجب للعزل، جاء في تفسير القرطبي:"قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشرعية وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدِّين فعزله واجب"3، فلا بقاء لحاكمٍ مستبدٍّ في دولة الإسلام.

تعليل أهمية المشاورة:

349-

مما ذكرناه يتبيِّن لنا بوضوحٍ أن المشاورة في نظام الحكم في الإسلام ذات أهمية بالغة، وتعليل ذلك على ما نرى: إنَّ المشاورة سبيل معرفة الرأي الصواب؛ لأن كل مستشار يظهر رأيه ووجهة هذا لرأي ومدى فائدته، وبعرض هذه الآراء ومقارنتها ومناقشتها يظهر الصواب غالبًا، كما أنَّ بالمشاورة استفادة بلا جهد من خبرات الآخرين وتجاربهم التي اكتسبوها في سنين طوال وبجهود وتضحيات، كما أن بالمشاورة عصمة لولي الأمر من الإقدام على أمور تضر الأمة ولا يشعر هو بضررها، ولا سبيل إلى إصلاح الضَّرر بعد وقوعه، ولا يرفعه كونه حسن النية.

وفي المشاورة أيضًا تذكير للأمَّة بأنها هي صاحبة السلطان، وتذكير لرئيس الدولة بأنَّه وكيل عنها في مباشرة السلطان، وفي هذا وذاك عصمة من الطغيان الذي هو من صفات الإنسان، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} .

1 إمتاع الأسماع للمقريزي ص219، وتفسير الرازي ج9 ص67.

2 السياسة الشرعية لابن تيمية ص169.

3 تفسير القرطبي ج4 ص249.

ص: 218

في أي شيء تجري الشورى:

350-

والمشاورة مع الأمَّة تجري في شئون الدولة المختلفة، وفي الأمور الشرعية الاجتهادية التي لا نصَّ فيها، أي: إنَّ رئيس الدولة يستشير في أمور الدين والدنيا كما يقول الفقهاء، فقد جاء في تفسير الجصاص:"الاستشارة تكون في أمور الدنيا وفي أمور الدِّين التي لا وحي فيها"1، والمشاورة في أمور الدنيا، أي: شئون الدولة المهمة منها، مثل تسيير الجيوش وإعلان الحرب وعقد المعاهدات وإسناد المناصب المهمة في الدولة إلى مستحقيها، ونحو ذلك، فلا تكون المشاورة في كل شيء من شئون الدولة حتى في صغائرها وجزئياتها، فإنَّ هذا غير ممكن ولا مطلوب، ولا حاجة إليه ولا منفعة فيه، ولا دليل عليه.

أهل الشورى:

351-

ولكن كيف تتمّ المشاورة؟ وهل يجب على رئيس الدولة أن يشاور الأمَّة كلها، أو طائفة منها، أو أفرادًا منها؟ المستفاد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الشورى، أنَّه كان يشاور جمهور المسلمين في الأمور التي تهمهم مباشرة، كما حصل في مسألة الخروج إلى قتال المشركين في معركة أحد، فقد استشار جمهور الموجودين في المدينة، وكان يقول:"أشيروا عليّ" 1، وكذلك في مسالة غنائم هوازن، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعرف آراء جميع المسلمين المشتركين في حرب هوازن في مسألة الغنائم التي صارت إليهم، فقد جاء في أخبارهم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر لهم ما يراه بصدد الغنائم، قال الحاضرون:"يا رسول الله، رضينا وسلَّمنا، قال: "فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى نعلم"، فكان زيد بن ثابت على الأنصار يسألهم: هل سلموا؟ فأخبروه أنهم سلموا ورضوا ولم يتخلّف عنهم رجل واحد

إلخ"2.

فهذه الواقعة تدل على أنَّ أهل الشورى كانوا جميع المسلمين الذين يتعلَّق بهم موضوع المشاورة، وأحيانًا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير بعض أصحابه لا كلهم، كما حصل في مسألة

1 أحكام القرآن للجصَّاص ج2 ص40.

2 إمتاع الأسماع للمقريزي ص116.

3 إمتاع الأسماع ص429.

ص: 219

أسرى بدر، فقد استشار عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه في هؤلاء الأسرى، وهل يأخذ منهم الفداء أم لا؟

واستشار عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في مسألة مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعوا عن قتال المسلمين في معركة الخندق، فقالا: يا رسول الله، إن كان هذا أمرًا من السماء فامض له، وإن كان أمرًا لم تؤمر فيه ولك فيه هوًى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي، فما لهم إلّا السيف، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأيهما وترك موضوع المصالحة مع غطفان1.

فهذه السوابق الثابتة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنَّ أهل الشورى تارة يكونون جمهور الأمة، وطورًا يكونون جميع المسلمين الموجودين وقت المشاورة ويتعلق بهم موضوع المشاورة، كما في مسألة غنائم هوازن، وأحيانًا يكون أهل الشورى المتبوعين في قوهم، كما في مسألة مصالحة غطفان؛ حيث شاور النبي صلى الله عليه وسلم السعدين من سادات الأنصار والمتبوعين فيهم، وأحيانًا أخرى يكون أهل الشورى بعض المسلمين من ذوي الرأي، كما في مسألة أسرى بدر.

وفي ضوء هذه السوابق يمكن أن نقول: إن من يشاروهم رئيس الدولة يختلفون باختلاف موضوع المشاورة من المسائل التي تحتاج إلى نوع معرفة وحسن رأي ولطف إدراك، فيشاور رئيس الدولة أهل الاختصاص والمعرفة، وقد أشار الإمام القرطبي في تفسيره إلى ما نقول، فقال رحمه الله:"واجبٌ على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وما أُشْكِلَ عليهم من أمور الدِّين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعُمّال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، إلى أن قال: قال العلماء: صفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالمًا ودينًا، وصفة المستشار إن كان في أمور الدنيا أن يكون عاقلًا مجربًا"2.

الخلاف بين رئيس الدولة وأهل الشورى:

352-

وقد يختلف رئيس الدولة مع أهل الشورى، فما الحال في هذه الحالة؟

1 إمتاع الأسماع ص236.

2 تفسير القرطبي ج4 ص249، 250.

ص: 220

الحل ما أمرت به الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، فيجب رد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما تقضي به الآية الكريمة وأجمع عليه المفسرون1، فإذا وجد الحكم صريحًا في الكتاب أو السنة وَجَب اتباعه، ولا طاعة لأحد في مخالفته، وإن لم يوجد الحكم صريحًا فأيّ الآراء أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عُمِلَ به2.

الأخذ برأي رئيس الدولة:

353-

وإذا لم يظهر الرأي الذي هو أشبه بكتاب الله وسنة رسوله، وبقي الخلاف بين رئيس الدولة وبين أهل الشورى، فما الحكم في هذه الحالة؟ الذي نراه ونرجِّحه ترك الأمر إلى رئيس الدولة، فإن شاء أخذ برأي الأكثرية، وإن شاء أخذ برأي الأقلية، وإن شاء أخذ برأيه هو، وإن كان خلاف رأي الأكثرية والأقلية، وقد يبدو قولنا هذا غريبًا؛ لأن الأذهان ألفت الأخذ برأي الأكثرية دائمًا، إلى درجة الاعتقاد بأنَّ الأخذ به ملزم، وأنَّ الخروج على رأي الأكثرية علامة الاستبداد والتعسُّف، إلى آخر ما يقال في هذا المجال، ولكن الحقَّ أحق أن يتبع، فما هي حجتنا فيما قلناه؟ إنَّ حجتنا تتلخَّص بالأدلة الآتية:

أدلة الأخذ برأي رئيس الدولة وإن خالف رأي الأكثرية:

354-

أولًا: قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، قال قتادة في تفسير هذه الآية:"أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمرٍ أن يمضي فيه ويتوكّل على الله لا على مشاورتهم"3.

ثانيًا: السوابق القديمة ومنها ما فعله الخليفة الراشد أبو بكر الصديق في جيش أسامة، وفي محاربة المرتدين، وخلاصة القول في جيش أسامة بن زيد، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسله قائدًا على جيشٍ من المسلمين، فيه كبارهم وأبطالهم، وأمره بالتوجّه إلى جهة

1 تفسير الطبري ج5 ص87، تفسير القرطبي ج5 ص261، تفسير الجصاص ج2 ص212.

2 السياسة الشرعية لابن تيمية ص170.

3 تفسير القرطبي ج4 ص257.

ص: 221

فلسطين، وقبل أن ينفصل من المدينة توفِّي الرسول صلى الله عليه وسلم، فتوقف أسامة حتى بويع أبو بكر بالخلافة، فأرسل إليه عمر بن الخطاب يستأذنه بالرجوع مع جيشه؛ ليكون بجانبه ويسهم في دفع شرِّ المرتدين عن المدينة، وكان هذا رأي عمر بن الخطاب أيضًا، وغيره من المسلمين، ولكنَّ أبا بكر رفض هذا الرأي وقال: والله لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أردّه ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم1.

أما قصة المرتدين، فقد كان منهم فريق كبير امتنعوا عن أداء الزكاة مع بقائهم على الإيمان بالله وبرسوله، وأرسلوا وفدًا إلى المدينة ليقنع الخليفة بالموافقة على ذلك، فرفض أبو بكر هذا الرأي وقال: والله لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه، وظلَّ أبو بكر رضي الله عنه على هذا الرأي بالرغم من رأي أكثر الصحابة أن اللين أوْلَى في هذه الحالة؛ لضعف المسلمين وانتشار الردة وكثرة المرتدين، ولكنَّ أبا بكر ظلَّ باقيًا على رأيه ماضيًا في الذي شرح الله له صدره من الحق، لا يضعف ولا يني2.

ووجه الدلالة في هذه السابقة القديمة أنَّ أبا بكر رضي الله عنه أخذ برأيه ونفَّذه، ولم يأخذ برأي غيره وإن كانوا كثيرين.

ثالثًا: إنَّ الخليفة -رئيس الدولة- مسئول مسئولية كاملة عن أعماله، فلا يجوز إلزامه بتنفيذ رأي غيره إن لم يقتنع بصوابه، لأنَّ كون الإنسان مسئولًا عن عمله يعني أن يعمله باختياره ورأيه، لا أن يعمل وينفذ رأي غيره على وجه الإلزام وهو كاره له غير مقتنع به، ثم يُسْأَل هو عن هذا الرأي ونتائجه.

رابعًا: إنَّ صواب الرأي أو خطأه يستمدان من ذات الرأي وطبيعته، لا من كثرة أو قلة القائلين به.

خامسًا: ليست الكثرة لذاتها دليلًا قاطعًا أو راجحًا على الصواب، كما أنَّ القلة ليست لذاتها دليلًا قاطعًا أو راجحًا على الخطأ؛ إذ يمكن أن يكون الخطأ مع الكثرة، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة، قال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} ، {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .

1 أبو بكر الصديق، تأليف الأستاذ علي الطنطاوي ص162، 163.

2 المرجع السابق.

ص: 222

سادسًا: في حالة الحروب: وهي أخطر ما تمرّ به الأمة، يفوَّض الأمر إلى قائد الجيش لينفِّذ ما يراه من خطط الهجوم والدفاع بعد أن يستشير مساعديه، ولا يلزم برأيهم مطلقًا، وإن كان ملزمًا باستشارتهم، ومعنى ذلك أنَّ البشر يدركون بفطرتهم أن خير حلّ عند اختلاف الرئيس مع مستشاريه هو ترك الأمر له، يقرر ما يراه، ولهذا يأخذون بهذا الحل في حالة الحرب، مع أنَّ خطأ القائد قد يؤدي إلى فناء الجيش وهلاك الأمة، ولكن مع هذا يأخذون بهذا الحلّ؛ لأنه خير الحلول وأصوبها عند اختلاف الرئيس مع مَنْ يشاورهم.

اعتراضات ودفعها:

355-

إنَّ رأينا الذي قدمناه واعتبرناه هو الراجح، بل ونعتبره هو الصحيح، قد يعترض البعض عليه بالاعترضات التالية:

الاعتراض الأول: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ برأي الأكثرية في مسألة الخروج إلى معركة أحد، مع أنه كان يميل إلى عدم الخروج، والجواب: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أخذ برأيهم لأنه رأى ذلك، لا لأنَّ الأخذ برأي الأكثرية ملزم، وكلامنا في إلزام الأكثرية لرئيس الدولة أو عدم إلزامه.

الاعتراض الثاني: ما فائدة المشاورة إذا لم يلتزم رئيس الدولة برأي من يشاورهم، أو برأي أكثريتهم؟ والجواب: فائدة المشاورة تظهر في ظهور الرأي الصواب والمظنون في رئيس الدولة أن يأخذ بالصواب، فإذا لم يأخذ برأيهم، فمعنى ذلك أنَّه لم يقتنع بما قيل، لا لكونه يريد العناد والخلاف.

الاعتراض الثالث: إنَّ الله تعالى أمر بالمشاورة، وهذ الأمر يتضمَّن الأخذ برأي من يشاورهم، والجواب: المشاورة غير التنفيذ، والله تعالى أمر بالمشاورة، وينقضي حق هذا الأمر بإجراء المشاورة فعلًا، أمَّا التنفيذ فشيء آخر، وهو متروك لرئيس الدولة حسب ما يراه، ما دام الأمر اجتهاديًّا.

حق الأفراد في إبداء آرائهم:

356-

وقيام الخليفة بمشاورة أهل الحل والعقد لا يعني أنَّ غيرهم من أفراد الأمَّة لا حق لهم في إبداء آرائهم في شئون الحكم وتصرفات الخليفة، فالواقع أنَّ لكل

ص: 223

فرد أن يبدي رأيه فيما يرى فيه المصلحة أو إزالة مفسدة، وأساس هذا الحق تكليف الشارع لكلِّ مسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعل القيام بهذا التكليف من صفات المؤمنين الأصلية، قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، ومن الواضح أنَّ القيام بهذا الفرض يستلزم تمتع الفرد بحق إبداء رأيه بالمعروف الذي يأمر به، والمنكر الذي يريد تغييره، وهذا الحق للأفراد متمِّمٌ للشورى ومساعد لها، ويتفق مع أهدافها؛ لأن به يعان الخليفة على معرفة الصواب وتجنُّب الخطأ، فقد يفوت أهل الشورى بعض الأمور التي يعرفها غيرهم من أفراد الأمة، وعلى هذا لا يجوز للخليفة أو لغيره من أولياء الأمور الانتقاص من هذا الحق للأفراد، كما لا يجوز للأفراد التنازل عنه أو تعطيله؛ لأنه حق أوتوه من الشرع ليتمكَّنوا من أداء ما افترض عليهم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولهذا كان الحُكَّام الصالحون يربُّون أفراد الأمَّة على حرية الرأي، ويحثُّونهم على هذه الصفة، ويعيبونهم على تركها، قال رجل للإمام عمر بن الخطاب:"اتق الله يا عمر، فقال له عمر: ألا فلتقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، وفي خطبة لأبي بكر رضي الله عنه:"فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني"1.

حدود حرية الرأي:

357-

وحق الأفراد في إبداء آرائهم في تصرفات الخليفة له حدود وضوابط، الأول: أن يكون قصد صاحبه بذل النصح الخالص للخليفة، جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدين النصحية"، قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم"، فلا يجوز للفرد أن يقصد في بيان رأيه في تصرفات الحكام التشهير بهم، أو تكبير سيئاتهم، أو انتقاصهم، أو تجريء الناس عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الباطلة التي لا يراد بها وجه الله، ولا الخير للمنصوح، ولا المصلحة للأمة.

1 الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص183.

ص: 224

الثاني: أن يكون بيان المسلم لرأيه في تصرفات الحكّام على أساس من العلم والفقه، فلا يجوز أن ينكر عليهم أو ينتقصهم في الأمور الاجتهادية؛ لأن رأيه ليس أوْلى من رأيهم ما دام الأمر اجتهاديًّا.

الثالث: لا يجوز للأفراد إحداث الفتنة ومقاتلة المخالفين لهم بالرأي إذا لم يأخذوا برأيهم، ما دام الأمر يحتمل رأيهم ورأي غيرهم.

تنظيم الشورى في الوقت الحاضر:

358-

ذكرنا في الفقرات السابقة السوابق الثابتة في السنَّة النبوية في موضوع الشورى، ومجموعها يدل على أن الشريعة الإسلامية لم تنصّ على كيفية خاصَّة لتحقيق مبدأ الشورى، ومعنى ذلك أنَّها تركت تنظيم الشورى للأمة الإسلامية على النَّحو الذي يلائم ظروفها وأحوالها، ويحقق مقصود الشورى ومعرفة رأي الأمة، وهذا في الحقيقة من حسنات الشريعة واحتياطها للمستقبل، وعلى هذا فيبدو لنا أنَّ ما يوافق العصر الحاضر أن تقوم الأمة بانتخاب أهل الشورى الذين يشاورهم رئيس الدولة، ويعتبرون بنفس الوقت أهل العقد والحل، على أن يكون لرئيس الدولة الحقّ في مشاورة أهل الاختصاص في موضوع اختصاصهم، وأن يكون له الحق في استفتاء الأمَّة في المسائل الخطيرة، وأن يوضع نظام مفصَّل لكل هذه المسائل وغيرها، مما له علاقة في موضوع الشورى في ضوء قواعد الشريعة ومبائدها وأحكامها في نظام الحكم، كما يجب توفير حرية الرأي للمواطنين لإبداء آرائهم في شئون الدولة في الحدود الشرعية، فلا يجوز مثلًا التشهير والطعن والسباب وفاحش الكلام والافتراء والتضليل بحجة إبداء الرأي، فليس من حقِّ أحدٍ أن يشيع الفساد بحجة إبداء الرأي.

والواقع أنَّ مجرَّد وضع الأنظمة لا يكفي لتحقيق الانتخاب السليم، ولا لتحديد حدود الرأي المباح الخالص من الغش والدَّجَل، وإنما الذي يفيد كثيرًا في هذا الباب -مع وضع الأنظمة اللازمة- إشاعة المفاهيم الإسلامية والأخلاق الإسلامية، وتربية الأفراد على معاني العقيدة الإسلامية ومخافة الله وتقواه في السر والعلن، فبهذا يقف الإنسان عند الحدود الشرعية، ويقوم بواجبه على الوجه المرضي، سواء أكان هذا الواجب في انتخاب أعضاء مجلس الشورى أو في قيام هؤلاء بإبداء آرائهم، أو في إبداء آحاد الناس آراءهم فيما يرونه من وجوه المصلحة.

ص: 225