الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم
72-
من بديهات الإسلام وصفاته الأصلية أنَّه جاء لعموم البشر ولم يأت لطائفة معينة منهم، أو لجنس خاصٍّ من أجناسهم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ، وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وعموم الإسلام هذا غير مقصور على فترة معينة من الزمن، أو جيل خاصٍّ من البشر، وإنما هو عموم في الزمان كما هو عموم في المكان، ولهذا فهو باقٍ لا يزول ولا يتغير ولا ينسخ؛ لأن النسخ يجب أن يكون في قوة المنسوخ، سواء أكان النسخ كليًّا أو جزئيًا، وحيث إنَّ الإسلام ختم الشرائع السابقة كلها، وإنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فمعنى ذلك أنَّ الشرائع الإلهية انقطعت، وأنَّ الوحي الإلهي لم يعد ينزل على أحد، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وعلى هذا لا يتصوَّر أن ينسخ الإسلام أو يغيره شيء.
73-
وقد يقال هنا: لماذا كانت الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، أما كان الأفضل والأنفع استمرار تنزل الشرائع الإلهية وإبقاء باب الرسالات الإلهية مفتوحًا؟ والجواب: لا؛ لأنَّ تنزُّل الشرائع ليس من قبيل العبث واللهو، وإنَّما هو لسدِّ نقص في تشريع سابق، أو لإكماله بتشريع لاحق مناسب لمستوى البشرية، وحيث إنَّ الشريعة الإسلامية كاملة تامَّة سدَّت كل ما لم تأت به الشرائع السابقة، وأكدت ما جاءت به هذه الشرائع السابقة، فلا حاجة ولا داعي لمجيء شريعة أخرى، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، فمع
هذا الكمال والتمام لا داعي لمجيء شريعة أخرى، وحيث لا شريعة أخرى فلا رسول آخر بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
74-
وعموم الشريعة الإسلامية وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو الزيادة، كل ذلك يستلزم عقلًا وعدلًا أن تكون قواعدها وأحكامها ومبادئها وجميع ما جاءت به على نحوٍ يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان، ويفي بحاجاتهم ولا يضيق بها، ولا يختلف عن أي مستوى عالٍ يبلغه المجتمع البشري. إنَّ هذا والحمد لله متوافر في الشريعة الإسلامية؛ لأن الله تعالى وهو العليم الخبير؛ إذ جعلها عامَّة في المكان والزمان، وخاتمة لجميع الشرائع، جعل قواعدها وأحكامها صالحة لكل زمان ومكان، ومهيأة للبقاء والاستمرار لهذا العموم. إنَّ ما نقوله هو الحق، ويدل عليه واقع الشريعة الإسلامية وطبيعة مبادئها وأحكامها وأفكارها ومناهجها، ولا بُدَّ هنا من بيانٍ موجز كل الإيجاز لإظهار هذا المعنى، وإثبات صحة ما نقوله بالأدلة والبراهين.
الدليل الأول: مكانة المصلحة في الشريعة
75-
يقوم هذا الدليل على إظهار مدى حرص الشريعة الإسلامية على مصالح الناس الحقيقية ودرء المفاسد عنهم، والواقع أنَّ الشريعة الإسلامية ما شرِّعت إلّا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، أي: في الدنيا والآخرة، ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل أيضًا، حتى إنَّ بعض الفقهاء قال -وقوله حق:"إنَّ الشريعة كلها مصالح، إمَّا درء مفاسد أو جلب مصالح"، وقد يظن البعض أنَّ هذا القول مبالع فيه، والواقع أنه لا مبالغة فيه؛ لأنَّ ما قلناه عنها، ونقلنا قول بعض الفقهاء عنها، وصفٌ ثابت للشريعة ولكل حكم من أحكامها، فلا يخرج شيء منها عن هذا الوصف أو الغرض العامِّ الذي تريد الشريعة تحقيقه للعباد في عاجلهم وآجلهم، ونكتفي هنا بذكر بعض الأدلة الجزئية على هذه الحقيقة التي تكون البرهان الأول.
76-
أ- قال تعالى في تعليل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، والرحمة تتضمَّن قطعًا رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، ولا يمكن أن تكون رحمةً إذا أغفلت هذه المصالح.
77-
ب- تعليل الأحكام بجلب المصلحة ودرء المفسدة لإعلام البشر بأنَّ تحقيق المصالح هو مقصود الإسلام، وأنَّ الأحكام ما شرِّعت إلّا لهذا الغرض، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} ، فالقصاص شرِّع لتحقيق هذه المصلحة وهي الحياة للناس، أي: الأمن والاستقرار والاطمئنان وحقن الدماء بزجر من تسوّل له نفسه الاعتداء على أرواح الناس، وقال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، فتحريم الخمر يمنع عن الناس مفسدة الصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ودرء المفسدة لا شَكَّ في أنه وجه من وجوه المصلحة؛ لأنَّ المصلحة لها وجه إيجابي وهو جلب نفع لم يكن، ووجه سلبيّ وهو دفع ضرر أو مفسدة، وهكذا بقية الأحكام بلا استثناء، لا يخرج منها أيّ حكم كان، سواء أكان من أحكام الاعتقادات أو العبادات أو غير ذلك، نعم، قد يجهل البعض تفاصيل المصلحة في حكم من الأحكام، ولكنَّ هذا الجهل ليس بحجة على انتفاء المصلحة، فإنَّ الإنسان قد يجهل تفاصيل منفعة دواء، ولكنَّ جهله به لا يمنع من تحقيق المصلحة فيه، فإذا كان هذا واقعًا فيما يضعه إنسان، فكيف لا يكون فيما يضعه خالق الإنسان؟ هذه واحدة.
والثاني: إنَّ المصلحة المقصودة في التشريع الإسلامي لا تقتصر على مصالح الدنيا، وإنما تتجاوزها إلى مصالح الآخرة، أي: إلى إعداد الإنسان للظفر بالسعادة الدائمة بجوار الربِّ الكريم الرحيم.
87-
جـ- تشريع الرخَّص عند وجود المشقات في تطبيق الأحكام إذا كانت هذه المشقَّات فوق طاقة البشر المعتادة، من ذلك: إباحة النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها بالتهديد بالقتل ونحوه، وإباحة المحرَّم عند الضرورة، مثل أكل الميتة ولحم الخنزير عند التعرُّض للهلاك جوعًا، وإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر، ولا شَكّ أنَّ دفع المشقة ضرب من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة عن الناس.
79-
د- عُرِفَ بالاستقراء والتأمُّل أنَّ مصالح العباد تتعلق بأمور ضرورية أو حاجية أو تحسينية، فالأولى هي التي لا قيام لحياة الناس بدونها، وإذا فاتت حَلَّ الفساد وعمَّت الفوضى واختلَّ نظام الحياة، وهذه الضروريات هي حفظ الدين والنفس
والعقل والنسل والمال.
أمَّا الحاجيات: فهي التي يحتاجها الناس لتحقيق اليسر والسعة في عيشهم، إذا فاتتهم لم يختلّ نظام الحياة، ولكن يصيب الناس ضيق وحرج.
وأمَّا التحسييات: فهي التي ترجع إلى محاسن العادات ومكارم الأخلاق، وإذا فاتت خرجت حياة الناس عن النهج القويم السليم الذي تقضي به الفِطَر السليمة والعادات الكريمة.
وأحكام الشريعة كلها تحقق وتحفظ مصالح الناس المتعلقة بالضروريات والحاجيات والتحسينات.
80-
فبالنسبة للضروريات شرَّع للدين -لإقامته وتحقيقه- العبادات، وشرَّع لحفظه الجهاد، وعقوبة المرتد، وزجر من يفسد على الناس عقيدتهم، والنفس شرَّع لإيجادها النكاح، وشرَّع لحفظها القصاص على من يعتدي عليها، وتحريم إلقاء النفس بالتهلكة، ولزوم دفع الضرر عنها، والعقل شرَّع لحفظه تحريم الخمر وعقوبة شاربها.
والنَّسل شرَّع لإيجاده الزواج، وشرَّع لحفظه عقوبة الزنى والقذف، وحرَّم إجهاض المرأة الحامل، والمال شرَّع لتحصيله أنواع المعاملات من بيعٍ وشراءٍ ونحو ذلك، وشرَّع لحفظه حرمة أكل مال الناس بالباطل، أو إتلافه بلا وجهٍ سائغ مشروع، والحجر على السفيه، وتحريم الربا، وعقوبة السرقة.
81-
وبالنسبة للحاجيَّات شُرِّعت لها الرخَّص عند المشقة، وشرِّع الطلاق للخلاص من حياةٍ زوجية لم تعد تطاق، وشرِّعت الدية في القتل الخطأ على عاقلة القاتل.
82-
وفي التحسينات شرِّعت الطهارة للبدن والثوب، وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والنهي عن بيع الإنسان على بيع أخيه، والنهي عن قتل الأطفال والنساء في الحروب.
83-
فاستقراء نصوص الشريعة يدل على أنَّ الإسلام ما قصد بتشريعه الأحكام للناس إلّا لحفظ هذه الضروريات والحاجيات والتحسينات، وهذه هي مصالحهم في الدنيا والآخرة، وإذا تعارضت المفاسد والمصالح رُجِّح أعظمها مصلحة
أو أقلها مفسدة، فقتل القاتل مفسدة؛ لأنَّ فيه تفويت حياته، ولكنَّه جاز؛ لأنَّ فيه مصلحة أعظم وهي حفظ حياة الناس، وكشف العورة مفسدة، ولكن إذا احتاج إليها لإجراء عملية جراحية ضرورية جاز الكشف؛ لأن مصلحة حفظ النفس من الهلاك أكبر من مفسدة كشف العورة، وترك المحتكِر دون اعتراض عليه أو منعٍ له مصلحة له، ولكن فيه مفسدة أكبر وهي الإضرار بالناس، فشرَّع المنع من الاحتكار. والدفاع عن البلاد يعرِّض النفوس إلى القتل وهذه مفسدة، ولكن ترك الاعداء يدخلون بلاد المسلمين مفسدة أعظم من قتل النفوس، فكان في دفعهم بقتالهم مصلحة أكبر من مفسدة هلاك النفوس في هذ القتال، وهكذا تجري أحكام الشريعة على نمط واحد: هو جلب المصالح ودرء المفاسد.
84-
وعلى هذا فكل مصلحة مشروعة حقيقية تظهر، أو مفسدة تطرأ، فإن الشريعة الإسلامية تبيح إيجاد الحكم لتحقيق تلك المصلحة ودرء هذه المفسدة في ضوء قواعد الاجتهاد المقررة في الفقه الإسلامي؛ لأن الشريعة كما يقول الفقيه ابن القيم:"مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن ادخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه".
ونخرج من جميع ما تقدَّم أن الشريعة الإسلامية وما جاءت به من أحكام صريحة في نصوصها، وما ابتنى علها من أحكام اجتهادية في ضوء موازين الاجتهاد الصحيح، لا يمكن ابدًا أن تضيق بحاجات الناس المشروعة، ولا تعجز عن تحقيق مصالحهم الحقيقية في أي زمان ومكان.
الدليل الثاني: مبادئ الشريعة وطبيعة أحكامها
85-
أحكام الشريعة نوعان:
الأول جاء بشكل قواعد ومبادئ عامة، والثاني: جاء بشكل أحكام تفصيلية. وكلا النوعين جاء على نحوٍ يوافق كل مكان وزمان، ويتفق مع عموم الشريعة وبقائها، ولا بد من الكلام بإيجاز عن كل نوع.
86-
النوع الأول: القواعد والمبادئ العامة
وردت في الشريعة قواعد ومبادئ عامَّة تتضمَّن أحكامًا عامَّة يمكن بسهولة ويسر تطبيقها في كل زمان، وقد صيغت بكيفية تمكنها من سهولة هذا التطبيق ويسره، كما أنَّ معناها الحق لا يمكن أن يتخلف عن أي مستوى عالٍ يبلغه أي مجتمع، وبالتالي يتَّسع لكل مصلحة حقيقية جديدة للناس، كما أنَّ هذه القواعد والمبادئ تعتبر كالأساس لما يقوم عليها من أحكام جزئية، ولما يتفرَّع عنها من فروع، فمن هذه القواعد والمبادئ:
87-
أولًا: مبدأ الشورى
وهو مبدأ أصيل من مبادئ الشريعة في نظام الحكم الإسلامي، ووصف من أوصاف المسلمين في تجمعهم ومباشرتهم أمور الحكم والسلطان، قال تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، وقال تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، إنَّ هذا المبدأ أسمى وأعدل وأحكم قواعد الحكم الصالح بين البشر، ولا يمكن الاستعاضة عنه بغيره، وقد جاء بدرجة كافية من العموم والمرونة؛ بحيث يتَّسع لكل تنظيم صحيح يوضع لتطبيق هذا المبدأ، وسيأتي شيء من التفصيل لهذا المبدأ عند الكلام عن نظام الحكم في الإسلام.
88-
ثانيًا: مبدأ المساواة
وهو أيضًا من مبادئ الإسلام العظيمة، وله مظاهر كثيرة في جميع جوانب التشريع الإسلامي، منها: المساواة أمام القانون، وفي تطبيق الأحكام، وفي المراكز القانونية إذا ما تساوى الأشخاص في الشروط التي يشترطها التشريع الإسلامي، ومساواة في التكاليف إذا تساوى الأفراد في أسبابها الموجبة، إنَّ هذ المبدأ العظيم طبِّق فعلًا في واقع الحياة، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطبيقه، فقد جاء في السُّنَّة الشريفة أنَّ امرأة من بني مخزوم سرقت، فجاء أسامة بن زيد يستشفع لها عند رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"أتشفع في حَدٍّ من حدود الله"؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّما أهلك الذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".
ولا شكَّ أن المساوة وما ابتني عليها وما تفرَّع عنها، قاعة يهش لها العقل السليم
وتتقبلها الفطرة السليمة، وتستقيم بها الأمور، وتنصلح الأحوال، ومن ثَمَّ فهي صالحة في كل زمان ومكان.
898-
ثالثًا: مبدأ العدالة
العدالة في الإسلام مبدأ بارز، يظهر هذا البروز في الأمر بها، والحكم بين الناس بموجبها، والالتزام بمقتضاها بالنسبة للقريب والبعيد، والعدو والصديق، وفي المحكمة وفي السوق، وإدارة شئون الدولة وفي البيت، وحتى فيما يعطيه الأب لأولاده، إنَّ روح العدل وجوهره إعطاء كل ذي حق حقه، واستعمال كل شيء في موضوعه، وهذا المعنى الواسع للعدل يحكم جميع تصرفات الإنسان، وعلاقاته بغيره، وواجباته نحو غيره من بني الإنسان.
ومن النصوص القرآنية الواردة في موضع العدل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ولا شكَّ أن هذا المبدأ يضمن مصالح الناس ويتَّسِع لكل تنظيم صحيح يحقق معنى العدالة والمقصود منها، فإذا رُؤِيَ أنَّ تحقيق العدالة في القضاء يستلزم جعل المحاكم على درجتين: ابتدئية واستئنافية، أو أنَّ المحكمة تؤلف من أكثر من حاكم واحد، أو تعيين هيئة تدقيقية لأحكام المحاكم "محكمة التمييز"، فهذا ونحوه سائغ جائز ما دام فيه تحقيق العدالة في القضاء على وجه سليم.
90-
رابعًا: قاعدة: لا ضرر ولا ضرار
وهي حديث نبوي، ومعناها: إنَّ الضرر مرفوع بحكم الشريعة، أي: لا يجوز لأحد إيقاع الضرر بنفسه أو بغيره، كما أنَّ مقابلة الضرر بالضرر لا يجوز؛ لأنه عبث وإفساد لا معنى له، فمن أحرق مال غيره فلا يجوز للغير إحراق مال المعتدي، وإنما له أن يطالبه بالتعويض، وإذا كان الضرر ممنوعًا فإنَّه إذا وقع وجب رفعه، ولهذا جاءت قاعدة فرعية مبنية على هذه القاعدة هي:"الضرر يزال"، وهناك فروع وأحكام كثيرة بنيت على هذه القاعدة، منها: تقرير حق الشفعة، ومنع التعسف في استعمال الحق،
وحق السلطة في اتخاذ الإجراءات الوقائية لمنع الضرر عن الناس؛ كحجر المرضى والقادمين إلى البلاد في محاجر خاصة، والتسعير في ظروف معينة، إلخ.
91-
النوع الثاني: الأحكام التفصيلية
الأحكام التفصيلية في الشريعة الإسلامية كثيرة يطول شرحها وبيانها وفحصها؛ لاظهار مدى قابليته للبقاء والاستمرار، ولهذا نكتفي بأخذ "عينات" و"نماذج" من هذه الأحكام للتأمل فيها وفحصها والتحديق فيها؛ ليتبين لنا مدى صلاحيتها للبقاء والعموم. إنَّ أحكام الشريعة كما ذكرنا إما أن تتعلق بأمور العقيدة أو بالأخلاق أو بالعبادات أو بالمعاملات، وعلى هذا نأخذ بعض النماذج من كل مجموعة من هذه المجموعات.
92-
فمن أحكام العقيدة وجوب الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومسألة الإيمان بالله ورسوله من المسائل البديهية التي يؤمن بها كل عقل سليم وكل فطرة سليمة، وعليها من الأدلة والبراهين ما لا يوجد على غيرها من البديهيات، وقد قدَّمنا بعض ذلك أثناء كلامنا عن أركان الإسلام، وعلى هذا فلا يتصور مجيئ زمان أو جيل من الناس يقال فيه: إن مسألة الإيمان بالله وما يتفرّع عنها من مسائل العقيدة، أو مسألة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، أصبحت من المسائل العتيقة التي تناقض العصر ولا يقرّها العقل؛ لأن العقل لا ينكر الحقائق الثابتة، وأنما يؤكدها ويعمقها في النفس؛ ولأنَّ شأن الحقائق الثابتة الخلود، والعقل يعترف ويقر بهذا الثبات، ولا شكَّ أن الإيمان بالله من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا يمكن أن تتغير وتنقض في أي زمان، فهي كمسألة واحد وواحد يساوي اثنين.
93-
ومن أحكام العبادات وجوب الصلاة والصيام ونحو ذلك، ومسائل العبادة من لوازم الإيمان بالله ومقتضاه؛ لأنها تنظيم لعلاقة الفرد بخالقه، والوفاء بحق هذا الخالق العظيم، والإنسان لا ينفكُّ عن صفة مخلوقيته لله في أي دهر من الدهور، وفي أي زمن من الأزمان، وبالتالي لا ينفكّ عن وجوب أداء حق الله عليه، ولا يستغني عن تنظيم علاقته بربه، والعبادات بعد هذا وسيلة لتزكية النفس وطهارتها، وحشوها بمعاني الحق، وتخليتها من الكدروات، وربطها بخالقها، ودفعها إلى الخير، ومنعها من الشر، وقد أشار القرآن الكريم لبعض هذه المعاني في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، ولا شكَّ أن المجتمع سيكون سعيدًا جدًّا إذا كثرت فيه النماذج البشرية التي صقلتها عبادات الإسلام، وسيكثر فيه الخير قطعًا، ويقل فيه الشر إن لم ينعدم، وفي ذلك كله تحقيق كبير لمصلحة الجماعة في كل زمان ومكان، ومن ثَمَّ فأحكام العبادات لا بُدَّ منها في أيِّ مجتمع إنساني، وبالنسبة لكل فرد في القرن العشرين، أو في أي قرن بعده.
94-
وأحكام الأخلاق كوجوب الصدق والوفاء، والالتزام بالكلمة، والتعاون على البِرِّ، وحمرة الكذب والغدر والخيانة والتعاون على الشر، والتحلل من المسئولية، واستغلال النفوذ، والظلم، ونحو ذلك. أقول: هذه الأحكام الأخلاقية بالوجوب والتحريم ضرورية لكل إنسانٍ ولكل مجتمع إنساني يريد الصلاح والسداد، إنَّه لا يغني عن الأخلاق أيّ تقدُّم في مجال الثقافة والعلوم، إنَّ الأزمة التي يمر بها العالم اليوم، والاضطراب في المجتمعات، وسوء العلاقات بين الأفراد، مردُّها إلى زعزعة القيم الإخلاقية في النفوس وتجاوزها، فهي أزمة أخلاقية في جوهرها وأساسها، والشريعة في تأكيدها على الأخلاق لم تكن مسرفة في هذا التأكيد، ولا مبالغة فيه؛ لأنها أكدت على ما هو ضروري لأقامة قواعد الإصلاح على أساسٍ متينٍ ابتداء من النفس. والأخلاق بعد هذا معانٍ ثابتة يحتاجها الإنسان السويّ، ولا يتصور أن يجيء يوم يقال فيه: إن الصدق والعدل والوفاء بالعهد وترك الظلم معانٍ فاسدة عتيقة لم تد صالحة لزماننا أو عصرنا، اللهمَّ إلّا إذا ارتدَّ الإنسان إلى جاهلية جهلاءٍ لم تصل اليها الجاهلية الأولى، وسيأتي مزيد من التفصيل للأخلاق فيما بعد.
95-
والأحكام التفصيلية الأخرى المتعلقة بالمعاملات -أي: بعلاقات الأفراد فيما بينهم- هي الأخرى صالحة للبقاء والعموم؛ لأنَّ تفصيلها بُنِيَ على أساس أنَّ الحاجة إليها تبقى قائمة دائمًا، وأنَّ غيرها لا يسد مسدَّها أبدًا، ولا يحقق مصلحة الناس على الوجه الذي تحققه.
96-
فمن هذه الأحكام: تنظيم الأسرة، وكيفية الزواج، وحق الحضانة، والولاية، والنسب، والميراث، والطلاق، والنفقة، ونحو ذلك من شئون الأسرة، وكل هذه الأحكام جاء على نحوٍ صالح وافٍ كافٍ لتحقيق الخير والصلاح للناس، ولا يمكن الاستعاضة عنها بأحسن منها، فالنكاح جاء تنظيمه غاية في البساطة وخاليًا من
الشكلية والطقوس، فيكفي فيه إيجابٌ من الرجل وقبولٌ من المرأة بحضور شهود، وبرضى ولي المرأة صيانةً لهذا العقد الشريف الكريم من الابتذال والخداع، ولا يشترط لصحة النكاح أن يكون على يد شخص معيّن، أو في مكان معين، أو بكيفية خاصة، أو بلغة معينة، أو بتراتيل معينة، فهذه الكيفية البسيطة للنكاح تؤهله للبقاء والعموم، ولا يتصور العقل خيرًا منها.
وتشريع الطلاق هو الشيء الطبيعي المعقول؛ إذ لا يصح إجبار شخصين على إبقاء الرابطة الزوجية بالرغم من قيام ما يدعو إلى انفصالها، وإنما المعقول أن تباح الفرقة بينهما؛ ليذهب كل واحد إلى سبيله، ويجرّب حظه في شركة أخرى وزوجية جديدة.
ولهذا أباحت الدول الغربية الفرقة بين الزوجين بالرغم من تحريمه بزعمهم في الديانة النصرانية، ولا يقال لماذا أعطي للزوج حق الطلاق ومنعت منه المرأة؛ لأنَّنا نقول: إنَّ للمرأة أن تشترط لنفسها حق الطلاق في عقد الزواج إذا شاءت، وهذا شرط معتبر، كما لها أن تطلب التفريق من المحكمة إذا مسَّها ضرر من الزوج لا يمكن تلافيه إلّا بإيقاع الفرقة بينهما.
وتنظيم الميراث وتحديد أنصبة الورثة جاء على شكل ممتاز لوحظ فيه مختلف الاعتبارات؛ كقرب الوارث وحاجته، وتفتيت الثروة وتوزيعها، مما يجعل هذا التنظيم وما بني عليه من أسس واعتبارات صالحًا لكل زمان ومكان.
97-
وتحريم الربا، وهو حكم يخص المعاملات المالية، حكم تفصيلي غير قابل للتبديل والنسخ؛ لأن مفاسد الربا وأضراره ذاتية فيه، لا تنفك عنه أبدًا، ومن مظاهره: انحلال المجتمع وفساده، واستساغته للظلم، وفقدان التعاون الاجتماعي بين أفراده،
وعلاج مثل هذا المجتمع الفاسد يكون بإصلاحه جذريًّا لا بترك فساده واعوجاجه، وتشريع الأحكام الملائمة لهذا الفساد والاعوجاج.
98-
والعقوبات في الشريعة جاءت مفصّلة لعدد من الجرائم وهي: الردة، والزنى، والقذف، والسرقة، وقطع الطريق، وشرب الخمر، وقتل النفس، أمَّا الجرائم الأخرى فقد تركت الشريعة تقدير عقوبتها إلى القاضي، وتسمَّى الجرائم التعزير، وعقوباتها تسمَّى عقوبات التعزير، والعقوبات المقدرة كلها خير وصلاح وعدل ووقاية للمجتمع من الشرور والمفاسد، ولا يستغني أي مجتمع فاضل عنها؛ لأنها بنيت
على اساس العدالة وتحقيق الزجر للمجرم، وحفظ مصلحة الفرد والجماعة، فعقوبة الردة على أصلين: الأول: إخلال المسلم بالتزامه بأحكام الإسلام، الثاني: درء المفسدة عن المجتمع، وبيان ذلك أنَّ الفرد بإسلامه إلتزم بأحكام الإسلام وأصوله، وعدم الخروج عليها أو هدمها، فإن فعل ذلك مخلًّا بالتزامه، فيناله جزاء هذا الإخلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإنَّ في الردة وإعلانها مفسدة للجماعة وإضرار بها مع التعمُّد وسبق الإصرار؛ لأنَّ المرتدَّ ما كنَّا نعرفه لولا إعلان ردته المتعمدة، قاصدًا من وراء ذلك تشكيك الناس في عقائدهم، وإحداث الاضطراب فيما بينهم، وزعزعة كيان الدولة التي اتخذت الإسلام أساسًا لها في قيامها وبقائها وأهدافها.
فكان لا بُدَّ من عقوبة زاجرة لمنع هذا الفساد عن الناس وعن الدولة ذاتها، التي اتخذت الإسلام أساسًا لها كما قلنا. وعقوبة الزنى بنيت على أساس رعاية الأخلاق ومنع إفسادها للفرد والأسرة والمجتمع؛ كشيوع الأمراض واختلاف الأنساب وخراب البيوت والعزوف عن الزواج، وما إلى ذلك، والشريعة من أصولها وأهدافها العناية بالأخلاق ومنع الفساد عن الناس، ولا شكَّ أنَّ المجتمع الفاضل يرحب بهذه العقوبة ولا يضيق بها ولا يجد فيها إلّا الخير والمصلحة وزجر المفسدين الذين يريدون التلهي والعبث بأعراض الغير.
وعقوبة السرقة -وهي قطع اليد- هي العلاج الحاسم لقطع دابر هذا الاعتداء على أموال الغير، وإشاعة الطمأنينة في نفوس الناس، إنَّ قطع يد واحدة ثمن قليل جدًّا لتحقيق طمأنينة المجتمع. إنَّ قطع اليد الخائنة المجرمة كقطع اليد المتآكلة التي يقرر الطبيب وجوب قطعها لسلامة الجسد، إنَّ عقوبة السجن للسرَّاق ما ردعت وما قلَّلت حوادث السرقة، ولكن عقوبة قطع اليد ردعت في الماضي المجرمين عن السرقات.
ولا تزال هذه العقوبة قادرة على الردع والزجر في الوقت الحاضر، وكون هذه العقوبة قديمة لا يقدح في صلاحها، فليس كل قديم فاسدًا، ولا كل جديد صالحًا؛ لأن صلاح الشيء يستفاد من ذاته ومدى نفعه لا من جدته وقِدَمه.
وعقوبة القتل العمد في الشريعة الإسلامية هي القصاص، أي: قتل الجاني، والقصاص حقٌّ لأهل المجنيّ عليه، فلهم أن يطلبوه، ولا يسع المحكمة الامتناع عن
إجابتهم، كما لهم أن يعفوا ويتصالحوا مع القاتل على الدية، وفي حالة العفو أو المصالحة يجوز للمحكمة أن تعاقب القاتل عقوبة تعزيرية بالحبس أو الجلد، فهذا التنظيم لعقوبة القتل العمد تنظميم كامل لم يغفل جانب الطبيعة البشرية وما جبلت عليه من حب أخذ الثأر من الجاني، وانزال القصاص العادل به، كما لم يغفل جانب المجتمع ومصلحته.
فجميع العقوبات التفصيلية قامت على أوصافٍ ثابتة لا تتغير، ومن ثَمَّ فهي صالحة لكل مجتمع فاضل يريد أن يعيش بأمان واطمئنان.
99-
أمَّا عقوبات التعزير، وهي بالنسبة لجميع الجرائم التي لم تحدد الشريعة لها عقوبات، فالقاضي في تحديده العقوبة يلاحظ مدى جسامة ضررها بالمجتمع، وسوابق المجرم، وظروفه التي دفعته إلى الإجرام، إلى غير ذلك من الأمور، ويقرر بعد ذلك العقوبة المناسبة في ضوء قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ولا شك أن نظام التعزير نظام مرن في الشريعة، يمكِّنُها من مواجهة مختلف الحالات التي يلزم فيها العقاب، وبالتالي يكون صالحًا لكل زمان ومكان.
الدليل الثالث: مصادر الأحكام
100-
مصادر الأحكام الشرعية نوعان: الأول: مصادر أصلية وهي الكتاب والسنة النبوية، الثاني: مصادر تبعية قامت على المصادر الأصلية؛ كالإجماع والاجتهاد بأنواعه المختلفة؛ كالقياس والاستحسان والمصلحة المرسلة.
وهذه المصادر كلها تجعل الشريعة الإسلامية في غاية القدرة والاستعداد والأهلية للبقاء والعموم؛ بحيث لا يحدث شيء جديد إلّّا وللشريعة حكم فيه، إمَّا بالنص الصريح أو بالاجتهاد الصحيح، وبالتالي لا تضيق الشريعة بالوقائع الجديدة، وبالتالي لا تضيق بحاجات الناس ومصالحهم.
101-
ومن جميع ما تقدم من أدلة وبراهين يظهر لنا بغاية الوضوح أنَّ الشريعة الإسلامية شريعة فيها كل مقومات العموم المكاني والزماني، ومن ثَمَّ فهي للجميع وفي جميع الأزمان، وهذا من فضل الله على بني الإنسان.