الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة
أساسها:
685-
أساس هذه الوسائل النظرة الصحيحة لواقع الحياة وجريان أحداثها وفق قانون الأسباب والمسببات، وهذه الوسائل كثيرة، نذكر منها: الحذر، والاستعانة، أو يكون قريبًا منها، ونتكلم فيما يلي عن هذه الوسائل في فروع ثلاث:
الفرع الأول: الحذَر
معناه:
686-
الحذر في اللغة: الخفية والتحرُّز والتيقُّظ، ورجل حذر، أي: متيقظ، فهو متحرِّز ومتأهب لما يخاف أن يفاجأ به من مكروه1.
الحذر ممدوح غير مذموم:
687-
ومن تعريفه باللغة يتبيِّن لنا أنَّه يقوم على أساس المعرفة وأخذ الحيطة، فالحَذِرُ يعرف مدى ضرر المكروه المتوقع حصوله، فيخاف من وقوعه خوفًا يدفعه إلى أخذ الحيطة والتحرز، ومباشرة الأسباب لمنع وقوعه، أو لدفعه إذا وقع، أو لتقليل أضراره وأذاه، فهو ليس بخوفٍ مشوب باستسلام وقعود وانخلاع الفوائد واضطراب
1 انظر لسان العرب ج5 حرف الراء.
الفكر وتشوّش البال، واليأس من الخلاص، والاستسلام له قبل الوقوع، ولهذا فالحذر بالمعنى الذي بيَّنَّاه محمود غير مذموم، وهو من صفات أهل الإيمان والعقل السليم والفهم الدقيق لسنن الله في الكون، لا من صفات أهل الطيش والحماقة والجهالة وقِصَر النظر، فهؤلاء لا يعرفون الحَذَر ولا تَتَّسِع له عقولهم؛ لأنهم لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يحسّون بالمكروه المتوقَّع الحصول، إلّا إذا وقع فعلًا، أمَّا قبل وقوعه فهم عنه لاهون ساهون سادرون، ومن ثَمَّ يفاجئون به، فيدهشهم ويبهرم. والفرق دائمًا بين العاقل والجاهل أنَّ الأول يعرف الخطر قبل وقوعه، والمكروه قبل حلوله، فيتَّخذ العُدَّة لملاقاته ودفعه. أمَّا الثاني فلا يحسّ به أصلًا إلّا إذا وقع، ومن ثَمَّ لا يتخذ من الأسباب ما يدفعه أو يتوقاه، ولهذا الفرق يحسب الجاهل ما يفعله الرجل الحَذِرُ نوعًا من الخوف الذي لا مبرِّرَ له، ونوعًا من الجُبْن لا يتفق مع الإيمان، وكثيرًا ما يتأثَّر الرجل الحَذِرُ بأقوال الجهّال، فيترك ما يدعو إليه الحََذَر، ويتجاهل الخطر وإن تحققت مقدماته، فعلى الداعي المسلم أن لا يلتفت إلى أقوال هؤلاء. إنَّ مَثَلَ الحَذِرِ كصاحب السفينة يسير في البحر على ضوء ما تشير به حالة الجو، في ضوء قواعد علم الفلك والأنواء، ويأخذ الحذر المطلوب لتقلُّبات الجوِّ، وحتى إذا لم يحدث المتوقع فلا ضرر عليه فيما يأخذ من الحيطة، ومَثَلُ الجاهل الأحمق مَثَلُ الذي يسير في المحيط في مركب صغير، ولا يلتفت إلى ما تشير إليه الأخبار العلمية عن حالة الجو المتوقعة، بل يبلغ به الجهل إلى مخالفة ذلك، وسرعان ما يعطب به مركبه، وتتكسر ألواحه فيغرق بما فيه ومن فيه، وإن كانت نيته حسنة، وقصده مرضاة الله تعالى، وقد يكون مأجورًا في الآخرة، ولكن أمور الدنيا تجري وفق الأسباب والمسببات، لا وفق القصود والنيات.
دليل مشروعية الحَذَر من القرآن الكريم:
688-
قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا
حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} 1.
وهذه الآية الكريمة تدلّ دلالة صريحة قاطعة على وجوب أخذ الحَذَر، بل وتبيِّن للمسلمين كيفية الحذر مما يدل على أهميته، فالأمر بأخذ الأسلحة، والأمر بأن يكون بعض المسلمين وراء المصلين يحمونهم من العدو، وتقسيم المسلمين إلى طائفتين: طائفة تصلي وطائفة تحرس، والأمر بأخذ الحذر، وبيان أن الكفَّار يرغبون أن يترك المسلمون الحَذَر وأخذ أسبابه حتى يستأصلوا المسلمين مرَّة واحدة، كل ذلك دليل على وجوب الحيطة والتحرُّز، وأخذ الحَذَر من المكروه المتوقع، وأنقل هنا بعض ما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره؛ ليطَّلِع القارئ أنَّ علماءنا -رحمهم الله تعالى- أدركوا أهمية الحَذَر، ودعوا إليه استجابة لأمر الله وفهمًا لمعاني كتابه.
قال الأمام القرطبي -رحمه الله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} ، {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} ، هذه وصية بالحذر وأخذ السلاح؛ لئلَّا ينال العدو أمله ويدرك فرصته.
ثم قال رحمه الله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: تمنَّى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح؛ ليصلوا إلى مقصودهم، فبيِّنَ الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح، وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى؛ لأنها أولى بأخذ الحذر.
وفي هذه الآية أدلَّ دليل على تعاطي الأسباب واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة، ثم قال رحمه الله:{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} ، والحذر من العدوِّ في كل الأحوال وترك الاستسلام، إنَّ الجيش ما جاءه مصاب قط إلّا من تفريط في حذر2.
689-
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} 2، هذا خطاب للمؤمنين، وأمر لهم بجهاد الكفَّار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع، وأمر لأهل الطاعة بالقيام بإحياء دينهم، وإعلاء دعوته.
1 سورة النساء، الآية:102.
2 تفسير القرطبي ج5 ص371-373.
3 سورة النساء، الآية:71.
وأمرهم الله تعالى أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسَّسوا ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم1.
دليل مشروعية الحذر من السنة النبوية:
690-
وفي السنة النبوية شواهد كثيرة على مشروعية الحذر ولزومه بالنسبة للمسلم، ولا سيما للدَّاعي الذي يتعرَّض لمكائد الكفار والمنافقين، نذكر منها ما يأتي:
أولًا: عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلمَّا رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلّا لأمر حدث، قالت: فلمَّا دخل تأخَّر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبي بكر إلّا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج عني من عندك، فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، فداك أبي وأمي، فقال: إنَّ الله أذِنَ لي في الخروج والهجرة2، وفي أخبار هذه الحادثة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر من باب صغير في ظهر بيت أبي بكر، ومضيا إلى غار بجبل ثور، فلم يصعدا الغار حتى قطرت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم دمًا، وقد نسج العنكبوت وعشعشت حمامتان على باب الغار3، ففي هذا الخبر والذي قبله دليل قاطع على وجوب الحذر، ويظهر ذلك من:
أ- مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في الهاجرة؛ حيث ينقطع سير الناس عادة في الطريق أو يقل.
ب- طلبه صلى الله عليه وسلم من أبي بكر أن يخرج من داره مَن فيها مِمَّن يخشى اطلاعه على ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أعلمه أبو بكر بأنهما ابنتاه لم ير بأسًا من بقائهما.
ج- خروجهما من بابٍ في ظهر دار أبي بكر، فلم يخرجا من الباب الأصلي للدار.
هـ- اختفاؤه صلى الله عليه وسلم في الغار، وتحمُّله النَّصَب للوصول إليه، حتى إنَّ قدمية الشريفتين قطرتا دمًا.
و أمر الله تعالى العنكبوت بنسج خيوطه، وتعشيش الحمامتين؛ ليكون ذلك داعيًا لصرف أنظار المشركين عن وجودهما في الغار.
691-
ثانيًا: وفي السنة النبوية أيضًا أنَّ قريشًا عندما عزَّت على قتل رسول الله
1 تفسير القرطبي ج5 ص273.
2 سيرة ابن هشام ج2 ص97، وإمتاع الأسماع ص29.
3 سيرة ابن هشام ج2 ص98، وإمتاع الأسماع ص40.
-صلى الله عليه وسلم، أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبيت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام، فيثبون عليه، فلمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال لعلي بن أبي طالب:"نم على فراشي وتسَجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يصل إليك شيء تكرهه منهم"، ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حِفْنَة من ترابٍ في يده، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم
…
"1.
692-
ثالثًا: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم2 يوم كانوا في مكة.
الحاجة إلى الحذر:
693-
وإذا كان الحذر مشروعًا، فهل يحتاج إليه الداعي، وهل يجب عليه إذا كان محتاجًا إليه؟ الجواب: نعم قد يحتاج إليه الداعي، كما لو كان في مجتمع كافر مثل المجتمعات الوثنية في إفريقيا وآسيا، والملأ في هذه المجتمعات يكيدون للداعي إلى الله، ويعرقلون سعيه في نشر الإسلام، أو يريدون البطش به، وقد يكون الأخذ بالحَذَر في هذه الحالة وأمثالها واجبًا عليه؛ لأنَّ تركه قد يفضي إلى التهلكة وقطع جهاد الداعي في سبيل الله، وإلقاء النفس بالتهكلة، مع إمكان الاحتراز، لا يجوز، فيكون الأخذ بأسباب دفعها واجب، كما أنَّ بقاء الداعي وحريته في الرواح والمجيء على نحوٍ من الأنحاء، وما يتبع ذلك من نشر الإسلام خيرًا كثيرًا إذا هلك بسبب ترك الحذر، فيلزمه الحذر لهذه الغاية.
الحذر والتوكل على الله:
694-
ويجب أن يكون واضحًا تمامًا أنَّ الأخذ بالحذر وأسباب الحيطة واليقظة والتحرُّز لا يعني عدم الثقة بالله، ولا ينافي التوكُّل عليه؛ لأنَّ الحذر من الأسباب، ومباشرة الأسباب لا تنافي التوكُّل، ولكن لا يجوز أبدًا الاطمئنان والركون إليها،
1 ابن هشام ج2 ص95.
2 ابن هشام ج1 ص275.
والتعلق بها؛ لأن الأسباب والمسببات بيد الله وحده، فهو الذي يهيئ السبب، وهو الذي يوفّق إليه ويدل عليه، ويجعله مفضيًا إلى نتيجة، ولو شاء لسلبه ما به صار سببًا، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، بل إنَّ المسلم يباشر الأسباب لأنَّ الله أمر بها ودعا إليها، ولكن يبقى القلب معتمدًا على الله وحده، متلفِّتًا إليه متعلقًا به كأنَّ صاحبه لم يباشر أيّ سبب أصلًا، ومثاله مثال الزارع في أرض الديم، ينثر الزرع ويتعهده، واعتماده على الله وحده، لا على ما باشره من أسباب، وهذه كانت حالة سيد المتوكلين رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد باشر الأسباب في هجرته كما بَيَّنَّا، ودخل مع صاحبه أبي بكر إلى الغار، وأخذا بالحيطة والحَذَر، ولكن اعتماده ما كان على ما باشره من أسباب، وإنما كان اعتماده على الله وحده، ولهذا لمَّا شعر أبو بكر بالقلق على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه الحزن من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له الرسول الكريم -كما أخبرنا الله:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، فكان نظر رسول الله واعتماده على معية الله لهما بالنصر والحفظ والتأييد، لا على ما باشره من الأسباب.
أنواع الحذر:
695-
والحذر أنواع من جهة ما يحذره الداعي المسلم، فهناك حذره من الوقوع في المعصية، وحذره من الأهل والولد، وحذره من اتباع الهوى، وحذره من المنافقين والكافرين، ولا بد من كلمة قصيرة عن هذه الأنواع.
الحذر من المعاصي:
696-
قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، أي: يحذركم عقابه بأن تباشروا المعاصي وما يسخط الربَّ جل جلاله، فيحلّ عليكم عذابه، أو تفقدوا نصره وتأييده، والداعي إلى الله يحذر أن يحل عليه غضب الله، أو يقطع عنه مدده وعونه ونصره وتأييده وحفظه، ولهذا فهو دائم التعلُّق بالله، شديد الحذر من الوقوع فيما يغضب الله تعالى، فهو دائم المراقبة لربِّه، دائم التقتيش في زوايا نفسه؛ لئلَّا ينبت فيها شيء من الرياء -وما أصعب التوقي منه، أو طلب السمعة عند الناس، أو الإعجاب بالنَّفس وبالتعالي على الخلق، والمَنِّ بما يقوم به من أمور الدعوة، إلى غير ذلك من أقذار المعاصي
القلبية، فإنَّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية، قال جل جلاله:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} 1.
الحذر من الأهل والولد:
697-
والأهل والولد مجبنة مبخلة، كما جاء في بعض الآثار؛ لأنَّ حب المسلم لأهله وولده قد يقعد به عن الجهاد في سبيل الله، ويحبّّب إليه الامتناع عن البذل حيث يحب الله منه البذل، وقد يمنعونه فعلًا عن الجهاد وعن العمل؛ ليوفر لهم الراحة والطمأنينة في زعمهم، وقد يستجيب لهم، فيكون فعلهم هذا فعل الأعداء، والعدو يستحق الحذر والإفلات من مكيدته، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} 2، ووجه عداوتهم كما يقول ابن العربي المالكي:"إن العدو لم يكن عدوًّا لذاته، وإنما عدوًّا بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوًّا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة"، وقال أهل التفسير: إنَّ هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهلٍ وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تتركنا؟ فيرِقُّ لهم ويقيم عندهم"3، فليحذر الداعي المسلم جهالة الأهل والولد وتثبيطهم له عن الجهاد في سبيل الله والدعوة، فهم مجبنة مبخلة كما قلنا.
الحذر من اتباع الهوى:
698-
وليحذر الداعي من الانزلاق إلى متابعة الهوى وترك الحق بحُجَّة تكثير سواد المستجيبين، أو بحُجَّة قبول الدعوة وانتشارها، فإنَّ دعوة الله ليست بحاجة إلى تكثير سواد أتباعها من طريق الخيانة، وإرضائهم بالباطل وبما يسخط الله تعالى، قال ربنا تبارك وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 4، وقد جاء في
1 سورة البقر ة، الآية:235.
2 تفسير القرطبي ج18 ص141، والآية في سورة التغابن.
3 تفسير القرطبي ص140.
4 سورة المائدة، الآية:49.
تفسير هذه الآية: إنَّ جماعة من أحبار اليهود تآمروا فيما بينهم على أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلوِّحوا له بإسلامهم إذا استجاب لما يطلبون، فأتوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا له: لقد علمت مكانتنا في قومنا، وإنَّنَا إذا أسلمنا أسلمت يهود كلها، وإنَّ لنا خصومة مع بني فلان، ونريد أن نحاكمهم إليك، فاحكم لنا عليهم، فإن فعلت ذلك أسلمنا وأسلمت يهود معنا، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية"1.
الحذر من المنافقين والكفار:
699-
المنافقون أصناف شتَّى، منهم: المنافق الخالص، ومنهم من فيه شوب نفاق يلوّث إسلامه، ومنهم بين هؤلاء وأولئك. وضرر المنافقين في المسلمين عظيم، وقد يكون أكثر من ضرر الكفَّار؛ لظهور هؤلاء وخفاء أولئك، فعلى الداعي المسلم أن يحذرهم، فلا يسمع لقولهم، ولا يثق بهم، ويسد المنافذ في وجوهم، ويحبط مكائدهم، قال تعالى في أوصاف المنافقين ووجوب الحذر منهم:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2، ويقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: وفي قوله تعالى: {فَاحْذَرْهُم} وجهان؛ أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم، أو تميل إلى كلامهم، الثاني: فاحذر مما يلتهم لإغرائك، وتخذيلهم لأصحابك3.
وسائل الحذر:
700-
وسائل الحذر كثيرة، تختلف باختلاف ما يُحْذَر منه، وباختلاف الظروف والأحوال، ونذكر منها ما يأتي على سبيل المثل، وهي التي وردت فيها الآثار -ويجوز القياس عليها عند الحاجة، وهذه الوسائل يأخذها الداعي في المجتمعات الوثنية، كما لو ذهب إلى بلدان إفريقية الوثنية يعلِّم الناس هناك الإسلام، ومن هذه الوسائل:
701-
أولًا: البدء بمكاشفة الموثوقين بالدعوة إلى الله حذرًا من الأعداء، وهذا الحذر لازم في المجتمعات الوثنية والكافرة التي يضيق الملأ فيها من انتشار
1 القرطبي ج6، ص212، ومعنى يفتنوك أي يصدوك.
2 سورة المنافقون، الآية:4.
3 القرطبي ج18، ص126.
الإسلام كما في البلاد الوثنية في إفريقيا، ودليل هذا الحذر ما جاء في السيرة:"فلمَّا أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وَثِقَ به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه"1.
702-
ثانيًا: بالتخفي والاستتار، إحباطًا لكيد الكافرين، وإبعاد أذاهم عن الداعي إلى الله، ودليلنا على ذلك اختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق في الغار.
703-
ثالثًا: اعتزال القوم والاختفاء عنهم، ودليلنا على ذلك فتية أهل الكهف، وفيهم قال الله تعالى:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} .
وإذا جاز هذا النوع من الاعتزال جاز ما دونه، كالهجر وعدم المخالطة والتوقف عن نشر الدعوة إلى حين، نزولًا عند حكم الضرورة، وفي هذه الحالة ينبغي للدَّاعي أن ينشغل بنفسه ويقبل على عبادة ربه، ويتأمل في أمور الدعوة والافتكار فيها، إلى أن يزول ما دعاه إلى الاعتزال.
704-
رابعًا: الخروج إلى المحل الأمين تخلصًا من أذى الكافرين، ودليلنا على ذلك خروج المسلمين إلى الحبشة2. والواقع أنّ الخروج من أرض الكفرة؛ حيث يتَّجِه كيدهم إلى البطش بالداعي إلى الله، أمر ذكره الله تعالى دون إنكار، مما يدل على مشروعيته في حق الدعاة المسلمين، قال ربنا تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 3.
705-
خامسًا: عدم إظهار المسلم إسلامه إذا كان في هذا الإظهار تنكيل الكفرة بالمسلم، قال تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} 4، وقد قصَّ الله علينا
1 ابن هشام ج1 ص268.
2 ابن هشام ج1 ص342.
3 سورة القصص، الآية: 20،21.
4 سورة غافر، الآية:27.
خبر ذلك المؤمن الذي كان يكتم إيمانه دون إنكار، فدلَّ على جواز كتم الإيمان عند الضرورة، ومن باب أولى جواز أن يكتم الداعي إلى الله صفته عن الكفار، بل ويجوز أن يكتم اسمه، ودليلنا على ذلك أنَّ رسول لله صلى الله عليه وسلم عند مسيره إلى بدر ذَهَبَ هو وأبو بكر رضي الله عنه بعيدًا عن المسلمين، فوقف على شيخ من العرب، وسأل عن قريش لمَّا أجابه سألهما: ممن أنتما؟ فقال رسول الله: "نحن من ماء" 1، ومما يدل أيضًا على جواز إخفاء المسلم إيمانه، أنَّ مسلمي المدينة واعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم المجيء إلى العقبة في مِنَى خارج مكة، وقد جاء في أخبار هذه الحادثة ما يرويه واحد من الذين حضروا العقبة، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كعب بن مالك، قال: "وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، ثم قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْبِ عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا ومعنا امرأتان.. قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا معه العبَّاس
…
3.
706-
سادسًا: التفرق وعدم إظهار ما يلفت نظر الكفرة، قال تعالى عن يعقوب عليه السلام:{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 4.
707-
سابعًا: إخفاء الداعي قصده وتفاصيل ما يريده، جاء في السيرة النبوية:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّمَا يخرج في غزوة إلّا كنَّى عنها، وأخبر أنَّه يريد غير الوجه الذي يقصد له، إلّا ما كان في غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة"4.
1 سيرة ابن هشام ج2، ص255.
2 سيرة ابن هشام ج1، ص49.
3 سيرة يوسف، الآية:67.
4 سيرة ابن هشام ج4، ص129.
الفرع الثاني: الاستعانة بالغير
الاستعانة بأهل الخير والكفاءة:
708-
الداعي حريص على إيصال الدعوة إلى الناس، ومن أجل هذا يستعين بكلِّ وسيلة مشروعة لتحقيق ما يحرص عليه، ومن الوسائل المشروعة استعانته بأهل الخير والكفاءة، قال تعالى عن موسى عليه السلام:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} 1، فموسى عليه السلام طلب من ربه أن يساعده بأخيه هارون؛ لأنه كما قال تعالى في بيان سبب ذلك الطلب:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} ، ومعنى ردءًا أي: وزيرًا ومعينًا ومقويًّا لأمري، يصدقني فيما أقوله، ويبيِّن عني ما أكلمهم به، فإنه أفصح مني لسانًا، ويفهم عني ما لا يفهمون، فالداعي المسلم لا يتردد أبدًا في الاستعانة بكفاءة غيره من المسلمين، وقدرته في مجال الدعوة، وسيكون مسروًا جدًّا إذا ما وجد مسلمًا ذا قدرة وكفاءة وأمانة في أمور الدعوة، مع رغبته في الإسهام في هذا المجال، وإذا ما أحسَّ الداعي بضيقٍ في صدره من عمل المسلم الكفء في الدعوة إلى الله، فإنَّ إخلاصه لا بد أن يكون مشوبًا بحبِّ السمعة والرياء، فليسارع في تنقية إخلاصه، وفسح المجال للكفء الأمين بالإسهام في جهاد الدعوة إلى الله تعالى.
الاستعانة لغرض الحماية:
709-
ويجوز للداعي المسلم أن يستعين بالمسلمين لحمايته ممن يريد إيذاءه أو منعه من تبليغ الإسلام، ودليلنا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، يدعوعهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه -أي: يحموه، حتى يبيِّن عن الله ما بعثه، فكان صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، ويقول: "يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا
1 سورة طه، الآيات: 29-35.
تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي، وتمنعوني حتى أبيِّن عن الله ما بعثني به"1، وفي بيعة العقبة الكبرى قال صلى الله عليه وسلم: "أبايعكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم" 2.
استعانة الداعي بغير المسلم:
710-
قد يحتاج الداعي إلى حماية المشرك مِمَّن يريد إيذاءه أو منعه من تبليغ الدعوة، فهل يجوز للداعي أن يطلب هذه الحماية من غير المسلم، أو يقبلها إذا عرضها عليه؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما شروط طلبها أو قبولها؟ ثم هل يجوز للداعي أن يستعين بغير المسلم في بعض أمور الدعوة؟ هذا ما نجيب عنه في الفقرات التالية:
جواز الاستعانة بغير المسلم لغرض حماية الداعي:
711-
يجوز للداعي المسلم أن يقبل حماية غير المسلم له، ومنع الأذى عنه، وتمكينه من الدعوة إلى الله، كما يجوز للداعي أن يطلب هذه الحماية منه، ودليلنا على ذلك ما يأتي:
أولًا: من الثابت أنَّ أبا طالب كان يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمنعه من قريش، وكان صلى الله عليه وسلم حريصًا على بقاء عمِّه أبي طالب على موقفه هذا، وعدم تخليه عنه، وقد رفض أبو طالب فعلًا التخلي عن ابن أخيه، بالرغم من إغراء قريش وتهديدها، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقام في بني هاشم وبني المطلب "فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه.... إلخ"3، ولمَّا مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب، حتى قال صلى الله عليه وسلم:"ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب" 4 وسمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العام الذي ماتت فيها خديجة رضي الله عنها وأبو طالب عام الحزن5.
1 ابن هشام ج2، ص31، 32.
2 ابن هشام ج2، ص50.
3 ابن هشام ج2، ص281.
4 ابن هشام ج2، ص236.
5 إمتاع الأسماع، ص27.
ثانيًا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصر من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، هذا ما رواه ابن هشام في سيرته"1.
ثالثًا: وفي إمتاع الأسماع للمقريزي: "ويقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا عاد من الطائف وانتهى إلى حراء، بعث رجلًا من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه فأجاره"2.
رابعًا: عندما رجع المسلمون المهاجرون إلى الحبشة ظنًّا منهم أن أهل مكة أسلموا، "ولم يدخل منهم أحد إلّا بجوار أو مستخفيًا"3 أي: بجوار مشرك ليمنعه من إيذاء أو اعتداء قريش.
خامسًا: عرض ابن الدغنَّة على أبي بكر جواره، فقَبِلَه أبو بكر، فقال ابن الدغنة: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلّا بخير"4.
تعليل جواز الاستعانة بغير المسلم:
712-
الأخبار التي ذكرناها صريحة في الدلالة على جواز قبول أو طلب حماية غير المسلم، فما تعليل ذلك؟ تعليل ذلك أنَّ الدعوة إلى الله تحتاج إلى جوٍّ هادئ خالٍ من المضايفات والعقبات في طريق الدعوة، وخالٍ من الاعتداءات على الداعي، ومنعها من التبليغ؛ لأنَّ الدعوة إلى الله كالبذر وكالبناء، والبذر لا ينبت في الأعاصير والرياح، والبناء لا يقوم في الهياج وانشغال البناة في مدافعة الأذى، والاعتداء عن أنفسهم، ولهذا لمَّا توفَّر للدعوة الإسلامية الجوَّ الهادئ بعد صلح الحديبية، دخل في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك الصلح أو أكثر5، فالغرض من قبول حماية غير المسلم هو تمكين الداعي من القيام بنشر الإسلام والدعوة إلى الله تعالى،
1 ابن هشام ج2، ص28.
2 إمتاع الأسماع، ص28.
3 ابن هشام ج1، ص288.
4 ابن هشام ج1، ص396.
5 ابن هشام ج3، ص278.
وليس الغرض منها التمتُّع بالحياة والراحة فيها، ولا مداهنة المشركين، وليس في قبول هذه الحماية شيئ، وإنما هي تشبه قيام المشرك برفع الأذى عن طريق المسلم، أو ردّ الاعتداء عنه أو حراسته، فهذه الأمور مقبولة من المشرك، فكذا قبول حمايته.
شروط قبول حماية غير المسلم:
713-
ويشترط لقبول حماية غير المسلم أو طلب هذه الحماية أن لا يكوننَّ ذلك على حساب معاني الإسلام أو التنازل عن شيء منها، ولهذا لمَّا قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم:"فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق"، قال صلى الله عليه وسلم:"يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته"، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى، ثم قال: فلمَّا ولَّى ناداه أبو طالب فقال: "أقبل يا ابن أخي، ثم قال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدً"1، وكذلك ردَّ أبو بكر جوار ابن الدغنة لمَّا طلب منه أن لا يصلي في مسجده عند باب داره في بني جمح2.
714-
ويجوز قبول حماية غير المسلم وإن كان الغرض الأول منها الخلاص من إيذاء الكفرة وبطشهم؛ لأنَّ بقاء المسلم حيًّا يعطيه فرصًا في المستقبل للقيام بواجب الدعوة إلى الله، دليلنا على ذلك ما جاء في سيرة ابن هشام:"فلمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، أنه لا يقدر على أن يمنعهم مِمَّا هم فيه من البلاء، قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنَّها بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه" 3.
الاستعانة بغير المسلم في بعض الأمور:
715-
ويجوز للداعي أن يستعين بغير المسلم في بعض الأمور، وإن اقتضى ذلك اطِّلاعه على بعض ما له صلة بعمل الداعي في مجال دعوته إلى الله تعالى، دليلنا على ذلك:
1 ابن هشام ج1، ص278.
2 ابن هشام ج1، ص396.
3 ابن هشام ج1، 343.
أولًا: جاء في حديث الهجرة إلى المدينة أنَّ أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط، رجلًا من بني الديل بن بكر -وكان مشركًا- يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما"1.
ثانيًا: "وفي بيعة العقبة الكبرى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ومعه العبَّاس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، "إلّا أنه أحبَّ أن يحضر أمر بن أخيه ويتوثق له"2.
ثالثًا: "وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عنه شيئًا كان بها"3.
617-
فهذه الأخبار صريحة في الدلالة على جواز الاستعانة بغير المسلم في بعض الأمور التي لها علاقة بالدعوة، ولكن يشترط لهذه الاستعانة التوثُّق من المشرك، والاطمئنان إلى عدم خيانته للمسلم، أو كشف ما طَّلع عليه، وهذه أمور تقديرية متروكة لتقدير الداعي المسلم وفطنته، ومدى الحاجة إلى ولوج هذا المسلك. وموقف المشرك المفيد للمسلم وكتمه ما يطَّلع عليه من شئونه، قد يرجع إلى قرابته من المسلم، أو الجميل أسداه إليه المسلم، أو لصدق معاملته معه، أو لحسن أخلاقه وسيرته، كما قال بن الدغنة لأبي بكر رضي الله عنه قبل أن يعلن جواره له:"فوالله، أنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع وأنت في جواري"4، ولا ضير على المسلم إذا استفاد من الموقف المفيد الحميد الذي يقفه من المشرك لأيِّ سبب من الأسباب.
1 ابن هشام ج2، ص98.
2 ابن هشام ج1، ص49.
3 ابن هشام ج3، ص45، ومعنى عيبة نصح رسول الله: أي موضع سره، صفقهم معه أي: هواهم له، واجتماعهم عليه.
4 ابن هشام ج1، ص396.
الفرع الثالث: النظام
أهمية النظام:
717-
النظام وسيلة جيدة لا بُدَّ منها لحسن استخدام الجهود وتوجيهها على نحوٍ مثمر في مجال الدعوة إلى الله، وبالتالي زيادة فرص النجاح للداعي في بلوغ هدفه.
وبدون النظام تتبعثر الجهود، ويكون السير على غير هدى، والإسلام هو دين النظام، فالصلاة تؤدَّى بنظام من جهة الوقت ومتابعة المأموم للإمام، وكذا في العبادات الأخرى مثل الحج والصيام والزكاة.
حاجة الداعي إلى النظام:
718-
والداعي المسلم يحتاج إلى تنظيم وقته، فإنَّ الوقت هو الحياة، وهو رأس ماله، وعليه أن يجعل شعاره الحديث الشريف:"من استوى يوماه فهو مغبون"، فلا بُدَّ إذن في حساب الداعي أن يكون غده خيرًا من يومه الحاضر، ويومه خيرًا من أمسه، وهذه الخيرية تقوم على مقدار ما يقدِّمه من جهود وجهاد في سبيل الدعوة إلى الله، وما يحققه من هداية في الناس، فإنَّ هداية شخص وتخليصه من النار خيرٌ للداعي من حُمُر النِّعَم. وتنظيم وقت الداعي يقوم على تقسيم يومه إلى أجزاء، وتخصيص كل جزء إلى أداء ما عليه من واجبات، فجزء لنفسه، وجزء لأهله، وجزء لعبادة ربه، وجزء للدعوة إلى الله، وحذار أن ينفق أوقاته فيما لا فائدة فيه، فإنَّ الواجبات أكثر من الأوقات؛ ولأنَّه معرَّض للموت في كل لحظة، فمن الحزم المبادرة إلى استغلال كل دقيقة من وقته في أداء واجب أو مستحب أو مندوب.
حاجة الجماعة إلى النظام:
د719- الدعوة إلى الله تعالى قد تكون جماعية، كما أشرنا إلى هذا من قبل، قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، والأمة معناها الجماعة، فإذا ما كانت الدعوة
1 سورة آل عمران، الآية:104.
إلى الله جماعية، كما قام نفر من المسلمين بنشر الإسلام في المجتمعات الوثنية كمجاهل إفريقيا، فعليهم أن يرعوا قواعد النظام التي أمر بها الإسلام، حتى تثمر جهودهم ولا تضيع، فإنَّ القليل من العمل بنظامٍ، والدوام عليه، خير من التكثير مع الفوضى والانقطاع، ومن مظاهر العمل الجماعي تشكيل الجمعيات الدينية التي تنشر محاسن الإسلام، وتعلم الناس أمور الدين والعبادة.
معالم النظام الجماعي في التشريعة الإسلامية:
720-
ومعالم النٌّظم في الشريعة الإسلامية للعمل الجماعي في مجال الدعوة إلى الله كثيرة، ويجب مراعاتها والاهتمام بها، فمن هذه المعالم:
أولًا: لا بُدَّ لكلِّ جماعة من رئيس، تلك حقيقة قررتها الشريعة وأمرت بها، ويؤيدها الواقع، ويدركها العقل السليم، ولهذا جاء في الحديث الشريف:"إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم"، ويقول الإمام ابن تيمية تعليقًا على هذا الحديث:"فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع؛ ولأنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتمّ ذلك إلّا بالقوة والإمارة"3، والمقصود من الإمارة تحقيق طاعة الله ورسوله وتنفيذ أوامره، قال ابن تيمية:"فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يتقرَّب بها إلى الله، فإن التقرب إليه بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها"2.
ثانيًا: في بيعة العقبة الثانية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا؛ ليكونوا على قومهم بما فيهم"3.
ثالثًًا: كان صلى الله عليه وسلم كلما خرج من المدينة لغزوة ونحوها يعيِّن من ينوب عنه على المدينة.
1 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28، ص930.
2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28، ص391.
3 ابن هشام ج2، ص51.
المقصود من الإمارة:
721-
والمقصود من اتخاذ الأمير أو الرئيس للجمع القليل أو الكثير، جريان أمور المجتمعين على نسقٍ واحد، ولا يتحقق هذا المقصود إلّا بطاعة الجماعة للرئيس عند اختلاف الآراء، وإلّا لم يكن للإمرة معنًى ولا فائدة، جاء في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألّا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق أينما كنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم"1، والطاعة في المعروف لا في المعصية، جاء في الحديث الشريف: "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق".
ضرورة الطاعة:
722-
والطاعة للرئيس ضرورية في كل عمل، وهي أشد ضرورة لعمل الجماعة التي تدعو إلى الله، وتقوم بنشر الإسلام، ولهذا فقد بلغ من فقه الصحابة الكرام للطاعة أنَّهم كانوا في حفر الخندق حول المدينة يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته، بخلاف المنافقين المندَّسين في صفوف المسلمين، فقد كانوا يتسلَّلون لواذًا ولا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن هشام: ويتسللون -أي المنافقين- إلى أهلهم بغير علمٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أذن، وكان الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بُدَّ له منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستأذن في اللحوق لحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عملٍ رغبةً في الخير واحتسابًا له، فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
1 ابن هشام ج2، ص63.
2 سورة النور، الآية: 62، ابن هشام 390، ص170.
الطاعة والمشاورة:
723-
ولا يعني قولنا بلزوم الطاعة ترك المشاورة، فإنَّ الرئيس يجب عليه أن يشاور أفراد الجماعة، وقد قال العلماء:"لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم-1، كما أنَّ لأيِّ فرد أن يبدي رأيه على الرئيس، وعلى الرئيس أن يسمعه -وإذا كان صوابًا أخذ به، يدل على ذلك ما جاء في السيرة النبوية "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكَّة يريد العمرة في السنة السادسة للهجرة، فاستعدّت قريش لمنعه من الدخول، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يرسل عمر بن الخطاب إليهم؛ ليخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء لزيارة البيت لا للقتال، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفَّان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنَّه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرًا البيت ومعظمًا لحرمته"2.
يسع الفرد ما لا يسع الجماعة:
724-
وليكن معلومًا أنَّ ما يسع الفرد فعله قد لا يسع الجماعة أن تفعله، يدل على ذلك قصة أبي بصير الذي أسلم وجاء إلى المسلمين -وهم في الحديبية، وقد أبرموا الصلح مع قريش- يريد أن يئووه ويحموه من قريش، فأبى المسلمون ذلك لارتباطهم بمعاهدة الحديبية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ المشركون أبا بصير، ولكنَّه انفلت منهم وأخذ يقطع الطريق على قوافل قريش، وكان فعله مؤثِّرًا ومضايقًا للمشركين، ونافعًا للمسلمين، وسائغًا له أن يفعله، بينما ما كان هذا الفعل سائغًا لجماعة المسلمين، وإن كان الفعل بنفسه مفيدًا للمسلمين. وقد فقه المسلمون هذا المعنى، فلم يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتركوا مع أبي بصير في عمله النافع؛ لأنهم أفراد في جماعة المسلمين، يلتزمون بما تلتزم به الجماعة، بينما كان أبو بصير مسلمًا سائبًا، والفرد السائب يسعه ما لا يسع الفرد في الجماعة، وعندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن
1 السياسة الشرعية، لابن تيمية، ص169.
2 ابن هشام ج3، ص271.
اليمان ليطَّلِع على ما عند المشركين في حرب الخندق، قال حذيفة: لقد أمكنني أن أقتل أبا سفيان، ولكن لم أفعل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أحدث شيئًا حتى آتيه"1.
ليس كل مسلم يصلح للعمل مع غيره:
725-
العمل مع الغير لنشر الإسلام والدعوة إلى الله يحتاج إلى فقهٍ دقيق وصبر جميل، وترويض للنفس على الطاعة، وقدر كبير من ضبط النفس ونكران الذات والتواضع، والقابلية على الانسجام مع سير المشتركين معه في العمل لنشر الإسلام، وقبول الرأي المخالف لرايه إذا أقرَّته الجماعة، أو اختاره الرئيس، إلى غير ذلك من المعاني اللازمة لأيّ عمل جماعي، وقد يكون -والله أعلم- في قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} 1، نوع من التنبيه إلى هذا المعنى، فالدعوة إلى الخير وعلى رأسها الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم جهد استطاعته، وبصفته فردًا مسلمًا، وهذا يدل على قوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2، وقوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 3، وفي آية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} تكليف "أمة" من المسلمين، أي: جماعة بالدعوة إلى الله، وهذا -والله أعلم- في الأمور التي تستلزم توحيد الجهود وقدرات أفرادها على العمل الجماعي. ولهذا كله فليس كل مسلم يصلح للعمل الجماعي؛ لأنه ليس كل مسلم فيه المعاني اللازمة لهذا العمل، فقد يكون صالحًا في نفسه، ولكنه لا يفقه معنى النظام والطاعة، فهو يعتبر تقييدًا على حريته ونوعًا من التعسُّف، ويعتبر الطاعة مذلة واستكانة، لا متابعة لأمر الله وإطاعة له، كمتابعة المأموم لإمامه في الصلاة، يتابعه تنفيذًا لأمر الشرع، وليسلم له الأجر والثواب، ومثل هذا المسلم قد ينفع منفردًا، ولكنه يضر إذا عمل مع غيره، وقد يكون قدوة سيئة لمن يعمل معه من أفراد الجماعة في إخلاله بالنظام وعدم التزامه بمقتضيات الطاعة، فيختلّ
1 ابن هشام ج3، ص186، 187.
2 سورة آل عمران، الآية:104.
3 سورة التوبة، الآية:71.
4 سورة يوسف، الآية:108.
الصف، وتنفرَّق الآراء، وتعمّ الفوضى والاضطراب، ويكثر الخروج من الجماعة، فيقول الناس: جماعة سوء واختلاف، بسب أهواء ودعاة شرٍّ يريدون إصلاح الناس وينسون إصلاح نفوسهم، فيكون ذلك فتنة شديدة للدعوة إلى الله، وتنفيرًا عمليًّا للناس من الإسلام. إن المَاكينة العظيمة لا يمكن أن تؤدِّي علمها وتحقق غرضها، إلّا إذا سارت جميع أجزائها بانتظام، فإذا أريد لآلة منها الإسراع مع قدرتها على الإسراع، بخلاف ما يقتضيه سير الماكينة، فإن هذه الآلة بسرعتها تضرّ ولا تنفع. وكذلك الفرد في الجماعة، قد يتصوّر أن عملًا ما جيد ونافع فيسارع إليه، خلافًا لسير الجماعة ومتقضيات هذا السير، فيقع الاضطراب، ويحمل الضرر من حيث أراد ذلك الفرد النفع، وقد يكون هذا الفرد حَسَن النية والقصد، وراغبًا في الأجر، ولكن نتائج الأعمال في الدنيا -كما قلنا أكثر من مرة- مبنية على المقدِّمات والأسباب التي تتبعها النتبائج والمسببات.
ما يجب على الرئيس:
726-
وعلى رئيس الجماعة أن يرفق بمن معه، ويشعرهم بعطفه ورعايته، ولا يغلظ عليهم، ولكنَّ الترفُّق بهم لا يعني إعطاءهم ما يخالف الشرع، ولا أن يفعل ما يهوونه، ويترك ما يكرهونه، إذا كان ذلك منهم لا يبيحه الشرع، قال تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1، وقال تعالى للصحابة الكرام:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} 2، وإنما الإحسان إليهم يكون كما يقول ابن تيمية: بفعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه، لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه.
727-
كما يجب على الرئيس أن يسعى إلى بقاء عزيمتهم على العمل في الدعوة إلى الله تعالى، وأن يمنع عنهم المثبِّطات والمفترات، وما يوهن عزائهم ويفتّ في أعضادهم، ويدل على ذلك ما جاء في السنة النبوية في خبر نقض بني قريظة معاهدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وقتٍ كان فيه المسلمون محاصرين في المدينة وراء الخندق الذي
1 سورة المؤمنون، الآية:71.
2 سورة الحجرات، الآية:49.
حفروه، فقد جاء في هذا الحادث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا جاءه خبر نقض بني قريظة عهدها معه، بعث عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، وقال لهم:"انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تفتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"1.
728-
وعلى الرئيس أن يعهد لكلِّ واحدٍ ما يقدر عليه، وهو فيه أكفأ من غيره، والأصل الجامع في هذا الباب قوله تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 1، والقوة تختلف باختلاف العمل، فيعهد لكل عمل أصلح الموجودين له، دليلنا على ذلك تأمير خالد بن الوليد على المسلمين في قتال المشركين من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، حتى إنَّ خالدًا رضي الله عنه كانت تصدر منه بعض الأعمال بتأويلٍ يبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا يبقيه على الإمرة، كما في عمله في بني جذيمة؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد"،1 وفلي الأذان أمر صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يؤذن، وقال لعبد الله بن زيد الذي رأى رؤيا الآذان:"فإنه -أي بلال- أندى صوتًا منك" 2، ويجوز للرئيس أن يعرض العمل على الأفراد، ويدعو من يقدر عليه، ويدل على نفسه، ثم يختار الرئيس من يراه قديرًا عليه، دليلنا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد قال:"من يأخذ هذا السيف بحقه"، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة فأعطاه إياه
1 ابن هشام ج3، ص176.
2 ابن هشام 4، ص44.
3 ابن هشام ج2، ص129.
4 ابن هشاك ج3، ص10.
5 سورة القصص، الآية:26.