الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: التربية والتعليم
ضرورة التعليم:
676-
فإذا حصلت الاستجابة وقَبِلَ المدعوُّ الدعوةَ إلى الله، وهداه الله وشرح صدره للإسلام، وجب على الداعي أن يتعهَّده بما يكفل له المناعة ضد الداء القديم، ويبصِّره بمعالم الدين، ويثبِّته عليه، وذلك بتعليمه معالم الإسلام ومعانيه وأفكاره، فلا يجوز للداعي أن يترك المستجدين وشأنهم بمجرَّد أنهم قَبِلوا الإسلام وصاروا من عداد المسلمين، فقد تبقى بقايا كثيرة أو قليلة من دائهم القديم: الشرك بأنواعه، مما يعرضهم إلى الانتكاس والرجوع عن الإسلام، أو السير على غير هدى، ويحسبون أنهم مهتدون.
677-
وفي السُّنَّة النبوية سوابق قديمة تدل على هذا المنهج القويم في الدعوة إلى الله، أي: تعليم من يقبل الإسلام، فقد ثبت في السنة المطهرة أنه عندما أسلم عُمَيْر بن وهب، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن" 1، ويستدل بهذا الخبر على ضرورة تعليم من يدخل في الإسلام، وأن من يعرف معاني الإسلام أو بعضها عليه أن يعلمها غيره من المسلمين الجدد، وفي السنة أيضًا، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مصعب بن عمير ليعلِّم مسلمي المدينة القرآن، وقد ظلَّ مصعب يعلِّم القرآن ويدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها مسلمون2. وعندما أسلم بنو
1 سيرة ابن هشام ج2 ص308.
2 سيرة ابن هشام ج2 ص308.
المصطلق أرسل صلى الله عليه وسلم إليهم رسولًا يعلمهم أمور الإسلام1.
678-
ومما يدل على حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعليم الناس أمور الإسلام، ما رواه أبو رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتى بكرسي فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علَّمه الله، ثم أتى خطبته فأتمَّها"2.
فلولا أنَّ تعليم الناس أمور الإسلام أمر ضروري ولا يحتمل التأخير، لما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته ونزل لتعليم السائل.
فعلى الدعاة إلى أن يعلِّموا الناس أحكام الإسلام ويعرِّفوهم بحدود الله، ولا يكتفوا منهم بالعاطفة الطيبة، وترديد بعض الكلمات الحقة، وأنَّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فإنَّ هذه العمومات لا تكفي، بل لا بُدَّ من معرفة تفصيل الإسلام بالقدر المستطاع. إن نشر مفاهيم الإسلام واجب على كل مسلم، فمن كان عنده علم فلا يجوز له كتمانه، لا سيما عند شيوع الجهل وظهور البدع، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى:"فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانِّه وتعلّم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ، ثم قال ابن كثير رحمه الله: "فعلينا أيها المسلمون أن ننتهي عمَّا ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر به أمرنا به من تعلم الله المنزَّل إلينا، وتعليمه وتفهمه وتفهيمه"3. ولا شكَّ أن هذا الواجب على الدعاة أوجب؛ لأن الشأن في الدعاة أنَّهم يدعون إلى الله على بصيرة وعلم، فعليهم تبصير غيرهم وتعليهم، ولا يبخلوا بما عندهم من علم، فإن كتم العلم لا يجوز، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
1 إمتاع الأسماع ص34.
2 رياض الصالحين ص268.
3 تفسير ابن كثير ج1 ص3.
اللَاّعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
التربية مع التعليم:
679-
ولا يكفي أن يقوم الداعي المسلم بتعليم المستجيب معاني الإسلام، وإنما عليه أن يحمله على العمل بها، وصياغة سلوكه بموجبها ومقتضاها، وهذا هو ما نريده بالتربية مع العلم
…
وهكذا كان نهج المسلمين الأولين، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان الرجل منَّا إذا تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا أنَّهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلَّموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا1.
ضرورة التربية على معاني الإسلام:
680-
وتربية المسلم على معاني الإسلام وصياغة سلوكه وفق هذه المعاني أمر ضروري لا غنى للمسلم عنه، ومن ثَمَّ وجب على الداعي الاهتمام به، وجعله في مقدَّمة ما يحرص عليه. إنَّ حفظ معاني الإسلام فقط دون أن تمسّ هذه المعاني القلب، ودون أن ينصبغ بها السلوك، لا يفيد في التقويم ولا في صلاح المسلم. إن من يحفظ مناهج الرياضة في تقوية الجسد، ويذكرها إذا سئل عنها، أو يرددها بنفسه دون أن يطبقها فعلًا على نفسه، لا يكتسب صحة جيدة ولا جسمًا قويًّا، وكذا من يعرف الإسلام ويحفظ معانيه دون أن يربِّي نفسه عليها، وفضلًا عن ذلك فإنَّ من يتعلم ولا يعمل بما تعلّم يكون عرضة للانزلاق والانقلاب عند أوّل فتنة أو امتحان، وما أكثر فتن الدنيا واختباراتها، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ، ولهذا كانت الفترة المكية متميزة بالتربية على معاني الإسلام وفقه أصوله العظيمة التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية، وبتلك التربية العميقة الصارمة صفت نفوس أولئك الكرام، وامتلأت بحقائق الإسلام، وصاروا طليعة الإسلام الأُولى
1 تفسير ابن كثير ج1 ص3.
وكتيبته المظفرة، ومكَّنتهم تلك التربية من تحمُّل ما لا يطيقه غيرهم من المحن في سبيل الله، ونصرة دينه ونشره في الآفاق.
من معالم التربية:
681-
ومن معالم التربية وأصولها شدَّ المسلم إلى غاية عليا ينقضي عمره، ولا ينتهي من التحليق إليها والسير الحثيث إليها، هذه الغاية هي الله جل جلاله، ونوال رضاه، والتلذُّذ بذكره، والتنعيم بعبادته، والتطلُّع إلى ما عنده. إنَّ هذه الغاية العليا لا تضيق بالراغبين فيها، المتطلعين إليها، ومن ثَمَّ فلا يمكن أن يكون تحاسد في طلابها ولا تباغض، وإنما أنس ومحبة وتنافس. وهي بعد ذلك لا يُنَال بالأماني الفارغة مع القعود والكسل، فإنَّ من يريد الوصول إلى مكة فعليه أن يعزم على السفر والرحيل ومفارقة الأهل والوطن، وحثّ السير والتزوُّد، ولكن الزاد هنا زاد التقوى، وجعل حياة المسلم كلها لله رب العالمين، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وكان صلى الله عليه وسلم يذكر المسلمين بهذه المعاني، وبهذه الغاية العليا، وبالتزوّد من زاد التقوى، حتى إنَّ أول خطبة خطبها في المدينة كانت في الحثِّ على تقوى الله والتعلق بالآخرة1.
من وسائل التربية:
682-
ومن وسائل التربية المؤثِّرة جدًّا الاتصال بكتاب الله العظيم تلاوة وتأملًا وفهمًا، وفتح منافذ القلب إلى هذا الروح العظيم: القرآن؛ لتنساب أنواره إلى كيان المسلم، فتزيل أدواءه وظلمته، وتبعث فيه الحياة الحقيقة، فإنَّ القرآن كما وصفه الله تعالى نور وهدًى وشفاء وروح، ولا يبقى مع النور ظلمة، ولا مع الهدى شكّ، ولا مع الشفاء داء، ولا مع الروح موت، قال تعالى:{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا....}
1 ابن هشام ج2 ص118.
683-
وكذلك ينبغي الاتصال الدائم بالسيرة النبوية الكريمة، وسيرة أصحابه الكرام، حتى يصبح المسلم كأنَّه يعيش هناك مع رسول الله وصحبه، متخطيًا حدود الزمن مسلخًا بروحه للحاق بهم والتأسي بسيرتهم. إن على الداعي المسلم أن يعين المستجيبين على هذا النمط من التربية، وبهذا الأسلوب وغيره حتى يثبتوا على الإسلام، ويكونوا دعاة إلى الله، فإن الإسلام يحتاج إلى المزيد من الدعاة الفاهمين.