المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: التعريف بالداعي - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

الداعي الأول:

508-

الداعي الأول إلى الله تعالى بعد أن أنعم الله علينا بالإسلام، هو رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 1، وقد كرَّر القرآن الكريم الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بالدعوة إلى الله والاستمرار عليها وعدم التحوّل عنها، فمن هذه الآيات الكريمة قوله تعالى:{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} 2، وقوله تعالى:{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 4، وقد ظلَّ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى ربه تبارك وتعالى حتى أتاه اليقين من ربه، وصار إلى جواره الكريم راضيًا مرضيًّا، فجزاه الله على المسلمين خير الجزاء.

الدعوة إلى الله وظيفة رسل الله:

510-

والواقع أنَّ الدعوة إلى الله هي وظيفة رسل الله جميعًا، ومن أجلها بعثهم الله تعالى إلى الناس، فكلهم بلا استثناء دعوا أقوامهم ومن أرسلوا إليهم إلى الإيمان بالله، وإفراده بالعبادة على النحو الذي شرعه لهم، قال تعالى عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ

1 سورة الأحزاب، الآية: 45-46.

2 سورة القصصن الآية: 87.

3 سورة الحج، الآية:67.

4 سورة الرعد، الآية: 36؟.

ص: 307

غَيْرُهُ} 1، وقال تعالى عن هود عليه السلام:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2، وعن صالح قال تعالى:{إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3، وعن شعيب عليه السلام قال تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4.

وهكذا جميع رسل الله دعوا إلى الله، إلى عبادته وحده، التبرؤ من عبادة ما سواه، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5، فرسل الله هم الدعاة إلى الله، وقد اختارهم الله لحمل دعوته وتبليغها إلى الناس.

الأمَّة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة إلى الله:

511-

ذكرنا في الفقرة السابقة أنَّ الداعي الأوَّل إلى الله تعالى هو رسولنا صلى الله عليه وسلم، وذكرنا الآيات الكريمة التي تأمره عليه الصلاة والسلام بالدعوة إلى الله، وهذه الآيات يدخل فيها المسلمون جميعًا؛ لأن الأصل في خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم دخول أمته فيه، إلّا ما استثني، وليس من هذا المستثنى أمر الله تبارك وتعالى بالدعوة إليه، ومعنى ذلك أنَّ الله تعالى أكرم هذه الأمة الإسلامية وشرَّفها أن أشركها مع رسوله الكريم في وظيفة الدعوة إليه، وهذا التشريف والتكريم لا يستفاد فقط من الخطابات الإلهية لرسوله بالدعوة إليه كما ذكرنا، وإنما هو صريح الآيات الكثيرة في القرآن، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 6، فهذه الآية الكريمة أفادت معنيين: الأول: خيرية هذه الأمة، والثاني: أنها جازت هذه الخيرية لقيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي وظيفة رسول الله ورسل الله جميعًا، وأوّل ما يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن

1 سورة الأعراف، الآية:59.

2 سورة هود، الآية:50.

3 سورة الأعراف، الآية:73.

4 سورة الأعراف، الأية:85.

5 سورة النحل، الآية:36.

6 سورة آل عمران، الآية:110.

ص: 308

المنكر الدعوة إلى الله وحده، والبراءة من الشرك بأنواعه، بل إنَّ القرن الكريم جعل من صفات المؤمنين الدعوة إلى الله، بخلاف المنافقين الذين يصدون عن سبيل الله، ويدعون إلى غيره، قال تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} 1، ثم قال تعالى بعد ذلك:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2، قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة:"فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدلَّ على أن أخصَّ أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام"3.

وأضيف إلى ذلك أنَّ الله تبارك وتعالى بهذه الآية وصف الأمة الإسلامية بما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 4.

من هو المكَلَّف بالدعوة إلى الله:

512-

ومما ذكرنا يتضح بجلاءٍ أنَّ المكلَّف بالدعوة إلى الله هو كل مسلم ومسلمة؛ لأن الأمة الإسلامية تتكون منهم، فكل بالغ عاقل من الأمة الإسلامية -وهي المكلفة بالدعوة إلى الله- مكلف بهذا الواجب، ذكرًا كان أو أنثى، فلا يختص العلماء أو كما يسميهم البعض رجال الدين، بأصل هذا الواجب؛ لأنه واجب على الجميع، وإنما يختصون بتبليغ تفاصيله وأحكامه ومعانيه نظرًا لسعة علمهم به ومعرفتهم بجزئياته.

ويزيد الأمر وضوحًا -وهو أنَّ المكلَّف بالدعوة إلى الله تعالى هو كل مسلم ومسلمة- قول ربنا جل جلاله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5، فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، المؤمنون به، يدعون إلى الله على بصيرة، أي: علم ويقين، كما كان رسولهم صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على بصيرة ويقين، ومعنى ذلك أنَّ من اللوازم الضرورية لإيمان المسلم أن يدعو إلى الله،

1 سورة التوبة، الآية:67.

2 سورة التوبة، الآية:71.

3 تفسير القرطبي ج4 ص47.

4 سورة الأعراف، الآية:157.

5 سورة يوسف، الآية:108.

ص: 309

فإذا تخلَّف عن الدعوة دلَّ تخلفه هذا على وجود نقص أو خلل في إيمانه، ويجب تداركه بالقيام بهذا الواجب، واجب الدعوة إلى الله. قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية:"يقول الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنَّ هذه سبيله، أي: طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقينٍ وبرهان، هو وكل من اتَّبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي"1، وفي الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عن ابن عباسٍ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فليبلغ العلم الشاهد الغائب "2، ويدخل في معنى الشاهد كل مسلم علم من أمر الإسلام شيئًا.

513-

والدعوة إلى الله وهي واجبٌ على كل مسلم ومسلمة كما قلنا، قد تؤدَّى بصورة فردية، وقد تؤدَّى بصروة جماعية، وإذا أردنا الدقة بالتعبير قلنا: إنَّ هذا الواجب يؤدَّى على نحوين: الأول: نحو فردي، بأن يقوم به المسلم بصفته فردًا مسلمًا، والثاني: يؤدي هذا الواجب أو جانبًا منه بصفته فردًا في جماعة تدعوا إلى الله تعالى.

يدل على هذا كله قول الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2، قال الامام ابن كثير في تفسير هذه الآية:"والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمَّة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". والواقع أنَّ تجمُّع الدعاة للقيام بواجب الدعوة بصورة جماعية، يكون ضروريًّا كلما كانت مهمة الدعوة جسيمة، كما لو أريد نشر الدعوة إلى الله في المجتمعات الوثنية الجاهلية التي عشعش فيها الشيطان وبيِّضَ، وصدَّ أهلها عن سبيل الله، وأركسهم في حمأة الشرك كما في الأقطار الوثنية في إفريقيا ونحوها، فإنَّ مثل هذه الأقطار تحتاج إلى جهود كبيرة جدًّا ومنظمة لنشر الدعوة إلى الله، وتعليمهم أمور الإسلام، مما لا يقوى عليه جهد فرد ولا جهود مبعثرة لبعض الأفراد، ويؤيِّد هذه التبشير بالإسلام على شكل

1 تفسير ابن كثير ج2/ 195، 196.

2 صحيح البخاري ج1 ص62، 63.

3 سورة آل عمران الآية: 104.

ص: 310

جميعي، ما جاء في السنة النبوية، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر من يسلم بالتحوّل إلى دار الهجرة ليضمَّ جهده إلى جهود المسلمين، وتوجيهها التوجيه السليم من قِبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما أننا نجد في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 1 دليلًا آخر على مشروعية التجمع والدعوة الجماعية، بل ووجوبها إذا كان البِرُّ لا يمكن تحصيله بدون ذلك، وقد أشار الإمام أبو حنيفة على ما رواه الجصاص عنه، إلى ضرورة التجمع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجيه الجهود الجماعية لتحقيق هذا المقصود.

شبهات واعتراضات:

514-

قد يتوهم البعض أنَّ واجب الدعوة إلى الله لا يلزمه؛ لأنه ليس من رجال الدين، وإنَّ هذا الوجب واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع، بدليل قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.

والجواب على ذلك: إنَّ تفسير هذه الآية الكريمة، كما نقلناه عن ابن كثير، الفقرة السابقة:"أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه". وجاء في تفسير الرازي بصدد هذه الآية في قوله تعالى: {مِنْكُم} قولان: أحدهما: إنَّ "من" ههنا ليست للتبعيض؛ لدليلين؛ الأول: إنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمَّة في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، الثاني: هو أنه لا مكلَّف إلَّا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إمَّا بيده أو بلسانه أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس، إذا ثبت هذا فنقول: معنى هذه الآية: كونوا أمَّة دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، وأمَّا كلمة "من" فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ

1 سورة المائدة الآية: 2.

2 سورة آل عمران، الآية:110.

ص: 311

الْأَوْثَانِ} 1، ثم ذكر الرازي القول الثاني، وهو أنَّ "من" للتبعيض؛ لأنَّ "في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ثم قال عن أصحاب هذا القول: إنَّ هذا التكليف مختص بالعلماء؛ لأنَّ الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فثبت أنَّ هذا التكليف متوجِّه على العلماء لا على الجهَّال، والعلماء بعض الأمة"2، وبنفس هذا المعنى وذكر القولين في هذه الآية، جاء تفسير القرطبي وتفسير الجصاص3: والواقع أنَّ القول الذي ذكره الرازي أصح لما استدلَّ به أصحابه، وهو ما ذكره ابن كثير بعبارته الدقيقة التي ذكرناها؛ إذ جعل الوجوب على كل فرد، مع لزوم وجود فرقة متصدية لشأن الدعوة إلى الخير.

والحقيقة أنَّ هناك شيئًَا من الالتباس في فهم هذه المسألة بسبب كلمة "العلماء" التي فسّر بها أصحاب القول الثاني كلمة "ولتكن منكم أمة" الواردة في الآية، باعتبار أنَّ الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم، والسبب الثاني لهذا الالتباس متأتٍ من فهم الفرض الكفائي، فلا بُدَّ من توضيح هذين الأمرين، فنقول:

لا شكَّ أنَّ الدعوة إلى الخير، وأعلاها الدعوة إلى الله، مشروط لها العلم، ولكن العلم ليس شيئًا واحدًا لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض، وإنما هو بطبيعته يتجزَّأ ويتبعَّض، فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية، ومعنى ذلك أنَّه يُعَدّ من جملة العلماء بالمسألة الأولى، وبالتالي يتوفّر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل، ولا خلاف بين الفقهاء أنَّ من جهل شيئًا أو جهل حكمه أنَّه لا يدعو إليه؛ لأنَّ العلم بصِحَّة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة، وعلى هذا فكلّ مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه كما سنبينه فيما بعد، ويكون هذا المعنى هو المقصود من قولهم: إنَّ الدعوة تجب على العلماء لا غيرهم، أي: على من يعلم المسألة وحكمها التي يدعو إليها، سواء كان من عامَّة المسلمين أو ممن نال حظًّا كبيرًا من العلم، وبهذا يظهر فساد قول من قال: إن المقصود بالعلماء هم الذين نالوا حظًّا كبيرًا من العلم دون سواهم، وقد يسمونهم برجال الدين؛ لأن هذه التسمية تصدق على كل مسلم، فهو من

1 سورة الحج، الآية:30.

2 تفسير الرازي ج7 ص177، 178.

3 أحكام القرآن للجصاص ج2 ص29، وتفسير القرطبي ج4 ص165.

ص: 312

رجال الإسلام، وليست مقصورة على فئة منهم، أمَّا الأمر الثاني الذي يسببه حصول هذا اللبس، وهو معنى الفرض الكفائي، فالمقصود به أنَّه إذا قام به البعض سقط التكليف عن البعض الآخر، وإن كان واجبًا على الكل، قال الرازي:"ثم قالوا -أي أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب على الكل: وإن كلمة "من" للتبيين وليست للتبعيض: إنَّ ذلك وإن كان واجبًا على الكل إلّا أنه متى قام قوم سقط التكليف عن الباقين، ونظيره قوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ، وقوله:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ، فالأمر عام، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين1، وقال الجصاص وهو يتكلم عن تفسير الآية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ

} : حوت هذه الآية معنيين، أحدهما: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخر: أنَّه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل واحد في نفسه إذا قام به غيره"2، فقوله: ليس بفرض على كل واحد في نفسه إذا قام به غيره، يبيِّن المقصود من الفرض الكفائي وهو سقوطه إذا قام به الغير، خلافًا للفرض العيني الذي لا يسقط إلّا بالقيام به من كل فرد، وعلى هذا فالدعوة إلى الخير وأعلاها الدعوة إلى الله، واجبة على كل مسلم بقدر استطاعته؛ لأنَّ هذه الدعوة من صفات المؤمنين كما بينَّا؛ ولأن الحديث الشريف أمر كل مسلم ومسلمة بإزالة المنكر حسب استطاعته، فإذا حصل المقصود بفرد أو أفراد لم يطالب الآخرون بإعادة المنكر لإزالته، ولا يؤاخذون لأنَّهم لم يزيلوه، والشأن في المسلم المبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون انتظار غيره، فقد لا يقوم به الغير فيقع في الإثم.

والمسلم يدعو إلى الله باعتباره مسلمًا مؤمنًا بالله ورسوله، وقد ذكرنا قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3، فلا بُدَّ للمسلم أن يدعوا إلى الله، ولكن لو قدِّر أنه لم يدع شخصًا معينًا إلى الله، أو لم يدع في وقت وقام بالدعوة مسلم آخر، فإنَّ الداعي يؤجر دون الأول، ولكن لو ترك المسلم الدعوة إلى الله تركًا دائمًا مستمرًّا متعمدًا، فإنَّه لا ينضوي تحت مفهوم قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ؛ لأن اتباع

1 الرازي ج7 ص177.

2 الجصاص ج2 ص29.

3 سورة يوسف، الآية:108.

ص: 313

الرسول صلى الله عليه وسلم هم الذين يدعون إلى الله.

هذا ومن معاني الفرض الكفائي أنَّه متوجه إلى المسلمين جميعًا بأن يعملوا لتحقيقي هذ الفرض، وعلى القادر فعلًا أن يقوم بهذا الفرض مباشرة، فيكون معنى الآية:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أن يقوم المسلمون بإعداد هذه "الأمة"، أي: الجماعة المتصدية للدعوة إلى الله، وأن يعاونوهم بكل الوسائل ليتحقق المقصود من قيامهم وهو إقامة دين الله ونشر دعوته، فإن لم يفعل المسلمون ذلك أثم الجميع، المتأهِّل للدعوة وغيره1.

ويقال أيضًا: إنَّ الدعوة إلى الله حتى لو قلنا: إنها تجب على البعض دون البعض الآخر باعتبار أنَّها من الفروض الكفائية، فإنَّ الشرط للخروج من عهدة الفرض الكفائي حصول الكفاية بمن يقوم به، ولما كانت الكفاية غير حاصلة، فيجب أن يقوم بهذا الواجب كل مسلم حسب قدرته، لا سيما في زماننا؛ حيث لا يزال الشرك والوثنية والجاهلية تغشى مجتمعات بشرية كثيرة في أفريقيا وأمريكا، وغيرها من أقطار الأرض المختلفة، ونشر الدعوة إلى الله في هذه المجتمعات الجاهلية يحتاج إلى جهود جبَّارة يشترك فيها جميع المسلمين كل حسب استطاعته، بماله أو تعليمه، أو بفكره، أو بسلطانه.

515-

وقد يتشبث البعض توهمًا منه، بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 2؛ ليتخلَّص من واجب الدعوة إلى الله، ويبرِّر قعوده وتقاعسه، متوهمًا أنَّ هذه الآية الكريمة تعفيه من تكليف الدعوة إلى الله ما دام هو في نفسه صالحًا مهتديًا. إن هذا الوهم تسرَّب إلى البعض في زمن الصديق أبي بكر رضي الله عنه، فخطب في الناس وقال: "يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية الكريمة وتضعونها في غير موضعها: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ

1 قال الشيخ عبد الله دراز بصدد تفسير هذه الآية: ومعنى توجه الطلب على الجميع أن ينهضوهم لذلك ويعدوهم له، ويعاونوهم بكل الوسائل؛ ليتحقق هذا المهم من المصلحة، فإن لم يحصل هذا المهم من المصلحة أثِمَ جميع المكلفين المتأهِّل وغيره، والموافقات للشاطبي ج1 ص176.

2 سورة المائدة، الآية:105.

ص: 314

إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمَّهم الله بعقاب"1.

هذا، ويلاحظ أن في الآية نفسِها ما يؤكِّد وجوب الدعوة إلى الله تعالى على كل مسلم، وينفي الوهم الذي يتشبث به القاعدون، ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى قال في الآية:{إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، والاهتداء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"إنما يتمُّ بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلّال"2.

516-

وقد يتشبث البعض بشبهة أخرى، وهي: إنَّ الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا، وعلى المسلم أن يهتمَّ بنفسه ويدع أمر الخلق، والجواب على هذه الشبهة كما سنوضحه فيما بعد: إنَّ الواجب على المسلم هو القيام بواجب الدعوة إلى الله، سواء حصل المقصود واستجاب الناس أو لم يستجيبوا، وقد حصلت هذه الشبهة لأقوام سالفين قصَّ الله لنا من أخبارهم، وكيف أنَّ الدعاة إلى الله ردوا عليهم شبهتهم، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 3، والآية الكريمة تشير إلى أهل قرية صاروا ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المعاصي، وفرقة أنكرت عليهم ووعظتهم، وفرقة سكتت عنهم فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكِرة:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنَّهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله، فلا فائدة في نهيكم إياهم، فقالت الفرقة المنكرة، بالجواب الصحيح:{مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: فيما أخذ علينا من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن نعتذر إلى ربنا، لا نملك إلّا أن ندعو هؤلاء العصاة للإقلاع عن معصيتهم والإنابة إلى

1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام للسيد محمد صديق حسن خان ص251، الجصَّاص ج2 ص31.

2 الحسبة لابن تيمية، في مجموع رسائله، ص275.

3 الأعراف، آية: 164، 165.

ص: 315

ربهم {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} أي: ولعلَّ هذا الإنكار عليهم، ودعوتنا إياهم للإنابة إلى ربهم والرجوع إليه، يدعوهم إلى الاستجابة1، وفي هذا أشار إلى أنَّه ما دام هناك احتمال قبول الدعوة فلا بُدَّ من استمرار الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله تعالى؛ ليحيا من حيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.

517-

وقد يتشبث البعض بشبهةٍ أخرى تقوم على فهمٍ سقيمٍ للآية الكريمة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 2، فيتعلّل بأنَّ الدعوة إلى الله تسبِّب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله، والواقع أنَّ هذه حجة ضعاف الإيمان رقيقي الدِّين، فإنَّ التعب المزعوم ينالهم في سعيهم للظفر بمآرب الدنيا التافهة، كالحصول على ربحٍ ماديٍّ زهيد مثلًا، فأولى بهم أن يتحمَّلوا شيئًا من التَّعَب في الدعوة إلى الله، وفي هذا التعب أجر عظيم لهم، والحقيقة أنَّ التَّعَب المزعوم يسير وبسيط، فهل هناك تعب شديد في تعليم الجاهل أمور الإسلام، أو في عرض الإسلام على الكافر الذي لم يسمع بالإسلام؟ وهل يتعب إذا حرَّك لسانه بالكلام الطيب، أو يتعب فكره في أمور الإسلام؟ وهل يتعب تعبًا لا يطاق إذا تيسَّر له السفر إلى المجتمعات هناك؟ إنَّ المسلم أَوْلَى منهم بالتبشير ونشر الدعوة إلى الله بين أولئك الوثنيين، وإنَّ عليه إذا وسوس له الشيطان بالتَّعَب والإرهاق أن يتذكَّر قوله تعالى:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} 3، وعليه أن يتذكَّر أنَّ أصحاب رسول الله تحمَّلوا كثيرًا من الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونذكر على سبيل المثال شيئًا من أخبارهم وجهادهم في سبيل الله، فقد جاء في كتب السيرة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة ومعه المسلمون بعد معركة أحد، جاءه الخبر أنَّ أبا سفيان ومن معه من المشركين عزموا على الرجوع إلى المدينة؛ لاستئصال من بقي من المسلمين، فلما صلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم الصبح أمر بلالًا فنادى: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 تفسير ابن كثير ج2 ص257.

2 سورة البقرة، الآية:286.

3 سورة النساء الآية: 106.

ص: 316

يأمركم لطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلّا من شهد القتال أمس، فخرج سعد بن معاذ إلى داره يأمر قومه بالمسير وكلهم جريج، فقال: إنَّ رسول الله يأمركم أن تطلبوا عدوكم، فقال أسيد بن حضير -وبه سبع جراحاتٍ يريد أن يداويها: سمعًا وطاعة لله ولرسوله، وأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء سعد بن عبادة قومه، وجاء أبو قتادة إلى طائفة فبادروا جميعًا، وخرج من بني سلمة أربعون جريحًا -بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحًا، وبالحارث بن الصِّمَّة عشر جراحات- حتى وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمَّا رآهم:"اللهم ارحم بني سلمة" 1، وهكذا كان صحابة رسول الله، وهذا نموذج من جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله، فهل يستكثر المسلم إذا أتعب نفسه قليلًا في الدعوة إلى الله، ونشر محاسن الإسلام، وتعليم الناس مكارم الأخلاق؟ ألَا يستحي من نفسه إذا استكثر الجهد البسيط الذي يبذله في الدعوة إلى الله، وصحابة رسول الله يخرجون جرحى للقتال وهم يقولون: سمعًا وطاعة لله ولرسوله.

تعليل تكليف المسلم بالدعوة إلى الله:

518-

ذكرنا في الفقرات السابقة الأدلَّة الشرعية على وجوب الدعوة إلى الله على كل مسلم ومسلمة، ومعنى ذلك أنَّ الإسلام لا يكتفي من المسلم بأن يكون في نفسه صالحًا مهتديًا، وإنما يريد منه أن يكون مصلحًا وهاديًا لغيره، فما تعليل ذلك؟ تعليل ذلك من وجوه.

الوجه الأول: إنَّ الله تعالى أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعًا {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 2، ورسالته عليه الصلاة والسلام باقية إلى يوم الدين، ومقصدها هداية الخلق أجميعن؛ ليفوزوا بالسعادة في الدارين، ولهذا كانت رسالته رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3، وقد بلَّغَ عليه الصلاة والسلام رسالة ربه ومضى إلى جواره الكريم راضيًا مرضيًّا، فكان لا بُدَّ للمسلمين من

1 أمتاع الأسماع للمقريزي ص167.

2 سورة الأعراف، الآية:158.

3 سورة الأنبياء، الآية:107.

ص: 317

النهوض من بعده، وتبليغ دعوة الإسلام إلى أهل الأرض ليهدوهم بها، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 1.

فهم شهداء الله على خلقه، ومبلغو رسالته إليهم بعد نبيهم، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 2، إنَّ قيام المسلم بالدعوة إلى الله يؤدي أعظم نفع وعونٍ لعباد الله؛ لأنه يمد إليهم يدًا كريمة تنقذهم مما هم فيه من رجس الشرك والوثنية، ويضعهم على صراط الله المستقيم، فيؤدون حق ربهم عليهم، ويحققون الغاية التي من أجلها خلقوا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} 3.

الوجه الثاني: إن بقاء الشرك والكفر في الأرض يوثِّر عاجلًا أو آجلًا على معاني الإسلام القائمة في أيِّ جانب من جوانب الأرض، ولهذا يمنع الإسلام المسلم من البقاء في ديار الكفر، ويأمره بالتحوّل إلى ديار الإسلام؛ لئلَّا يفتتن في دينه أو يمرض قلبه أو يسلب إيمانه، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 4، وقال أهل التفسير في هذه الآية: إنها نزلت في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع5.

وقال الإمام مالك: "تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهرًا ولا يستتر فيها"7.

وعلى هذا، فقيام المسلم بدعوة أهل الشرك والكفر إلى الله وإلى دينه يفيده ويقيه شرور الكفر.

1 سورة إبرهيم، الآية 1.

2 سورة البقرة، الآية:143.

3 سورة الذاريات، الآية 56.

4 سورة النساء، الآية:97.

5 تفسير ابن كثير ج1 ص542.

6 تفسير القرطبي ج2 ص391.

ص: 318

الوجه الثالث: دفع الهلاك والعذاب عن المسلمين، قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله المؤمنين ألَّا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب، أي: يصيب الصالح والطالح، وفي مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:"نعم، إذا كثر الخبث"2.

الدعوة إلى الله بقدر حال الداعي وقدرته:

519-

وإذ تبيّن أن الدعوة إلى الله واجب على كل مسلم، فإنَّ هذا الواجب يتحدَّد بقدر حال الداعي وقدرته؛ لأنَّ القدرة هي مناط الوجوب وقدره، فمن لا يقدر لا يجب عليه، ومن يقدر فالوجوب عليه بقدر قدرته، ويدخل في مفهوم القدرة العلم والسلطان، فيجب على العالم ما لا يجب على الجاهل، ويجب على ذي السلطان ما لا يجب على غيره من آحاد المسلمين، ولهذا فإنَّ الله سبحانه وتعالى خصَّ بالإنذار والوعيد أهل العلم، وحذَّرهم من كتمان الحق الذي عرفوه، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 3، فأوجب الله تعالى على أهل العلم أن يبيِّنوا للناس ما علموا من معاني الإسلام، وأن ينشروها بين الناس؛ لينقذوهم من أوضار الشرك، وكل من عرف شيئًا من معاني الإسلام فهو عالم بهذا الشيء، وعليه تبليغه إلى من يجهله، فليس العلم شيئًا واحدًا لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض، وإنما هو قابل للتجزئة، وكل مسلم يعلم أنّه لا إله إلّا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الحساب في يوم القيامة حق، وأن القرآن الكريم كلام الله حق، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الصلاة والصيام والحج والزكاة من فرائض الإسلام، فعليه أن يبلغ ما علمه، أمَّا ما يجهله فلا يكلف بتبليغه ولا تعليمه؛ لأنه يجهله، وفاقد الشيء لا يعطيه.

والنوع الثاني من القدرة: وهو السلطان والتمكين في الأرض، فقد أشار القرآن

1 سورة الأنفال، الآية:25.

2 القرطبي ج1 ص390.

3 سورة البقرة الآيتان: 159، 160.

ص: 319

الكريم إلى هذا النوع، وأوجب على أصحابه أن يستعملوا ما وهبه الله لهم من تمكينٍ وسلطان في نشر الدعوة إلى الله تعالى، وإعمار الأرض بفضائل الأعمال وبعبادة الله تبارك وتعالى، قال عز وجل:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 1، وقد قال أهل التفسير في المراد من أهل التمكين في الأرض: إنهم الولاة، ومنهم من أدخل فيهم العلماء2، والأوّل أظهر، وعلى هذا فمن أتاه الله تعالى الملك والسلطان فعليه أن يعمر الأرض بعبادة الله، وعلى رأسها الصلاة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وعلى رأس المعروف الدعوة إلى الله، وعلى رأس النهي عن المنكر النهي عن الشرك بجميع أنواعه وأشكاله، وهذا هو مقصود الولاية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"إنما نصب الإمام ليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية"3.

وقد فَقِه هذا المعنى ولاة الأمر في الماضي، فاستعملوا سلطانهم في إقامة دين الله والدعوة إليه، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمَّاله في الأقاليم كتابًا جاء فيه:"وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدعو الناس إلى الإسلام كافة، فادع إلى الإسلام وأمر به، فإنَّ الله تعالى قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4، والحقيقة أنَّ قيام ولي الأمر بواجب الدعوة إلى الله يؤدي إلى نتائج كبيرة جدًّا ومؤثِّرة جدًّا؛ لأنه يملك القوة والسلطان، وبيده الأمر والنهي، مما يجعله قادرًا على التنفيذ أكثر من أيِّ واحدٍ من آحاد الرعية، ولهذا جاء في الأثر المشهور "إنَّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وبقدر قدرة المسلم على الدعوة والتنفيذ يكون واجبة في الدعوة إلى الله ومسئوليته عن ذلك.

الدَّاعي يدعو إلى الله في كل وقتٍ وفي جميع أحواله وظروفه:

520-

قلنا: إنَّ الدعوة إلى الله واجب على المسلم، فهو يؤديه بهذ الاعتبار.

1 سور الحج، الآية:41.

2 القرطبي ج12 ص73.

3 السياسة الشرعية لابن تيمية ص77.

4 سورة فصلت، الآية: 133 عمر بن عبد العزيز تأليف عبد الله بن عبد الحكيم ص94.

ص: 320

وواجب الدعوة إلى الله ليس له وقت محدَّد كالصلاة والصيام، ولهذا فإنَّ هذا الواجب يؤدِّيه المسلم في جميع الأحوال والظروف، وفي كلِّ وقتٍ يتيسَّر له فيه أداؤه، قال تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} 1، وكذلك كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو قومه ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، ولم يشغله شيئ عن الدعوة إلى الله تعالى2، والواقع أن الداعي إذا كان صادقًا في دعوته منشغلًا بها، لا يفكِّر إلّا فيها، ولا يتحرَّك إلّا من أجلها، ولا يبخل عليها بشيء من جهده ووقته، لم يشغله عنها شاغل أبدًا حتى في أحرج الساعات وأضيق الحالات وأدق الظروف، وهكذا كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لقي في طريق بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركبٍ من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الله، حتى وهو في طريقه مهاجرًا إلى المدينة والقوم يطلبونه. ويوسف عليه السلام عندما دخل السجن مظلومًا لم يشغلها السجن وضيقه عن واجب الدعوة إلى الله، ولهذا فقد اغتنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها، فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا الله به:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ، المطلوب من الدَّاعي أن يدعو إلى الله، وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس.

521-

المطلوب من الداعي أن يدعو إلى الله، وهذا هو الواجب عليه، وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس، قال تعالى:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 4، فإذا كان الرسول غير مكَلَّف إلّا بالتبليغ، فغيره من آحاد الأمَّة أولى أن لا يكلف بغير التبليغ. وتعليل ذلك من وجهين؛ الأول: إنَّ القاعدة الأصولية تقول:

1 سورة نوح، الآية: 5-9.

2 إمتاع الأسماع للمقريري ص18.

3 إمتاع الأسماع ص42.

4 سورة يوسف، الآية: 39، 40.

5 سورة العنكبوت، الآية:18.

ص: 321

إن الإنسان لا يُكَلَّفُ بفعل غيره، أي: لا يكلف أن يفعل غيره فعلًا معينًا، أو يترك فعلًا معينًا؛ لأنَّ هذا من قبيل تكليف ما لا يطاق، وإنَّما يكَلَّف الإنسان أن يفعل هو فعلًا معينًا يتعلق بغيره، وقد يحمله على الفعل، كالدعوة إلى الله، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمسلم مطالب ومكلَّف بأن يأمر بالمعروف، وقد يستجيب المأمور، فيكون أمر الآمر سببًا لفعل المأمور، وقد لا يستجيب المأمور، ولهذ مدح الله تعالى أحد أنبيائه بأنه {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ} 1، فالذي يمكله المسلم ويكلَّف به أن يأمر غيره بالمعروف، ويدعوه إلى عبادة الله، ولا يكلف بأن يفعل الغير فعلًا معينًا.

الوجه الثاني: إن الاستجابة بيد الله وحده، فهو الهادي {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2، ولله الحجة على عباده، ولو شاء لهداهم أجمعين، لا يُسْأَل عمَّا يفعل وهم يسألون، أمَّا هداية التبليغ والبيان والدعوة فهي للرُّسل ولسائر الدعاة، فهم المكلَّفون بها، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، مع قوله تعالى في آية آخرى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 4.

الاستمرار على الدعوة إلى الله وإن لم يستجب أحد:

522-

وإذا كان المطلوب من المسلم أن يدعو إلى الله وليس المطلوب منه أن يهدي الناس، فعليه أن يستمرَّ على الدعوة بلا كلل ولا ملل ولا فتور؛ لأنَّ واجبه البلاغ والتبيين، وهذا متعلق به، فعليه أن يؤدِّيه كما يؤدي سائر العبادات، وإن لم يستجب له أحد، ألا ترى أن نوحًا عليه السلام لبث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنه إلّا خمسين عامًا.

وهكذا كان رسل الله يدعون أقوامهم مدة حياتهم، فمنهم من استجاب له قومه أو بعضهم، ومنهم من لم يستجب له أحد، وقال الإمام النووي:"لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين، فإنَّ الذي عليه الأمر والنهي لا القبول"5 ووجه الدلالة

1 سورة مريم: الآية: 55.

2 سورة المدثر، الآية:31.

3 سورة الشورى، الآية:52.

4 سورة القصص، الآية:56.

5 شرح صحيح مسلم للنووي ج2 ص22.

ص: 322

بهذا القول أنَّ الدعو ة إلى الله في رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيسري عليها معنى هذ القول، وبهذا المعنى قال السيوطي في أشبهاهه1، ومما يؤكد وجوب الاستمرار على الدعوة إلى الله حرمة اليأس، واحتمال الإجابة؛ لأنَّ الأمور بيد الله، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فلا يستطيع الداعي أن يقطع بعدم الإجابة، فيجب عليه الاستمرار بالدعوة والوعظ والإرشاد حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

أجر الداعي على الله لا على العباد:

523-

الداعي إلى الله يؤدي واجبًا، ويقوم بعبادةٍ امتثالًا لأمر الله، والأجر على العبادة يناله العابد من الربِّ الجليل تفضلًا منه وإحسانًا، وعلى هذا فلا يطلب الداعي من أحد من الخلق أجرًا على دعوته، ولا مالًا ولا ثناء ولا جاهًا، ولا أيِّ عوض من الأعواض المادية أو المعنوية، قال تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام:{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2، وقال عن نبينا صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 3، أي: إلَّا أن ترعوا قرابتي معكم، فتسمحوا لي بالدعوة إلى الله تعالى، ولا تمنعوني منها، ولا تصدوا الناس عنها، وهكذا شأن جميع رسل الله يدعون الناس إلى الله، ولا يبغون منهم جزاءً ولا شكورًا؛ لأنَّ أجرهم على الله الكريم، قال تعالى:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4.

مكانة الداعي في الإسلام:

524-

مكانة الداعي إلى الله في الإسلام مكانة عظيمة جدًّا. فقوله في الدعوة

1 الأشباه والنظائر للسيوطي ص307.

2 سورة يونس، الآية:72.

3 سورة الشورى، الآية:23.

4 سورة ياسين، الآية:21.

ص: 323

إلى الله أحسن الأقوال في ميزان الله وهو أصدق الموازين، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1، وهذه الآية كما قال أهل التفسير: عامَّة فيمن دعا إلى الله، وهو في نفسه مهتدٍ يعمل الخير ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم2. إنَّ كلمته في الدعوة إلى الله -لا سيما عند الجحود وشيوع التمرُّد على الله- هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وصاحبها بهذه الصفة من الصلاح في نفسه مع استسلامه لله رب العالمين، أمَّا أجر الداعي إلى الله فأجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا"، وفي حديث آخر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "فوالله لَأِن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمُر النِّعَم"، وفي حديث آخر: "من دَلَّ على خير فله مثل أجر فاعله".

1 سورة فصلت، الآية:33.

2 تفسير ابن كثير ج4 ص100.

ص: 324