المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: المبادئ العامة في النظام الاقتصادي الإسلامي - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المطلب الثاني: المبادئ العامة في النظام الاقتصادي الإسلامي

‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

401-

في النظام الاقتصادي الإسلامي جملة مبادئ عامة تقوم على أساس العقيدة الإسلامية والفطرة الإنسانية والمصلحة العامة، وعن هذه المبادئ تتفرَّع

جزئيات كثيرة وتنظيمات مختلفة، ونذكر من هذه المبادئ العامة حرية العمل، وحق الملكية، وحق الإرث.

الفرع الأول: حرية العمل

402-

يحثّ الإسلام على العمل ويكره العجز والكسل، وأشرف الأعمال وأعظمها قدرًا ما يقرِّب من الله تعالى، كالعبادات الخالصة كالصلاة، والأعمال المباحة إذا اقترنت بها النية الصالحة كالزراعة والصناعة ونحو ذلك، وفي باب الكسب والنشاط الاقتصادي يحثّ الإسلام على العمل، ويبارك العامل ويثني على جهده وكسبه الحلال، قال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} .

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} ، وفي الحديث الشريف:"ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده"، وفي حديث آخر:"من بات كالًّا في طلب الحلال بات مغفورًا له"، والحث على العمل وبذل النشاط الاقتصادي جاء عامًّا مطلقًا غير مقصور على نوع معين، وغير مقيد بشيء سوى الحِلّ الشرعي، وعلى هذا فإنَّه يشمل جميع أنواع النشاط الاقتصادي، ومختلف أنواع المعاملات والمكاسب، مثل: التجارة والزراعة والصناعة والشركة والمضاربة والإجارة، وسائر ما يباشره الإنسان من أوجه العمل والنشاط الاقتصادي لغرض الكسب الحلال، ولا تنقص قيمة الإنسان في نظر الإسلام بمباشرة أيِّ عمل حلال وإن عده الناس عملًا بسيطًا أو حقيرًا؛ لأنَّ قيمة الإنسان في نظر الإسلام في دينه وتقواه، لا في ماله وغناه، ولا في عمله ومهنته، ولهذا وجدنا أكابر الأمَّة من علمائها وفقهائها يمتهنون مختلف المهن الحرة المباحة، كما وجدنا بعض الصحابة الكرام يؤجرون أنفسهم لغيرهم؛ للقيام ببعض الأعمال المباحة الحلال لقاء أجر معلوم.

403-

ومن وسائل الحثِّ على العمل والكسب غير المباشرة أنَّ الإسلام حثَّ على إعانة الفقير، وجعل المعين خيرًا من المعان من جهة نوال الأجر والثواب، ففي الحديث

1 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج2 ص284.

2 المحلى ج6 ص156، 157

ص: 248

"اليد العليا خير من اليد السفلى"، كما أنَّ في الزكاة والحج وصنوف البرِّ المختلفة والإنفاق في سبيل الله ثوابًا عظيمًا، ولا يتأتَّى هذا الثواب إلّا بالقيام بأسبابه؛ من حج وزكاة وغيرها، وهذه لا تتأتَّى إلا بوجود المال عند المسلم، والأصل في تحصيل المال العمل وبذل الجهد، ومن هنا صار العمل وسيلة للحصول على ثواب الله تعالى؛ لأنه وسيلة لتحصيل المال، وبذل المال وسيلة لمرضاة الله ونوال ثوابه، ولهذا جاء في الحديث الشريف:"نعم المال الصالح للرجل الصالح"؛ لأنَّ العبد الصالح ينفق المال الحلال الذي صار في يده في السبل المرضية عند الله، فينال ثوابه ورضوانه.

404-

واختيار العمل المناسب للفرد متروك لتقديره، بمعنى أنَّ الإسلام يمنح الفرد حرية العمل، أي: الحرية الاقتصادية، فله أن يباشر ما يشاء من أوجه النشاط الاقتصادي دون إكراه أو إجبار أو منع، وليس في نصوص الشريعة ما يدل على خلاف هذا الأصل: الحرية الاقتصادية، أو حرية العمل للأفراد، والحقيقة أنَّ تقرير هذا المبدأ يقوم على أساسٍ من فطرة الإنسان، وحفظ كرامته وآدميته، ومسئوليته الفردية بما يصدر عنه، وملاحظة مصلحة الجماعة، وبيان ذلك أنَّ فطرة كل إنسان نزع إلى الحرية في رواحه ومجبيئه، وفي ما يأخذ ويترك، فلا يصح إهدار هذا الميل الفطري السليم الذي يحسّ به حتى الحيوان الأعجم، نعم قد تنحرف الفطرة فيختار الفرد ما يضر ولا ينفع، وما يحرم ولا يحل، فتحتاج في هذه الحالة إلى التقويم والتقييد لتعود حريتها في دائرة الحلال الواسعة الفسيحة، وأيضًا فإن في إقرار حرية العمل للإنسان حفظًا أكيدًا لكرامته وآدميته؛ لأن الإنسان حر مختار يمتاز عن الحيوان في اختياره، فلا يجوز أن يسوَّى بالحيوان الذي يسيره قائده كيفما يشاء، فلا يجوز أذن تقييد حريته في مجال العمل والنشاط الاقتصادي، وغلِّ يده عمَّا يهوى ويريد بلا ضرورة تقضي بذلك؛ لأن في هذا التقييد إهدارًا لآدميته، وهذا المعنى ملحوظ لدى فقهائنا العظام، حتى إنَّ الإمام أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- لم يجز الحجر على السفيه بحجَّة أنَّ في هذا الحجر إهدارًا لآدميته، وهو أشد ضررًا على السفيه من ضياع ماله.

ولا يصح القول هنا بأنَّ من المصلحة للفرد وللمجموع تقييد حرية الفرد وإعطاء الدولة الحق في تعيين الأعمال لجميع الأفراد، لا يقال هذا القول؛ لأنَّ الإنسان لا يحتاج فقط إلى خبز يأكله ويملأ به معدته، وإنما يحتاج أيضًا إلى نسيم الحرية يملأ به روحه

ص: 249

ووجدانه وكيانه الإنساني، ومن ثَمَّ لا بُدَّ من تقرير مبدأ حرية العمل للإنسان، وجعله هو الأصل والأساس، والتقييد هو الاستثناء الذي لا يجوز إلّا عند الضرورة.

وفي حرية العمل أيضًا إنماء لمواهب الإنسان وكفاءته وقدرته؛ لأن كل إنسان يختار من الأعمال ما يرغب فيه ويناسب ميوله وقدرته، فيندفع نحوه بشوقٍ ورغبة، فيكثر إنتاجه، ويبارك في عمله، وفي هذا خير عميم للمجتمع الذي يعيش فيه، وهذا بخلاف سلب الفرد حريته في العمل، وتسليط الدولة عليه لتختار هي العمل له، فإنَّ هذا الاتجاه لا يوفِّر للأفراد ما يناسبهم من أعمال، فتموت مواهبهم، ويقل نشاهطهم، ويقبلون على العمل متضجرين كارهين، فتقل ثمرات أعمالهم، ويقل الإبداع فيها، ويعود ضرر ذلك عليهم وعلى المجتمع. وأخيرًا فإنَّ الإنسان في الإسلام مسئول مسئولية كاملة عن أعماله، وعن اختياره وتركه، فمن العدل إعطاؤه الحرية الكافية لاختيار العمل الذي يريده.

ومع هذا الذي قلناه، يمكن عند الضرورة، وحيث يكون استعمال الناس لحريتهم الاقتصادية مضرًّا للمجموع، أو يكون وراء هذه الحرية سوء قصد وإرادة الشر بالجماعة، ففي هذه الحالات وأمثالها يكون لوليِّ الأمر الحق في التدخل في حرية الأفراد، وإلزامهم بما يدفع الضرر عن الناس، وعلى هذا الأساس قال بعض الفقهاء بجواز تسعير المواد الضرورية إذا امتنع التجار عن بيعها بقيمتها المعتادة، وحمل أرباب الصناعات والحرف على العمل بأجر المثل إذا امتنعوا عن العمل، وكان في الناس حاجة لصناعاتهم وأعمالهم1.

405-

ومن النتائج الحتمية لتقرير مبدأ حرية العمل للأفراد، إقرار المنافسة الحرة بين الأفراد في مجال النشاط الاقتصادي في إطارٍ من الأخلاق الإسلامية الفاضلة، فلكل فرد أن يضاعف نشاطه أو جهده؛ ليبز غيره في مجاله، بشرط مراعاة معاني الأخلاق، فلا يجوز الغش والخداع والخصام وتنزيل الأسعار إلى حد الخسارة بحجة المنافسة الحرة، بينما القصد منها الإضرار بالآخرين، واحتكار البيع في السوق من قِبَل فرد أو زمرة قليلة تتواطأ على هذا التنزيل والإضرار بالناس.

1 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص226، 240.

ص: 250

406-

ومن النتائج أيضًا لتقرير مبدأ حرية العمل التفاوت في الأرباح وثمرات الأعمال، نظرًا لاختلاف المواهب والكفاءات ومقدار الجهد المبذول، والإسلام يقر هذا التفاوت الطبيعي ما دام ناتجًا عن أسباب مباحة مشروعة؛ لأنه نتيجة لازمة لاختلاف الناس في مقدار ذكائهم ومعرفتهم ومواهبهم، قال تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، فالله تعالى فاضل بين عباده في الرزق، وفي الغني والفقر؛ ليسخِّر ويستعمل بعضهم بعضًا في أسباب المعايش المختلفة، وهي كثيرة جدًّا لا يمكن أن يحيط بها الإنسان، ومنها تفاوتهم في المواهب والكفاءات، ولا يمكن إزالة هذا التفاوت مطلقًا ما دام التفاوت في مواهب البشر قائمًا لا يمكن إزالته، وإنما الممكن والمطلوب إعانة الضعيف من قِبَل الغني، وهذا ما أكَّده الإسلام ودعا إليه، ووضع من الوسائل ما يحققه فعلًا.

الفرع الثاني: حق الملكية الفردية

407-

من البديهيات التي يعرفها صغار المطَّلعين على الشريعة الإسلامية أنَّ الإسلام أقرَّ للأفراد بحق الملكية الفردية، وبهذا الإقرار أمكن للفرد أن يكون مالكًا، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُون} ، فأثبت الله تعالى للناس الملك لما خلقه الله سبحانه وتعالى، وقال تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} ، فأثبتت هذه الآية الملك للناس، وأضافت المال إليهم أضافة ملك واختصاص، وقال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، وقال تعالى:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، وقال تعالى:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ، فهذه

1 تفسير القرطبي ج16 ص83.

ص: 251

الآيات الكريمة وأمثالها تضيف الملك للإنسان، مما يدل دلالة قاطعة وواضحة على أنَّ الإسلام يقرّ مبدأ الملكية الفردية، وفي السنة النبوية الشيء الكثير من الأحاديث الشريفة التي تقرر هذا المبدأ، منها:"لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من نفسه".

وقد شرِّعت نظم في الإسلام تقوم أساسًا على الإقرار بمبدأ حق الملكلية الفردية، منها: الميراث، والزكاة، والمهور في النكاح، والنفقات، وغير ذلك؛ إذ بدون الاعتراف بحق الملكية لا يبقى معنى للميراث، ولا يمكن تحقيق في فرض الزكاة

إلخ.

408-

والدلائل الشرعية الدالة على إقرار مبدأ حق الملكية الفردية لا تفرِّق بين مال ومال، فسواء كان المال المملوك منقولًا أو عقارًا، مأكولًا أو غير مأكول، حيوانًا أو نباتًا، وسائل إنتاج أو وسائل استهلاك، فكل هذا الاختلاف في المال موضوع الملكية لا يهم؛ لأنَّ المال المضاف إلى الفرد إضافة ملك واختصاص الذي جاءت به النصوص الشرعية، وذكرنا بعضها، لم تقيد المال بصفة معينة، بل جاءت مطلقة من كل قيد، عدا ما عرف من نصوص أخرى من حرمة تملك بعض الأشياء، كالخمر والخنزير، أو ما كان سبب ملكه حرامًا، وإن كان هو بنفسه يصلح أن يكون مملوكًا، كالمغصوب والمسروق ونحو ذلك.

409-

وقد رتَّب الإسلام على مبدأ حق الملكية الفردية التزامًا عامًّا على الكافَّة باحترامه وعدم المساس به إلّا بوجه حق، قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، وقال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} ، وفي الحديث الشريف:"لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من نفسه"، كما قرَّر الإسلام عقابًا لمن ينقض هذا الالتزام ويتجاوز على حق الملك للغير، فهناك عقوبة السرقة وقطع الطريق وخيانة الأمانة والنهب ونحو ذلك، سواء أكانت هذه العقوبات عقوبات حدود أم تعزير.

410-

ولكنَّ إقرار الإسلام بحق الملكية الفردية لا يعني أنه حق مطلق من كل قيد، وأن موقف الإسلام منه هو موقف الحارس له فقط، فالحقيقة أنَّ الإسلام مع إقراره بحق الملكية وحمايته له، فإنه ينظمه ويقيده بجملة قيود منذ نشأته إلى اندثاره، وبهذا يجمع الإسلام بين موقفين بالنسبة لحق الملكية الفردية، الأول: الاعتراف به والحماية له، الثاني: التقيّد والتنظيم لهذا الحق، وهذا التقييد يظهر فيما يأتي:

ص: 252

411-

أولًا: من حيث نشأة حق الملكية الفردية، يشترط الإسلام أن ينشأ عن سبب شرعي، فإن نشأ عن سبب غير شرعي فإنَّ الإسلام لا يعترف به ولا يحميه، بل يأمر بنزعه من يد حائزه وردِّه إلى مالكه الأصلي، فإن لم يوجد وضع في بيت المال. والأسباب الشرعية للملكية:

أ- الاستيلاء على المال المباح، ويندرج تحت هذا النوع الصيد، وإحياء الأرض الموات، والاستيلاء على الكلأ والآجام، واستخراج المعادن والكنوز، وكل ذلك بشروط معينة1.

ب- العقود والتصرفات مثل البيع والهبة والوصية والإجارة والشركة والمضاربة والمزارعة والمغارسة ونحو ذلك، بشرط أن تكون هذه العقود والتصرفات بالكيفية التي شرعها الإسلام. ج- الميراث؛ حيث يخلف الوارث المورث في ملكية تركته بأسباب وشروط معينة معروفة في باب الميراث في كتب الفقه الإسلامي.

هذه هي الأسباب الشرعية المنشئة لحق الملكية، فإن نشأ هذا الحق بها اعترف الإسلام به، ولا يهم بعد ذلك كميتها ولا نوعيتها؛ لأن المنظور إليه في الشرع في باب الملكية الفردية الشرعية لا الكمية ولا النوعية، أي: المنظور إليه السبب المنشيء للملكية، فإن كان مشروعًا كان الملك مشروعًا محميًّا من قِبَل الإسلام، ولهذا فإنَّ الإسلام يحمي الملك الكثير إذا كان سببه مشروعًا، ويرفض الاعتراف والحماية للملك القليل إذا كان سببه غير مشروع، إنَّه يعترف بملك الأرض الواسعة ما دام ملكها نشأ عن سبب مشروع، ويرفض الاعتراف بملكية شبر واحد مغصوب؛ لأن الغصب ليس سببًا شرعيًّا للملكية.

412-

ثانيًا: أمَّا قيود الملكية في بقائها ونمائها فتظر فيما شرعه الإسلام من حقوقٍ في مال الإنسان، ووجوب أداء هذه الحقوق، مثل: حق الزكاة والنفقات الشرعية، كما تظهر هذه القيود في نماء الملك، فقد حدَّد الإسلام سبل تثمير المال وتنميه، ومنها: التجارات والمزارعات والشركات ونحو ذلك، فلا يعترف الإسلام بالنماء الناتج عن سبب باطل حرام كالربا مثلًا، أو بيع الخمور، أو فتح نوادي القمار، إنَّ هذا النماء

1 انظر تفصيل ذلك في كتابنا: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية.

ص: 253

الناتج عن هذه الأسباب المحرَّمة في نظر الإسلام، كالورم الذي يصيب بدن المريض، يحسبه الجاهل سمنة وعافية، وهو في نظر الحكيم العارف بلاء ومرض يجب التخلص منه.

413-

ثالثًا: أمَّا قيود استهلاك المال موضوع الملكية، فتظهر فيما قرَّره الإسلام من ضرورة الاعتدال في الإنفاق، قال تعالى:{كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} ، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ، وهذا الاعتدال المطلوب في الإنفاق إنما هو في الإنفاق على المباحات أو على حاجات الإنسان الضرورية كالأكل والشرب، أمَّا الإنفاق على المحرَّمات فممنوع قليله وكثيره، فلا يجوز الإنفاق على الملذات المحرَّمة كالفحش والخمور والرقص ولبس الذهب من قِبَل الرجال، ونحو ذلك مما وقع فيه المترفون الذين لا يخشون الله تعالى، مما أدَّى إلى شيوع الفاحشة في المجتمع، وظهور فئات كثيرة منحرفة تقوم بهذه الأفعال المحرَّمة التي يهواها هؤلاء المترفون.

414-

رابعًا: نزع الملكية عند الضرورة وللمصلحة العامة بعد تعويض صاحب الملك التعويض العادل، وقد ضرب الفقهاء بعض الأمثلة على ذلك، منها: جواز نزع الملك لتوسعة طريق عام، كما يجوز بيع الملك جبرًا على صاحبه تسديدًا لدَيْن حُقَّ عليه للآخرين.

الفرع الثالث: حق الإرث

415-

من المبادئ المقرَّرة في الشرع الإسلامي حق الإرث، فإذا مات الشخص وترك مالًا ورثه أقرباؤه، الأقرب فالأقرب، ونال المستحقون للميراث سهامًا معينة من تركة الميت إذا ما توفَّرت شروط الميراث وأسبابه، وزالت موانعه حسب القواعد المقرَّرة في الشرع الإسلامي.

وحق الإرث يقوم على أساسٍ من الفطرة والعدل واحترام إرادة المالك، ويدفع إلى بذل المزيد من الجهد والنشاط، ويحقق ضمانًا اجتماعيًّا لأفراد الأسرة الواحدة، ويفتِّتُ الثروات ويمنع تكديسها، فهو لهذا كله مبدأ عظيم من مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي.

ص: 254

416-

أمَّا قيامه على أساسٍ من الفطرة، فقد بيِّنَّا فيما سبق أن من الفطرة في الإنسان اهتمامه بذريته، وقلقه عليهم إذا أحسذض بتركهم بلا مال، ورغبته في أن يوفِّر لهم ما يستعينون به في حياته وبعد موته.

وأما قيامه على أساسٍ من العدل، فإنَّ الإنسان في حياته يعيل أولاده وبقية من هو مكلَّف بإعالتهم، كأمه وأبيه وزوجته، وقد يلزم بهذا الإنفاق إلزامًا عن طريق القضاء إذا امتنع عنه، والغالب عدم امتناعه، فمن العدل أن تكون أمواله بعد موته لأولئك الذين كان هو السبب في وجودهم، كأولاده، أو كانوا هم السبب في وجوده مثل أبويه؛ ليستعينوا بهذه الأموال بالإنفاق منها على أنفسهم، كما كان هو في حياته ينفق منها عليهم.

417-

وأمَّا قيام الميراث على أساس احترام إرادة المالك، فإن الإنسان يرغب رغبة أكيدة أن تكون أمواله بعد موته لأقربائه لا لغيرهم، فيجب احترام إرادته هذه، ودفع أمواله إلى ورثته بعد موته، وقد فصَّل الشرع الإسلامي هذا، فبيِّنَ حصص هؤلاء الأقرباء من الميراث على نحوٍ دقيق عادل، ولا شكَّ أنَّ المسلم يسُرُّه ويرضيه أن تصير أمواله إلى ورثته من بعده وفقًا لهذا التقسيم الشرعي العادل.

418-

وأمَّا أنَّ مبدأ الإرث يدفع إلى المزيد من بذل النشاط والجهد فأمر واضح؛ لأنَّ الإنسان لا يعمل لنفسه فقط، وإنما لمن يهمه شأنهم من أفراد أسرته أيضًا، فهو يجهد نفسه ليسد حاجاتهم مع حاجات نفسه، وكما أنه يعمل لتوفير حاجاتهم الحاضرة فكذلك يبذل جهدًا آخر لتوفير ما يسد حاجاتهم في المستقبل، فإن بقي في قيد الحياة تولَّى الإنفاق بنفسه عليهم، وإن مات تولَّوا هم بأنفسهم الإنفاق من أمواله التي تركها لهم، وعلى هذا فإذا منع التوارث فإنَّ الإنسان تضعف همته في العمل، ويقلل نشاطه الاقتصادي؛ لأنه يعلم بأنَّ ثمرة جهوده لا ترجع إلى أفراد أسرته الذين يهتم بأمرهم.

ولا شك أن المجتمع سيخسر كثيرًا من فتور الناس عن العمل، ومن ضعف دوافعهم على بذل كل ما يستطيعون من جهد ونشاط اقتصادي.

ومبدأ الميراث يحقق ضمانًا اجتماعيًّا داخل الأسرة؛ لما يوفِّره من أموال تعود إلى الأحياء منهم إذا مات أحدهم وترك مالًا، فلا يضيع الصغير واليتيم والأرملة، ولا

ص: 255

يصيرون عالة على المجتمع، وفي هذا تخفيف عن كاهل الدولة في سدِّ حاجات المحتاجين.

419-

والميراث يفتِّتُ الثروات ويمنع من تكديسها في أيد قليلة؛ لأن تركة الإنسان بعد موته تقسَّم على عدد غير قليل من أقاربه، ولمَّا كان الإنسان غير مخلَّد في الدنيا، وعمره في الغالب قصير لا يتجاوز بضع عشرات من السنين، فإن الثروة التي قد يجمعها الإنسان في حياته لا بُدَّ أن تتفتَّتَ بعد زمن قصير، وتفتيت الثروات الكبيرة مِمَّا يرغِّب فيه الإسلام، ويسلك لتحقيقه سبلًا كثيرة هادئة مريحة لا عنف فيها ولا اهتزاز، ومن هذه السبل تقرير مبدأ الميراث.

420-

وأخيرًا فإنَّ تنظيم الإرث في الإسلام جاء على غاية في العدل والدقة، مما لا نجد له نظيرًا مطلقًا في أيِّ شرع آخر، فقد لوحظ فيه مدى قرب الوارث من الميت، ومدى حاجته، وتكاليفه، وإعانته للمورِّث، وفي ضوء ذلك وغيره جاءت حصص الورثة مختلفة، ومن أمثلة هذا الاختلاف أنَّ نصيب الابن ضعف نصيب البنت، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ؛ لأن حاجة الابن إلى المال أكثر من حاجة البنت؛ لكثرة التكاليف المالية عليه، فالرجل هو الذي يدفع المهر في النكاح دون المرأة، وهو المكلَّف بالإنفاق على زوجته وعلى أولاده. فمن العدل أذن أن يكون نصيبه في الميراث ضعف نصيب أخته.

ص: 256