الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: موضوع الحسبة
المنكر هو موضوع الحسبة:
300-
قلنا في تعريف الحسبة: إنها أمر بمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن منكر إذا ظهر فعله، وهذا التعريف في الواقع يشمل موضوع الحسبة والاحتساب ذاته.
فالموضوع هو المعروف والمنكر، والاحتساب هو الأمر بالأول والنهي عن الثاني.
ثم إنَّ المنكر قد يكون بإيجاد فعلٍ نهت الشريعة عنه، وقد يكون بترك فعلٍ أمرت الشريعة بفعله، فيكون المنكر بهذ الاعتبار ذا وجهين:
الأول: إيجابي يتمثَّل بإيجاد الفعل المحظور شرعًا.
الثاني: سلبي يتحقق بترك الفعل المطلوب شرعًا، أي: المعروف، ويكون الاحتساب في الوجهين بالنهي عنهما، أي: بالنهي عن إيجاد الفعل المحظور حتى لا يوجد، أو الانكفاف عنه بعد وجوده، وبالنهي عن ترك الفعل المشروع حتى يوجد، وعلى هذا فنحن نؤثر أن نجعل موضوع الحسبة هو المنكر بوجهيه، ويكون الاحتساب فيه بالنهي عنه بهذين الوجهين.
المقصود بالمنكر:
301-
وإذا كان موضوع الحسبة هو المنكر بوجهيه الإيجابي والسلبي، فما المقصود بالمنكر؟ الغالب أنَّ هذه الكلمة تطلق على المعصية، والمعصية هي مخالفة الشريعة بارتكاب ما نهت عنه، أو ترك ما أمرت به، سواءً كانت المعصية من صغائر الذنوب أو كبائرها، وسواءً تعلَّقت بحقِّ الله أو بحقِّ العبد، وسواءً ورد بها نصّ شرعي خاص، أو عرف حكمها من قواعد الشريعة وأصولها العامة، وما أرشدت إليه من
مصادر، وسواء كانت المعصية من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح، ولكن كلمة المنكر في باب الحسبة تطلق على معنى أوسع مما ذكرناه، فتطلق على كل فعلٍ فيه مفسدة، أو نهت الشريعة عنه، وإن كان لا يعتبر معصية في حقِّ فاعله، إما لصغر سنِّه أو لعدم عقله، ولهذا إذا زنا المجنون أو همَّ بفعل الزنى، وإذا شرب الصبي الخمر، كان ما فعلاه منكرًا يستحق الإنكار، وإن لم يعتبر معصية في حقهمها؛ لفوات شرط التكليف وهو العقل والبلوغ.
من يملك إعطاء وصف المنكر:
302-
والجهة التي تملك إعطاء المنكر لأيّ فعلٍ أو تركٍ هي الشريعة الإسلامية؛ لأن إعطاء هذا الوصف حكم شرعي، والحاكم هو الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ، وما على الفقهاء إلّا التعرُّف على حكم الله، فعملهم هو كشف عن الحكم الشرعي وليس إنشاء للحكم الشرعي، ولهذا إذا تبيِّن خطؤهم لم نتابعهم عليه؛ لأنَّ الحجة فيما بيِّنَه الشرع وقد ظهر لنا؛ ولأنَّ مهمة الفقهاء الكشف وليس الإنشاء كما قلنا.
303-
وقد يعترض البعض علينا بأنَّ الفقهاء قالوا: إن ما رآه المسلمون حسنًا أو قيبحًا دخل في موضوع الحسبة، أمرًا بالأول ونهيًا عن الثاني، فكيف نوفِّق بين هذا القول وبين ما قلناه؟ والجواب: إنَّ الشريعة الإسلامية دلَّت على أنَّ الإجماع حجة معتبرة، فإذا أخذنا بما رآه المسلمون حسنًا فأمرنا به وبما رأوه قبيحًا فنهينا عنه، فإنما نأخذ بدليل الإجماع، وهو دليل شرعي أرشدتنا إليه الشريعة.
وكذلك أخذنا بالعرف الصحيح هو اتباع بما أرشدتنا إليه الشريعة من مراعاة العرف الصحيح.
شروط المنكر:
304-
وإذا كان المنكر بوجهيه هو موضوع الحسبة، فلا بُدَّ من توافر شروط معينة فيه ليمكن الاحتساب فيه، فما هي هذه الشرط؟ قال علماؤنا -رحمهم الله تعالى: يشترط فيه أن يكون ظاهرًا وقائمًا في الحال، ومتفقًا على حكمه، ولا بُدَّ من الكلام بإيجاز عن كل شرط:
أولًا: ان يكون ظاهرًا
305-
المراد بظهور المنكر انكشافه للمحتسب وعلمه به بدون تجسس، سواء كان هذا الانكشاف والعلم به حصل عن طريق السمع أو البصر أو الشم أو اللمس أو الذوق؛ لأنَّ هذه الحواسّ طرق سليمة للعلم بالشيء، وبها يكون الشيء ظاهرًا ما دامت خالية من التجسس، وعلى هذا من كان في بيته وقد أغلق بابه عليه وقام بشيء من المنكر لم يجز للمحتسب أن يتسلّق الجدار أو يكسر الباب ليطَّلِع على ما يفعله أهل الدار، ولكن لو ظهر المنكر الذي يباشرونه عن طريق الصياح أو الاستغاثة، جاز للمحتسب اقتحام الدار لظهور المنكر عن طريق سمعه للصياح أو الاستغاثة.
ويدخل في مفهوم أو في معنى ظهور المنكر أيّ مكان يغلب على ظنّ المحتسب وقوع المنكر فيه، فعليه أن يخرج إلى ذلك المكان ويقوم بالاحتساب فيه، ولا يجوز له أن يسقط وجوب الحسبة عليه بالقعود بالبيت، بحجة عدم انكشاف المنكر وظهوره له.
ثانيًا: أن يكون قائمًا في الحال
306-
ومعنى ذلك أن يكون موجودًا في الحال؛ لأنَّ المنكر إذا وقع وانتهى فلا احتساب فيه على فاعله، وإنما لولي الأمر أن يعاقبه إذا ثبت ذلك عليه، ولكن يجوز الاحتساب على فاعله بوعظه بعدم العودة إليه.
ولكن هل يشترط وجود المنكر فعلًا، أو يكفي وجود مقدماته، وإن لم يوجد بعد؟ الواقع أنَّ المنكر إذا ظهرت بوادره ولاحت علاماته، وقامت القرائن على وشك وقوعه، دخل في موضوع الحسبة، وجاز الاحتساب فيه بالوعظ والإرشاد بلا تقريع؛ إذ قد يحمل التقريب المحتسب عليه على ارتكاب المعصية على وجه العناد. ولكن إذا لم ينفع الوعظ ورأى المحتسب أن المنكر يوشك أن يقع، وإذا وقع لم يكن تلافيه، جاز أو وجب على المحتسب الاحتساب فيه بالوجه الذي يمنع وقوعه ما دام قادرًا على ذلك.
وإذا كان وجود مقدِّمات المنكر يكفي لجريان الاحتساب فيه، فهل يكفي العزم على المنكر للاحتساب؟ الواقع أنَّ العزم على المنكر ما دام حديث نفس ولم يظهر في الخارج على شكل أشياء مادية تعتبر مقدّمات للمنكر لم يجز الاحتساب فيه، ولكن لو صرّح صاحب هذا العزم الخبيث بعزمه جاز للمحتسب أن يحتسب عليه بالوعظ
والإرشاد، والتخويف من الله تعالى بالقدر الذي يستحقه عزمه.
ثالثًا: عدم الخلاف فيه
307-
ويشترط في المنكر أن يكون مما اتفق الفقهاء على اعتباره منكرًا، حتى لا يحتجّ المحتسب عليه بأنَّ ما يفعله جائز على رأي بعض الفقهاء، وإن كان غير جائز على رأي المحتسب.
ولكن إذا كان المنكر بما اختلف الفقهاء فيه، فهل يمنع ذلك الاختلاف من الاحتساب فيه بدون قيد ولا شرط؟
الواقع أنَّ الخلاف إمَّا أن يكون سائغًا، وإمَّا أن لا يكون سائغًا، ولكلٍّ حكمه.
أ- الخلاف السائغ يمنع من الاحتساب على رأي بعض الفقهاء، وقال آخرون: يجوز للمحتسب أن ينكر على فاعل المنكر المختلف فيه، بشرط أن يكون المحتسب مجتهدًا.
ب- الخلاف غير السائغ، وهو الخلاف الشاذّ أو الباطل الذي لا يعتدّ به لعدم قيامه علي أيّ دليل مقبول، كالذي يخالف صريح القرآن أو السنة الصحيحة المتواترة أو المشهورة، او إجماع الأمة، أو ما عُلِمَ من الدِّين بالضرورة، فمثل هذا الخلاف لا قيمة له، ولا يمنع المحتسب من الإنكار والاحتساب.
اتِّساع موضوع الحسبة
308-
الشرط الجوهري في موضوع الحسبة أن يكون منكرًا في الشريعة الإسلامية، وحيث إنَّ من صفات الشريعة الشمول، بمعنى أنَّ لها حكمًا في كل شيء بلا استثناء، فإن موضوع الحسبة يصير واسعًا جدًّا؛ بحيث يشمل جميع تصرفات وأفعال الإنسان، ولا يخرج من ذلك إلّا ما تتوافر فيه شروط الاحتساب، ولا يدخل في ولاية المحتسب، وقد أشار الفقهاء إلى هذه السعة، فالفقيه ابن الإخوة يقول: والمحتسب من نصَّبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم
ومصالهم، وبياعاتهم ومأكولاتهم ومشروبهم وملبوسهم ومساكنهم وطرقهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر"، ويقول ابن خلدون وهو يتكلم عن المحتسب: "ويبحث عن المنكرات ويعزِّر ويؤدِّب إلى قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل المنع من المضايقات في الطرقات، ومنع الحمَّالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتعينة للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة
…
إلخ".
أمثلة على اتساع موضوع الحسبة:
309-
أولًا: في الاعتقادات
تجري الحسبة في أمور العقيدة، فمن أظهرَ عقيدة باطلة، أو أظهر ما يناقض العقيدة الإسلامية الصحيحة، أو دعا الناس إليها، أو حرَّف النصوص، أو ابتدع في الدين بدعة لا أصل لها، منع ذلك، وجرت الحسبة عليه؛ لأنَّ القول على الله ودينه بالباطل لا يجوز، ويناقض العقيدة الإسلامية التي من أصولها الانقياد والخضوع لله رب العالمين ولشرعه، ويدخل في ذلك رواية الأحاديث المقطوع ببطلانها وكذبها، وتفسير كتاب الله بالباطل من القول؛ كتفسير الباطنية الذي لا يحتمله النصوص ولا اللغة ولا الشرع ولا المنقول عن السلف الصالح.
309-
ثانيًا: في العبادات
مثل ترك صلاة الجمعة من قِبَل أهل قرية أو بلدٍ مع توافر شرط إقامتها، وترك الأذان، والزيادة فيها بما لم يأت به الشرع، ومثل المخالفة لهيئات العبادات كالجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، أو الزيادة في الصلاة، أو عدم الطمأنينة فيها، وكالإفطار في رمضان، وكالامتناع عن إخراج الزكاة.
310-
ثالثًا: في المعاملات
مثل عقد العقود المحرَّمة، وأكل أموال الناس بالباطل بالربا وغيره، والرشوة والغش
في الصناعات والبياعات، يدل على ذلك الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا، فقال:"ما هذا يا صاحب الطعام"؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، قال:"أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، مَنْ غشَّنَا فليس منا"، والواقع أنَّ الغش يكون في أشياء كثيرة جدًّا، فيكون مثلًا في البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، ويدخل في الصناعات مثل الذين يصفون المطعومات والملبوسات، فيجب نهي هؤلاء عن الغش الذي يرتكبونه في مصنوعاتهم أو بياعاتهم.
311-
رابعًا: فيما يتعلق بالطرق والدروب
مثل بناء الدكات، ووضع الاسطوانات، وغرس الأشجار، ووضع الأخشاب والسلع والأطعمة في الطرقات، وذبح الحيوانات في الطريق وتلويث الأرض بالدماء، وطرح القمامة في الدروب والأزِقَّة، وإلقاء قشور البطيع فيها ورشها بالماء؛ بحيث يخشى منها الزلق، ونحو ذلك مما فيه ضرر بالناس، فيمنع ذلك كله ويحتسب فيه؛ لأنه ضرر وهو ممنوع في الشريعة، وإذا وقع يجب رفعه.
312-
خامسًا: فيما يتعلق بالحرف والصناعات
وقد ذكر الفقهاء جميع الحرف والصناعات وبينوا كيفية الاحتساب فيها، والأصول الجامعة في الاحتساب فيها هي:
أ- من حيث المكان: فيجب أن يكون مكان الحرفة أو الصنعة لا ضرر فيه على الآخرين، فلا يكون مكان الخباز في سوق الأقمشة مثلًا، وأن يكون المكان بذاته صالحًا لمباشرة المهنة أو الصنعة، وصلاحه من جهة نظافته وسعته وتهويته.
ب- من حيث أدوات الحرفة أو الصنعة: يجب أن تكون صالحة للاستعمال، وقد وضع الفقهاء -رحمهم الله تعالى- مقاييس لصلاح كل أداة كأنَّهم هم أصحاب تلك الصنائع والحرف، فالإمام الشيرازي يقول في مقلى الزلابية: "ينبغي أن يكون مقلى
الزلابية من النحاس الأحمر الجيِّد
…
ثم يبيِّن الشيرازي رحمه الله كيفية إعداده للاستعمال فيقول: ويحرق فيه النخالة ثم يدلكه بورق السلق إذا برد، ثم يعاد إلى النار، ويجعل فيه قليل من عسلٍ ويوقد عليه حتى يحترق العسل، ثم يجلى بعد ذلك بمدقوق الخزف، ثم يُغْسَل ويستعمل، فإنه ينفي من وسخه وزنجاره"، وقد ذكرت هذا الكلام بطوله ليتبيِّن للناس مدى اهتمام فقهائنا -رحمهم لله تعالى- بما ينفع للناس في حياتهم ويدفع عنهم الضرر في معايشهم.
جـ- إذا كانت أدوات الحرفة مقاييس للوزن أو الكيل أو الذرع وجب التأكُّد من سلامة هذه المقاييس وصحتها.
د- من جهة المصنوع أو المبيع: يجب أن يكون خاليًا من الغش والتدليس، فلا تخلط الحنطة بالتراب، ولا الطحين بغيره من المواد الرديئة، وأن توضع العلامات المميزة لكل نوع إذا اتحد الجنس، فتنقط لحوم المعز -كما قال الفقهاء- بنقط الزعفران حتى تُعْرَف وتميَّز من غيرها، وأن تبقى أذناب المعز معلقة على لحومها إلى آخر البيع.
هـ- من جهة من يباشر الصنعة والحرفة: يجب أن يلاحظ المحتسب أهلتيهم، وقد ذكرنا من قبل قيام المحتسب بامتحان الكحَّال -طبيب العيون، وهكذا قالوا في امتحان أصحاب الحرف الأخرى كالمجبِّرين والفصَّادين والحجَّامين والجرَّاحين وغيرهم. كما تلاحظ أمانتهم وعفتهم.
313-
سادسًا: فيما يتعلّق بالأخلاق والفضيلة
ومما يلاحظه المحتسب ويحتسب فيه ما يتعلّق بالأخلاق والآداب والفضيلة، فيمنع مما يناقض الأخلاق الفاضلة والآداب الإسلامية مثل: الخلوة بالأجنبية، والتطلع على الجيران من السطوح والنوافذ، وجلوس الرجال في طرقات النساء وأماكن خروجهن، أو تجمعهن أو التحرّش بهنّ، ومثل التكشُّف بالطرقات بإظهار العورات وما لا يحل كشفه وإظهاره، ومنع من عرف بالفجور من معاملة النساء، قال أبو يعلى الحنبلي:
"وإذا كان من أهل الأسواق من يختص بمعاملة النساء راعى المحتَسِب سيرته وأمانته، فإذا تحققها منه أقره على معاملته، وإن ظرهت منه الريبة وبان عليه الفجور منعه من معاملتهن وأدَّبَه على التعرض لهنّ".