المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

تمهيد:

729-

تبليغ الدعوة إلى الله تكون بالقول وبالعمل، وبسيرة الداعي التي تجعله قدوة حسنة لغيره، فتجذبهم إلى الإسلام، ونتكلم عن هذه الوسائل في ثلاثة فروع متتالية:

الفرع الأول: التبليغ بالقول

أهمية القول في التبليغ:

730-

القول هو الأصل في تبليغ الدعوة إلى الله، فالقرآن -وفيه معاني الدعوة إلى الله- هو قول رب العالمين، نزل به الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون به التبليغ، قال تبارك وتعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} 1، وكان تبليغ رسول الله لرسالة ربه للناس بالقول، قال تعالى مخاطبًا رسوله وآمرًا له أن يقول للناس:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 3، وكذلك أمر الله رسله أجمعين بتبليغ أقوامهم رسالة ربهم بالقول المبين، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى

1 سورة التوبة، الآية:6.

2 سورة يونس، الآية:108.

3 سورة الأعراف، الآية:158.

ص: 470

قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2، فلا يجوز للداعي أن يغفل مكانة القول في تبليغ الدعوة، ولا أثر الكلمة الطيبة في النفوس، فالقول أذن هو الوسيلة الأصلية في إيصال الحق للناس.

الضوابط العامة في القول:

731-

يجب أن يكون القول واضحًا بيِّنًا لا غموض فيه ولا إبهام، مفهومًا عند السامع؛ لأنَّ الغرض من الكلام إيصال المعاني المطلوبة إلى من يكلمه الداعي، فيجب أن يكون الكلام واضحًا غاية الوضوح، ولهذا أرسل الله رسله بألسنة أقوامهم حتى يفهموا ما يدعونهم إليه، ويستطيعون بيانه إليهم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم} ، وجعل الله تعالى وظيفة الرسل الكرام التبليغ المبين الواضح؛ لتقوم الحُجَّة على المخاطبين، قال تعالى:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، ومقياس الوضوح ليس نفس الداعي وفهمه، فقد يكون الكلام واضحًا بالنسبة له، غامضًا بالنسبة إليهم، وكذلك ليس المقياس وضوح القول بذاته، فقد يكون الكلام واضحًا عندهم، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ، فالبيان لهم لا للداعي ولا للكلام بذاته، وفي الحديث عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا فصلًا، أي: بيِّنًا ظاهرًا، يفهمه كل من يسمعه3.

732-

ويجب أن يكون الكلام خاليًا من الألفاظ المستحدثة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، وخطًأ وصوابًا، وعلى الداعي أن يحرص على استعمال الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسُّنَّة وعند علماء المسلمين؛ لأن هذه الألفاظ تكون محدَّدة المعنى واضحة المفهوم، خالية من أيِّ معنًى باطل قد يعلق في ذهن المدعوّ. وقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة هذا النهج، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا

1 سورة الاعراف، الآية:59.

2 سورة الاعراف، الآية:104.

3 رياض الصالحين ص296.

ص: 471

رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ؛ لأن في كلمة "راعنا" في لسان اليهود معنًى باطلًا كانوا يقصدونه عند مخاطبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، فأمر الله المسلمين أن يتركوها ويستعملوا كلمة انظرنا بدلًا منها، حتى لا يحتج اليهود بهم، فيستعملوا كلمة راعنا، يريدون بها الشتيمة والتنقيص، وإذا اضطر الداعي إلى استعمال بعض الألفاظ المستحدثة فعليه أن يبيِّن مقصوده منها، حتى لا يتبادر إلى الأذهان المعاني الباطلة التي تحملها هذه الألفاظ، أو التي يفهمها الناس منها.

الضوابط العامة للقائل:

733-

يجب أن يتأنَّى الداعي في الكلام فلا يسرع، بل يتمهَّل حتى يستوعب السامع كلامه ويفهمه، جاء في الحديث الذي رواه البخاري "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه"1.

734-

وعلى الداعي أن يبتعد عن التفاصح والتعاظم والتكلف في نطقه، جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"هلك المتنطعون -قالها ثلاثًا"2.

والتنطُّع في الكلام التفاصح فيه والتعمق فيه، وفي حديث آخر:"إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"3.

735-

أن يبتعد الداعي عن روح الاستعلاء على المدعوِّ واحتقاره وتحديه، وإظهار فضله عليه، وإنما عليه أن يكلمه بروح الناصح الشفيق المخلق المتواضع، الذي يدل غيره على ما ينفعه ويعرِّفه به، على الداعي أن يكمله كمبلِّغ له معاني رسالة الله، لا أن يكلمه كمبلغ له فضله وعلمه. إنَّ ملاحظة هذه الأمور ضرورية جدًّا للداعي، وإذا لم يراعها انقطع ما بين قوله وبين قلب المدعوّ، فلا يتأثر بشيء مما يسمع، بل وينفر المدعوّ ولا يطيق سماع قول الداعي وإن كان حقًّا.

736-

وعلى الداعي أن يتلطف بالقول، فيستعمل في كلامه وخطابه ما يثير

1 رياض الصالحين ص296.

2 تيسير الوصول ج3 ص317.

3 رياض الصالحين ص248، والثرثار هو كثير الكلام، والمتشدِّق المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلَّم بملء فيه تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه، والمتفيهق هو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسَّع فيه، ويغرب به تكبرًا وارتفاعًا وإظهارًا للفضيلة على غيره.

ص: 472

رغبة المدعوّ إلى السماع، ويقمع فيه نوازع الجهل والنفور، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذا التلطُّف المفيد، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} 1، فذكر إبراهيم عليه السلام في خطابه لأبيه رابطة الأبوة التي من شأنها أن تجعل الابن حريصًا على مصلحة الأب، وتجعل الأب جديرًا بأن يصغي إلى خطاب ابنه، وقال تعالى عن هود عليه السلام:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 2، فهود عليه السلام خاطبهم بكلمة يا قوم؛ لأن هذا الخطاب أدعى إلى استجابتهم وإلى تحسيسهم بأنَّ من يخاطبهم هو منهم في النسب، وأنه يريد الخير لهم، وفي السنة النبوية ما يدل أيضًا على ما قلناه، فقد ذكر ابن هشام في سيرته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى بطنٍ من بطون كلب في منازلهم يقال لهم "بنو عبد الله"، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، حتى إنه كان يقولهم لهم:"يا بني عبد الله، إنَّ الله عز وجل قد أحسن اسم أبيكم" 3 أي: فأحسنوا الإجابة واقبلوا الدعوة وآمنوا بالله ورسوله.

737-

وعلى هذا يجوز أن يستثير في خطابه همم المدعوين بما يذكِّرهم به من طيب أصلهم وكرم عائلتهم وشرف نسبهم، وأنَّ ذلك لا يتفق وجريهم مع العصاة وانغماسهم في الرذائل والشهوات، وأنَّ اللائق بهم أن يكونوا مع الأخيار المطيعين لله، فهذا ونحوه سائغ إن شاء الله، لا نرى فيه شيئًا على ألّا يسرف فيه الداعي، وأن يكون قصده منه التشويق والحمل على الطاعة، لا المداهنة والنفاق، والأعمال بالنيات.

738-

والتلطف في القول لا يعني المداهنة والنفاق ولا إخفاء الحق أو تحسين الباطل أو الرضى به، وإنما هو تشويق للمدعو لقبول الحق، وإعانته على هذا القبول، وليس فيه إخفاء مرض المدعو، فإنَّ الداعي كالطبيب، فكما أنَّ الطبيب لا يخفي على المريض علته، وضرورة العلاج له، فكذلك الداعي، قال تعالى حكاية عن بعض رسله:

1 سورة مريم: الآية: 42.

2 سورة الأعراف، الآية:65.

3 سيرة ابن هشام ج2 ص33.

ص: 473

{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 1، وقال تعالى عن صالح وما قال لقومه:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} 2.

أنواع القول:

739-

والقول في مجال التبليغ أنواع، منها: الخطبة، والدرس، والمحاضرة والمناقشة، والتحديث أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، والكتابة فإنها أيضًا من القول، باعتبارها أداة من أدوات التبليغ، وتؤدي ما يؤدي إليه القول بالنسبة لمن لا يمكن للداعي المشافهة معهم.

الخطبة:

740-

وهي وسيلة جيدة للتبليغ، وتكون عادة لجمع من الناس قد لا يعرفهم الداعي أو يعرف بعضهم فقط، ويشترط للخطبة الناجحة أن يكون لدى الداعي معنًى أو معانٍ معينة يريد بيانها ولفت الأنظار إليها، ومن المستحسن أن يكون موضوع الخطبة مما له علاقة في أحوال الناس، مع ربط ذلك بمعاني العقيدة الإسلامية، كأن يكون الذين يخطب فيهم ممن تكثر فيهم العصبية القبلية، فيحدِّثهم عن أضرارها وحكم الإسلام فيها، وأنَّ المؤمن لا ينصر قريبه إلّا بالحق، وأنَّ على المسلم أن يرضى بما قضى به الإسلام من التآخي بالإسلام ونبذ العصبية الجاهلية. وعلى الداعي الخطيب أن يلاحظ في خطبته الأمور التالية:

1-

الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتطبيقات العملية لها من قِبَلِ الرسول الكريم والرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم، والصحابة الكرام، فإنّ ذكر التطبيق يجعل معنى الآية والحديث مشهودًا محسوسًا.

2-

يستعين بالقصص الواردة في الكتاب والسنة، ولا بأس من تصوير المعاني

1 سورة هود، الآية:52.

2 سورة الشعراء، الآيات: 150-153.

ص: 474

بشكل قصصٍ وضرب الأمثال، كما في الحديث الشريف:"أرأيتم لو أنَّ في باب أحدكم نهرًا يغتسل في اليوم خمس مرأت، أيبقى من درنه شيء"؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال:"كذلك الصلاة".

3-

أن لا يطيل في الخطبة، جاء في الحديث الشريف "إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة" 1، وهذا الحديث ورد في خطبة الجمعة، فيقال عليها سائر الخطب، إلّا إذا اقتضت الضرورة إطالتها.

4-

أن لا يكثر الخطب مخافة السآمة، يدل على ذلك أنَّ أبا وائل شفيق بن سلمة، قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس مرة. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكَّرتنا كل يوم. فقال: أما إنه يمنعني من ذلك كراهية أن أملّكم، وأني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا2.

5-

أن يكون كلام الداعي بسيطًا واضحًا؛ لأنَّ الذين يسمعونه ليسوا في مستوى واحد من العلم والقدرة على فهم الخطاب، فإذا اختار الأسلوب البسيط الواضح والعبارات القصيرة انتفع بها الجميع وفهمها الجميع.

7-

من المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يذكِّر الناس بربهم، ويبيِّن لهم، وينذرهم، وأن لا يقصد المباراة في خطبه، ولا مدح الناس، وقولهم: ما أعلمه وأقدره على الخطب، وإنما يقصد نشر معاني الدعوة إلى الله، فإذا رأى حاجة إلى ما بيِّنه في مكان معيِّن إلى إعادته في مكان آخر أعاده وكرَّره، ودليلنا على ذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرِّر دعوته إلى الله، ويقول للناس: اعبدوا الله وحده واتركوا ما دونه.

كما أنَّه عليه الصلاة والسلام كان يكرِّر في خطبته في المسلمين لزوم التقوى والعمل للآخرة، وفي القرآن الكريم تكرير لقصة موسى عليه السلام، وتكرير لكثير من أصول العقيدة ومعانيها.

7-

ومن المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يجلب انتباه السامعين من حادثة صادفها أو قصة قرأها، أو خاطر انقدح في نفسه، فإذا ما جلب انتباه السامعين مضى الخطيب في كلامه مترسلًاه مشوقًا ومنذرًا.

1 رياض الصالحين ص297.

2 رياض الصالحين ص297. ويتخولنا معناها يتعهدنا.

ص: 475

8-

على الداعي ان يتفرَّس في نفوس الحاضرين، وأيّ مرض يغلب عليهم، وأيّ شيء يحتاجونه أكثر من غيره، فيبدأ به ويربطه بالعقيدة الإسلامية، فإذا كانوا بحاجة إلى التخويف والترهيب لما يلمسه فيهم من الجرأة على المخالفات الشرعية ذكَرَ لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وخوفهم من طول الأمل، وأن الحزم يقضي بأخذ العُدّة قبل حلول الأجل، والعدة هي تقوى الله، فإنها خير ما يتزوّد به المسافر إلى الله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ، وأن لذة المعصية وهي قصيرة تعقبها مرارة الندم والعذاب مدة طويلة، والعاقل من صبَّر نفسه عن لذة حرام لا تدوم؛ ليظفر بلذَّة حلال تدوم؛ ولينجو من عذاب دائم مقيم. وإذا رأى في القوم الذين يخطب فيهم شعورًا باليأس والقنوط وصعوبة الرجوع إلى الله ذكَّرَهم بعظيم رحمة الله، وأن الله يقبل التائبين الصادقين، وقال فيهم:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، ويذكر لهم قصة القاتل مائة نفس، وكيف أنَّ الفقيه دلَّه على طريق التوبة إلى الله، والتحول إلى القرية الصالحة.

9-

على الداعي أن يحذر من ذكر الآيات والأحاديث التي قد يساء فهمها دون شرح وبيان لها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة"، فعلى الخطيب أن يشرح الحديث حتى يفهمه السامعون الفهم الصحيح.

10-

وعلى الداعي أن لا يسرع في كلامه ولا يرفع صوته بلا حاجة.

11-

يستحسن أن تكون الخطبة ارتجالًا لا في ورقة مكتوبة، وأن تكون معانيها حاضرة في ذهنه، أي: أعدَّها من قبل.

الدرس:

741-

الغالب في الدرس أن يكون شرحًا لآية من القرآن، أو لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، او بيانًا لمسألة أو مسائل من الفقه، كما أنَّ الغالب في الدرس أن يحضره عدد قليل من الناس جاءوا قاصدين سماع الدرس، مما يعطي فرصة طيبة للداعي أن يتعرَّف عليهم عن كثب، ويوثق علاقته بهم، ويشترط للداعي في درسه أن يحضِّر مادته مسبَّقًا تحضيرًا جيدًا، وأن لا يستطرد كثيرًا وهو يلقي موضوعه؛ لأنَّ الاستطراد يبعد السامع عن أصل الموضوع، ويبعث في نفسه السآمة، وفي تفسير القرآن يستحسن أن يكون

ص: 476

بالقرآن نفسه، فما أجمله القرآن في موضعٍ فصَّله في موضع آخر. فإن لم يجد هذا البيان في القرآن تحوَّل إلى السنة، فإن لم يجد ففي أقوال المفسِّرين من الصحابة والتابعين، وكذلك يفعل في تفسيره الحديث النبوي، وعند كلامه في الفقه الإسلامي يستحسن أن يبيّن الحكم الفقهي الراجح إن كان من ذوي القدرة على تمييز الأقوال الفقيهة الراجحة من المرجوحة، فإن لم يستطع ذلك فعليه أن يبيِّن الحكم وفقًا لاتجاه أحد المذاهب الإسلامية دون أن يذكر الخلافات الفقهية في كل مسألة يتعرَّض لها؛ لأن ذكر هذا الخلاف يشتت أذهان السامعين.

المحاضرة:

742-

والغالب في المحاضرة أنَّها تعالج موضوعًا معينًا باستقصاءٍ وإحاطةٍ وذكر الأدلة والبراهين، وذكر ما قيل حول الموضوع، والصواب من هذه الأقوال، والمحاضرة الناجحة ما كانت تهدف إلى هدف معيِّن ومحدَّد، وتجلي هذا الهدف وتبينه البيان الشافي المقنع، ويجب على المحاضر أن يكون دقيقًا في كلامه، لا يلقي القول جزافًا، ولا يكثر من العبارات العاطفية؛ لأن مجالها الأصلي الخطبة وليس المحاضرة، وأن يشرك السامعين معه في الوصول إلى ما يريده، بأن يبيِّن مقدمات النتيجة التي وصلها إليها في بحثه، فإذا ما استطاع إقناعهم بها كان وصولهم إلى النتيجة ميسورًا.

وعلى المحاضر أن يقيم المقدِّمات لما يريد الوصول إليه على مسائل واضحة جليِّة مشهورة، وأن يجنّب المسائل الدقيقة والمشتبهة، والتي تقبل الأخذ والرد، أو التي هي في نفسها تحتاج إلى إثبات، ومن هذه المسائل ما تعورف على تسميته بالمعاني الفلسفية، فإذا أراد المحاضر أن يعرض بعض الحقائق الدينية وأصول العقيدة الإسلامية مثل: البعث بعد الموت، فيكفيه أن يلفت الأنظار إلى ما نشاهده من موتٍ وبعثٍ في عالم الحيوان والنبات، وأن يضرب الأمثلة على ذلك لتقريب هذه الحقيقة إلى الأذهان.

وهذا النهج ورد في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فالحياة بعد الموت أثر مشاهد محسوس، أرض ميتة لا نبت فيها ولا حياة، ينزل الله عليها المطر فتهيج ويخرج منها نبات حي بألوانه المختلفة وطعومه المتنوعة، إنَّ الله الذي أحيا هذه الأرض هو الذي يحيي الموتى بعد

ص: 477

أن خلقهم من ماء مهين، من نطفة نعرفها ونراها، فإنَّ الإعادة كما هو معلوم أسهل من الابتداء، قال تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، هذا وعلى الداعي في محاضرته أن لا يكون جافًّا، عليه أن يضفي على محاضرته شيئًا من التحريك العاطفي الوجداني بما يذكره من حقائق الإسلام ومعاني العقيدة الإسلامية، وهذا التحريك الوجداني يقوم على أساس إثارة ما في النفوس من معاني الإيمان.

المناقشة والجدل:

743-

المناقشة والجدل يكونان بين شخصين أو أكثر، يعرض كل جانب وجهة نظره فيما يراه ويعتقده من أمور، والداعي عندما يدعو غيره إلى الله قد لا يقبل المدعوّ دعوته، فيقبل على جدال الداعي ومناقشه، وقد ذكر القرآن الكريم بعض صور المناقشات التي جرت بين الرسل الكرام وبين أقوامهم، من ذلك قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، فالمدعوّ في مناقشته وجداله مع الداعي قد يصل إلى حدِّ اتهام الداعي بالضلال المبين، فلا يعجب الداعي من ضلال المدعو، ولا يخرجه عن هدوئه واتزانه وشفقته عليه، كما هو واضح من جواب نوح عليه السلام، فعلى الداعي أن يلاحظ ذلك دائمًا، وأن يكون كلامه في الجدال والمناقشة بالحسنى وبالكلام الطيب والأدب الجمّ والتواضع والهدوء وعدم رفع الصوت، وعدم إغاظة المقابل والاستهزاء به، وليبق كلامه معه على مستواه العالي الرفيع الرقيق الليّن المحبوب، الخالي من الفظاظة والخشونة، ولكن فيه قوة الإقناع ووضوح الحق، ومثل هذا يستفاد من قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، فإذ أصرَّ المدعوّ على باطله ولجَّ في عناده، وأصبح الكلام معه عبثًا، فليقطع الداعي الجدل معه، ويذكر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا

ص: 478

يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} ، وقوله تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، وهذا المسلك هو قطع الجدل مسلك سديد؛ لأنَّ بعض الناس لا ينفع معهم الجدل؛ لأنهم لا يريدون من جدلهم الوصول إلى الحق، وإنما يريدون المكابرة والعناد والجحود، قال تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

744-

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غالبًا ما يكون بالقول، كما أنَّه قد يكون بدعوة غير المسلم إلى الإسلام، أو بدعوة المسلم العاصي إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، والإقلاع عن مخالفة شرعه، كما أنَّ هذا الأمر والنهي بأنواعه قد يكون موجهًا إلى شخص بعينه، أو إلى عِدَّة أشخاص، أو إلى طائفة من الناس، أو بشكل دعوة عامَّة إلى الناس لاتباع ما جاء به الإسلام، وترك ما يخاله. والقواعد الجامعة في هذا الباب والتي يجب أن يفقهها الداعي هي ما يلي:

قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

745-

القاعدة الأولى: لا بُدَّ من العلم بالمعروف الذي يدعو إليه، وبالمنكر الذي ينهى عنه. جاء عن بعض السلف:"لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلّا من كان فقيهًا فيما يأمر به فقيهًا فيما ينهى عنه"، وهذا واضح، فكما أنَّ من يعالج المريض يحتاج إلى فهمٍ بالمرض والدواء، أي: يكون طبيبًا جيدًا، فكذلك الداعي، ويستفاد ذلك من قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، والبصيرة تشمل ما قلناه.

746-

القاعدة الثانية: الرفق، والأصل فيه الكتاب والسنة، قال تعالى مخاطبًا موسى وهارون عليهما السلام:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 1، والقول الليَّن الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة ذكره الله تعالى في سورة النازعات، قال تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى

1 سورة طه، الآية:24.

ص: 479

رَبِّكَ فَتَخْشَى} ، فهذا الخطاب صريح في بيان الحقّ، ولكنه رقيق لا يجد المبطل فيه إثارةً لنفسه المثقلة بالباطل، ثم يبلغ اللين والرفق في الخطاب إلى مدى أبعد من ذلك، فيقول موسى كما حكاه الله تعالى عنه:{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، فهذا تحذير لطيف وصادق إلى فرعون؛ إذ لم يوجه موسى عليه السلام العذاب إلى فرعون مباشرة، وإنما قال:{عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، وهذا فيه ما فيه من لين القول والتلطف في التحذير، وإذا كان الله تعالى قد أمر موسى عليه السلام بالقول اللين، مع عصمته وحفظ الله له، فغيره أَوْلَى بالأخذ باللين والتلطُّف في الخطاب، فإن القائل باللين ليس بأفضل من موسى، والمقول له ليس بأخبث من فرعون، وفي السنة النبوية:"ما كان الرفق في شيء إلّا زانه، ولا كان العنف في شيء إلّا شانه"، "إنَّ الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف"، ولا شكَّ أن القول اللين في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل في مفهوم الرفق المأمور به.

ولا شكَّ أن الداعي المسلم قد يخرج في بعض الأحيان عن هذا النهج الليِّن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن عليه دائمًا أن يحمل نفسه عليه؛ لأنه هو السبيل القويم الذي دلَّت عليه السنة النبوية، وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم فعلًا، فمن هذه التطبيقات ما جاء عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال:"بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرمانِ القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمَّاه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قَبَله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم1.

747-

القاعدة الثالثة: النظر إلى المصالح والمفاسد، ومعنى ذلك: أن يكون قول الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفقه ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيما يأمر به أو ما

1 رياض الصالحين ص297، 298.

ص: 480

ينهى عن، نظر، فإن كان فيما يقوله أمرًا ونهيًا مصالح أعظم من المفسدة التي تحصل في أمره ونهيه، وجب عليه الأمر والنهي، وإن كان العكس، أي: المفاسد أعظم، لم يجب عليه، بل قد يحرم1.

748-

القاعدة الرابعة: اختلاط المعروف بالمنكر، الداعي بالنسبة لأنواع المعروف يدعو إليها دعوة مطلقة، وكذا بالنسبة لأنواع المنكر ينهى عنها نهيًا مطلقًا.

ولكن بالنسبة لشخص معيّن أو طائفة معينة، إذا كانوا جامعين بين معروف ومنكر، وهم إمَّا أن يفعلوهما معًا أو يتركوهما معًا، فعلى الداعي أن ينظر، فإن كان مصلحة المعروف أكبر وأرجح أمر به، وإن جاءوا بالمنكر المغمور في الخير، وإن كان الشر أكثر نهى عنه، وإن فات الخير الكثير المغمور فيه، وإذا اشتبه الأمر على الداعي توقَّف حتي يتبيِّن له الأمر، فلا يقدم إلّا بعلم وإخلاص.

749-

القاعدة الخامسة: التبليغ حسب الإمكان، وليس من شروط أداء واجب التبليغ أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي إلى كل إنسان مكلَّف في العالم؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يُشترط فيما هو من توابعها؟ بل يشترط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرَّطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه، فإنَّ التفريط منهم لا منه2.

الكتابة:

750-

الكتابة وهي من أنواع القول في الدعوة إلى الله كما أشرنا من قبل.

والكتابة إمَّا أن تكون كتابة رسائل إلى من يريد الداعي دعوتهم إلى الإسلام، ونبذ ما يخالفه، وإما أن تكون بتأليف الكتب والأبحاث والمقالات في المجلات وغيرها، وكلها وسيلة جيدة للدعوة إلى الله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة الرسائل إلى حكام البلاد غير الإسلامية، يدعوهم فيها إلى الله، واعتناق دين الإسلام؛ كرسائله عليه الصلاة والسلام إلى كسرى في العراق، وهرقل في الشام، والمقوقس في مصر، وكذلك علماء الإسلام يرسلون الرسائل إلى الحكام المسلمين يدعونهم فيها إلى ما أمرهم الله به، مثل

1 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص128.

2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص125، 126.

ص: 481

رسالة الأوزاعي إلى الوالي العبَّاس في الشام حول أهل الذمة ولزوم رعاية حقهم المشروع، وتأليف الكتب في معاني الإسلام، وكتابة الأبحاث والمقالات والرسائل، من الرسائل المفيدة جدًّا في الدعوة إلى الله، لا سيما إذا تُرْجِمَت إلى لغات من يراد تعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه، فيمكن بهذه الوسيلة تبليغ الإسلام إلى ملايين الناس الذين لا يعرفون اللغة العربية، ولم تصلهم معاني الإسلام. ويلاحظ في كتابة الرسائل والأبحاث والكتب أنَّها توجَّه إلى العموم، ويقرؤها كثير من الناس على اختلاف مستوياتهم في العلم والفهم، فيجب على الداعي أن يكتبها بأسلوبٍ بسيط مفهوم واضح يدركه أقل النَّاس قدرة على فهم الخطاب، وأن تكون المعاني التي يبينها مما لا يسع أيَّ إنسان يريد الإسلام أن يجهلها، وأن تكون خالية من ذكر المسائل الدقيقة والخلافية، وأن تكون مختصرة دون إخلال بالمعنى ومقتضيات التفهيم.

الفرع الثاني: التبليغ بالعمل

751-

المقصود بالعمل: نريد بالعمل هنا في مجال التبليغ إزالة المنكر فعلًا، وهذا هو الغالب، ويجوز أن يكون في العمل إزالة منكر، وإنما فيه إقامة معروف، مثل: بناء مسجد أو مدرسة أو نحو ذلك مما يسهِّل أو يحقِّق إقامة شرع الله في جانب من جوانبه، ويكون هذا العمل كدعوة صامته إلى الإسلام، ووسيلة فعالة من وسائل نشر الدعوة إلى الله.

القواعد العامة لإزالة المنكر:

752-

والأصل في إزالة المنكر قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، وإزاله المنكر فعلًا إزالة لما يمنع الخير أو الحق، فإنَّ المنكر في الأرض يدفع من الحق بقدره أو أكثر، فكان زواله أو إزالته تيسيرًا لتحقيق الحق والخير بين الناس، وكان هو من تمام الأمر بالمعروف، ووجه من وجوهه.

ص: 482

القواعد العامة في إزالة المنكر:

753-

ذكرنا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القواعد العامَّة، وهذه تسري هنا أيضًا، فلا بُدَّ من فقهٍ وعلم بما يُرَاد إزالته من المنكر من جهة كونه منكرًا تجب إزالته، وكذلك الرفق في إزالته؛ لأنَّ المقصود إزالة المنكر فعلًا، وليس المقصود الانتقام ونحو ذلك، روى البخاري أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقام الناس ليقعوا فيه، فقال صلى الله عليه وسلم:"دعوه وأريقوا على بوله سجِلًّا من ماء، أو نوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين".

وتجب ملاحظة المصالح والمفاسد وتزاحمها قبل الإقدام على إزالة منكر بعينه؛ ليعرف الداعي ما يترتَّب عليه من أضرار أو منافع، وكذلك ملاحظة ما جاء في القاعدة الرابعة من اختلاط المعروف والمنكر في شخصٍ ما، وأنه إمَّا أن يفعلهما، وإمَّا أن يتركهما سوية، وما يترتب على الإزالة في هذه الحالة في حق هذا الشخص المعين.

754-

ونضيف هنا إلى القواعد العامَّة في إزالة المنكر ما يأتي:

القاعدة الأولى:

أن تكون عند المزيل القدرة الكافية على هذه الإزالة، ولا شَكَّ في تفاوت الدعاة في هذه القدرة، وأعظمهم قدرة الأمير، أي: من بيده السلطة والأمر والنهي، ولهذا فهو مسئول أكثر من غيره عن إزالة المنكر في بيته؛ لأنه مسلط شرعًا على هذه الإزالة، وله الولاية على بيته، فيكون قادرًا على الإزالة، وبالتالي تجب عليه إلّا إذا عارضها معارض شرعي في بعض جزئيات المنكر من جهةٍ ما، قد عسى أن يترتب على إزالة هذه الجزئية من مفاسد أكبر من المصالح في ضوء القواعد السابقة.

755-

فإذا عُدِمَ الداعي القدرة على الإزالة، أو استطاع الإزالة ولكن يترتَّب على ذلك منكر أكبر، أو يلحقه ضرر جسيم، ومن الضرر تعطيل عمله المبرور في الدعوة إلى الله، ومنعه الانتقال إلى الإزالة بالقول، فإذا لم يستطعه أيضًا لهذه المحاذير انتقل إلى التغيير بالقلب، كما جاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه.

756-

ومن تطبيقات هذه القاعدة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبيّ وأمثاله

ص: 483

من أئمة النفاق لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه تستلزم إزالة معروف أكبر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه1.

القاعدة الثانية:

757-

كره المنكر لا رخصة فيه، وإزالته حسب القدرة، ومما يجب أن يُعْلَم جيدًا أنَّ كره المنكر يجب أن يكون تامًّا كاملًا؛ لأن الأصل في المؤمن أن يكون حبه موافقًا لحب الله، وبغضه موافقًا لما يبغضه الله، وأيّ نقص في هذه الموافقة في جانبيها، أو في أحد جانبيها، مرَدُّه نقص الإيمان قطعًا؛ لأنَّ بعض المنكر في القلب لا ضرر فيه مطلقًا، فمن لم يفعله -أي: لم يكره المنكر بقلبه- كان ذلك دليلًا على ضعف إيمانه، بل وموت قلبه وعدم إيمانه؛ لأنَّ الحديث ورد في آخره:"ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"، بعد أن ذكر مراتب تغيير المنكر باليد واللسان والقلب. أمَّا إزالة المنكر باليد -أي: فعلًا- فهذه تكون بحسب القوة والقدرة، فإنَّ الله تعالى لا يكلِّف نفسًا إلّا وسعها، قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، ومتى كانت كراهية القلب للمنكر كاملة، وإرادته للتغيير كاملة، وفعل المسلم منها بحسب قدرته، أو لم يفعل لعجزه، فإنه يُعْطَى ثواب الفاعل.

القاعدة الثالثة:

758-

الاستعانة ببعض المباح لتغيير المنكر، والأصل في ذلك مشروعية تأليف القلوب حتى تقبل الخير وتقلع عن الشر، ولو كان هذا التأليف بمالٍ يبذل، وقد روي عن الإمام الفقيه عمر بن عبد العزيز أنه قال:"والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئًا من أمر الدين إلّا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم، خوفًا أن يتخرق عليّّ منهم ما لا طاقة لي به"2، وعلى هذا يجوز للداعي أن يعوّض المتلبس بالمنكر بشيء مباح جزاء تركه أو تغيره فعلًا، كما لو كان له ولد أو صديق يلعب القمار، فيعوضه بتخصيص جائزة له على سبق غيره في مباح؛ كركض أو فروسية أو رمي، أو حفظ ما يستحب

1 فتاوى ابن تيمية ج2 ص131.

2 سيرة عمر بن عبد العزيز، تأليف عبد الله بن الحكم ص60.

ص: 484

حفظه، وإذا كان متلبسًا بمنكر ارتياد الملاهي عوَّضَه بالسفرات البريئة، أو كان ميَّالًا إلى الرشوة أو التساهل في أكل مال الغير عوَّضه9 بزيادة أجرته أو راتبه، ونحو ذلك.

الفرع الثالث: التبليغ بالسيرة الحسنة

أهمية السيرة الحسنة:

759-

من الوسائل المهمة جدَّا في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى الإسلام، السيرة الطيبة للداعي وأفعاله الحميدة وصفاته العالية وأخلاقه الزاكية مما يجعله قدوة طيبة وأسوة حسنة لغيره، ويكون بها كالكتاب المفتوح يقرأ فيه الناس معاني الإسلام فيقبلون عليها ويتجذبون إليها؛ لأنّ التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام فقط.

760-

إنَّ الإسلام انتشر في كثير من بلاد الدنيا بالسيرة الطيبة للمسلمين، التي كانت تجلب أنظار غير المسلمين وتحملهم على اعتناق الإسلام، فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها غير المسلم على أحقيّة الإسلام، وأنه من عند الله، لا سيما إذا كان سليم الفطرة سليم العقل.

761-

ومن السوابق القديمة في أهمية السيرة الحسنة للداعي وأثرها في تصديقه، والإيمان بما يدعو إليه، أنّ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها عندما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث له في غار حراء قالت له:"أبشر، والله لا يخزيك أبدًا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر -في أوصاف أخر جميلة عدتها من أخلاقه تصديقًا منها له وإعانة على الحق"1.

وروي أيضًا أنَّ أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: من أنت؟ قال: "أنا محمد بن عبد الله"؟ قال: الأعرابي أأنت الذي يقال عنك أنك كذَّاب؟ فقال: "أنا الذي يزعمونني كذلك"، فقال الأعرابي: ليس هذا الوجه وجه كذاب، وما الذي تدعو إليه؟ فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدعو إليه من أمور الإسلام، فقال له الأعرابي: آمنت بك وأشهد

1 إمتاع الأسماع ص3-14.

ص: 485

أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فالأعرابي استدلَّ بسمت رسول الله ووجهه المنير الكريم الذي يكون عليه أهل الصدق والأخلاق الكريمة، استدلَّ بذلك على صدقه فيما يدعو إليه صلى الله عليه وسلم.

أصول السيرة الحسنة:

762-

وأصول السيرة الحسنة التي بها يكون الداعي المسلم قدوة طيبة لغيره ترجع إلى أصلين كبيرين: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول، فإذا تحقق هذان الأصلان حسنت سيرة الداعي، وكانت سيرته الطيبة دعوة صامته إلى الإسلام، وإن فاته هذان الأصلان ساءت سيرته، وصارت دعوة صامتة منفِّرة عن الإسلام، فليتَّق الداعي ربه في هذا الأمر الخطير، ولا يكون منفِّرًا عن دين الله بسيرته، وهو يريد الدعوة إليه بقوله.

الأصل الأول للسيرة الحسنة:

763-

الأصل الأول هو حسن الخلق، وقد تكلَّمنا في فصل سابق عن نظام الأخلاق، كما تكلمنا عن أخلاق الداعي، فلا نعيدهما هنا، وإنما نحيل عليهما، وما ذكرناه هناك يقال هنا في تجلية في الأصل، ونحب أن نكرر ونذكِّر هنا بخلق الصبر والعفو، فإنَّ الداعي لا بُدَّ أن يكون حليمًا صبورًا على الأذى؛ لأنه لا بُدَّ أن يحصل له أذى أو مضايقات، فإن لم يحلُم ويصبر كان كما يقول ابن تيمية:"ما يفسد أكثر مما يصلح"، ولهذا قال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر- بالصبر، قال تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، بل إنَّ الصبر مقرون بتبليغ الرسالة، مما يدل على أهميته ولزومه للداعي إلى الله، فإنَّ أول ما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بلِّغ بالرسالة سورة {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وفيها:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 1، فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، علم أنه يجب بعد ذلك الصبر2.

1 سورة المدثر: 1-7.

2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص136، 137.

ص: 486

والحقيقة أنَّ الداعي بسماحته وعفوه وإعراضه عن الجاهلين، وصبره على أذاهم، ينال منهم ما لا يناله بدون هذه الصفات، بل أقول: لا بُدَّ أن تحملهم هذه الصفات العالية إلى قبول الحق ولو بعد حين، إلّا من سبق عليه الكتاب، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

الأصل الثاني للسيرة الحسنة:

764-

والأصل الثاني موافقة العمل للقول، فليحذر الداعي من مخالفة أفعاله لأقواله، فإنَّ النفس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه، ولا يوافق فعله قوله، ولهذا قال شعيب عليه السلام لقومه كما جاء في القرآن الكريم:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} ، ولهذا حذَّرنا الله سبحانه من مخالفة أفعالنا لأقولنا، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، فليحمل الداعي نفسه دائمًا على موافقة أفعاله لأقواله، فإنَّ هذا أدعى للإقبال عليه وقبول قوله.

الخاتمة:

765-

هذا ما يسره الله تعالى في بيان أصول الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فإن كان صوابًا فهو محض فضل الله عليَّ، وإن كان فيه خطأ أو زلل، فاستغفر الله تعالى، والله ورسوله بريئان منه، فأنِّي كما قال ربنا تبارك وتعالى على لسان أحد أنبيائه الكرام:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، وأخيرًا، فأني أسأل الله تعالى، وهو خير مسئول، أن ينفع بهذه الفصول كاتبها وقارئها، وأن يجعلنا من الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

-انتهى-

1 سورة يونس، الآية 9، 10.

ص: 487