المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

تعريف الأخلاق:

115-

الخلق في اللغة: الطبع والسجية، وفي اصطلاح العلماء -كما يعرفه الغزالي: عبارة عن هيئةٍ في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويّة1.

ويمكننا تعريف الأخلاق بأنه: مجموعة من المعاني والصفات المستقرة في النفس، وفي ضوئها وميزانها يحسن الفعل في نظر الإنسان أو يقبح، ومن ثَمَّ يقدم عليه أو يحجم عنه.

أهمية الأخلاق:

116-

للأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان وما يصدر عنه، بل نستطيع أن نقول: إن سلوك الإنسان موافق لما هو مستقر في نفسه من معانٍ وصفات، وما أصدق كلمة الإمام الغزالي إذ يقول في إحيائه:"فإنَّ كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح، حتى لا تتحرك إلّا على وفقها لا محالة"، فأفعال الإنسان إذن موصولة دائمًا بما في نفسه من معانٍ وصفات صلة فروع الشجرة بأصولها المغيبة في التراب. ومعنى ذلك أنَّ صلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه؛ لأنَّ الفرع بأصله، إذا صلح الأصل صلح الفرع، وإذا فسد الأصل فسد الفرع {وَالْبَلَد

1 إحياء علوم الدين للغزالي ج3، ص46.

ص: 79

الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} 1. ولهذا كان النهج السديد في إصلاح الناس وتقويم سلوكهم وتيسير سبل الحياة الطيبة لهم أن يبدأ المصلحون بإصلاح النفوس وتزكيتها، وغرس معاني الأخلاق الجيدة فيها، ولهذا أكد الإسلام على صلاح النفوس وبين أنَّ تغيير أحوال الناس من سعادة وشقاء، ويسر وعسر، ورخاء وضيق، وطمأنينة وقلق، وعز وذل، كل ذلك ونحوه تبع لتغيير ما بأنفسهم من معان وصفات، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

117-

وتظهر أهمية الأخلاق أيضًا من ناحية أخرى، ذلك أنَّ الإنسان قبل أن يفعل شيئًا أو يتركه يقوم بعملية وزن وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الأخلاق المستقرة في نفسه، فإذا ظهر الفعل أو الترك مرضيًا مقبولًا انبعث في النفس رغبة فيه واتجاه إليه، ثم إقدام عليه، وإن كان الأمر خلاف ذلك انكمشت النفس عنه وكرهته، واحجمت عنه تركًا كان أو فعلًا. إنَّ عملية الوزن هذه قد تكون سريعة جدًّا وغير محسوس بها، إلى درجة أنَّ الإنسان قد يفعل الشيء أو يتركه بدون رواية أو تفكير، وفي بعض الأحيان لا تتمّ عملية الوزن والقيم إلّا بعد تأمّل ومضي وقت طويل، وقد لا تتم هذه العملية، فيقع الإنسان في التردد بين الفعل والترك، ولكن في جميع الأحوال لا بُدَّ من عملية الوزن والتقيم لكل فعلٍ أو تركٍ بلا استثناء.

إنَّ وزن الأفعال والتروك بميزان الأخلاق، وصحة هذا الوزن أو فساده، ومدى التزام الإنسان بمقتضاه، وتنفيذه له، كل ذلك يتوقف على نوع المعاني الأخلاقية التي يحملها من حيث جودتها أو رداءتها، ومدى رسوخها في نفسه، وانصباغها بها، وحماسه لها، وغيرته عليها، وشعوره بضرورتها إليه، فلا يكفي لظهور أثر الأخلاق في فعل الإنسان وتركه أن يعرف الإنسان الجيد والرديء من الأخلاق، ويخزِّن هذه المعرفة في رأسه، ويتكلم بها في المناسبات، بل لا بُدَّ من انصباغ كيانه ورسوخها في أعماق نفسه؛ بحيث تصير له كاللون الأسود والأبيض بالنسبة للبشرة السوداء أو البيضاء، وأن تكون حاضرة في ذهنه، مسيطرة على سلوكه، متحمسًا لها، غيورًا عليها إلى درجة الإيمان.

1 سورة الأعراف، الآية:85.

ص: 80

بأنَّ الحياة لا تصلح عوضًا للتفريط بمعنى من معاني الأخلاق الفاضلة الإسلامية التي يحملها، ومن أجل هذا أكَّد الإسلام على معاني الأخلاق المطلوبة وشوَّق إليها، وحثَّ النفوس عليها، وكرَّرَها وأعادها، حتى يتذكرها المسلم دائمًا وينصبغ بها، فيكون أثرها واضحًا في سلوكه.

مكانة الأخلاق في الإسلام:

118-

للأخلاق في الإسلام مكانة عظيمة جدًّا، تظهر من وجوه كثيرة، نذكر منها ما يأتي:

أولًا: تعليل الرسالة بتقويم الأخلاق وإشاعة مكارم الأخلاق، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما بعثت لأتمِّمَ مكارم الأخلاق".

ثانيًا: تعريف الدين بحسن الخلق، فقد جاء في حديثٍ مرسل أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما الدين؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "حسن الخلق"، وهذا يعني أنَّ حسن الخلق ركن الإسلام العظيم الذي لا قيام للدِّين بدونه، كالوقوف في عرفات بالنسبة للحج، فقد جاء في الحديث الشريف "الحج عرفة"، أي: إنَّ ركن الحج العظيم الذي لا يكون الحج إلّا به الوقوف في عرفات.

ثالثًا: من أكثر ما يرجِّح كفة الحسنات يوم الحساب حسن الخلق، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق".

رابعًا: المؤمنون يتفاضلون في الأيمان، وأفضلهم فيه أحسنهم أخلاقًا، جاء في الحديث: قيل: يا رسول الله، أيّ المؤمنين أفضل إيمانًا؟ قال:"أحسنهم خلقًا".

خامسًا: إنَّ المؤمنين يتفاوتون في الظفر بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقربهم منه يوم القيامة، وأكثر المسلمين ظفرًا بحب رسول الله والقرب منه، أولئك المؤمنون الذين حسنت أخلاقهم حتى صاروا فيها أحسن من غيرهم، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا".

سادسًا: إنَّ حسن الخلق أمر لازم وشرط لا بُدَّ منه للنجاة من النار، والفوز

ص: 81

بالجنان، وأن التفريط بهذا الشرط لا يغني عنه حتى الصلاة والصيام، جاء في الحديث أنَّ بعض المسلمين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها، قال:"لا خير فيها، هي من أهل النار".

سابعًا: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه بأن يحسِّن خلقه -وهو ذو الأخلاق الحسنة، وأن يهديه لأحسنها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:"اللهم حسَّنت خَلْقي فحَسِّن خُلُقِي"، ويقول:"اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلّا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلّا أنت"، ومعلوم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلّا بما يحبه الله ويقربه منه.

ثامنًا: مدح الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، فقد جاء في القرآن الكريم:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، والله تعالى لا يمدح رسوله إلّا بالشيء العظيم، مما يدل على عظيم منزلة الأخلاق في الإسلام.

تاسعًا: كثرة الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الأخلاق، أمرًا بالجيِّد منها ومدحها للمتصفين به، ومع المدح الثواب، ونهيًا عن الرديء منها، وذمِّ المتصفين به، ومع الذم العقاب، ولا شكَّ أن كثرة الآيات في موضع الأخلاق يدل على أهيمتها، ومما يزيد في هذه الأهمية أنَّ هذه الآيات منها ما نزل في مكة قبل الهجرة، ومنها ما نزل في المدينة بعد الهجرة، مما يدل على أن الأخلاق أمر مهم جدًّا لا يستغني عنه المسلم، وأنَّ مراعاة الأخلاق تلزم المسلم في جميع الأحوال، فهي تشبه أمور العقيدة من جهة عناية القرآن بها في سوره المكية والمدنية على حدٍّ سواء.

خصائص نظام الأخلاق في الإسلام:

119-

يتميز نظام الأخلاق في الإسلام بجملة خصائص، منها: تفصيل الأخلاق، وشمولها، ولزومها في الوسيلة والغاية، وارتباطها بمعاني الإيمان والتقوى، ووقوع الجزاء فيها، ونبيِّن فيما يلي هذه الخصائص بإيجاز:

التعميم والتفصيل في الأخلاق:

120-

دعا الإسلام إلى الأخلاق الكريمة دعوة عامة، من ذلك ما جاء في القرآن الكريم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ

ص: 82

إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} ، والقول بما هو أحسن دعوة عامَّة للقول الطيب المطلوب بجميع أنواعه في مخاطباتهم ومحاوراتهم، في قوله تعالى:{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} دعوة عامَّة للابتعاد عن رذائل الأخلاق، وفي السنة النبوية من هذه الدعوة العامة إلى الأخلاق الشيء الكثير، من ذلك:"اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن"، والخلق الحسن يجمع أنواع الأخلاق الحسنة، وفي الحديث:"إنَّ العبد ليدرك بحسن حلقه درجة الصائم القائم".

121-

ولم يكتف الإسلام بالدعوة العامَّة إلى التحلي بالأخلاق الجيدة، والتخلي عن الأخلاق الرديئة، وإنما فصَّل القول في الصنفين، فبيِّنَ أنواع كل صنف، والحكمة في هذا البيان المفصَّل توضيح معاني الأخلاق وتحديدها؛ لئلَّا يختلف الناس فيها وتتدخل الأهواء في تحديد المراد منها، ومن مظاهر رحمة الله بعباده أن بيِّنَ لهم ما يتقون وما يأخذون وما يتركون، ونذكر فيما يلي أمثلة على تفصيل الأخلاق في القرآن والسنة النبوية المطهرة.

أمثلة من القرآن على تفصيل الأخلاق:

122-

أ- الوفاء بالعهد: {أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} .

ب- النهي عن القول بلا علم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .

جـ- النهي عن مشية التبختر والتمايل كما يفعل المتكبرون: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} .

د- النهي عن الإسراف والتبذير والبخل والتقتير: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} ، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} .

هـ- الأمر بالعدل في جميع الأحوال، وبالنسبة لجميع الناس حتى الكفار:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَ} ، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .

ص: 83

و التعان على البِرِّ والتقوى وما ينفع الناس، والنهي عن التعاون على البغي والعدوان:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .

ز- الظلم ظلمات يوم القيامة، وعاقبته وخيمة، وهو أنواع، أقبحها: افتراء الكذب على الله، وتعدي حدود الله، والظالم مقطوع الصلة بالله مخذول غير منصور، ومن أجل هذا نهى الإسلام عنه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، {فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} .

ح- الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فلا بُدَّ للمؤمن من صبرٍ على طاعة الله، وصبرٍ على قضاء الله، وبهذا يكون من المحسنين، ورحمة الله قريب من المحسنين، ولهذا أمر الإسلام بالصبر:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} .

طـ- الصدق من علامات الإيمان وثمراته، ولهذا أمر الإسلام به:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} .

ي- الكذب رذيلة لا ينال صاحبها هداية الله، ويثمر النفاق في القلب، ولهذا نهى الإسلام عنه وحذر منه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ} ، {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .

ك- التكبّر والعجب والبخل والفخر والرياء رذائل وأمراض تصيب القلب فتطمسه وتمحق نوره، وتبعد صاحبها عن الله تعالى، ولهذا جاء النهي عنها:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} .

ص: 84

ل- الاعتدال في المشي بين البطء والإسراع مطلوب من المسلم، وخفض الصوت وعدم رفعه بلا حاجة مطلوب أيضًا من المسلم، {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .

م- الثبات على الحق والدوام على الطاعة والعبادة أمور مطلوبة؛ لأنَّ الأمور بخواتيمها، وبدون الاستقامة والدوام والثبات على الحق تفوت الثمرة، ولا يصل المسلم إلى الغاية، وينقطع عن ركب الصالحين، من أجل هذا وجب على المسلم أن يكون على قدر كبير من الثبات على معاني الإيمان والاستقامة عليها؛ لينال الفوز والرضوان {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .

ن- الجنة دار الطيبين أعدَّها الله للمتقين الذين من أخلاقهم الحسنة الإنفاق في جميع الأحوال، في اليسر والعسر، فينفقون بقدر مالهم، ولا يبخلون عن الإنفاق ولو كان قليلًا، ومن أخلاقهم كظم الغيظ، فلا ينفذونه وهم القادرون على إنفاذه طاعة لله وخشية منه واحتسابًا للأجر عنده، ومن أخلاقهم أنهم لا يستوفون كل حقوقهم من الناس، بل يتركون منها لهم إحسانًا عليهم {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .

س- النهي عن الغل والحقد: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .

ع- علاج الجاهل الإعراض عنه وتركه وشأنه، وبهذا أمر الإسلام {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .

ف- ومن وصايا الإسلام الجامعة لعباده المؤمنين في باب الأخلاق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا

ص: 85

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} 1.

ص- ومن الآيات التي جمعت كثيرًا من أخلاق المؤمنين، وجعلت هذه الأخلاق علامة على أيمانهم قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ 2، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ 3، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، وكذلك قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا 5 وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا 6، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا 7، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا 8، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ

1 السخرية بالناس: احتقارهم والاستهزاء بهم. اللمز: الطعن بهم بالقول. الهمز: الطعن بهم بالفعل، والهماز اللماز مذموم ملعون، قال تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} . والتنابز بالألقاب أن تدعو غيرك بلقب يسؤوه سماعه. والظن كما يقول ابن كثير في تفسيره: التهمة والتخوّن للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعضه إثم، فليجتنب كثير منه احتياطًا، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"ولا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلّا خيرًا وأنت تحد لها في الخبر محملًا". والغيبة: ذكرك أخاك بما يكره، فإن لم يكن فيه ما تذكره فقد غبته.

2 اللغو: هو كل ما لا يحمد من القول والفعل.

3 العادون: هم المجاوزون الحلال والحرام.

4 الفردوس: أعلى الجنة.

5 هونًا أي: بسكينة ووقار وتواضع.

6 أي قالوا قولًا سديدًا، ولا يدخلون في جدال وخصام مع الجاهلين.

7 غراما أي لازما ممتدا.

8 قوامًا أي: عدلًا وسطًا بلا إفراط ولا تفريط.

ص: 86

إِلّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا 1، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ 2 وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا 3، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا 4، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا 5، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} 6.

أمثلة من السنة النبوية على تفصيل الأخلاق:

123-

أ- في النهي عن الغضب، أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال:"لا تغضب".

ب- في الحياء، وردت أحاديث كثيرة منها:"الحياء لا يأتي إلّا بخير"، "الحياء خير كله"، "إنَّ لكل دينٍ خلقًا وخلق الإسلام الحياء"، "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".

جـ- في التعاون: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".

د- في حقوق المسلم، والنهي عن بعض الأخلاق: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى ههنا -ويشير إلى صدره الشريف ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم

1 أثامًا أي: عقابًا وجزاء.

2 ولا يشهدون الزور: أي لا يحضرون مجالس السوء والكذب والكفر والفسق والباطل.

3 مروا كرامًا: أي مكرمين أنفسهم بالإعراض عن مشاهد الزور.

4 أي لا يكون حالهم حال الكفار؛ حيث يسمعون كلام الله ولا يتأثرون به، ولا يعقلون ما فيه كأنهم صمّ عمي، وإنما حال المؤمنين عند سماعهم كلام الله فَهم معناه والانتفاع به".

5 إمامًا: أي اجعلنا أئمة يُقْتَدى بنا في الخير، أو هداة مهتدين دعاة إلى الخير.

6 حسنت مستقرًا ومقامًا، أي: حسنت منظرًا وطابت مقبلًا ومنزلًا.

ص: 87

على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".

هـ- النهي عن أخلاق المنافقين: "آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"، "أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنَّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

و في الحلم والأناة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".

ز- في الرفق: "إنَّ الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله".

ح- في الرياء والسمعة والإخلاص: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

ط- في النهي عن المراء والجدل: "من ترك المراء وهو محق بني له بيت في الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة"، "وما ضل قوم بعد أن هداهم الله إلّا أوتوا الجدل".

ي- في بذاءة اللسان: "ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش ولا البذيء".

ك- في العجب والشح: "ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب كل ذي رأي رأيه".

ل- ترك الكلام فيما لا يعنيك: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

م- ترك فضول الكلام: "طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله".

ن- وزن الكلمة بميزان الإسلام قبل النطق بها: "إنَّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من

ص: 88

رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله به رضوانه إلى يوم القيامة، وإنَّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة".

س- في الأمانة والوفاء بالعهد: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة؟ فقال له:"إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة" فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسِّدَ الأمر لغير أهله فانتظر الساعة".

ع- في الصدق والكذب: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وأن البِرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".

ف- في القوة والعزيمة: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان".

ص- المتابعة في الخير لا في الشر: "لا يكن أحدكم إمَّعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وأن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنُوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم".

ش- الحزم واليقظة: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين".

ض- النهي عن الذل: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه".

ط- في التوادد والتراحم والتعاطف: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى".

ثانيًا: شمول الأخلاق

124-

ومن خصائص نظام الأخلاق في الإسلام الشمول، ونعني به أنَّ دائرة الأخلاق الإسلامية واسعة جدًّا، فهي تشمل جميع أفعال الإنسان الخاصة بنفسه أو

ص: 89

المتعلقة بغيره، سواء أكان الغير فردًا أو جماعة أو دولة، فلا يخرج شيء عن دائرة الأخلاق ولزوم مراعاة معاني الأخلاق، مما لا نجد له نظيرًا في أية شريعة سماوية سابقة، ولا في أية شريعة وضعية، ونذكر هنا على سبيل التمثيل فقط مدى مراعاة الأخلاق في علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول؛ ليتبيِّنَ لنا مدى حرص الإسلام على التمسك بمعاني الأخلاق. ووجه اختيارنا هذه العلاقات هو ما شاع بين الناس ويؤيده الواقع، إنَّ العلاقات بين الدول لا تقم على أساس مراعاة الأخلاق، حتى إنَّ أحدهم قال: لا مكان للأخلاق في العلاقات الدولية. ولهذا كان الخداع والتضليل والغدر والكذب من البراعة في السياسة، إنَّ الإسلام يرفض هذا النظر السقيم، ويعتبر ما هو قبيح في علاقات الأفراد قبيحًا أيضًا في علاقات الدول، ويعتبر ما هو مطلوب وجميل في علاقات الأفراد مطلوبًا وجميلًا أيضًا في علاقات الدول، ولهذا كان من المقرر في شرع الإسلام أن على الدولة الإسلامية أن تلتزم بمعاني الأخلاق، وهذا التقرير موجود في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة وفي أقوال الفقهاء، فمن ذلك:

أولًا: قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ، أي: إذا ظهرت خيانة من عاهدتهم وثبتت دلائلها، فأعلموهم بنقض عهدهم حتى تستووا معهم في العلم؛ لأنَّ الله تعالى لا يحب الخائنين ولو كانت الخيانة مع قوم كافرين، وكانوا في نقض العهد بادين.

ثانيًا: كان من شروط معاهدة الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش: إنَّ من يأت من قريش النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا يرده النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤويه، وبعد الفراغ من كتابة المعاهدة جاء أبو جندل من قريش مسلمًا معلنًا إسلامه، يستصرخ المسلمين أن يئوه ويحموه من قريش، فقال له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:"إنَّا عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا، وإنَّا لا نغدر بهم"1.

ثالثًا: قال الفقهاء: لا يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمانٍ منهم؛ لأنَّ خيانتهم غدر، ولا يصلح في دين الإسلام الغدر2.

1 سيرة ابن هشام في موضوع الحديبية.

2 المغني لابن قدامة الحنبلي ج8 ص458.

ص: 90

رابعًا: قال فقهاء الحنابلة: "إذا أطلق الكفار الأسير المسلم واستحلفوه أن يبعث اليهم بفدائه أو يعود إليهم لزمه الوفاء"، قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال: "إنَّا لا يصلح في ديننا الغدر"1.

خامسًا: إذا كانت دار الحرب تأخذ من رعايا دار الإسلام الداخلين إلى إقليمها ضريبة على أموالهم التي معهم؛ بحيث تستأصل هذه الأموال، أو تأخذ من أموالهم القليلة ضريبة كبيرة لا تتناسب مع أموالهم، فإنَّ دار الإسلام لا تقابلهم بالمثل، ويعلل الفقهاء قولهم هذا بأنَّ فِعل أهل دار الحرب غدر وظلم، فلا نقابلهم بالغدر والظلم؛ لأننا نهينا عن التخلق بمثل هذه الأخلاق وإن تخلَّقوا بها2.

ثالثًا: لزومها في الوسائل والغايات

125-

والخصيصة الثالثة لنظام الأخلاق في الإسلام أنَّ الالتزام بمقتضى الأخلاق مطلوب في الوسائل والغايات، فلا يجوز الوصول إلى الغاية الشريفة بالوسيلة الخسيسة، ولهذا لا مكان في مفاهيم الأخلاق الإسلامية للمبدأ الخبيث "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو مبدأ انحدر إلينا من ديار الكفر. يدل على ذلك، أي: على ضرورة مشروعية الوسيلة ومراعاة معاني الأخلاق فيها قوله تعالى: {إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهذه الآية الكريمة توجب على المسلمين نصرة إخوانهم المظلومين قيامًا بحق الأخوة في الدِّين، ولكن إذا كانت نصرتهم تستلزم نقض العهد مع الكفَّار الظالمين لم تجز النصرة؛ لأنَّ وسيلتها الخيانة ونقض العهد، والإسلام يمقت الخيانة ويكره الخائنين.

رابعًا: صلة الأخلاق بالإيمان وتقوى الله

126-

الأخلاق في الإسلام موصولة بالإيمان وتقوى الله، قال تعالى: {فَأَتِمُّوا

1 المغني ج8 ص783.

2 المبسوط ج12 ص200، وحاشية ابن عابدين ج2 ص56.

ص: 91

إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فالوفاء بالعهد من تقوى الله ومحبة الله، ومن الإيمان المسارعة إلى ما يحبه الله تعالى.

وفي الحديث: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، فالإيمان لا بُدَّ أن يورِّث الأخلاق الحسنة وعلى رأسها الأمانة وحفظ العهد، فمن فقد الأمانة وضيِّع العهد كان ذلك إيذانًا بخلُّوه من معاني الإيمان المطلوبة منه، وتفريطه بتقوى الله.

وفي حديث آخر: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه". فهذا الحديث الشريف يدل على أنَّ الأخلاق السيئة تنافي الإيمان وتناقضه، وأنَّه لا يجتمع الإيمان والخلق الرديء.

خامسًا: الجزاء

127-

ومن خصائص نظام الأخلاق في الإسلام الجزاء؛ لأنَّ الإسلام جاء بالأخلاق أمرًا ونهيًا، وعصيان أوامر الشرع أو ارتكاب ما نهى عنه سبب للعقاب، قال تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} ، كما أنَّ الالتزام بحدود الشرع وطاعته سبب للثواب الحسن.

والجزاء لمن يخالف حدود الشرع في الأخلاق قد يكون في الدنيا، فشاهد الزور وبذيء اللسان والخائن ونحوهم، يعاقبهم القاضي المسلم بالعقوبة التعزيرية والحنث في اليمين، أي: عدم الوفاء بالوعد الموثّق باسم الله يترتب عليه كفارة اليمين، وفي الكفارة معنى العقوبة كما يقول الفقهاء.

وقد يكون الجزاء في الدنيا هلاك الجماعة التي يشيع فيها الخلق الرديء، وقد أشار لهذ الجزاء الحديث الشريف:"إنما أهلك مَنْ كان قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الوضيع أقاموا عليه الحد...." ومثل شيوع الجبن في الأمة وترك الظَّلَمَة يعبثون في حقوق الناس دون إنكار عليهم خوفًا منهم وجبنًا وإيثارًا للذل والحياة المهينة، فإنَّ هذه الأخلاق الرذيلة سبب لهلاك الأمة أو إصابتها بشرٍّ كبير أو ضرر جسيم يصيب المذنب والبريء، قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}

ص: 92

هل يمكن اكتساب الأخلاق وتقويمها؟

128-

والآن وقد بَيّنَّا مكانة الاخلاق في الإسلام ومدى تأثيرها في الأعمال، وما يترتب عليها من ثواب وعقاب، نسأل: هل يمكن تقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها والتخلي عن قبيحها؟ أم أنَّ الأخلاق صفات لازمة تخلق في الإنسان وينطبع عليها، فلا يمكنه تغييرها ولا تبديلها ولا تعديلها، كما لا يمكنه تغيير صفاته الجسمية من طول وقصر ولون؟

الجواب على هذا السؤال كما يظهر لنا، يتلخَّص بما يأتي:

أولًا: إن الأخلاق من حيث الجملة يمكن تقويمها وتعديلها، كما يمكن اكتساب الجيد منها، والتخلي عن قبيحها، وبالعكس، ودلينا على ذلك أنَّ الشرع أمر بالتخلق بالأخلاق الحسنة، ونهى عن التخلق بالأخلاق الرديئة، فلو لم يكن ذلك ممكنًا مقدورًا للإنسان لما ورد به الشرع، الإسلام لا يأمر بالمستحيل، ومن القواعد الأصولية في الفقه الإسلامي: لا تكليف إلّا بمقدور أو لا تكليف بمستحيل، وعلى هذا فكل إنسان عنده أهلية وقدرة للتحلي بالإخلاق الجيدة والتخلي عن أضدادها، كما أنَّ عنده أهلية وقدرة على عكس ذلك، وقد يستأنس لهذا بقول الله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} .

ولكن مع هذا، فإنَّ الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم، ولكن مع هذا فإنَّ الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم وقدرتهم واستعدادتهم لاكتساب الأخلاق أو تعديلها، كما يختلفون في مدى أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم لتلقِّي العلوم المختلفة، أو إدراك الحقائق الدقيقة نظرًا لاختلاف عقولهم ومدى ذكائهم.

ثانيًا: إنَّ بعض الناس قد يُجْبَل على بعض الأخلاق؛ بحيث تكون هذه الأخلاق بارزة فيهم وظاهرة في سلوكهم، ودليلنا على هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو داود، وقد جاء فيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس:"إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله تعالى ورسوله: الحلم والأناة". قال: يا رسول الله، أنا أتخلَّق بهما أم الله تعالى جبلني عليهما؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل الله جبلك عليهما"، فقال: الحمد

ص: 93

لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله تعالى ورسوله1.

ولا شكَّ أنَّ الناس يتفاوتون فيما عليه من الأخلاق، كما يتفاوتون في ما يجلبون عليه من قوة الإدراك والذكاء، ويترتب على ذلك أنَّ من جُبِلَ على نوع معين من الأخلاق يسهل عليه ترسيخ هذا النوع في نفسه والبقاء عليه؛ لأنه يجد عونًا في ذلك بما جبل عليه.

كيف يتحقق تقويم الأخلاق أو اكتسابها:

129-

إنَّ تقويم الأخلاق أو اكتسابها يمكن أن يتمَّ بشكل من الأشكال التالية:

أولًا: بتقليل آثارها وعدم المضي في تنفيذ مقتضاها وما تدعو إليه، وهذا بالنسبة للأخلاق التي تعتبر من الغرائز في كل إنسان، ومنه الغضب، يدل على ذلك ما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب"، فردد الرجل سؤاله مرارًا، فكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقوله له:"لا تغضب"، وقد قال العلماء في شرح الحديث: إنَّ النهي عن الغضب ينصرف إلى النهي عن العمل بمقتضى الغضب، أي: بلزوم دفع آثار الغضب، وليس النهي راجعًا إلى نفس الغضب؛ لأنه من طباع البشر فلا يمكن دفعه ولا استئصاله1، فالمطلوب في تقويم خلق الغضب ليس استئصاله بالكلية، فهذا غير ممكن، وإنما الممكن السيطرة عليه وكظمه وعدم تنفيذ مقتضاه، يؤيد ذلك ما جاء في القرآن الكريم {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} ، فمدحم على ضبط غضبهم والسيطرة عليه لا على استئصاله، وفي القرآن أيضًا {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ، فمدحهم على عدم تنفيذ مقتضى غضبهم، وفي الحديث الشريف:"ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب".

ثانيًا: بالتشذيب والتهذيب وإزالة الكدورات عن أصل الخلق، وتوجيهه الوجهة المرضية في الشرع الإسلامي، مثل خلق الشجاعة، يستعمله صاحبه في الاعتداء وقتل الأبرياء، أو لطلب السمعة والجاه، وكالسخاء يستعله صاحبه للمباهاة وللرياء،

1 تيسير الوصول لابن الديبع الشيباني ج4 ص304.

2 شرح الأربعين النووية للإمام النووي ص49، وفتح المبين لشرح الأربعين للفقيه ابن حجر الهيثمي ص140.

ص: 94

فهذه الأخلاق هي في أصلها محمودة، وإنما ذمت لانحرافها عن الغرض الصحيح والوجهة المرضية في الشرع، فتقويمها يكون بإزالة هذه الأغراض الخسيسة عنها، وبتوجيهها الوجهة الصحيحة، بأن تكون الشجاعة لنجدة الضعيف وإغاثة المظلوم وقهر الظالم وإعلاء كلمة الله ومحق الكفر والباطل ابتغاءَ مرضاة الله وحده، لا لطلب سمعة ولا رياء ولا جاهٍ ولا ثناء. وكذلك السخاء يوجه إلى الوجهة المرضية عند الله بأن يكون في سبيله ولطلب مرضاته، بأن ينفق المسلم ماله في أوجه البر مثل إكرام الضيف والجار وكفالة التيم وإعانة المحتاج أو إقراضه، والقيام على الأرملة والمسكين ونحو ذلك، يدل على ما نقول الأحاديث الشريفة الكثيرة، منها: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 1، وفي القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} .

وفي الحديث الشريف: "الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"؛ لأنهم بهذا الفقه يستعملون صفاتهم واخلاقهم الجيدة في أصلها استعمالًا صحيحًا، ويوجهونها الوجهة الصحيحة، فيكونون خيار الناس.

ثالثًا: استبدال الخلق الذميم بالخلق الجيد، كاستبدال الكذب بالصدق، والغدر بالوفاء، والظلم والعدوان بالعدل والإنصاف. وهذا الاستبدال ممكن في كثير من الأخلاق؛ حيث يزول الخلق الذميم ويحلّ محله خلق جميل، كما نشاهد ذلك في الشخص الذي يتوب توبة صادقة.

وسائل تقويم الأخلاق:

129-

هناك وسائل كثيرة لتقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها، والتخلي عن الرديء منها، وقد يكون أهمّ هذه الوسائل ما يأتي:

1-

العلم: ونقصد به هنا معرفة أنواع الأخلاق الحسنة التي أمر بها الإسلام،

1 تيسير الوصول ج1 ص231 وقال فيه: رواه الخمسة.

ص: 95

وأنوع الأخلاق الرديئة التي نهى عنها الإسلام. إنَّ هذا العلم ضروي لأنَّه بدونه لا يدري المسلم بأيِّ خلق يتخلّق، ومن أي خلق يتجرَّد، وقد كفى الإسلام المسلم مؤنة البحث والاستنباط، فقد فصَّل الأخلاق بنوعيها، وما على المسلم إلّا أن يعرض نفسه على الأخلاق بنوعيها ليعرف موضعه منها، ثم يعمل جاهدًا لتكون أخلاقه أخلاقًا إسلامية حقًّا.

2-

ولا يكفي أن يعرف أنواع الأخلاق معرفة مجردة، بل يجب أن يعرف المسلم عظيم حاجته إلى الخلق الحسن؛ لأنه متصل بالإيمان وتقوى الله، وسبب للظفر برضوان الله ودخول الجنان، كما يجب أن يعرف عظيم ضرر الخلق السيء عليه؛ لأنه من علامات النفاق، وأمارات ضعف الإيمان، وسبب سخط الله ودخول النار. إنَّ هذه المعرفة ستدفعه إلى التخلّق بالأخلاق الحسنة رغبةً في رضوان الله تعالى، كما تدفعه إلى الخلاص من الأخلاق السيئة خوفًا من سخط الله؛ لأن مَنْ رَغِبَ في شيء سعى إليه، ومن خاف من شيء هرب منه.

3-

ولا يكفي للمسلم أن يعرف أنواع الأخلاق السيئة ونتائجها، بل عليه أن يستحضر هذه المعرفة في ذهنه لئلَّا ينساها، فإن آفة العلم النسيان، والنسيان يؤدي إلى إهمال معاني الأخلاق، فيضعف أثرها في النفس، ويصدر عنها ما لا ينبغي من الأفعال، ولهذا كرَّر القرآن الكريم معاني الأخلاق وبيِّنَ لنا أنَّ ما صدر عن أبينا آدم عليه السلام كان من أسبابه النسيان، قال تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} ، ولمَّا غضب سيدنا عمر رضي الله عنه عندما قال له رجل: إنك لا تقضي بالعدل ولا تقضي بالحق، قال بعض الحاضرين: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وهذا من الجالهين، فقال سيدنا عمر رضي الله عنه: صدقت، وذهب عنه الغضب، فالتذكُّر الدائم لمعاني الأخلاق وتذكُّر الأساس الذي قامت عليه وهو الإيمان بالله تعالى، وإن الالتزام بمقتضى الأخلاق من ثمرات الإيمان ومن معاني الإسلام، كل هذا يجعل سلوك المسلم في حدود الأخلاق الإسلامية.

4-

الاهتمام الكامل بتقوية معاني العقيدة الإسلامية في النفس، وعلى رأس هذه المعاني الإيمان بالله وباليوم الآخر وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والإحساس بالغربة في هذه

ص: 96

الدنيا، وأنَّ المسلم عمَّا قريب سيرحل عنها، وأنَّه سيجازى على أعماله، ومن أعماله أخلاقه، وأنَّ الله تعالى وعده وعد الصدق بالثواب للمتخلقين بأخلاق الإسلام، ووعد بالعقاب لمن رفض أخلاق الإسلام.

إن تقوية معاني العقيدة الإسلامية في النفس يؤدي إلى انفتاح النفس وتقبلها لمعاني الأخلاق الإسلامية؛ لأن هذه الأخلاق موصولة بالإيمان ومعاني التقوى كما قلنا، وهذه الصلة تشتد كلما قوي الإيمان في النفس ورسخت العقيدة فيها، مما يجعل أخلاق المسلم الطيبة ثابتة راسخة لا تزول ولا تضعف؛ لأنها موصولة بالقوي العزيز، وتجد مادَّة بقائها واستمرارها وصلاحها من هذا الفيض الذي لا ينضب: الإيمان بالله، ولوازم هذا الإيمان، فالمسلم مثلًا: لا يمكن أن يكون ذليلًا أبدًا؛ لأنه موصول بالقوي العزيز الذي له العزة جميعًا {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ، وللمؤمنين المتصلين به نصيب من العزة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ، والمؤمن لا يخاف مخلوقًا ولا يخشاه، ومن ثَمَّ لا يتملقه ولا يذل له ولا ينافق عنده؛ لأن الأمور كلها بيد الله، ومنها: النفع والضر والزرق والحياة والموت {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، وعزة المؤمن لا يقترن بها ذرة من كبر أو طغيان أو جبروت أوخيلاء أو عجب بالنفس؛ لأن عزة المؤمن قائمة على الإيمان بالله، والله وحده له الكبرياء والجبروت، وكل ما سواه فهو فقير مربوب مقهور، فأنَّى للفقير المقهور أن يتكبَّر أو يتجبَّر على غيره؟

ولهذا لا يكون المسلم إلّا متواضعًا؛ لأنه عرف قدر نفسه بعد أن عرف ربه، ومن عرف قدر نفسه لن يتكبر أبدًا، ومع العزة والتواضع صبر جميل وثقة كاملة ورجاء لا يشوبه يأس، وطمأنينة لا يخالطها قلق؛ لأن الإيمان يثمر هذه الأخلاق الفاضلة، قال تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} ؛ ولأنَّ ما هو مقدَّر فهو كائن، فلا داعي للقلق والاضطراب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ؛ ولأنَّ من يتوكل على الله فهو حسبه، والشجاعة والجرأة والإقدام والثبات على الحق ونحو ذلك، أخلاق راسخة في المسلم ما دام قلبه معمورًا بمعاني الإيمان؛ لأنَّ إيمانه يعلمه أن الحياة لا تستحق أن يَهُن فيها المسلم أو يجبن أو يحجم حيث يجب الإقدام؛ لأنَّ الآجال قد فرغ منها، وأن الموت لا بُدَّ أن يلاقيه كل حي، قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}

ص: 97

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} ، والقناعة وعِفَّة النفس والاستغناء عن الخلق وعمَّا في أيديهم، ثمرات طيبات زاكيات من ثمار الإيمان؛ لأن المسلم يؤمن بقول الله تعالى:{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، وأن الرزق بيد الله {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، وهكذا بقية الأخلاق ترسخ وتدوم وتستمر ما دامت قائمة على إيمان عميق يتخلَّل شغاف القلب وتصبغ به النفس، فتعميق الإيمان في النفس وتقوية معاني العقيدة وسيلة مهمة جدًّا للتخلق بالخلق الحسن، وللتخلي عن الخلق الرديء.

5-

مباشرة الأعمال الطيبة التي تساعد أو تؤدي إلى تقويم الأخلاق، أو تسهل على النفس قبول الأخلاق الزكية وطرد الخبيثة، فالعلم وحده بدون عمل لا يكفي، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ، ولم يقل ربنا تبارك وتعالى: قد أفلح من تعلّم كيفية تزكيتها، فلا بُدَّ من تزكية فعلية بمباشرة الأعمال المحققة لزكاة النفس أو تخليصها من أمراض الأخلاق الرذيلة، إنَّ المريض الذي يوصف له العلاج أو يقدَّم له العلاج فعلًا ولا يستعمله لن يستفيد منه، وإن ظلَّ ينظر إليه ويكرِّر القول في تركيبه وكيفية صنعه.

6-

ومن أنواع الأعمال الطيبة النافعة لتقويم الأخلاق، القيام بأنواع العبادات والطاعات المفروضة والمندوبة؛ لأنها تزكي النفس وتسهّل عليها اكتساب الأخلاق الطيبة وطرد الأخلاق الخبيثة، فهي لها طهرة وزكاة وقوة ووقاية، وقد أشار القرآن إلى هذه المعاني، قال تعالى في الصلاة:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، وقال عن الزكاة:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} تطهرهم من البخل والشح وتصفي نفوسهم من الكدورات والأخلاق الرديئة، والصوم يربي في الإنسان فضيلة الصبر وقوة الإرادة والعزيمة والأخلاق والخلاص من الرياء، والحج تربية عملية للروح، ورياضة مؤثرة في النفس، ووسيلة فعَّالة لاكتساب كثير من الأخلاق، والتخلص من كثير من ذميم الصفات، ففي الحج تربية على الصبر والإخلاص والاستعلاء على شهوات الجسد، وإنفاق المال فيما يحبه الله، والتخلّص من الكبر والعجب والغرور، وتجاوز الإنسان قدر نفسه وغيره، ذلك مما هو معروف ومذكور في موضوعه في كتب الفقه، وهكذا بقية العبادات بدوامها تزكو النفس

ص: 98

فتدوم فيها معاني الإيمان والتقوى، ومنها الأخلاق الرضية؛ لأنَّ هذه الأخلاق لا تنبت إلّا في النفس الزكية، ولا شيء مثل العبادات بأنواعها المختلفة يزكي النفس ويهيئها لاكتساب الأخلاق الطيبة والتخلص من الاخلاق الرديئة، وفي كتاب الله إشارة إلى هذه المعاني، قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .

7-

القيام بالأعمال المضادة للأخلاق التي يراد التخلص منها أو المضادة لمقتضاها، ويمكن أن نسمي هذا المسلك بمسلك التضاد أو المراغمة للشيطان؛ لأنَّ الشيطان يفرح لكل خلق رديء ويعمل على بقائه في النفس، ويزينه في عين صاحبه بما يلقيه من مبررات باطلة، فإذا قام الإنسان بعمل يناقض هذا الخلق ولا يتفق وما يقتضيه، كان ذلك بلا شك إغاظة للشيطان ومراغمة له، مما يدعوه إلى الكفِّ عن تزيين هذا الخلق الرديء وعن نفث المبررات الباطلة له، فإذا خنس الشيطان أمكن لهذا العمل أن يزعزع كيان هذا الخلق الرديء، أو يقضي عليه كما يقضي العلاج الفعَّال على المرض، ومِمَّا يدل على جودة هذ المسلك وأثره في تقويم الأخلاق ما ورد في الحديث أنَّ رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له رسول الله:"امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين".

ومن أمثلة أعمال التضاد والمراغمة علاج الحسد، بأن يبادر الحاسد إلى الاستغفار والدعاء بالخير إلى المحسود، فإنه سيشعر بزوال الحسد في قلبه، ومن علاج الكبر جلوس المتكبر مع الفقراء والمساكين والصعاليك، والجلوس في آخر المجلس، والقيام بالأعمال التي يعدّها الناس حقيرة لا تليق بالمتكبرين، مثل حمل الحطب ونحو ذلك.

ومما يمكن اعتباره من أعمال هذه الوسيلة ما جاء في الحديث الشريف: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلّا فليضطجع" 1، وفي حديث آخر:"إذا غضب أحدكم فليتوضأ بالماء، فإنما الغضب من النار، وإنما تطفأ النار بالماء".

1 لأن القائم متهيئ للانتقام، والجالس دونه، والمضطجع دونهما.

ص: 99

8-

مسلك التكلف، فيتكلف الإنسان الأخلاق التي يريد التخلق بها، كما لو أراد أن يكون حليمًا فإنه يأتي به تكلفًا مرارًا حتى تألفه النفس وتعتاده، ويصير لها كالطبع وكالسجية، ويؤيد جودة هذه المسلك ما ورد في الحديث -وإن روي بسند ضعيف:"إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم"، وهذا المسلك يحتاج إلى تكرار ودوامٍ حتى ينتج أثره، وهذا الدوام يسلتزم الصبر، فعلى الإنسان الذي يريد التخلُّق بنوع من الأخلاق الرضية عن طريق التكلف أن يتجمَّل بالصبر، فإنه ضروري له ضرورته للمريض الذي يتناول الدواء المر، فإذا صبر وداوم انقادت النفس وألفت الفعل، ثم يصبح الفعل لها لذيذًا، كالذي يريد أن يحسِّن خطه، فإنه بتكرار الكتابة والخط يحسن خطه، ثم يصبح الخط بالنسبة له شيئًا سهلًا ولذيذًا.

9-

مخالطة المؤمنين ذوي الأخلاق الحسنة ومجالستهم والسماع منهم؛ لأن رؤية الرجل الصالح ذي الخلق الحسن ومجالسته والسماع منه يؤثِّر في جليسه، فيدفعه إلى اقتباس بعض أخلاقه، وقديمًا قيل: الطبع يأخذ من الطبع، وقد ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تصاحب إلّا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلّا تقي"؛ لأن المرء يقتدي بمن يعاشره ويصاحبه ويجالسه فيقتبس منه صفاته، ولهذا كان السلف الصالح يوصون أو يأمرون بهجر أصحاب البدع والمعاصي وذوي الأخلاق الرذيلة.

10-

اتخاذ القدوة الحسنة، وخير القدوة على الإطلاق رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} فإذا فات المسلم الآن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره، فلن تفوته رؤياه ببصيرته باستحضار سيرته العطرة، وشمائله الكريمة، وأخلاقه العظيمة، ولذلك نوصي كل مسلم بقراءة سيرته مرارًا، واستحضار شخصه الكريم في ذهنه، وتصور نفسه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن القدوة الحسنة أيضًا استحضار سيرة أصحابه الكرام المملوءة بالخير وجليل الأعمال وكريم الأخلاق، لا سيما سيرة الخلفاء الراشدين والعشرة المبشَّرة بالجنة، وأصحاب بدر وأصحاب بيعة الرضوان، وسائر المهاجرين والأنصار.

11-

ترك البيئة الفاسدة والفرار كما يفر المرء من المكان الموبوء، والتحوّل إلى البيئة الصالحة التي تضمّ الجماعة الصالحة من المؤمنين الطيبين، فإن هذه البيئة الصالحة

ص: 100

تقوي في المؤمن معاني الأخلاق الفاضلة، وتقيه من الأخلاق الرديئة، ولا يجوز له التعرض إلي البيئة الفاسدة ذات الناس الفاسدين، بحجة أنه متين الأخلاق لا يخشى عليه التأثير بهم أو بها، فإنَّ هذا غرور ووهم، ومثاله مثال من يتعرض إلى المكان الموبوء بمرض السلِّ ونحوه بحُجَّة أنه قوي البنية، ونستأنس لهذا الذي نقوله بالحديث الشريف الذي جاء فيه أنَّ رجلًا قتل مائة نفس، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عالم فأتاه، فقال: "إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذ وكذا، فإن بها ناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء

إلخ " 1 فهذا الحديث يدل على ضرورة التحوّل من المجتمع الفاسد إلى المجتمع الطيب، أو إلى الجماعة الطيبة المؤمنة العابدة، فإن العيش معها والبقاء معها أدْعَى إلى استقامة الشخص وابتعاده عن السوء.

والبيئة الفاسدة كل ما يعرضك للمعصية وسوء الأخلاق، والبيئة الصالحة كل ما يعينك على طاعة الله وتقواه، ومنها: حسن الأخلاق.

12-

الحرص على كل صفة جميلة واعتبارها كالجوهرة النفيسة التي يجب صونها وحفظها وعدم التفريط بها، وعدم الاستهانة بكل صفة قبيحة وإن بَدَت بسيطة قليلة الشأن؛ لأنَّ المسلم لا يستقلّ أبدًا أيَّ خلق حسن، ولا يستهين بأيِّ خلق سيء، فرب صفة طيبة ترفعه إلى درجات عالية، ورب صفة خبيثة تدخله النار، وقد مدح الله تعالى رسوله إسماعيل عليه السلام بصفة صدق الوعد، قال تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وفي الحديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، كما أنَّ الصفة الواحدة والمحافظة عليها والدوام عليها تؤدي إلى رسوخها فيه، فإن كانت صفة خير كان ذلك خيرًا له، وإن كانت صفة شرٍّ كان ذلك شرًّا له، والخير يؤدي إلى الخير، والشر يؤدي إلى الشر، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بالصدق، فإنَّ الصدق يهدي إلى البر، والبرّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب

1 تيسير الوصول ج1 ص212.

ص: 101

ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".

13-

على المسلم أن يروِّضَ نفسَه على قبول نصيحة المتديِّن الكيِّس الورِع الصادق، فإنَّ المؤمن يرى من عيوب غيره ما لا يرى الغير من عيوب نفسه، ومن هنا حسنت صحبة الأخيار، وكان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي.

إن الناصح الصادق الذي يدلك على عيوبك وسوء بعض أخلاقك يستحق منك الشكر والتقدير، إنك تشكر من يدلك على عقرب تدب على جسمك، أو تختفي تحت ثيابك، وتسارع إلى إلقائها بعيدًا عنك، فكذلك يجب أن تفعل نحو من ينصحك ويدلك على عيوب أخلاقك؛ لأن الأخلاق الرذيلة عقارب، ولكنها تؤذي القلب وتفرغ فيه سمومها.

هذه بعض الوسائل المهمة في تقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها، وهناك وسائل أخرى مهمة في الموضوع، نكتفي بما ذكرناه.

ص: 102