الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الاتصال الوثيق
541-
معناه وآثاره:
نريد بالاتصال الوثيق تعلُّق الداعي المسلم بربه، وتوكله عليه في جميع أموره؛ لتيقنه بأنَّ الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير والضرر والنفع والعطاء، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ الله تعالى يكفي من يتوكل عليه ويفوّض الأمور إليه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، لا سيما من يتوكَّل عليه في أمور الدعوة إلى الله، ونصره وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه، قال تعالى حكاية عن موسى وهارون:{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وهذه المعيِّة النصر والتأييد غير مقصورة على أنبيائه ورسله المتوكلين عليه في تبليغ رسالاته، وإنما هي شاملة لعباده المتقين، لا سيما الدعاة منهم إلى دينه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
542-
وحالة الداعي المسلم في توكله على الله وصلته به يجب أن تكون كحالة الطفل مع أمه، لا يعرف غيرها، ولا يتعلق إلّا بها، ولا يفزع إلّا إليها، ولا يعتمد إلّا عليها، وإذا نابه شيء لم يهتف إلّا باسمها، ولكن هذه الحالة لا تعني ترك الأسباب وإنما تعني عدم التعلق بها والركون إليها؛ لأن التعلق يكون بمسبِّب الأسباب الله جل جلاله القوي العزيز.
543-
ويزداد هذا الاتصال بالرب جل جلاله إذا استحضر الداعي المسلم ما يعلمه ويؤمن به يقينًا، وهو أنَّ الخلق لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا، وأن الأمور كلها بلا استثناء بيد الله القوي العزيز، فإذا استحضر الداعي هذه المعاني
في قلبه، فإنه سيزهد حتمًا في الاعتماد على أيّ مخلوق، ويتوجه بكليته إلى خالقه ومولاه وناصره {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} ، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} .
ومع اعتماد الداعي على الله في جميع أموره فإنَّه يثق بربه ثقة كاملة بأنَّه يحفظه وينصره ويدفع عنه الشرور، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} .
544-
ولكن لا يجوز للداعي المسلم أن يحدِّد لله وقتًا لإنزال نصره وإعانته على أعدائه، ولا نوعًا معينًا أو كيفية معينة لهذا النصر أو العون، قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيي وزكريا وشعيبًا: سلّط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم، فسلّط على اليهود الذين أرادوا قتل عيسى عليه السلام، سلط عليهم الروم فأهانوهم وأذلّوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم، وقال السدي: لم يبعث الله عز وجل رسولًا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها، وهكذا رسوله، أمره بالهجرة ثم رجع إليها فاتحًا منتصرًا1.
454-
وما دام الداعي المسلم ينصر الله، أي: ينصر دينه بالدعوة إليه، فإنَّ الله تعالى ناصره، قال عز وجل:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} ، فعلى الداعي أن يتيقَّن ذلك ولا يشكّ فيه أبدًا، قال صلى الله عليه وسلم عند رجوعه من الطائف، وقد ردَّه أهلها أسوأ ردٍّ، وكان معه زيد، قال عليه الصلاة والسلام لزيد:"إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وأن الله تعالى ناصر دينه ومظهر نبيه" 2، الداعي لا
1 تفسير ابن كثير ج4، ص83، وقد ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية قريبًا مما ذكره ابن كثير تفسير القرطبي ج15، ص322.
2 إمتاع الأسماع ص28.
ييأس أبدًا؛ لأنَّ اليأس حرام أن يتسرَّب القلب الموصول بالله، وإنما يدخل قلوب الكافرين المنقطعة صلتهم بالله، قال عز من قائل:{وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} .
546-
إن هذا الاتصال بالرب جل جلاله ضروري جدًّا للداعي المسلم، فيه تهون عليه الصعاب، وتخف الآلام، وتنتزع من قلبه الخشية من الناس {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، ويحسّ بعزة الإيمان؛ لأنه موصول بالقوي العزيز {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ، فلا يعْظُم في عينه باطل ولا مبطل؛ لأنَّ الباطل وأهله من التافه الحقير، فلا يمكن أن يعظم في أعين المؤمنين.