الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام
معناها في اللغة:
263-
الحبسة في اللغة تدلّ على العدِّ والحساب، ويقال: احتسب بكذا إذا اكتفى به، واحتسب على فلان الأمر أنكره عليه، واحتسب الأجر على الله ادخره لديه، والحسبة اسم من الاحتساب، والاحتساب يُسْتَعمل في فعل ما يُحْتَسب عند الله تعالى.
معناها في الاصطلاح:
264-
والحسبة عند الفقهاء "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله"، فهي إذن من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إنَّ الفقهاء يسمِّون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتسابًا وحسبة ما دام القائم به يفعله ابتغاء مرضاة الله وما عنده من ثواب.
دليل مشروعيتها:
265-
دلَّ على طلب الشرع للحِسبَة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فكل آية وردت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي دليل على مشروعية الحسبة وطلب الشرع لها، والواقع أنَّ القرآن الكريم دلَّ على طلب الحسبة بأساليب متنوعة، فطورًا يأمر بها، وتارةً يجعلها وصفًا لازمًا للمؤمنين، وسببًا لخيرة الأمة، وأنَّ الغاية من التمكين في الأرض والظفر بالسلطان والحكم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تَرْك ذلك سبب لاستحقاق اللعنة، فمن هذه الآيات قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} ، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
266-
والسنة النبوية دلَّت على مشروعية الحسبة وطلب الشرع لها، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليسلطنَّ الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم"، "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك".
مدى مشروعيتها:
267-
والحسبة -وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر- قد ينظر إليها من ناحية المطالب بها، وقد ينظر إليها من حيث هي أمر ونهي، فمن الناحية الأولى: هي فرض كفائي، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم بها أحد أثم القادرون جميعًا،
وقد يصير فرض عَيْن إذا تعيِّنَت على شخص معيِّن، كما أنها قد تصير مستحبَّة بالنسبة للمسلم غير واجبة عليه، بل وقد تصير محرَّمة في ظروف خاصَّة كما سنبينه فيما بعد.
أمَّا من الناحية الثانية -أي: بالنظر إلى ذاتها- فإنها تكون -على رأي البعض- واجبة أو مندوبة نظرًا إلى موضوعها، أي: إلى ما تتعلق به، فإن كانت أمرًا بواجب، أو نهيًا عن حرام، كانت الحسبة واجبة، سواء كان وجوبها عينيًّا او كفائيًّا، وإن كان موضوعها أو ما تتعلق بها مندوبًا كانت مندوبة، وقال البعض الآخر من الفقهاء: إن الحسبة بذاتها تكون واجبة دائمًا بغضِّ النظر عَمَّا تتعلق به.
مكانة الحسبة في الإسلام:
268-
وللحسبة مكانة عظيمة جدًّا في الإسلام؛ لأنها أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهذا من أخصِّ خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى مبينًا هذه الحقيقة:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وقد وصف الله الأمة الإسلامية بما
وصف به رسولها حتى تقوم من بعده بما قام به صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأصول العظيمة للإسلام، ومن ثَمَّ كانت الحِسْبَة محل عناية الفقهاء والتنويه بشأنها. قال الفقيه المشهور بابن الأخوة:"الحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم؛ لعموم صلاحها وجزيل ثوابها، وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس"، وقال ابن خلدون في مقدمته:"أمَّا الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين أن يعيِّن لذلك من يراه أهلًا له".
حكمة مشروعيتها:
269-
وحكمة مشروعيتها ظاهرة؛ لأنَّ تبليغ الدعوة الإسلامية بجميع معانيها يندرج تحت مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنَّ من حكمة مشروعيتها توقّي العذاب واستنزال رحمة الله، وبيان ذلك أنَّ المعاصي سبب المصائب، وما ينزل على الناس من عذاب التأديب أو الانتقام أو الاستئصال، وبهذا جرت سُنَّة الله، قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سببًا للمصائب والهلاك، فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت الآخرون فلا يأمرون ولا ينهون، فيكون ذلك من ذنوبهم، فتصيبهم المصائب، وفي الحديث الشريف:"إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمَّهم بعذاب منه"، وكما أنَّ المعصية سبب المصيبة والعذاب، فإن الطاعة سبب النعمة والرخاء ورضوان الله تعالى، وبذلك جرت سُنَّة الله تعالى، قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، وقال تعالى:{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} ، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
أركان الحسبة:
270-
الحسبة تستلزم وجود من يقوم بها، وهذا هو المحتَسِب، ومن تجري عليه الحسبة، وهذا هو المحتَسَب عليه، وعمل أو ترك تجري فيه الحسبة، وهذا هو المحتَسَب فيه، وما يقوم به المحتسب وهذا هو الاحتساب، فأركان الحسبة أربعة: المحتَسِبُ، والمحتَسَب عليه، والمحتَسَب فيه، والاحتساب، ولا بُدّ من الكلام عن هذه الأربعة في المطالب التالية: