الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي
382-
العقيدة الإسلامية هي الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي، وهذه العقيدة -كما أشرنا من قبل- تبيِّنُ علاقة الإنسان بالكون، وبخالق الكون، وبالغاية التي من أجلها خُلِق الإنسان، وتفصيل وسائل تحقيق هذه الغاية، فالإنسان -في ضوء هذه العقيدة الحقة- من مخلوقات الله، بل ومن أفضل هذه المخلوقات، وأنَّ الله سبحانه وتعالى خلقه لعبادته بمعناها الواسع، وأنه لا يبلغ هذه الغاية إلّا بالخضوع الاختياري المطلق لله رب العالمين، ومظهر هذا الخضوع صياغة نفسه وسلوكه ونشاطه، ومنه النشاط الاقتصادي، على النحو الذي فصَّله وشرَّعه الله تعالى، وعلى هذا فإنَّ النظام الاقتصادي في الإسلام يعمل مع غيره من أنظمة الإسلام؛ لتسهيل وتيسير السبل للإنسان لبلوغ الغاية التي خُلِق من أجلها، وهي عبادة الله وحده، فإذا تيسَّرت هذه العبادة للإنسان زكت نفسه بالقدر المطلوب، وصار أهلًا للظفر بالحياة الطيبة في الآخرة، فضلًا عن ظفره بالسعادة في الدنيا.
إنَّ فقه هذا الأساس الفكري للنظام الاقتصادي في الإسلام من قِبَل المسلم ضروري جدًّا له؛ لأنه بهذا الفقه واستحضاره في ذهنه سيعرف مركزه الحقيقي في الدنيا وعلاقته بها، وغايته في الحياة، وبالتالي يتقبَّل بنفس رضيِّة جميع الضوابط والتنظيمات التي جاء بها الشرع الإسلامي في مجال النشاط الاقتصادي، وسيندفع لتنفيذ هذه الضوابط والتنظيمات والتقيُّد بها، وبهذا تظهر ثمار النظام الاقتصادي في واقع الحياة، ويسهم هذا النظام في تحقيق ما خُلِق الإنسن من أجله.
383-
ومن معاني العقيدة الإسلامية ولوازمها التي لها علاقة في موضوع النظام الاقتصادي ما يأتي:
384-
أولًا: الملك لله وحده: إنَّ الكون بكلِّ ما فيه وبدون أيِّ استثناءٍ مملوك لله تعالى وحده على وجه الحقيقة والخلوص، فلا شريك لأحد معه في ذرَّة منه؛ لأن الله تعالى هو خالقه، قال ربنا في القرآن الكريم:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} ، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} ، ومن لوازم الملك التامّ التصرّف التام في المملوك، ولهذا فإنَّ لله وحده حق التصرُّف المطلق في جميع مخلوقاته.
385-
ثانيًا: المال مال الله: والمال -وهو ما يتموله الناس ويستفيدون منه ويمكن إحرازه- هو من جملة ما في الكون، فهو أذن لله وحده، وإنَّ الله تعالى هو مالكه الحقيقي، قال تعالى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} .
386-
ثالثًا: تسخير الله تعالى مخلوقاته لنفع الإنسان: الله تعالى بمحض فضله سخَّر للإنسان ما خلقه في السماوات والأرض لينتفع به، وهيَّأ له سبل هذا الانتفاع بما أودعه في الإنسان من عقل وجوارحٍ يستطيع بها الاهتداء إلى سبل الانتفاع بما خلقه الله تعالى، قال ربنا تبارك وتعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} ، وقال تعالى ممتنًّا على الإنسان بما أودعه فيه، مما يستطيع به الاهتداء إلى سبل الانتفاع بما خلقه الله له:{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} .
387-
رابعًا: الملك المجازي للإنسان: ومع أنَّ الملك الحقيقي هو لله رب العالمين، فقد إذن الله تعالى -بمحض فضله- للإنسان أن يختص بالانتفاع بالمال والتصرف فيه، وإضافته وتسميته مالكًا له، قال ربنا تبارك وتعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، فهذه الآيات الكريمة تضيف المال للإنسان إضافة
ملك واختصاص، وفي الحديث الشريف:"لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيبٍ من نفسه"، فهذا الحديث الشريف يضيف المال للإنسان على وجه الملك له، ومع هذا فإنَّ الملك الحقيقي يبقى لله رب العالمين؛ لأنه يستحيل أن يشاركه أحد في ملك شيء. ومعنى ذلك أنَّ إضافة الملك للإنسان هي من قبيل المجاز لا الحقيقة، وأن الإنسان فيما يملكه كالوكيل فيه عن مالكه الحقيقي، ويترتب على ذلك أن على الإنسان أن يخضع إلى جميع القيود والتنظيمات التي شرعها المالك الحقيقي وهو الله تعالى، وأنه لا يجوز للإنسان أبدًا أن يخرج عن هذه القيود، فإن خرج عنها كان عاصيًا لأمر الله، واستحق العقاب المقرَّر في الشرع، وقد ينزع منه الملك نهائيًّا أو مؤقتًا، كليًا أو جزئيًّا، وقد أدرك فقهاؤنا -رحمهم الله تعالى- هذه المعاني وأشاروا إليها، فقد قال الإمام القرطبي في تفسيره، وهو يفسِّر قوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} قال رحمه الله: وفي هذا دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأنَّ العبد ليس له فيه إلّا التصرف الذي يرضي الله. ثم قال -رحمه الله تعالى: وهذا دليل على أن الأموال ليست أموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلّا بمنزلة النوَّاب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم1. إنَّ فقه هذه الحقيقة تجعل المسلم مندفعًا إلى تنفيذ شرع الله في المال الذي آل إليه، فلا يبخل به حيث يجب عليه بذله؛ لأنه وكيل عليه وليس بمالك حقيقي له، والشأن في الوكيل تنفيذ ما يريده الموكّل فيما وكله فيه.
388-
خامسًا: استعمال المال في مرضاة الله: وكُلّ ما يؤتاه المسلم من مالٍ يجب أن يستعمله في مرضاة الله؛ لتحقيق الغاية التي خُلِق من أجلها وهي عبادة الله تعالى؛ ليظفر بالحياة الطيبة في الأخرى، قال تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، ولكن هذا لا يعني حرمان نفسه من طيبات الدنيا، ولا إرهاق جسده بحرمانه مما يحتاج إليه، قال ربنا:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .
389-
سادسًا: الدنيا وسيلة لا غاية: والدنيا بكل ما فيها من متاع وأموال ليست
1 تفسير القرطبي ج7 ص238.
هي الغاية للإنسان، وإنما هي وسيلة إلى الغاية التي خلق من أجلها وهي إعداد نفسه للدار الآخرة بعبادة ربه، فلا يجوز أن ينسى هذه الغاية إذا ظفر بوسائل الدنيا ومتاعها، ولا يجعل الدنيا أو شيئًا منها هي غايته. إن الحذاء وظيفته أن يضع الإنسان قدميه فيه، وإنَّ الدابة وظيفتها أن يركبها الإنسان ليبلغ المكان الذي يريده، فلا يجوز في فقه الإسلام ولا في إدراك العقل السليم أن يكون القصد من اقتناء الحذاء غاية في نفسه، ولا الحصول على الدابَّة غاية في نفسها، وهكذا متاع الدنيا يميل إليه المسلم كوسيلة فقط تسهِّل له بلوغ الغاية التي خُلِق من أجلها، وأنه سيفارق هذه الوسائل قطعًا، ولا يبقى له إلّا ما استفاده منها في عبادة ربه ومرضاته، إنَّ إدراك هذه المعاني واستحضارها في الذهن من الأمور الضرورية لضبط النشاط الاقتصادي على النحو الذي يريده الإسلام؛ لأن الضوابط الحقيقية لنشاط الإنسان هي التي تضبطه من داخله، تضبط ارداته وقصده ونظرته وميله، فإذا انضبط الداخل سهل ضبط الخارج، أي: النشاط الخارجي للإنسان، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعاني جميعًا في آيات كثيرة، منها:
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُون} ، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} .
الفرع الثاني: خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي
390-
قلنا فيما سبق: إنَّ خصائص النظام الاقتصادي في الإسلام مراعاته للفطرة الإنسانية ومعاني الأخلاق الفاضلة، وتأكيده على سَدِّ حاجات الإنسان الضرورية للحياة، ونذكر فيما يلي شيئًا عن كل خصيصة بإيجاز.
أولًا: مراعاة الفطرة الإنسانية
391-
فطر الله الإنسان على جملة غرائز وميول ورغبات لا يمكن قلعها واستئصالها أبدًا، وإن كان يمكن تقويمها وتهذيبها إذا ما انحرفت أو تكدَّرت، وعلى هذا فأيّ نظام يصادم الفطرة الإنسانية ويناقضها لا يمكن أن يأتي بخير، ولا تتيسَّر له فرص البقاء، ونظام الاقتصاد في الإسلام راعى جانب الفطرة للإنسان؛ لأن الإسلام هو دين الفطرة، ومن مظاهر هذه المراعاة إقراره بحق الملكية للإنسان؛ لأنه مفطور على ذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، قال تعالى:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ، وإقراره نظام الإرث؛ لأن الإنسان مفطور على حُبِّه لأبنائه، وقلقه عليهم إذا تركهم بدون مال، ومن ثَمَّ أقرَّ الإسلام نظام الإرث؛ لأنه ينسجم ويتفق مع هذه الفطرة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى نوازع فطرة الإنسان نحو أبنائه، وشفقته عليهم، واهتمامه بهم، وخوفه عليهم بعد موته، قال تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} ، وقال تعالى:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ، كما أنَّ الإسلام في نظامه الاقتصادي أقرَّ للإنسان بالتمتع بثمرات جهوده ونشاطه؛ لأن هذا مما يتفق وما فُطِر عليه كل إنسان، بل إنَّ في أصل غريزة الإنسان رفضه أن يشاركه الغير في ثمرات جهوده، وإنما قد يرضى بهذه المشاركة لمعنًى آخر؛ كالحصول على ثواب الله تعالى، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الغريزة الإنسانية، قال تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ، قال القرطبي في تفسير هذه الآية: أي جعل الله منكم غنيًّا وفقيرًا، فما الذين فضلوا بالرزق برادِّي مما زرقوا شيئًا على رقيقهم حتى يستوى المملوك والمالك في المال1، وفي آية أخرى قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ
1 تفسير القرطبي ج10 ص141.
سَوَاءٌ} ، ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية: من أنفسكم: "من" هنا للابتداء، كأنه قال: أخذ مثلًا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. إلى أن قال الإمام القرطبي: والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء1.
وعلى أساس مراعاة الفطرة الأنسانية قامت جملة مبادئ عامة في النظام الاقتصادي الإسلامي سنذكرها فيما بعد، ولكنَّ مراعاة الفطرة الإنسانية لا يعني السير وراءها كيفما سارت وإلى أية جهة اتجهت؛ لأن مراعاتها لا تقتضي ولا تستلزم هذه التبعية العمياء، وإنما تعني مراعاة أصلها، مع تهذيب لها ورقابة عليها إذا ما انحرفت أو تكدَّرت.
ثانيًا: مراعاة معاني الأخلاق
392-
ويراعي النظام الاقتصادي معاني الأخلاق الفاضلة، فلا يجوز لإنسان أن يهدِر هذه المعاني أو يتخطَّى حدودها في أي جانب من جوانب نشاطه الاقتصادي؛ لأن المجتمع الإسلامي يقوم على معاني الأخلاق، كالمحبة والتعاون النظيف، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، فلا حسد ولا خصام ولا حقد ولا بغضاء ولا كذب ولا غش ولا خداع ولا غدر، وإذا ما صار في يد الإنسان مال لم يجز أن ينفقه في الفحش والرذيلة ومتع الجسد المحرمة، بل عليه أن ينفقه في السبل الحلال وتنفيس الكرب عن المكروب والمحتاجين، وإذا أراد أن ينمِّي الإنسان أمواله، فلا يجوز له أن ينمِّيها بما يفسد الأخلاق ويقطع روابط المودة بين أبناء المجتمع، كفتح حانات الخمور والفحش والإقراض بالربا، وهذه المراعاة لمعاني الأخلاق منها ما هو متروك لإيمان الإنسان ووجدانه، كالالتزام بالصدق والوفاء، ومنها ما تتدخل الدولة في إلزام الأفراد به وإجبارهم عليه، مثل منعهم من الربا وفتح محلات الفحش والخمور.
ثالثًا: التأكيد على سد حاجات الأفراد
393-
للإنسان حاجات مادية ضرورية لا يمكنه العيش بدونها، كحاجته إلى
1 تفسير القرطبي ج14 ص22، 23.
الطعام والشراب والسكن واللباس، وما يلحق بهذه الأشياء وينزل منزلتها، ولا بُدَّ من توفير هذه الأشياء لكل إنسانٍ إلى الحد الأدنى للعيش الكريم، وقد أكد النظام الاقتصادي الإسلامي على هذه الناحية، أي: لزوم سد هذه الحاجات الضرورية لكل إنسان في المجتمع الإسلامي، وقد قرَّر لتحقيق هذا المطلب وسائل متعددة ومتدرّجة، إن لم تف الواحدة منها وجب الأخذ بالتي تليها، حتى يتحقق المقصود، ويجد كل فرد كفايته في المجتمع الإسلامي، وهذه الوسائل هي:
394-
أولًا: الأصل أن كل إنسان مكلَّف بسد حاجاته بنفسه، أي: بما يبذله من جهد ونشاط، ولهذا حثَّ الإسلام على العمل والاكتساب، ومدح العاملين الكاسبين، وقال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ، وفي الحديث الشريف:"إنَّ أفضل الكسب كسب الرجل من يده".
395-
ثانيًا: على الدولة أن تهيء سبل العمل للقادرين عليه، حتى ولو اقتضى الأمر إقراضهم من بيت المال ما يستطيعون به العمل والاكتساب، وقد أشار الفقيه الكبير أبو يوسف رحمه الله إلى جواز إقراض المحتاج من بيت المال، فقد قال الفقيه ابن عابدين رحمه الله: وعن أبي يوسف: يدفع للعاجز -أي العاجز عن زراعة أرضه الخراجية لفقره- كفايته من بيت المال قرضًا ليعمل ويستغل أرضه1.
ويقاس على ما ذكره أبو يوسف إقراض المحتاجين -من غير أصحاب الأراضي الخراجية- من بيت المال؛ ليستعينوا على الكسب الحلال.
396-
ثالثًا: إذا عجز عن الفرد عن سدِّ حاجاته بنفسه؛ لعجزه أو شيوخته أو مرضه أو عدم تيسير العمل له مع قدرته عليه، وجب على أفراد أسرته القيام بالإنفاق عليه حسب القواعد المقرَّرة في الفقه الإسلامي في باب النفقات الشرعية لأفراد الأسرة.
397-
رابعًا: إذا لم يجد العاجز الفقير من ينفق عليه من أفراد أسرته؛ لعدم وجودهم، أو لفقرهم، وجب إعطاؤه ما يكفيه من الزكاة، وهي حق الفقراء في أموال
1 رد المحتار ج3 ص364.
الأغنياء، وحصيلة الزكاة من أوسع أبواب الضمان الاجتماعي العام للفقراء والمحتاجين.
398-
خامسًا: إذا لم تكف الزكاة وجب سد حاجات المحتاجين من موارد بيت المال الأخرى التي سنذكرها فيما بعد.
399-
سادسًا: إذا لم يوجد في بيت المال ما يسد حاجات المحتاجين وجب على الأغنياء سد حاجات الفقراء، وفي هذا يقول الفقيه المعروف ابن حزم:"وفرضٌ على الأغنياء من أهل كل بلدٍ أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بُدَّ منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة"1.
ويؤيد ما ذهب إليه ابن حزم أنَّ الزكاة ليست هي الحق الوحيد في أموال الأغنياء للفقراء، فقد روي عن السيدة عائشة أمّ المؤمنين، وابن عمر رضي الله عنهم، وغيرهما من الصحابة الكرام أنهم قالوا:"إنَّ في المال حقًّا سوى الزكاة"2، وقد ذكر القرطبي والرازي في قوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} قالا: إنَّ الإيتاء هنا غير الزكاة، وإنه من الواجبات لا التطوعات، وضرب الرازي لهذه الواجبات بعض الأمثلة منها إطعام المضطر، ثم قال القرطبي:"واتفق العلماء على أنَّه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها، قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع أيضًا"2.
400-
وعلى هذا نرى جواز قيام ولي الأمر المسلم بتنظيم جباية المال اللازم من الأغنياء، بفرض الضرائب العادلة في أموالهم بقدر ما يسد حاجات المحتاجين، ويمكِّن الدولة الإسلامية من القيام بالوجائب المفروضة على المسلمين، والتي تقم بها الدولة نيابةً عنهم، مثل: تحصين الثغور وإعداد السلاح للدفاع عن دار الإسلام، وهذ كله إذا لم
1 المحلى ج6 ص156.
2 المحلى ج6 ص158.
3 تفسير القرطبي ج2 ص241، 242، تفسير الرازي ج5 ص24.