المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: الملأ - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المبحث الأول: الملأ

‌المبحث الأول: الملأ

تعريف الملأ:

596-

يَسْتَعمل القرآن الكريم كلمة "الملأ" في قصصه عن الرسل الكرام وما جرى لهم مع أقوامهم، "والملأ" كما يقول المفسرون: هم أشراف القوم وقادتهم ورؤساءهم وساداتهم1، فهم إذن البارزون في المجتمع وأصحاب النفوذ فيه، الذين يعتبرهم الناس اشرافًا وسادة، أو يُعْتَبرون حسب مفاهيم المجتمع وقيمه أشراف المجتمع وسادته، ومن ثَمَّ يستحقون -في عرف الناس- قيادة المجتمع والزعامة والرئاسة فيه، وقد يباشرون ذلك فعلًا، وإطلاق كلمة الملأ على هؤلاء في القرآن الكريم بهذا المعنى هو من قبيل بيان الواقع، لا من قبيل بيان استحقاقهم فعلًا للشرف والسيادة والقيادة والرئاسة، ويشبه هذا الإطلاق ما ورد في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى رؤساء فارس والروم ومصر، فقد جاء في بعض هذه الرسائل مخاطبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رئيس الروم بعبارة:"إلى عظيم الروم"، فإطلاق هذه العبارة على رئيس الروم من قبيل بيان واقعه، وهو أنه عظيم في نظر الروم لرئاسته لهم، وليس بيانًا لاستحقاقه هذا الوصف.

الملأ والدعوة إلى الله:

598-

والوصف الغالب على الملأ من كل قوم معاداتهم للدعوة إلى الله تعالى،

1 تفسير القرطبي ج3 ص234، 223، ج12 ص121، تفسير ابن كثير ج2 ص223.

ص: 380

فقد قاوموا دعوة الرسل الكرام إلى الله تعالى، وكانوا هم الذين يتولَّوْن كبر المقاومة الأثيمة للدعوة إلى الله، ويقودون حملة الكذب والافتراء والتضليل ضدَّ أنبياء الله تعالى، يدل على ذلك قول ربنا تبارك وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 1، يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم مسليًّا له أنه ما أرسل من رسول إلى قرية إلّا قال مترفوها -وهم أولو القوة والحشمة والثروة والترف والرياسة، وقادة الناس في الشر: لا نؤمن به ولا نتبعه2، وقال تعالى عن سيدنا نوح عليه السلام:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 3، فالملأ من قوم نوحٍ هم الذين تصدَّوا للدعوة إلى الله، وهم الذين نسبوا نبيهم إلى الضلال المبين، وهذا من أعظم الظلم، والصد عن سبيل الله إذ يوصف الحق الذي جاء به نوح من ربه بالضلال، ولكن هذا هو منطق الملأ، وكذلك كان موقف الملأ من قريش من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاوموا هذه الدعوة المباركة، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورموه بالكذب، وتآمروا به، قال تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} 4.

والملأ في الآية الكريمة هم سادة قريش وقادتها ورؤساؤها وكبراؤها، قالوا لقومهم: استمرّوا على دينكم ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد5.

وفي السيرة النبوية الشيء الكثير عن موقف الملأ من قريش وغيرهم من الدعوة إلى الله، التي بلغهم إياها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما ذكره ابن هشام في سيرته من

1 سورة سبأ الآيتان: 34، 35.

2 تفسير ابن كثير ج3 ص450.

3 سورة الأعراف، الآيتان: 59، 60.

4 سورة ص الآيات 4-7.

5 تفسير ابن كثير ج4 ص27.

ص: 381

أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى القبائل ويدعوها إلى الله تعالى، وكان يمشي وراءه أبو لهب وهو من أشراف قريش ويقول للناس:".. فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه"1.

وكذلك عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف واجتمع بنفرٍ منهم -وهم يؤمئذ سادة ثقيف وأشرافها- ردُّوه أقبح ردٍّ ولم يكتفوا بذلك، وإنما "أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس"2.

أسباب عداوة الملأ للدعوة إلى الله:

598-

من التأمل في الآيات المسوقة في قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم، تظهر لنا أسباب مخاصمة الملأ للرسل الكرام وعداوتهم لهم ورفضهم دعوتهم، ومن أهمّ هذه الأسباب الكِبر الذي تغلغل في نفوسهم، وحبِّهم الرياسة والجاه، والجهالات التي حسبوها أدلة ويقينيات، ونتكلم فيما يلي عن كل سبب مع ما ورد بشأنه من آيات وآثار.

أولًا: الكبر

599-

الكبر خلق ذميم وآفة عظيمة مستقِرَّة في النفس، وتظهر آثاره في الخارج بأشكال مختلفة، ومواقف متعددة، ومن آثاره: عدم رؤية الحق في غالب الأحيان، أو رؤيته ولكنَّ الكبر يمنع من الاعتراف به والانقياد له، كما يمنع الاعتراف بالفضل لأولي الفضل، ويمنع المتكبِّر من الرؤية الصحيحة لقدر نفسه، فيراها فوق أقدار الناس، فيستنكف أن يكون معهم، أو تابعًا لأحد منهم، وقد يقترن الحسد مع الكبر فيزيد من آثاره سوءًا وصدودًا عن الحق، وجحدًا له، ومحاربة لأهله، وعداوة لهم.

600-

ومن الآيات الدالة على صفة الكبر في الملأ، وما أدَّت إليه من نتائج غاية في السوء والقبح، قوله تعالى:

1-

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، ففرعون وقومه أنكروا نبوة موسى عليه السلام، مع أنَّ نفوسهم أيقنت بها، وكان الحامل لهم على إنكارها ظلمهم وتكبُّرهم على موسى عليه السلام.

1 سيرة ابن هشام ج2 ص32.

2 سيرة ابن هشام ج2 ص27، 28.

ص: 382

2-

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فالملأ بدلًا من رؤيتهم الحق الذي جاءهم به نوح رأوه ضلالًا، ونوره ظلامًا، وادَّعَوْا أنَّ هذا الضلال بيِّن، أي: ظاهر واضح، وهو في الحقيقة دليل على عماهم وعدم رؤيتهم الحق الذي أدَّى بهم إلى هذا الادعاء، وبالتالي إلى هلالكهم، قال تعالى مخبرًا عن عاقبتهم:{وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} 1.

3-

وقال تعالى مخبرًا عن الملأ من قوم عادٍ وما قالوه لنبيهم هود: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، والمقصود بالسفاهة الحمق وخِفَّة العقل، فالملأ من قوم عادٍ يرَوَن ما يدعوهم إليه نبيهم حمقًا وخِفَّة عقل، ولو كان عندهم بصر حديد لرأوا ما يدعوهم إليه هو الحق الصريح.

4-

ما بيّنَه الله تعالى عن الملأ من قريش وكيف أنَّهم وصفوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب والاختلاق، قال تعالى مخبرًا عنهم:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} ، وكيف أنَّهم وصفوه بالسحر والجنون -قبَّحهم الله تعالى.

5-

قال تعالى مخبرًا عن الملأ من قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} 2، فالملأ من قوم نوح يقولون: ما نراك اتبعك إلّا أراذل القوم -وهم الفقراء والضعفاء وأصحاب الحرف الخسيسة- ولم يتبعك السادة والأشراف، ولا القادة الرؤساء، فكيف نكون معهم ومثلهم في متابعتك؟ ثم يقولون: وهؤلاء الأراذل اتبعوك بلا إعمال فكر ولا روية، ولا تأمّل؛ لأنهم من الأراذل، لا من السادة والأشراف، ثم يضيفون إلى ذلك بأنَّهم لا يرون لرسول الله ولا لأتباعه أيّ فضل عليهم، ثم ينتهون إلى القول بأنه من الكاذبين. وهذا

1 سورة الآية: 60.

2 سورة هود، الآية:27.

ص: 383

كله من نتائج كبرهم النفسي الذي جعلهم يقلبون الحقائق، ويأنفون عن الحقِّ بحجة أن الأراذل اتبعوه، وفاتهم أنَّ الحق في نفسه يبقى حقًّا، سواء اتبعه الضعفاء والفقراء أو القادة والرؤساء، وأنَّ أتباع الحق في الحقيقة هم الأشراف ولو كانوا فقراء، وأن الأراذل في الحقيقة هم المعاندون المخالفون للحق وإن كانوا في أعين الناس من الأشراف.

6-

وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ، فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ، فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} ، وفرعون وملؤه استكبروا عن اتباع الحق فجحدوا وجاءوا بهذه الجهالات تبريرًا لكفرهم، وفرعون هذا هو الذي أدَّى به كبره إلى ادِّعاء الألوهية وشيء من الربوبية، قال تعالى مخبرًا عنه:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .

7-

وفي السيرة النبوية أنَّ الملأ من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نرضى أن نكون مع هؤلاء -يعنون: ضعفاء المسلمين مثل صهيب وعمار وبلال وخباب- فاطردهم عنك ولا تبقهم في مجلسك إذا دخلنا عليك، فإذا فرغنا من الحديث معك والسماع منك وخرجنا فأدخلهم إن شئت، فأنزل الله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، وقال تعالى عن أولئك المتكبِّرين المتعجرفين الذين طلبوا ما طلبوا:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} 1.

8-

وقال تعالى عن المتكبرين عن رسالة الإسلام والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2.

ومعنى هذه الآية الكريمة: إنَّ المعترضين على القرآن الكريم المتكبرين عن الإيمان به والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: هلَّا كان إنزال القرآن على رجل كبير في أعينهم

1 شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير ص103-104.

2 سورة الزمر، الآية:31.

ص: 384

من القريتين: مكة والطائف، وعن ابن عباس: يعنون بالرجل العظيم جبَّارًا من جبابرة قريش1، فهم بدافع كبرهم النفسي يستصغرون شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يرونه أهلًا للرسالة، وأنهم أو غيرهم من الكبراء هم المستحقون للرسالة وتنزُّل الوحي، وردَّ الله عليهم قولهم بأنَّ الأمر بيد الله، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

ثانيًا: حب الرياسة والجاه

601-

"والملأ" يحبون الرياسة والجاه والتسلط على رقاب العباد، ولذلك فهم يعارضون كل دعوة تسلبهم مكانتهم بين الناس وتجعلهم تابعين كبقية الناس، وهم يتصوَّرون أنَّ قبولهم الدعوة إلى الله يسلبهم جاههم وسلطانهم، ولذلك يقاومونها ويعادونها ويأتون بالأباطيل لتبرير عداوتهم، ومن الآيات الدالة على حبهم للرياسة والجاه، وأنَّ هذ الحب كان من أسباب رفضهم دعوة الحق إلى الله تعالى، ما يأتي:

1-

في قصة نوح عليه السلام قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 2.

"فالملأ" دفاعًا عن رياستهم على الناس وتسلطهم عليهم يقولون لقومهم: إنَّ نوحًا بدعوته هذه يريد أن يتفضَّل عليكم، أي: يترفَّع ويتعاظم عليكم ويترأس عليكم.

ويريد الملأ بهذ الادعاء صرف الناس عن نوح عليه السلام؛ لتبقي سيطرتهم ورياستهم عليهم، والحقيقة أنَّ رسل الله لا يريدون علوًّا في الأرض وفسادًا، ولا رياسة ولا تعاظمًا، وإنما هم بطبيعة دعوتهم يصيرون أئمة للناس، وتصير لهم الرياسة، ولكن ليست هي مثل رياسة أولئك الملأ المتكبرين على الله.

2-

قال تعالى عن فرعون وملئِه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ، قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ

1 تفسير بن كثير ج4 ص126، 127.

2 سورة المؤمنون الآية 24.

ص: 385

هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ، قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} 1.

ففرعون وملؤه استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له، وكانوا قومًا مجرمين، ثم برروا استكبارهم عن الحق بالادعاء بأنَّ موسى وهارون يريدون ثنيهم عن الدِّين الذي كان عليه آبائهم، أو أنهم يريدان أن تكون لهما الكبرياء، أي: العظمة والرياسة في الأرض.

فأسباب رفض فرعون وملئه دعوة الحق ترجع إلى الكبر وإلى حب الرياسة والعلوّ في الأرض، ولهذا اتهموا موسى وهارون بحب الرياسة؛ لأنَّ فرعون يظنّ أن القصد من دعوتهما هو ذلك، أو أنَّ مآل دعوتهما ذهاب رياسته على الناس.

3-

وقال تعالى عن الملأ من قريش: {انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ، هذا بعض ما قاله الملأ من قريش، ومعناه كما جاء في تفسير القرطبي:"إن هذا الشيء يراد: كلمة تحذير، أي: إنما يريد محمد صلى الله عليه وسلم بما يقول الانقياد له؛ ليعلوا علينا ونكون له أتباعًا فيتحكَّم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه"2.

وفي تفسير ابن كثير في معنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَاد} : قال ابن جرير في معنى هذه الآية: إنَّ الملأ قالوا: إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع، ولسنا نجيبه3، ومعنى ذلك كله أنَّ الملأ من قريش حرصًا منهم على الرياسة والجاه رفضوا دعوة الإسلام؛ لظنِّهم أنها تفقدهم جاههم وسلطانهم على الناس.

ثالثًا: الجهالة

602-

"والملأ" غارق في الجهالة ولا يشعر بجهالته، فهو يكفر بربه ويردّ دعوته الكريمة التي بعث بها رسله إلى الناس، ويصفها بأنها ضلال، ويرمي مبلغيها وهم الرسل الكرام بالسفاهة وخفة العقل، ويؤلّب الدهماء عليهم، ويكيد ضدهم، ويعاديهم

1 سورة يونس، الآيات: 76، 78.

2 تفسير القرطبي ج15 ص151، 152.

3 تفسير ابن جرير ج4 ص27.

ص: 386

ويستغرب من دعوتهم، ويدَّعي أن آية كذب الرسول أنه من البشر، وأنَّهم -أي: الملأ- أولى بالرسالة ممن أرسلوا؛ لأنهم -الملأ- أكثر مالًا وأعز نفرًا، وأنَّ الرسل الكرام يريدون تحويلهم عن ملة آبائهم، ويأتونهم بدين جديد ما سمعوا به من قبل، وأنهم -أي: الملأ- يسخرون ويستهزئون بالمؤمنين، زاعمين أنهم لا يفهمون ولا يعلمون، ولهذا اتبعوا الدعوة إلى الله واتبعوا رسل الله بلا رؤية ولا تمحيص ولا تأويل، بينما هم لم يفعلوا ذلك؛ لأنهم سادة أشراف يفهمون ويعقلون ويدركون.

وأنهم يحسبون الأنبياء الكرام مفسدين في الأرض، وأنهم -أي الملأ- هم المصلحون المدافعون عن دين الناس وحقوقهم، وأنهم في سبيل هذا الدفاع سيحاربون الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى. وهذه بعض آثار جهالتهم وحماقاتهم، أخبرنا الله تعالى بها في آيات كثيرة، وهي من أسباب ضلالهم وحماقاتهم، وهي من أسباب ضلالهم وعدم انتفاعهم بهدي الله تعالى، فمن ذلك:

1-

قال تعالى عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} ، فهم لجهالتهم يقولون لنبيهم نوح عليه السلام: لست بمَلَك ولكنك بشر، فيكف أوحي إليك من دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إلّا الذين هم أراذلنا، ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منَّا، وهذا كله من جهالتهم، وإلّا لو كان لهم عقل لعلموا أن لا بدَّ أن يكون الرسول من البشر حتى يمكن أن يخاطبهم، ويمكن لهم أن يفهموه، كما أنهم لو كان لهم عقل سليم لعلموا أنَّ الحرمان والفقر والضعف لا علاقة لشيء منها في أمور الديانة، وأن الضعفاء والفقراء باتباعهم الحق يبرهنون على حسن إدراكهم وصفاء نفوسهم.

2-

وقال تعالى عن قوم ثمود وما قالوه لنبيهم صالح: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 1، فالملأ من ثمود كانوا مصرِّين على جهالتهم وإنكارهم نبوة صالح عليه السلام، وإنما سألوا المؤمنين سؤال متكبِّر جاهلٍ لا سؤال متفهم متواضع.

1 سورة الأعراف، الآية 75، 76.

ص: 387

3-

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} والمترفون هم "الملأ"، وجوابهم على دعوة رسل الله أنَّهم وجدوا آباءهم على ملة ودين، وأنَّهم مقتفون أثرهم لا يحيدون عن ذلك، وهذا من جهلهم؛ لأن الباطل لا يتابع، وأنَّ الحق أحق أن يُتَّبَع، وهذا التقليد الذميم للباطل القديم الذي كان عليه الآباء والأجداد من أعظم أسباب التمرُّد على الحق، قال تعالى في داء التقليد الذميم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} 1.

4-

وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} 2. "الملأ" من قوم فرعون يعتبرون موسى نبي الله والداعي إليه وأتباعه المؤمنين مفسدين في الأرض، ويؤلبون فرعون على مقاومتهم والقضاء عليهم؟

إن جهلهم مع كبرهم وحبهم للرياسة والجاه جعلهم يعتبرون موسى مفسدًا في الأرض.

الملأ هم الملأ في كل مكان وزمان:

603-

والملا بأوصافهم وأخلاقهم التي بيَّنَها القرآن الكريم يوجدون في كل مجتمع، وفي كل مكان وزمان، ولهذا فهم يقفون غالبًا في وجه كل دعوة إلى الله تعالى، ويحاربونها بدافعٍ من الكبر الذي يغشى نفوسهم، وبدافع حب الرياسة على الناس، وخوفهم من أن تسلبهم هذه الدعوة الإصلاحية مركزهم ومكانتهم وترفهم، ومما يدل على بقاء الملأ في كل زمان ومكان معارضين لكل دعوة طيبة خيرة تريد الإصلاح وإيصال الناس إلى خالقهم، إنَّ الدوافع التي دفعت الملأ من الأقوام الماضية إلى محاربة رسل الله والدعوة إليه، هي نفسها توجد في نفوس الكبراء والمترفين، فالكبر يعلق في النفوس المريضة والحرص على الرياسة والجاه والمنزلة، موجود في النفوس، وإنما ينقمع بالإيمان، والجهل يخيِّم على مثل هذه النفوس التي تعشق العلوَّ في الأرض

1 سورة البقرة، الآية:170.

2 سورة الأعراف، الآية:127.

ص: 388

والترف في الحياة، وإذا ما دخل أصل الإيمان في نفوس السادة والكبراء والأشراف، فإنَّ هذا الإيمان يبقى ضعيفًا غالبًا، لا يقوى على منعهم من الصد عن سبيل الله، ولا عن محاربة الدعاة إلى الله تعالى بشبهاتٍ واهية من جنس شهبات الملأ القدامى، الذين حاربوا رسل الله وصدوا عن دعوتهم المباركة، وقد تنبه المفسرون إلى أنَّ "الملأ" يبقون معارضون للدعوة إلى الله. جاء في تفسير ابن كثير بصدد قوله تعالى:{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قال: وهكذا حال الفجَّار إنما يرون الأبرار في ضلاله1، وقال أيضًا في مكان آخر من تفسيره: ثم الواقع غالبًا أنَّ من يتَّبِعُ الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته2، ومثله جاء في تفسير القرطبي3.

1 تفسير ابن كثير ج2 ص440.

2 تفسير ابن كثير ج2 ص441.

3 تفسير القرطبي ج15 ص150.

ص: 389