المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أن محمدا رسول الله - أصول الدعوة

[عبد الكريم زيدان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: موضوع الدعوة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الإسلام

- ‌الفصل الثاني: أركان الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

- ‌المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

- ‌الفصل الثالث: خصائص الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله

- ‌المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

- ‌المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

- ‌المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

- ‌المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

- ‌المطلب الأول: المثالية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

- ‌الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نظام الإفتاء

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: المستفتي

- ‌المطلب الثاني: المفتي

- ‌المطلب الثالث: الإفتاء

- ‌المطلب الرابع: الفتوى

- ‌المبحث الرابع: نظام الحسبة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: المحتَسِب

- ‌المطلب الثالث: المحتَسَب عليه

- ‌المطلب الرابع: موضوع الحسبة

- ‌المطلب الخامس: الاحتساب

- ‌المبحث الخامس: نظام الحكم

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الخليفة

- ‌المطلب الثاني: الشورى

- ‌المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

- ‌المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

- ‌المبحث السادس: النظام الاقتصادي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال

- ‌المبحث السابع: نظام الجهاد

- ‌المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

- ‌الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

- ‌الباب الثاني: الداعي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: التعريف بالداعي

- ‌الفصل الثاني: عدة الداعي

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الفهم الدقيق

- ‌المبحث الثاني: الإيمان العميق

- ‌المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

- ‌الفصل الثالث: أخلاق الداعي

- ‌الباب الثالث: المدعو

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثاني: أصناف المدعوين

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الملأ

- ‌المبحث الثاني: جمهور الناس

- ‌المبحث الثالث: المنافقون

- ‌المبحث الرابع: العصاة

- ‌الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها

- ‌الفصل الثاني: أساليب الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الداء والدواء

- ‌المبحث الثاني: إزالة الشبهات

- ‌المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

- ‌المبحث الرابع: التربية والتعليم

- ‌الفصل الثالث: وسائل الدعوة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

- ‌المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

- ‌الفهارس:

- ‌الفهرست:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أن محمدا رسول الله

‌المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله

معنى هذه الشهادة:

31-

وهذه الشهادة هي الركن الثاني في الإسلام، ومعناها: العلم والتصديق والاعتقاد الجازم بأنَّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله، وإعلان ذلك وإظهاره وبيانه بالقول والعمل، أمَّا بالقول فبالنطق بهذه الشهادة، وأمَّا بالعمل فيكون بإقامة سلوك الإنسان وجميع تصرفاته القولية والعملية وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه على وجه الاتباع له، والقبول منه باعتباره رسول الله.

رسل الله كثيرون:

32-

ورسل الله الذين أرسلهم إلى البشر كثيرون، منهم من قصَّ الله علينا أخبارهم، وعرَّفنا بأسمائهم، ومنهم من لم يعرّفنا بهم، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، فكل أمة من أمم الأرض جاءها رسول، وقد لا نعرفه؛ لأنَّ الله تعالى لم يخبرنا باسمه ولا برسالته، قال تعالى:{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1.

1 سورة النساء، الآية:164.

ص: 25

تبرير إرسال الرسل:

33-

والفكرة التي وراء إرسال الرسل والتي على أساسها يمكن تبرير إرسالهم إلى الناس، تقوم على أساس تفرُّد الله تعالى بالربوبية والألوهية، فهو رب العالمين وإلههم، فلا ربَّ لهم سواه، ولا إله لهم غيره، ومن لوازم ربوبيته وألوهيته تعالى قيامه عز وجل بتدبير شئون خلقه، والتكفُّل بمصالحهم وما يصلح لهم ويصلحون به، والتصرف فيهم بالأمر والنهي. ولا شكَّ أنَّ الإنسان لا يحتاج فقط إلى الغذاء ونحوه مما هو ضروري لإدامة حياته الجسدية، وإنما هو بحاجة وضرورة إلى ما يفي بحاجات روحه التي امتاز بها عن غيره، وإلى ما يوصله إلى الكمال اللائق به كإنسان، وعلى هذا فأهمّ مصالح الإنسان على الإطلاق إبلاغه السعادة والكمال المقدَّر له بتعرفه بخالقه ومعبوده، وطريق الوصول إليه، ووضعه على الصراط المستقيم الذي لا يضل فيه ولا يشقى.

وحيث إنَّ الإنسان بنفسه لا يستطيع أن يعرف هذه الأمور على وجه صحيح سالم من الخطأ؛ لأنها فوق قدرة العقل، فقد اقتضت حكمة الربِّ ورحمته بالإنسان أن يرسل للبشر رسلًا من جنسهم، يكلمونهم بلغتهم، ويبلغونهم رسالات ربهم، ويعرفونهم به، ويبينون لهم طرق الوصول إليه، وما يسعدون به في حياتهم وأخراهم، ولهذا كان من لوازم الإيمان بالله ربًّا وإلهًا الاعتقاد برسل الله، وأنَّ إنكار رسله يتضمن الجهل بالله وتنقيصه وعدم تقديره حق قدره، ومن ثَمَّ يكون كفرًا، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 1.

ختم الرسالات:

34-

وقد ختم الله رسالته بالرسالة الإسلامية التي أوحى بها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2 وإنما ختمت الرسالة برسالة الإسلام الخالدة؛ لكمالها ووفائها بحاجات البشر إلى يوم القيامة، فلا داعي لرسالة أخرى، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 3.

1 سورة الأنعام: الآية: 91.

2 سورة الأحزاب، الآية:40.

3 سورة الأنعام: الآية: 3.

ص: 26

أدلة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:

35-

قلنا: إن إرسال الرسل من لوازم ربوبية الله وألوهيته، وما من رسول أرسله الله إلّا وأيده بما يدل على صدقه ونبوته، وبالنسبة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم يقول: ما من أدلة تقام لإثبات نبوة نبيٍّ أو رسولٍ إلّا وكانت مثل هذه الأدلة وأكثر منها وأظهر موجودة في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا من يؤمن بنبوة موسى أو عيسى أو أيِّ نبي آخر ويجحد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون متناقضًا في نفسه وفي الواقع، ولا يكون إيمانه وجحوده إلّا حصلية الجهل والتعصب والتقليد بلا دليل أو برهان؛ لأنَّ ما دعاه إلى الإيمان بنبوة نبيٍّ أو رسول يوجد مثله وأكثر منه يدعوه إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. إنَّ مَثَلَه مَثَلُ من يعتقد أن فلانًا عالم بالطبِّ لأنه طالب في السنة الأولى في كلية الطب، ولكن يرفض الاعتقاد بأنَّ أستاذ هذا الطالب الذي ظلَّ يمتهن الطب عشرات السنين تدريسًا لهذا الطالب وغيره، وتطبيقًا لعلم الطب، يرفض أن يعتقد فيه معرفة الطب، ومن البديهي أنَّ رفضه هذا مع اعتقاده ذاك تناقض محض لا يصدر إلّا عن جهل وتعصُّب وتقليد.

ومع هذا القول العامِّ فإنَّ من المفيد أن نقدِّم بعض الأدلة لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن هذه الأدلة سيرته صلى الله عليه وسلم؛ من نشأته حتى وفاته، فهذه السيرة الطيبة العطرة لا يمكن أن يكون صاحبها كذَّابًا يدَّعي على الله ما ليس فيه. وهذا الدليل يكفي لأصحاب العقول السليمة والفطر القويمة، وبه استدلت السيدة خديجة عندما أخبرها الرسول صلى الله عليه وسلم بما رآه من جبريل في أول بدء الوحي، فقالت له فيما قالته: أبشر، فإنَّ الله لا يخزيك أبدًا، فإنك تحمل الكلَّ وتعين الضعيف، إلى آخر ما قالته في صفاته العالية وسيرته الطيبة.

ومن أدلة نبوته هذه الشريعة العظيمة في جميع جوانبها، التي يستحيل صدروها عن رجلٍ أميٍّ عاش في ذلك المجتمع العربي المعروف، فلو لم تكن وحيًا إلهيًّا لما أمكن لأحد أن يأتي بها مهما كان نضوجه العقلي وإتساع أفق تفكيره، وهذ الدليل يدركه ويقدِّره العلماء بالقانون والاجتماع والعلوم الأخرى.

وأعظم دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لا يزال قائمًا موجودًا بين أيدينا، هو القرآن العظيم وإعجازه الثابت، فلا بُدَّ من الكلام عن هذا الدليل على حدة.

ص: 27

دليل الإعجاز:

36-

من الواضح الجليِّ المعروف لدى المطَّلعين على التاريخ الإسلامي أنَّ أهل مكة وقريش بالذات قاومت الدعوة الإسلامية الأولى، ولم تعترف أوّل اللأمر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنكرت أنه رسول الله، أو أنَّ القرآن كتاب الله، فكان من جملة ما حصل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريشٍ وسائر المخالفين له والمعاندين والمنكرين أنْ تحداهم بالقرآن، بأن قال لهم كما أوحى الله إليه:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1، فكست المخالفون عن هذا التحدي، وعجزوا عن كسره أو الإجابة عليه، ثم تحدَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لهم ما أوحى الله إليه:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2، فسكتوا وعجزوا، ثم تحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لهم ما أوحى الله به إليه:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 4. وكانت نتيجة هذ التحدي المتكرِّر من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش وسائر المخالفين، أقول: كانت نتيجة ذلك أن عجز المخالفون عن كسر هذا التحدي، أو عن محاولة الافتراء، واستعمال الصدِّ عن سبيل الله بالقوة والإرهاب والإيخاء لمن معهم بأن لا يسمعوا للقرآن؛ لئلَّا يتأثرون به.

قال تعالى مخبرًا عن أسلوبهم هذا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 5.

1 سورة الإسراء، الآية:88.

2 سورة هود، الآية:13.

3 سورة يونس، الآيتان: 37، 38.

4 سورة البقرة، الآيتان: 23، 24.

5 سورة فصلت، الآية:26.

ص: 28

تحدي القرآن للمخالفين:

37-

إنَّ التحدي إذا ما نجح بعجز من وجِّه إليهم عن الإجابة عليه، فإنَّه يدل دلالة واضحة على صدق المتحدي، وصدق ما يدَّعيه لنفسه، كما يدل على بطلان دعوى من وجِّه إليهم هذا التحدي، ولكنَّ هذه الدلالة لا تتمّ إلّا إذا كان التحدي مستجمعًا الشروط اللازمة له، التي تؤدي إلى هذه الدلالة أو هذه النتيجة. فهل توفَّرت شروط تحدي القرآن لقريش، الذي جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، ما هي شروط التحدي؟ إنَّ هذه الشروط هي:

أولًا: أن يكون موضوع التحدي داخلًا في قدرة من وجِّه إليهم، بل ويكون داخلًا في اختصاصهم ومما هم بارعون فيه ومتفوقون فيه ومشهورون فيه، كما لو وجه مصارع تحديه إلى المصارعين بأنَّه هو البطل الوحيد في المصارعة، ومن يشك في ذلك فليتقدم إلى مصارعته، فموضوع التحدي هنا "مصارعة"، والمصارعة داخلة في اختصاص من وجِّه إليهم هذا التحدي وهم المصارعون.

ثانيًا: والشرط الثاني للتحدي أن يكون من وجِّه إليهم راغبين كل الرغبة، حريصين كل الحرص على إبطال دعوى المتحدي والإجابة على تحديه، فلا يكفي توافر الشرط الأوَّل لقيام التحدي السليم الموصِّل إلى نتيجة، فقد يكون من وجِّه إليهم غير راغببين ولا حريصين على إبطال دعوى المتحدي، وبالتالي يسكتون ولا يجيبون، فلا يدل سكوتهم على عجزهم، وبالتالي لا يدل على صدق دعوى المتحدي، كما لو كان بين المتصارعين من هو قادر على كسر تحدي المصارع المتحدي، ولكنه لا يرغب في ذلك؛ لأنه ابن للمتحدي أو أخوه أو صديقه، أو أن المتحدي يعتبر تافهًا في نظر من تحداهم، لا يستحق حتى الإجابة على تحديه.

ثالثًا: والشرط الثالث للمتحدي أن لا يوجد مانع من وجِّه إليهم التحدي من الإجابة عليه، وأقصد بالمانع هنا: مانع الخوف من المتحدي، الخوف من بطشه وقوته وقدرته على إلحاق الأذى بهم، فلا يكفي إذن توافر الشرطين السابقين لقيام التحدي الصحيح إذا لم يتوفَّر هذا الشرط الثالث، فلو تحدى شخص منازعيه ومخالفيه بأنَّه هو الوحيد الذي يحوز ثقة الشعب، وأن الشعب لا يختار غيره ولا يرضى بغيره بديلًا برئاسة الدولة، وهو يتحدى كل من لا يؤمن بهذا القول أن يرشح نفسه في

ص: 29

الانتخابات الجارية لانتخاب الرئيس، فإذا سكت الآخرون عن تحديه، ولم يرشح أحد نفسه خوفًا من بطشه وسلطانه وقوته؛ لأن بيده الأمر والنهي والحكم، فإن هذا السكون لا يدل على صحة ما ادَّعاه المتحدي لنفسه.

هذه هي الشروط الضرورية لاعتبار التحدي قائمًا فعلًا ومؤديًا إلى نتيجته، فهل هذه الشروط متوفرة في تحدي القرآن العلني للمشركين المعلَن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تحقق تحدي القرآن للمخالفين:

38-

إنَّ شروط التحدي التي ذكرناها كلها موجودة في تحدي القرآن للمخالفين، وبيان ذلك ما يأتي:

أولًا: فيما يخص الشرط الأول، وهو أن يكون موضوع التحدي داخلًا في اختصاص من وجِّه إليهم التحدي، فمن المعروف أنَّ قريشًا وسائر العرب اشتهروا بالبلاغة والفصاحة والمعروفة باللسان العربي، وبرزوا في ذلك خطابة ونثرًا وشعرًا وتذوقًا، حتى إنهم كانوا يعقدون المواسم الأدبية لتخيُّر أحسن الشعر، ومن المعلوم أيضًا أنَّ القرآن الكريم أنزله الله بلغة العرب وبلسانهم، فإذا تحداهم به وقال لهم: إن كنتم في شك من أن هذا القرآن هو كلام الله المنزَّل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فأتوا بمثله، أو بعشر سورة من مثله، أو بسورة من مثله، فإنما يتحداهم بشيء داخل في اختصاصهم وداخل فيما هم فيه بارعون، فيكون هذا الشرط متحققًا في تحدي القرآن للمخالفين.

ثانيًا: فيما يخص الشرط الثاني، وهو وجود الرغبة والحرص عند المخالفين من قريش وغيرهم على إبطال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإثبات ادِّعائهم بأنه ليس رسولًا لله، فهذا الشرط موجود ويعرفه صغار المطّلِعين على التاريخ الإسلامي، فمن الواضح أنَّ قريشًا لم ترض بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وحاولت محاولات شتَّى لإبطال هذه الدعوة، سلكت سبيل الترغيب بأن عرضت على أبي طالب أن يمنع ابن أخيه محمدًا صلى الله عليه وسلم من الاستمرار في دعوته، وهم مقابل ذلك يعطونه من الأموال ما يجعله أغناهم، ويجعلونه رئيسًا عليهم فيكون هو صاحب السلطان، أو يعرضونه على أهل المعرفة بالأمراض النفسية إن كان ما جاء به شيئًا اعتراه يحتاج إلى تطبيب وعلاج، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه بعد أن أبلغه رغبة قريش: "والله يا عماه، لو وضعوا الشمس

ص: 30

في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه

" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم سلكوا سبي التهديد والإيذاء، والمقاطعة الاقتصادية للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبَعه، وسبيل الافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم ورميه بما هو براء منه؛ كقولهم: إنه مجنون أو ساحر أو مفتر، وقد بلغ الأذى به وبالمسلمين أن عذَّبت قريش بعض المسلمين تعذيبًا بدنيًّا ماتوا فيه، كما هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة مرتين فرارًا من هذ العذاب والأذى الشديد، وهذا كله يدل دلالة واضحة على الرغبة والحرص الأكيد لدى قريش على إبطال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرط الثالث: وهو عدم وجود مانع من الإجابة وكسر التحدي. وهذا الشرط موجود في تحدي القرآن، فمن المعلوم عند صغار المتعلمين لأخبار التاريخ الإسلامي أنَّ السلطان والقوة والنفوذ، كل ذلك كان بيد المشركين في مكة، أمَّا المسلمون ورسولهم صلى الله عليه وسلم، فما كان لهم من ذلك شيء. فقد كانوا ضعفاء لا حول لهم ولا سلطان، حتى إنَّ بعضهم هاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم كما قلنا، وحتى إنَّ المسلمين هاجروا إلى المدينة في آخر الامر، كما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم، كل ذلك يدل على أنَّه لم يكن هناك مانع يمنع قريشًا من الإجابة على التحدي وكسره، وإثبات ما يزعمونه من أنَّ القرآن ليس كلام الله وأن محمدًا ليس برسول الله، لو كانوا يستطيعون ذلك.

نتيجة التحدي ودلالته:

39-

وكانت نتيجة تحدي القرآن للمشركين عجزهم وسكوتهم، كما أشرنا إلى هذا من قبل، فإذا ثبت عجزهم وتوفَّرت شروط التحدي، ثبت صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه رسول الله، وأن القرآن كتاب الله، وإذا ثبت ذلك وجب على الخلق الإيمان بنبوته واتباعه، والانقياد إلى الشرع الذي جاء به من ربه، والإيمان بكل ما جاء في القرآن والسنة النبوية المطهرة، وهذا هو المطلوب.

استمرار التحدي ودلالته:

40-

وتحدِّي القرآن للمخالفين ظلَّ قائمًا وموجَّهًا إلى كل مرتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي نسبة القرآن إلى الله تعالى، ولا يزال هذا التحدي قائمًا حتى الآن، وإلى أن

ص: 31

يرث الله الأرض ومن عليها، فما دلالة ذلك؟ دلالة ذلك واضحة وهي ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدليل القاطع والبرهان الساطع والحجة القائمة الموجودة بين أيدينا الآن، التي لا يستطيع أيّ مكابر أن ينكرها أو يغالط فيها، وإذا عرفنا أنَّ هذا الدليلن ظلَّ قائمًا عبر القرون الطويلة منذ عهد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحتى الآن، وأنَّ الإسلام واجه مختلف الخصوم والمعاندين والكفار من أصحاب الأفكار الباطلة، وأنهم بذلوا كل جهد مستطاع لديهم لطعن الإسلام والتشكيك فيه، والدسِّ عليه وتلويث أفكاره وعقائده، ومع هذا لم يجرءوا على إجابة تحديه وكسره، نقول: إذا عرفنا ذلك عرفنا قوة هذا الدليل؛ دليل إعجاز القرآن على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته.. إن دليلًا ثبت صدقه مدة أربعة عشر قرنًا لهو أعظم دليل يقام لاثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تنقيص بعقل الإنسان:

41-

وبناءً على ما تقدَّم نعتبر إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد ظهور الدليل القاطع على نبوته وصدقه تنقيصًا بالعقل البشري السويّ، وجحودًا ما بعده جحود، وعنادًا محضًا، وجرمًا كبيرًا، ومن ثَمّ كان جزاؤه غليظًا عند الله، وصاحبه ينخرط في عداد الكفرة المتمردين على الله. هذه واحدة، والأخرى أنَّ من ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا سبيل له إطلاقًا للإيمان بأي نبي؛ لأنَّ من ينكر وجود الشمس وهو يراها لا سبيل له إلى الإيمان بوجود نجم لا يراه، وإذا آمن به كان متناقضًا في إيمانه هذا وإنكاره ذاك.

إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إثبات لسائر النبوات:

42-

هذا وإنَّ إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إثبات لسائر النبوات؛ لأن هذه النبوات ذكرها القرآن وذكر أصحابها وهم الرسل الكرام، فإذا ثبت بدليل الإعجاز أنَّ القرآن من عند الله، وأن محمدًا رسول الله، ثبت كل ما في القرآن، وثبت كل ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول هذا لأنَّه ليس بين أيدينا دليل قاطع حيّ على إثبات نبوة أيِّ نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإنَّ من ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يدعو إلى الإيمان بنبوة غيره، يكون متناقضًا، ويعطي الحجة بيد المدعو على عدم التصديق بأصل

ص: 32

النبوات، ولهذا أيضًا كان الكفر برسالة أيِّ رسول كفرًا برسالة الإسلام؛ لأنه يتضمَّن التكذيب لبعض ما جاء في القرآن.

مقتضى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولوازمه:

43-

والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا يقضي التسليم المطلق والتامِّ لما جاء به أو أخبر عنه، وتصديقه وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه، دون حرج أو ضيق أو مناقشة أو جدال أو تعقيب أو أخذ البعض وترك البعض الآخر، فإن كل هذه الأشياء تناقض مقتضى الإيمان به صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، ولهذا جاءت النصوص القرآنية كلها تؤكد وتبين هذه الأمور وغيرها، التي هي مقتضيات الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم، فمن هذه النصوص الواردة في القرآن العظيم قوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5 {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 7، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ

1 سورة آل عمران، الآية:132.

2 سورة آل عمران، الآية:31.

3 سورة آل عمران، الآية:32.

4 سورة النساء، الآية:80.

5 سورة النور. الآية: 51.

6 سورة الفتح، الآية:17.

7 سورة الحشر، الآية:7.

ص: 33

الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} 1، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2 {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3.

فهذه النصوص وأمثالها في القرآن كثير، تذكِّر المؤمنين بمقضتى إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، وبلوازم هذا الإيمان، فمرة تأمره بطاعته؛ لأن طاعته هي طاعة لله، وأن جزاء المطيعين جنات النعيم، وأن جزاء المخالفين عذاب النار، وطورًا تبيِّن لهم أنَّ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يستلزم أخذ ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عمَّا نهى عنه، وأنَّ ما يقضي به صلى الله عليه وسلم واجب الطاعة لا خيار فيه للمسلم، وأنَّ الرجوع عند الاختلاف يجب أن يكون إلى الله والرسول، وأنَّ الإيمان الحقيقي بمحمد صلى الله عليه وسلم يستلزم الرضى بما يحكم ويقضي به ويخبر عنه، وتارة تبيِّن نصوص القرآن أنَّ المخالفة لأمر رسول الله وعصيانه سبب لعذاب الله ومقته، وأنَّ على المخالفين له أن يحذروا الفتنة والعذاب الأليم.

44-

والواقع أنَّ ما تذكره هذه النصوص هو النتيجة المنطقية للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والرضى به رسولًا؛ لأن من التناقض ومن غير المقبول في العقل السليم أن يؤمن الإنسان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم ينازعه في بعض ما جاء به، أو لا يرضى بما جاء به، أو ينصِّبَ نفسه معقبًا لبعض ما جاء به، أو يتمرَّد على بعض ما جاء به، إلى غير ذلك مما لا يتفق أبدًا ومقتضى الإيمان به. إنَّ الإنسان إذا آمن بأن فلانًا بارع في الطب ومبرَّز فيه، فإنه يتقبل منه ما يقوله في شئون الطب وما يخبره به عن موضع وسبل علاجه، ويتبع توجيهاته في الأكل والشرب، وفيما يأخذ ويترك، ولا يسوغ لنفسه معارضته أو مناقشته، فإذا هذا المسلك سليمًا ومعقولًا بالنسبة للطبيب مع احتمال خطئه، فما

1 سورة الأحزاب، الآية:36.

2 سورة النساء، الآيات: 59-65.

3 سورة النور، الآية:63.

ص: 34

يقول ويوصى به، فكيف يجوز لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا أن يعارضه أو يناقشه؟

واجبنا نحو الرسول صلى الله عليه وسلم:

45-

إن واجب المسلم نحو الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أنعم الله عليه بالإيمان به تصديقُه بكلِّ ما يخبر عنه، وطاعته في كل ما يأمر به، والانتهاء عن كل ما ينهى عنه، وقبول ذلك بتسليمٍ تامٍّ ورضًى تامّ، كما بينا في الفقرة السابقة، وذكرنا النصوص القرآنية الدالة على ذلك.

ومن واجباتنا الأخرى نحوه -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم ما يأتي:

أولًا: محبته أكثر من النفس والولد والأهل والمال والناس أجمعين، قال صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين"، ومن البديهي أن صدق المحبة تكونة بخلوص المتابعة له، فهذا هو الذي يحبه ويرضيه، والمسارعة إلى ما يرضيه صلى الله عليه وسلم مما أمرنا الله به، وهو من لوازم المحبَّة الصادقة، قال تعالى:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} 1.

ثانيًا: توقيره وتبجيله واحترامه حيًّا وميتًا، قال تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 2؛ لأنَّ الرسول الكريم ليس كواحد من الناس، إنَّه رسول الله، وعلى الناس أن يوقروه ويجلوه ويشرِّفوه حتى في ندائهم له، فعليهم أن يقولوا له: يا رسول الله، يا نبي الله، وهذ بعض معاني هذه الآية.

ومن مظاهر توقيره واحترامه عدم سبقه بالقول أو رفع الصوت عند كلامه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ

1 سورة التوبة، الآية:62.

3 سورة النور، الآية:63.

ص: 35

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 1، ويبقى هذا الاحترام والتوقير بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي رفع الصوت في مسجده وعند قبره، كما يجب التأدُّب عند سماع حديثه الشريف وسنته المطهرة، والإصغاء الكامل لها والرضى بها، وعدم الخروج عليها، أو معارضتها بالآراء الفاسدة، فإذا سمع المسلم:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فليعلم أنَّه لا قول لأحدٍ مع قوله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضةً لقوله، وإنما هو الاستماع وفهم هذا القول النبوي الكريم، والعزم على العمل به.

ثالثًا: الابتعاد الكامل التامّ عن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في أي شيء وبأي قدر من الإيذاء، فإنَّ هذا كله حرام، وقد يؤدي إلى خروج المسلم من الإسلام، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} 1، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2، ويدخل في نطاق إيذائه المحرَّم إيذاؤه صلى الله عليه وسلم بالطعن في زوجاته الكريمات أو سبهن أو عداوتهنَّ، فهنَّ أمهات المؤمنين بنصِّ القرآن، قال تعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، وهن زوجاته الكريمات في الدنيا والآخرة، كما يدخل في إيذائه صلى الله عليه وسلم إيذاؤه بالطعن في آل بيته الأطهار أو سبهم أو عداوتهم.

رابعًا: الصلاة والسلام عليه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

التحرز من خلط ما لله بما للرسول من حق:

46-

ومما يجب التنويه به والتذكير به التحرُّز من خلط ما لله من حقٍّ بما للرسول صلى الله عليه وسلم من حق، فإن المسلم قد يقع في هذا دون أن يشعر، أو يقع فيه متعمدًا ظانًّا أنه من واجب المسلم نحو الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ من حقه على المسلم، أو أنَّ ذلك من مزيد محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقع في الشرك الخفي أو الجلي، وبالتالي يقع في سخط الله.

إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقة هي متابعته والمسارعة إلى مرضاته، وهذا لا يتمّ إلّا

1 سورة الحجرات، الآية: 1-3.

2 سورة الأحزاب، الآية:53.

3 سورة التوبة، الآية:61.

ص: 36

بتجريد المتابعة لشرعه الذي جاء به من ربه، ولسنته القولية والعملية، ومن المعلوم أنَّ ما جاء به صلى الله عليه وسلم من ربه إفراد الله بالعبادة بجميع أشكالها وصورها، وعدم إعطاء ذرة منها لأحد كائنًا من كان، وهذا هو معنى كلمة التوحيد كما بَيِّنَّا ذلك من قبل.

ولتحقيق هذه المعاني العالية في نفوس المسلمين بَيِّنَ القرآن الكريم أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1.

وأنه لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وإنما المالك لهذا وذاك هو الله تعالى، قال تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2، وعلى هذا فالاستغاثة وطلب العون وكشف الضر يكون من الله تعالى، الذي دعانا إلى الطب منه والتوجه إليه، قال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 4، كما أنَّ الخشيبة والتقوى تكون لله، والتوكُّل يكون على الله، فهو الكافي جل جلاله، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 5، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 6، فهذه الآيات صريحة في تحديد ما لله من حقٍّ وما للرسول من حقّ، فمن حقوق الله تعالى وحده الخشيبة منه والتقوى له، والكفاية لعبده، والتوكل عليه، والرغبة إليه، أمَّا الطاعة فهي من حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة الرسول في حقيقتها طاعة الله، وكذلك من حقِّ الرسول إعطاء ما يراه من غنائم وفيءٍ وغيرها من يرى إعطاءه.

وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:"ما شاء الله وشئت"، فقال صلى الله عليه وسلم:"أجعلتني لله ندًّا، قل: ما شاء الله ثم شئت".

1 سورة الكهف،، الآية:110.

2 سورة الأعراف، الآية:188.

3 سورة غافر، الآية:60.

4 سورة النور، الآية:52.

5 سورة النور، الآية:52.

6 سورة التوبة، الآية:59.

ص: 37

فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم جاء بالتوحيد الخالص لله رب العالمين، ومن حرصه الشديد على ما ينفع المسلمين كان يبيِّن لهم التوحيد كما يبيِّن لهم معاني الشرك؛ لئلَّا يقعوا فيه، وهذا من كمال نصحه ورحمته ورأفته بأمته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله عنَّا خير الجزاء. قال تعالى في بعض أوصافه الكريمة:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 1، وقال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 2.

1 سورة التوبة، الآية:128.

2 سورة الأحزاب، الآية:6.

ص: 38