الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: العصاة
تعريفهم:
633-
نريد بالعصاة كصنفٍ من أصناف الناس مَنْ كان عندهم أصل الأيمان وهو الإقرار بشهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكنَّهم لا يقومون بحقوق هذه الشهادة، فهم يخالفون بعض أوامر الشرع ويرتكبون بعض نواهيه، ومنهم المكثِر من المعاصي، ومنهم المقِلّ، ومنهم بين ذلك على درجات كثيرة جدًّا ومتنوعة جدًّا، لا يحصيها إلّا الله تعالى.
المسلم غير معصوم من المعصية:
634-
والمسلم غير معصوم من المعصية، جاء في الحديث:"كل ابن آدم خطَّاء وخير الخطائين التوابون"، وتعليل ذلك أنَّ نفس الإنسان قابلة لارتكاب المعصية كما هي قابلة لفعل الطاعة، والمطلوب من المسلم أن يحرص على طاعة الله وعدم معصيته، قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ، وإذا وقع في معصية فعليه أن يسارع إلى التوبة، ويقلع عن معصيته، وينيب إلى ربه.
أسباب العصيان:
635-
وقد يرد إلى الذهن هذا السؤال: لماذ يعصي المسلم أوامر الشرع الإسلامي وهو مؤمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر، ومؤمن بأن معصية الخالق جل جلاله تؤدي إلى سخطه وعذابه؟ والجواب على ذلك: إنَّ الإيمان قد يضعف في قلب
المسلم فتغلبه شهوته، ويقبل إغراء الشيطان فيرتكب المعصية؛ لأنَّ العقاب على الذنوب شيء موعود به في الآخرة، ولذائذ الدنيا المحرَّمة شيء حاضر، والنفس مجبولة على التأثُّر بالحاضر لا بالغائب، وإن كانت عاقبة الحاضر مُرَّة وعاقبة الغائب حلوة، ولا يمنعها من هذا التأثير إلّا الإيمان القوي المنير الذي يجعل الغائب كالحاضر، فيكون التأثر به لا بالحاضر المحسوس فعلًا، قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، فالإنسان بطبيعته يؤثر اللذة العاجلة -وإن كانت تافهة- على اللذة الآجلة -وإن كانت جسيمة، ومع ضعف الإيمان يقوى هذا الطبع وهذه الجِبّلة في الإنسان، فيستسهل ارتكاب المخالفة ابتغاء اللذة العاجلة، أو دفع المشقة العاجلة، لا سيما مع أمل البقاء والتوبة في المستقبل وتسكين النفس بأمل عفو الله تعالى.
جهل العاصي:
636-
العاصي جاهل قطعًا، فلولا جهله لما عصى الله تعالى، قال ربنا جل جلاله:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1، قال مجاهد وغير واحد من أهل العلم: كل من عصى الله خطأً أو عمدًا فهو جاهل حتى ينزع من الذنب. وقال قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدِّث أنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. وعن مجاهد أيضًا قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عمله. وعن ابن عباس: من جهالته عمل السواء2.
ووجه جهل العاصي أنَّه يجهل قدر ربه، وما يجب له من طاعة لحق ربوبيته وألوهيته وعظمته وكمال إنعامه على عبده، وكمال فقر العبد له، وعدم خفاء شيء على الله تعالى مِمَّا عمل الخلق، وأنهم مجزيون على أعمالهم، ومن جهل العاصي جهله بضرر الذنوب، وكان ينبغي أن ينفر منها أشد من نفرته من الحيات والعقارب، ولا يلامسها ولا يضعها على جسمه، ولكنَّ العاصي من جهله يقبل عليها ويباشرها، ومن جهله أن يؤثر العاجلة على الآخرة، وما نسبة العاجلة وما فيها من لذائذ إلى نعيم الآخرة إلّا كنسبة ما يعلق بالأصبع إذا غمستها في البحر إلى مائه، ومن جهله التسويف وطول الأمل وتأجيل التوبة، ولم يعلم أن الموت أقرب إلى الإنسان من شراك نعله، وأنه لا
1 سورة النساء، الآية:17.
2 تفسير ابن كثير ج1 ص463.
يستأذنه إذا حان الأجل، ومن جهله أنَّه يتعب كثيرًا، ويترك لذائذ كثيرة في سبيل ظفره بربحٍ آجل في الدنيا، ولو عقل لفعل للآخرة ما يفعله لنوال هذا الربح. ألَا ترى الطالب يحبس نفسه في بيته يقرأ ويدرس أيامًا وأسابيع لينجح في الامتحان، وإن فاتته بعض اللذات، والتاجر يركب الأخطار ويفارق أهله ويقطع الفيافي والقفار ليربح شيئًا من المال، فلماذا لا يعمل للآخرة كما يعمل في هذه الأحوال، ثم أليس من جهل العاصي أنَّه إذا سمع قول طبيب يخبره أنَّه إذا شرب كذا أو أكل كذا مات، أو كان على خطر شديد، فإنه يتَّبِع نصيحة الطبيب، ويفطم نفسه مما نهاه عنه، مع أنَّ قول الطبيب يحتمل الخطأ، بينما ما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم من وعيد الله وعذابه لمن تخطَّى حدوده هو خبر صدق ويقين قطعًا، فلماذا لا يأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ويأخذ بقول الطبيب، لولا جهله وجهالته؟ ومن جهل العاصي اتكاله على عفو الله ورحمته، ونسي أنَّ رحمة الله قريب من المحسنين، وأنَّ العارفين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم، وأنَّ الراجي حقًّا من قام بالأسباب وانتظر رحمة العليم العلَّام، كالذي يحرث الأرض ويلقي البذر ويقوم بالسقي ويتعَهَّد الزرع، ويرجوا أن يحفظ الله زرعه ويجنِّبه الآفات. أمَّا الأحمق المغرور فهو الذي يترك أرضه تملأها الأشواك والأدغال، ولا يلقي فيها بذرًا، ويرجو أن ينبتها الله له.
الوقاية من المعاصي:
637-
العلاج من ارتكاب المعاصي أو الميل إليها، وإن كنَّا قد أشرنا إليه بعض الإشارة، سنتكلم عنه إن شاء الله تعالى عند كلامنا عن أساليب الدعوة في الباب الرابع، ويكفينا هنا أن نقول: إنَّ الوقاية خير العلاج كما قالوا، وهو يصدق في الوقاية من أمراض البدن ومن أمراض القلب، والمعاصي هي سبب مرض القلب، ونتائج مرض القلب، فكيف يتقي من المعاصي؟ في كل نفس استعداد وقابلية لارتكاب المعاصي {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، فالنفس تحمل جراثيم المعاصي، وهذه الجراثيم تكون مقهورة مغلوبة ما دام القلب في صحة وعافية معمورًا بالإيمان، فإذا ضعف لأيِّ سبب كان، ووجدت هذه الجراثيم المناخ الملائم انتعشت ونمت وظهرت فعاليتها، كما يحصل لجراثيم الجسم، ومن المناخ الملائم لجراثيم المعاصي كل المهيِّجَات للمعصية من المرئيات والملموسات والمسموعات والمطعومات،
والقراءات. لكل واحد من هذه المهيجات إذا أهاج شهوتك دفعك نحو المعصية وأنساك ذكر الله، فمن المناخ الملائم لجراثيم المعاصي النساء الكاسيات العاريات، والغناء الفاحش القبيح، والمخالطات المحرَّمة، وارتياد محلات أهل الغفلة، وسماع كلام أهل الدنيا، كل هذا وأمثاله يقوي جرثومة المعصية حتى تكون هي القاهرة الغالبة، بعد أن كانت مقهورة مغلوبة، وبالتالي يواقع المعصية وينغمس فيها، أما المناخ الملائم لإضعاف جرثومة المعصية، فهو كل شيء يقوي فيه معاني الإيمان، والعلم الحق بالله واليوم الآخر، ويبصرك طريق الآخرة. فصحبتك للطيبين العاملين للإسلام الداعين إلى الله من أكبر الحصون لنفسك ولإيمانك، وبالتالي لإضعاف جرثومة المعصية. وأخيرًا، فإنَّ من الوقاية أن لا يستصغر المسلم ذنبًا مهما كان صغيرًا، فإنَّ الحزمة من الحطب تتكون من عيدان. وأن لا يعرِّضَ نفسه إلى ما يضعف إيمانه ويقوي فيه جرثومة المعصية اعتمادًا منه على قوته وعافيته، فليس من العقل أن يعرِّض الإنسان نفسه لجرثومة السل، ويغشى محلات المسلولين، بحجة أنه قوي صحيح البدن.
موقف الداعي من العصاة:
638-
الداعي ينظر إلى العصاة نظرة إشفاق ورحمة، فهو يراهم كالواقفين على حافِّة وادٍ عميق سحيق في ليلة ظلماء، يخاف عليهم من السقوط، ويعمل جهده لتخليصهم من الهلاك. وهو في سبيل هذا الغاية يتجاوز عن تجاوزهم على حقه إن كانت معصيتهم في حقه، ولا يعيرهم ولا يشمت بهم، ولا يحتقرهم افتخارًا بنفسه عليهم وإدلالًا بطاعته، ولكن له أن يستصغرهم لمعصيتهم وتجاوزهم حدود الشرع، وأن يغضب لهذا التجاوز، قالت عائشة رضي الله عنها:"ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلّا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله". ومن محارم الله التي يغضب لها المسلم محاربة العصاة الدعوة إلى الله والصدِّ عن سبيله وإلحاق الأذى بالدعاة حتى يمتنعوا عنه القيام بواجب الدعوة، ففي هذه الأحوال ونحوها يجوز للداعي أن يسلك مع هؤلاء العصاة ما يكفّ به ضررهم عن الدعوة والدعاة بالقدر الذي يبيحه الشرع، على أن لا يتجاوز هذا القدر، وأن يتوسَّل بالأسهل فالأسهل من وسائل كفِّ ضررهم، مع رغبته التامّة في هدايتهم وصلاحهم.