الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصل الدين والإسلام
بعد أن تحدثنا عن موقف العلمانية من الدين، سواء بالطعن فيه، أو بالدعوة لتجاوزه وإقصائه، أو بالاستهزاء بأصوله وقواعده، رأيت أن أفرد هذا المبحث وإن كان يمثل لونا من ألوان الطعن، ولكنه طعن في الصميم، أو لنقل: إنه نقض للدين من أساسه وجذوره، واعتباره مجرد وهم، من صنع بعض الكهنة.
فقد أجمع علماء الاجتماع الغربيين على أن الأديان صنع بشري محض، أي: إفراز تاريخي اقتضاه التطور البشري.
بدأ أولا في شكل أساطير، أملاها الخوف من القوى المجهولة والظواهر الطبيعية الكبيرة، ثم تطور الأمر إلى تعدد الآلهة، واتخاذ كل قبيلة أو مجموعة قبائل إلها خاصا بها، ثم تطور الأمر إلى توحيد الآلهة على يد الأديان التوحيدية الثلاثة، ثم تطور الأمر نحو العقلانية.
وعندهم الظواهر الاجتماعية هي التي شكلت الدين وصنعته وطورته.
وعند فرويد: الأديان مجرد وهم من أوهام الجماهير، نشأت نتيجة لضرورة حماية الإنسان لنفسه من قوى الطبيعة.
والدين عصاب وسواسي يصيب البشر كافة، وإن الله ابتكار بشري يمجد الأب المثالي ويصبح ملجأ خارقا للطبيعة يعتصم به كل من أفزعته الحياة (1).
وعند ماركس: الدين أوهام وخيالات انعكست عن الوضع الاقتصادي، وضعه المحتكرون البورجوازيون لتخدير الطبقة الكادحة والسيطرة عليها (2).
وأما
(1) علم الأديان (29).
(2)
أكد أركون في العلمنة والدين (74) أنه بمجيء الماركسية زادت وأكدت أن العامل الديني ليس إلا قشرة سطحية أو بنية فوقية قليلة الأهمية، وأن القوى الحقيقية للتاريخ هي نظام التبادل والإنتاج، وبالتالي فهناك إذن طبقة تملك هذا النظام وتسيطر عليه، وهي تخترع إيديولوجيا تبشيرية من أجل أن تجعله مقبولا من قبل بقية المواط
الله والآخرة والأسرة والأخلاق والفضيلة فكلها هراء برجوازي.
والدين عند ماركس كذلك مرحلة من مراحل التطور البشري، بل بشَّر ماركس بهزيمة الآلهة وإبطال الأساطير وهزيمة القدسي أمام التقدم العلمي والتكنولوجي (1).
تلقف العلمانيون هذا الكفر البواح الذي يكذب القرآن والسنة، بل والأديان كلها وروجوا له: منهم عبد المجيد الشرفي في الإسلام بين الرسالة والتاريخ (12)، بل اعتبر الدين ظاهرة مرضية يمكن تجاوزها.
ومنهم فرح أنطون، فقد رفض الدين باعتباره طفولة البشرية (2).
ومنهم أبو القاسم حاج حمد وزكي نجيب ونوال السعداوي (3).
ومنهم العلماني المغربي أحمد عصيد، قال: لقد تطور العقل البشري من الإيمان بالخوارق والأساطير إلى التنظيم المعقلن للحياة وعبر ذلك انتقل من الآلهة المتعددة إلى الحاكم والإله، ثم التوحيد السماوي ليستقر عند اكتشاف قدراته العقلية والتمتع بمغامرة البحث عن الحقيقة خارج الثوابت المطلقة (4).
ومنهم رفعت السعيد، فالدين عنده هو مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي (5).
ومنهم شبلي شميل، والدين عنده أصله الخوف (6).
ومنهم محمد أركون قال عن تفضيل المسيحية على غيرها من الأديان: وذلك لأن تفضيل دين
(1) أزمة الخطاب التقدمي (60).
(2)
نقد الفكر الديني (62) والتفكير في العلمانية (63).
(3)
العلمانيون والقرآن (322).
(4)
العلمانية مفاهيم ملتبسة (337 - 338).
(5)
الإسلام السياسي (16 - 17) نقلا عن الحركات الإسلامية (42).
(6)
آراء الدكتور شبلي شميل (18).
معين على بقية الأديان بشكل مسبق يولد ردود فعل هائجة، وينبغي ألا نسقط في هذا المطب. فالمسألة هي مسألة تطور تاريخي ليس إلا (1).
ومنهم عبد الخالق حسين، الذي ذكر أن الفكر البشري مر بثلاث مراحل: المرحلة اللاعقلانية (الخرافات والغيبيات والأساطير)، والمرحلة العقلانية (الفلسفة والأديان السماوية (2))، والمرحلة العلمية أو الحداثة (3).
ومنهم فالح مهدي، الذي قال في البحث عن منقذ (219 - 239) عن النظرية الدينية في تعليل الظواهر والأحداث الفكرية والتحولات الاجتماعية الهامة: وهي في النهاية وليدة عجز فكري وخوف ووهم عند الإنسان البدائي، عندما أراد تعليل تلك الظواهر
…
فعجز الإنسان وضعفه أمام قوى الطبيعة جعله يلجأ إلى الخيال الساذج ليطلق له العنان وليغذيه بالخوارق (4).
ومنهم عصام الدين حفني ناصف الماركسي في اليهودية بين الأسطورة والحقيقة (11 - 12)، حيث قرر أن الدين نشأ من الدهشة والرعب إزاء قوى الطبيعة، تم توهم الإنسان وجود أرواح لهذه القوى، تم عزا ما يحدث في الكون لهذه الأرواح ثم قاده ذلك إلى عبادة الطوطم وإلى نشوء التابو (الحرام)(5).
فالدين ليس أكثر من وهم ومجموع تابوات، كما يرى عصام الدين حفني ناصف (6).
(1) نحو نقد العقل الإسلامي (179).
(2)
هذا وهم لا شك فيه، فالأديان السماوية لم يعدها علماني واحد ضمن العقلانية. إلا إن كان يقصد العقل بالمعنى العام، ومنه: العقل اللاهوتي.
(3)
العلمانية مفاهيم ملتبسة (181).
(4)
أزمة الخطاب التقدمي (75).
(5)
أزمة الخطاب التقدمي (68 - 69).
(6)
نفس المرجع (71).
تنطلق هذه النظرية من قاعدة إلحادية تقوم على عدم وجود إله للكون، وتفسر ظهور الدين في المجتمعات بمثابة استجابة لظروف خرافية معينة، قبل أن يتطور العقل البشري فيفهم الظواهر فهما علميا.
وكل هذه العقائد الدينية والتشريعات تكونت وترسخت مع مرور الزمن لأسباب يذكرونها.
وإذا كانت النصوص الدينية تنطلق من قاعدة إيمانية على وجود الله. وأن في الكون خيرا وشرا. والله يرسل رسله لهداية الناس وإرشادهم لطريق الخير وتحذيرهم من طريق الشر. ورتب جزاء في الآخرة لمن سلك طريق الخير أو الشر.
وهذا هو لب جميع الأديان وعليه تدور.
وتلقف العلمانيون النظرية الملحدة السابقة وروجوها كأنها حقائق مستنتجة في ضوء التحليل المخبري، مع أنها لا تعدو أن تكون آراء شخصية لها خلفيات إيديولوجية وإلحادية. فخلفها عقيدة مسبقة تتحكم فيها.
«بالرغم من ادعاءاتها بأنها ترتكز إلى منهج التحليل العلمي، فمنهج التحليل العلمي يصبح هنا، ليس أكثر من شعار زائف من بين الشعارات الزائفة العديدة التي عاشتها الساحة التقدمية العربية في العقود الأخيرة» . كما يقول تركي علي الربيعو في أزمة الخطاب التقدمي (70).
وللأسف لا توجد بحوث إسلامية رائدة في هذا الباب، وكثير من علمائنا المعاصرين مشغلون بتكرار الشروحات والبحوث والتحقيقات لما حقق مرارا، وهذا أصل إلحادي كبير، يدعي أصحابه ارتكازه على أصول علمية، لم يتفرغ أحد لدراسته دراسة وافية.
ولا زال علماؤنا على مر التاريخ هم الحامي الأول للأمة ومجاهد أعدائها في الصف الأول. حتى غدى فقهاؤنا المرجع الوحيد لكافة العقائد والفلسفات والنظريات السابقة، عرضا ونقدا وتاريخا.
وللأسف خَفَت دورهم اليوم وتقلص إلى علوم شرعية معينة، بينما تركت أبواب العلوم الإنسانية لفلاسفة الفكر الغربي ومقلديهم العرب.
ومنهم سيد القمامة القمني، فقد حكى في كتابه الأسطورة والتراث (24) أن هناك شبه اتفاق على أن الدين الابتدائي في ظهوره مثل الأسطورة، نشأ نتيجة الجهل المعرفي والأمل فيما هو أفضل من الحادث فعلا، مع بعض الخيال اللازم بالضرورة عن الجهل والأمل.
ثم حكى اتفاق العلماء (1) تقريبا على ترتيب مراحل الاعتقاد الرئيسة، بدءا من عبادة ظواهر الطبيعية، ثم عبادة الأجداد أو العكس في بعض المدارس، ثم عبادة أرواح نصف مادية، ثم عبادة آلهة متعددة، ثم إله قومي واحد، ثم إله عالمي. كما اتفقوا على أن ضعف الإنسان جسديا وعقليا اتجاه الطبيعة وامتنانه لعطائها كان الثغرة التي دخلت منها التصورات الدينية (2).
وذكر قبل أن هذا ما قاله العلماء الثقات (3).
وفي كتابه انتكاسة المسلمين إلى الوثنية (157) ذكر أن تطور الفكر البشري جاء على مراحل أولها الاستعانة بالسحر والتعاويذ والقرابين، ثم تعدد الآلهة، ثم توحيد الآلهة في إله واحد، إلى أن جاء التفكير العلمي مع الثورة الفرنسية (4).
وفي مقال «العلمانية ليست ضد الدين وهي مفتاح الحداثة المعاصرة» قال
(1) طبعا الغربيون الملاحدة، أولياء نعمته في أساطيره.
(2)
الأسطورة والتراث (25).
(3)
نفس المرجع (25).
مع أنه بعد هذا (27 - 28) اعترف بأن هناك ست مدارس لدراسة الأساطير، واعترف أنها متنافرة ومتعارضة.
(4)
وكرر نحو هذا مختصرا في انتكاسة المسلمين (290) وأهل الدين والديمقراطية (39).
العفيف الأخضر: معك الحق. الدين، كما تعلمنا سسيولوجيا الأديان، هو مجموعة من المعتقدات والشعائر تجيب عن حاجة الإنسان الهش اجتماعيا ونفسيا إلى الحماية الأبوية وإلى العزاء والسلوى كما يستجيب لحاجة نرجسية عميقة في اللاشعور هي الرغبة في قهر الموت بالخلود، إن لم يكن في هذه الحياة ففي حياة ثانية (1).
فالدين عند العفيف الأخضر هو حاجة نرجسية للإنسان الهش اجتماعيا ونفسيا كنوع من العزاء والسلوى للأوضاع التي يعيشها، أو لنقل بعبارة أوضح: إنه حالة مرضية يلجأ إليها العاجز والمقهور للتعويض عن بؤسه وحرمانه.
وهذا يقودنا إلى حقيقة مهمة، وهي التالية: الأسطورة جزء أصيل من بنية الخطاب الديني.
تقدم معنا أن جل العلمانيين على أن الأديان مرحلة فقط من مراحل تطور العقل البشري، بعد الأسطورة.
وفي ظل الأديان تمت إعادة صياغة الأساطير بأساليب مختلفة.
وما الإسلام إلا دعوة ناجحة من دعوات أخرى سبقته في توحيد العرب، تم مزج الأساطير القديمة فيه مع الموروث الديني الموجود في جزيرة العرب أو المحيط بها.
لكن ما هي الأسطورة عند العلمانيين العرب أنفسهم؟.
(1) الحوار المتمدن - العدد: 691 - 2003/ 12 / 23.