الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبما أنه وصل إلى قدر من العقلانية التي تخول له رفع الوصاية الشرعية عليه، فإنه ارتأى التحرر، بل لنقل التحلل من سلطة النص والتحول إلى سلطة العقل، وفي هذا نسخ لسلطة الإله وتثبيت لسلطة الإنسان، إنه نسخ للثوابت بالتيه والتحول، نسخ لسلطة السلف-النقل- بسلطة الخلف-العقل-إنه إلغاء للماضي بما هو سلطة، وهذا الرفض يفضي إلى رفض النص القرآني، ومن ثم إهدار له. إنها رغبة ممن يزعمون حماية النص القرآني إلى إهداره وسلبه صفة القدسية حتى نفعل فيه ما نشاء، وكل ذلك باسم التقدمية والإصلاح (1).
هكذا يكتب، بل يكذب قويسم. العقل ناسخ للنص، والعلمانية ناسخة لأحكام الشريعة.
قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
.
هذه القاعدة الفقهية أغضبت جل العلمانيين، حتى جعلها القمني وضعت في عصر التخلف لخدمة السلاطين، وأنها تفتح الاستخدام الانتهازي الصريح للدين، بل وتبرر للسلاطين آراءهم واتجاهاتهم، بل ونزواتهم (2).
مقاصد الشريعة
.
حذلق معظم العلمانيين حول مقاصد الشريعة لا بالمعنى الذي ذكره الشاطبي ومن تبعه، بل بمعنى: إمكانية تجاوز الفهم الحرفي للنصوص والنظر إلى ما وراء هذه النصوص من حكمة ومن مقاصد (3).
(1) رؤية معاصرة لعلوم القرآن.
(2)
رب الزمان (236).
(3)
تحديث الفكر الإسلامي (75).
وعند القمني الدين يتلخص في مقاصد الشريعة، التي تقدم على كافة النصوص، ومقاصد الشريعة تتلخص جميعا في جملة واحدة هي مصلحة العباد (1).
فكل ما حقق هذه المصلحة فهو شرع الله عنده، فتجارة الخمور والبغاء تحقق مصالح اقتصادية عظيمة، وتحريمها قديما كان استجابة لظروف معينة.
وإذا كان الفقهاء صاغوا نظرية المقاصد لحفظ الشريعة وأحكامها، وأن من مصلحة العباد حفظ الشريعة التي لا قوام للنفوس والأبدان إلا بها.
أما العلمانيون فجعلوا نظرية المقاصد تكأة لإفراغ الشريعة من كافة محتوياتها. فمثلا يعتبر العلمانيون أن ما شرعه الإسلام بالنسبة للمرأة من أحكام كان بداية الطريق وفتح الباب، فالمقصد الإسلامي من تلك النصوص هو تحرير المرأة، وبالتالي فكل ما أعان على تحريرها فهو هدف ومقصد إسلامي (2).
والشورى شرعها الإسلام للحد من الديكتاتورية، إذن المقصد هو تحقيق العدل، فكلما حقق هذا الهدف فهو مطلوب شرعا كالديمقراطية (3).
ليخلص إلى قاعدة إبليسية نصها: حيث تكون مصالح الناس فثم شرع الله تعالى (4). وهكذا قال محمد نور فرحات في البحث عن العقل (103 - 143 - 174).
وهكذا يمكن نسخ الإسلام كله بل وقراءة كل المذاهب بما فيها الإلحاد بل والعلمانية فيه، بدعوى تحقيق مصلحة العباد.
(1) انتكاسة المسلمين
(2)
الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية (10 - 11).
(3)
نفس المرجع (11 - 12).
(4)
نفس المرجع (12).
أما العشماوي فقد جعل الشريعة هي الرحمة فقط، وتطبيق الشريعة يعني إعمال مناهجها في الرحمة (1).
ويربط بعض العلمانيين بين نظرية المقاصد وتاريخية النصوص، بمعنى إذا كانت النصوص تاريخية، أي: كونها مرتبطة بظروف معينة وتستجيب لأوضاع معينة، وبالتالي تحقق مصالح معينة لأناس معينين في ظل ظروف معينة.
ومع تغير الوقائع التاريخية تتغير مصالح العباد تبعا ذلك، وبالتالي يتغير فهمنا للنصوص، فما كان حراما قد يعود حلالا، وما كان واجبا أو مستحبا قد يعود ممنوعا.
في هذا الإطار يؤكد لنا نصر أبو زيد أن مفهوم المقاصد لا يقف عند الحد الذي سطره الأصوليون، بل يتجاوزه إلى ما هو أوسع من ذلك.
فالعدل مثلا مقصد كلي أساسي يستوعب كل الجزيئات والتفاصيل بما فيها العقيدة والأخلاق (2).
وكل ما حقق العدل فهو إسلامي لاشك فيه في نظر الطاهر الحداد ومقلده أبي زيد، ولو أدى إلى إبطال أصول إسلامية مجمع عليها.
وبعد عبارات التأييد والإشادة لطرح الطاهر الحداد يتحفنا أبو زيد بأطروحته الهادفة إلى تقويض الإسلام والإجهاز عليه نهائيا، فلنتابع معه: قال: ومن البديهي أن هذه الأسئلة التي تستهدف الوصول إلى جوهر الإسلام لا تتعلق فقط بالنصوص الخاصة بالمرأة، بل تتعلق بكل ما جاء في النصوص من أحكام، هذا
(1) جوهر الإسلام (25).
(2)
دوائر الخوف (69).
من جهة، ومن جهة أخرى فالأسئلة مرهونة بطبيعة الإطار الاجتماعي الثقافي والفكري الذي يحددها، ولذلك يمكن أن تتغير الأسئلة، ويمكن أن تطرح أسئلة جديدة، ومعنى ذلك أن جوهر الإسلام ليس معطى ثابتا، بل هو جوهر قابل دائما للاستنباط وإعادة الاكتشاف بحسب تطور الوعي الإنساني. وهكذا نعود للجذر الأصلي- جذر وحدة المعرفة في خطاب النهضة- الذي يسمح للعقل بالحركة الدائمة الحرة دون حدود فاصلة عازلة بين الثابت والمتغير، أو بين الدنيوي والديني معرفيا
…
الخ كلامه بل هرائه (1).
وهو كلام في غاية الوضوح والظهور، لكن نبسطه باختصار: لا يجب في نظر أبي زيد أن نتقيد بأحكام الإسلام المعروفة، بل يجب أن ننظر في المقصد منها، وهذا المقصد أي: جوهر الإسلام متغير بتغير المجتمعات والظروف، فمثلا جوهر الإسلام يدور حول الحرية والعدل والمساواة (2). فكل ما رسخ الحرية والعدل والمساواة هو الإسلام. فالزنا واللواط إذا أصبحت مستساغة في مجتمع ما، فجوهر الإسلام هو الإبقاء عليها والدفاع عنها حسب أصول أبي زيد، لأنها حينئذ حرية شخصية تحقق العدل والمساواة في ظل القراءة النصراوية سيتم تحويل الإسلام اعتمادا على التأصيل إلى نسخة علمانية بامتياز.
إنها قراءة للإسلام بعيون علمانية، أو بعبارة أكثر دقة: ستتحول أصول العلمانية إلى مقاصد الشريعة، وبالتالي سيقضى على الإسلام لتحل محله العلمانية.
هنا تتكشف حقيقة قراءة أبي زيد إضافة إلى القراءات المختلفة التي يقدمها التيار العلماني (نقد العقل العربي، نقد العقل الإسلامي، نقد النص
…
الخ)، إنها
(1) دوائر الخوف (70).
(2)
دوائر الخوف (
قراءات نفعية براجماتية، تقوم بقراءة انتقائية لما يخدم مشروعها الإيديولوجي، قائمة على النفعية والانتهازية وتوظيف الدين لخدمة أغراضها وأهدافها.
فبدلا من آليات أصول الفقه العبقرية وقواعد الفقه وعلوم القرآن النموذجية، اخترع لنا العلمانيون قراءات مختلفة، ليس هدفها فهم النص وإنما تجاوز النص.
وكان لنصر أبي زيد القدح المعلى في هذا فتارة يحدثنا عن المغزى، وتارة عن مقاصد الشريعة وتحقيق مصلحة العباد، وتارة يحدثنا عن ما سماه القراءة السياقية للنصوص.
ولنشرح قليلا مراده بالأخيرة: فهو طبعا لا يقصد اعتبار السياق داخل النص، كما يذكر الفقهاء، لكنه شيء آخر أبعد وأخطر، إنه مجمل السياق التاريخي الاجتماعي للقرن السابع الميلادي الذي بواسطته نعرف كما يقول أبو زيد الفرق بين ما هو من إنشاء الوحي وبين ما هو من العادات والأعراف الدينية والاجتماعية السابقة على الإسلام (1).
ثم يزيدنا توضيحا فيبين أن القراءة السياقية بين الدلالات التاريخية من جهة، وبين المغزى الذي عليه المعنى في السياق التاريخي الاجتماعي (2).
وكمثال على ذلك فبحسب أبي زيد فالسياق التاريخي والاجتماعي والسياق السجالي والوصفي للنصوص الواردة في حق المرأة يتبين أن مقصد الإسلام هو المساواة بين الرجل والمرأة (3).
(1) دوائر الخوف (202)
(2)
دوائر الخوف (203)
(3)
دوائر الخوف (207)
فحسب أصول فقه أبي زيد فالمساواة بين الرجل والمرأة هي مقصد الإسلام ومغزاه، وكل ما يعكر صفو هذه المساواة (القوامة الإرث الطلاق) فكان استجابة لسياق اجتماعي معين، أو بعبارة أخرى حسب مفهوم السياق السجالي البوزيدي فالتمييز بين الرجل والمرأة في القرآن هو في إطار السجال القرآني ومساجلات القرآن مع أهل ذلك الزمان الذي يميز بين الرجل والمرأة (1).
يعني أن القرآن يجاريهم فقط ولا يشرع أحكاما للأمة.
وبالتالي فإن المساواة المطلقة هي الإسلام، وعليه تدل نصوص القرآن، إنها عملية تصفية الإسلام باسم القراءة السياقية أو السجالية أو الوصفية تحت ستار تطوير أصول الفقه (2). أو بالأحرى تزوير أصول الفقه.
وبعبارة ثالثة حسب مفهوم السياق الوصفي البوزيدي: فالقرآن في كل التشريعات كان يصف الأوضاع الاجتماعية العربية لا أنه يشرع لنا شرعا. فالرجال قوامون على النساء معناه أن القرآن يصف واقع حال العرب لا إنشاء تشريع (3).
فهدف القرآن هو تغيير مفهوم هذه القوامة (4).
هنا ينقلب المعنى إلى ضده. وماذا عن الميراث؟
يجيبنا أبو زيد أنه بحسب السياق التاريخي ودلالة المعنى والمغزى فكان القرآن يريد وضع حد للفوضى واستئثار الرجل بالميراث بفرض نصيب للمرأة المحرومة بهدف الاقتراب من تحقيق المساواة في أفق الحياة الاجتماعية. وكل اجتهاد في سبيل تحقيق هذه المساواة التي هي مقصد أصلي
(1) نفس المرجع (208)
(2)
نفس المرجع (202).
(3)
نفس المرجع (212).
(4)
نفس المرجع (214).
وهدف أسمى للحياة الدينية، إنما هو اجتهاد مشروع، أي: هو اجتهاد في اتجاه المقاصد الكلية للتشريعات كما يقول أبو زيد. وأي اجتهاد مخالف لهذا فهو مرفوض في نظر علامة الماركسية أبي زيد (1).
(1) نفس المرجع (233).