الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لحقيقته (1).
وأكد تيزيني أن البعد التاريخي في القرآن ليس تأويلا فقط ولكن تنزيلا (2).
فالقرآن تاريخي تنزيلا وتأويلا.
1 -
تاريخية القرآن نفسه
.
يقف أركون وتلميذه هاشم صالح ونصر أبو زيد على رأس المدافعين بقوة عن هذه المسألة، بل يمكن اختزال مشاريعهم (3) في إثبات هذه التاريخية.
ولنبدأ بأركون:
فقد أكد على تاريخية القرآن، وأن هذا شيء غير مفكر فيه أي: غير مسموح بالتفكير به (4).
وحسب أركون فالقرآن برع في التغطية على هذه التاريخية عن طريق ربط نفسه باستمرار بالتعالي التي يتجاوز التاريخ الأرضي كليا أو يعلو عليه (5).
وذكر في الصفحة قبلها خطأ الاعتقاد أن الوحي كما يزعم المسلمون إلهي سماوي لا علاقة له بالشؤون الأرضية، ولكن علم التاريخ الحديث كشف عن علاقة بين الكتب المقدسة وبين الحضارات التي وجدت فيها. وذكر أن هذا الاكتشاف الهام لا يقل خطورة عن اكتشافات داروين وكوبرينكوس (6). يقصد أن للبيئة دخلا في إنشاء القرآن وإحداثه، وليس هو بالضرورة شيئا علويا مفارقا.
(1) الإسلام الأخلاق والسياسة (179).
(2)
الإسلام والعصر (135). وانظر (104) منه.
(3)
مع أن هاشم صالح لا مشروع له إلا ممارسة «التبشير» العلماني.
(4)
القرآن من التفسير الموروث (21 - 37 - 47 -
(5)
القرآن من التفسير الموروث (21).
(6)
القرآن من التفسير الموروث (20).
وباختزال شديد هذا الكشف العلمي الهام (!!) هو ما قاله المشركون من قبل: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} الفرقان5.
وبيَّن تلميذه ومترجمه بإشرافه أن مفهوم التاريخية يعني أن البشر هم الذين يصنعون التاريخ وليس القوى الغيبية، والتاريخ كله بشري من أقصاه إلى أقصاه، كما قال (1).
وأكد أركون أنه في ظل ما سماه التاريخوية الوضعية «وحدها الأحداث أو الوقائع أو الأشخاص الذي وُجدوا حقيقة والذين دلت على وجودهم وثائق صحيحة» يمكن أن يقبلوا كمادة للتاريخ الحقيقي الفعلي (2).
يعني استبعاد الماورائيات والغيبيات، أي: استبعاد مسألة «الله» «والوحي» و «جبريل» وما إلى ذلك.
وهو ما عبر عنه أركون بغير وجل بعد كلامه السابق مباشرة فقال: وهذا يعني استبعاد كل العقائد والتصورات الجماعية التي تحرك المخيال الاجتماعي أو تنشطه من ساحة علم التاريخ (3).
وهذا كلام في غاية الوضوح.
لكن أركون ومع إعجابه بهذه المنهجية إلا أنه أخذ عليها إهمالها أن هذه العقائد رغم تاريخيتها فلا يمكن تجاهل دورها الحاسم في تغذية الديناميكية التاريخية، وبالتالي تجاهلت المكانة الانتربولوجية للخيال (4).
فالخيال في نظره هو مصدر كل هذه الأساطير والماورائيات والغيبيات،
(1) نفس المرجع (47).
(2)
نفس المرجع (49).
(3)
نفس المرجع (49).
(4)
نفس المرجع (
وأحيانا يسميه المخيال.
والفرق بين المدرستين أن الوضعية تعتبر الخيالات والتصورات والعقائد أشياء وهمية لا تستحق الاهتمام، بينما يرى الآخرون أن لها أهمية في مسار التاريخ مع اتفاقهما جميعا على خرافيتها.
وقال عن القرآن بعد أن سماه الموديل النموذجي: يمكننا الكلام عن إنتاج هذا الموديل النموذجي وليس عن إنتاجيته، أقصد يمكننا التحدث عن توليده واللحظة التي ولد فيها. باختصار يمكننا التحدث عن تاريخيته (1).
وقال هاشم صالح: لقد آن الأوان للكشف عن تاريخية النص القرآني وإنزاله من تعاليه الفوقي إلى الواقع الأرضي المحسوس، آن الآوان للكشف عن علاقته بظروف محددة تماما في شبه الجزيرة العربية وفي القرن السابع الميلادي (2).
ونقل عن هانز كونغ (78 - ووافقه هو مؤكدا ص 80) تشكيكه في نزول القرآن من عند الله، وأن تأتير اليهودي والمسيحي واضح فيه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أميا. قال هاشم معلقا: هذا في حين أن القرآن مفعم بأصداء اليهودية والمسيحية وقصص عيسى وموسى ومريم وزكريا ويوسف وداوود ويعقوب والأسباط
…
إلخ. يريدون تنظيف التراث من الإسرائيليات والقرآن نفسه مليء بالإسرائيليات (78).
وأكد تبعا للمستشرق هانز كونغ أن أخبار أنبياء اليهود والمسيحيين المذكورة في القرآن تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم شفاهيا في مكة، وأن هذا ما يؤكد تاريخية القرآن طبقا لمنهج النقد التاريخي وإن صدمت الوعي الإسلامي.
(1) الفكر الإسلامي (107).
(2)
الإسلام والانغلاق اللاهوتي (248).
هكذا يصطف المرعوب طول حياته -كما قال عن نفسه- في صف أعداء الإسلام وملاحدة الغرب طاعنا في دينه وقرآنه.
أما أبو زيد فطرحه قريب من طرح أركون.
يقول: الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكوَّن النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفعالية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا والواقع ثانيا والواقع أخيرا (1).
وبإهمال الواقع الذي تكَوَّن منه النص القرآني سنكون أمام كارثة حقيقية كما يقول أبو زيد، قال: إهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة، يتحول النص إلى أسطورة عن طريق إهدار بعده الإنساني والتركيز على بعده الغيبي (2).
فالقرآن حسب نصر أبي زيد تشكل من الواقع وخرج منه، لا أنه نزل من السماء.
وقد غفل علماء الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وعلماء القرآن وآلاف العلماء في شتى التخصصات عن كل هذا حتى أنقذنا الله بمن حكمت محكمة القاهرة بردته من هذا الضلال المبين!!.
وإذا كان القرآن خرج من الواقع الثقافي المعرفي للوعي العربي في القرن السابع، ما هي أهم المؤثرات التي كانت خلف تشكله؟.
يجيبنا أبو زيد بأن الحنيفية كدين سائد وشعر شعراء الصعاليك لا يمكن
(1) نقد الخطاب الديني (106). وانظر مفهوم النص له (67).
(2)
نقد الخطاب الديني (106).
التغافل عن مدى تأثيرها في النص القرآني (1).
وكذا نصوص الكهانة والسحر، فقد وظف آليات تعبيرية وأسلوبية تنتمي لها (2).
وأما القصص الشفاهية فقد قام القرآن باستيعابها، وإعادة توظيفها وتأويلها تأويلا ناطقا بإيديولوجية النص.
وأما النصوص الدينية الأخرى فقد اعتمد القرآن والسنة الانتقائية وإعادة التوظيف والتأويل (3).
إذن فالقرآن حسب أبي زيد تتداخل فيه مؤثرات معاصرة له كثيرة: الدين القرشي السائد، وشعر الصعاليك، وثقافة الكهانة والسحر، والحكايات الأسطورية، ونصوص الديانات الأخرى كالتوراة والإنجيل.
فالقرآن خليط من كل هذا.
ولا حديث عند نصر أبي زيد عن الله والوحي وجبريل.
فكل هذه المفاهيم تنتمي إلى الخطاب الميثي الأسطوري يتَرَفع الناقد الحديث عن التعريج عليها أو الحديث عنها كقوى غيبية متعالية تقف خلف القرآن.
وإذا كنا نحن المسلمون نعتقد أن الإسلام جاء ليحارب الكهانة ويقطع معها أية صلة، فإن نصرا أبا زيد له رأي آخر، قال بعد أن ذكر أن العرب كانوا يعتقدون بالكهانة والاتصال بالجن: ظاهرة الوحي -القرآن- لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع أو تمثل وثبا عليه وتجاوزا لقوانينه، بل كانت جزءا من مفاهيم الثقافة ونابعة من مواضعاتها وتصوراتها (4).
(1) النص والسلطة والحقيقة (100).
(2)
النص والسلطة والحقيقة (101).
(3)
النص والسلطة والحقيقة (101).
(4)
مفهوم النص (34).
ويستنتج أبو زيد أن الإسلام لم يلغ الكهانة، بل استند إليها لسببين:
الأول: إن إلغاء الكهانة يستلزم إلغاء أساس النبوة الوجودي، ومن ثم تصبح ظاهرة النبوة ذاتها في حاجة إلى تفسير جديد.
والثاني: إن الكهانة والعرافة كانتا معيارا لدى العرب ما قبل الإسلام لإثبات حقيقة النبوة من جهة، وكانت وسيلة للتنبؤ بالنبي الجديد المرتقب من جهة أخرى (1).
وهكذا تقلب الحقائق رأسا على عقب، وكل هذا لا يهم في نظر أبي زيد ما دام يحقق الهدف المطلوب، إنه ما سماه بعض العلمانيين بإرادة الإيديولوجيا، بدل إرادة المعرفة.
لكن لا بأس أن نقف على شهادات لثلاثة علمانيين في أطروحة نصر أبي زيد هذه، لنؤكد من خلالها مذهب الرجل الذي ناضل طول حياته لنصره والذوذ عنه، وهو بشرية القرآن الكريم.
الأولى: يبين لنا إلياس قويسم في النص التالي كيف حاول أبو زيد رفع الصبغة الإلهية عن الوحي وربطها بأنساق مادية تاريخية، قال: نجد أن نصر حامد من خلال السيميوطيقا ينظر إلى البعد الأول «الوحي» على أنه تجربة إنسانية، وأنه مجموعة من العناصر تتآلف وتتسق طبقا لقوانين منضبطة، فلا بد من تحليل تلك العناصر الكامنة وراء ظاهرة الوحي، وهذا التحليل يؤدي إلى استخلاص العلاقات التي تربط هذه العناصر ببعضها، ومن ثم معرفة النظام الكامن وراء الوحي، ونعني به الثقافة: الكهانة والعرافة والشعر
(1) مفهوم النص (39).
والسحر
…
ومن ثمّ لم تعد غاية نصر حامد البحث في ظاهرة الوحي ذاتها بل أصبحت له غاية أعمق، وهي الكشف عن النظام المادي الذي يحكم الظاهرة، إنه سعي وراء التجريد، وراء البحث عن النظم الخفية التي تسير الظواهر والتي يعتقد العامي أو الفقيه السلفي أنها ظواهر عُلوية مفارقة (1).
وقال: ممّا ورد ندرك أن نصر حامد بتشبثه بمقولة الواقع وتقديمها على مقولة المتعالي المفارق يبتغي تسطيح تعالي الوحي، وهذا نقيض النظرية المتداولة، وهذا الهجوم على النظرية التقليدية في نظره أساسي لتحرير الفكر الديني من التعالي الزائف والوهمي والرجوع به إلى أرض الواقع، أرض الحقيقة (2).
والثانية: يشرح لنا فيها العلماني اللبناني علي حرب مقصد أركون بتاريخية القرآن، وأنه يريد أنه نص بشري لا إلهي.
قال عنه: وذلك بتعامله مع النص القرآني على أنه نتاج ثقافي، أنتجه الواقع الذي تشكل فيه، أي: واقع العرب اللغوي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي في زمن النبوة (3).
وقال عن ترديده عبارات قد يفهم منه اعترافه بألوهية مصدره: بيد أن هذا التصريح هو ضرب من التقية، أي: آلية دفاعية يلجأ إليها أبو زيد بوعي أو بغير وعي، لكي يدرأ عنه تهمة الإنكار (4).
(1) تشتت النص القرآني. نسخة رق
(2)
نفس المصدر.
(3)
الممنوع والممتنع (173).
(4)
نفس المرجع (173).
وقال: فالباحث المصري يتعامل في النهاية مع النص القرآني كنتاج ثقافي مرتبط بالثقافة التي تشكل من خلالها، تماما كما يتم التعامل مع أيّ خطاب بشري (1).
وقال: يعتبر أبو زيد أن القرآن نتاج ثقافي لا يفارق قوانين الواقع ولا يسبق بوجوده وجود هذا الواقع، أي: لا يوجد على نحو مسبق ذلك الوجود الغيبي الماورائي في اللوح المحفوظ (2).
والثالثة: لتركي علي الربيعو فقد رد على نصر أبي زيد ادعاءاته حول القرآن (3).
ومما استدل به أن الأبحاث الحديثة في علم الإناسة التي طالت النصوص المقدسة أنه نص مقدس وليس نصا أدبيا يماثل النصوص الشعرية، إنه أكثر من نص حسب تعبير كلود ليفي ستروس (4).
وليس القرآن انعكاسا لواقع أو أنه ثمرة تفاعل جدلي بين اللغة والواقع، كما يحلو للدكتور أبو زيد الركض وراء هذا الصنم الفكري (5).
وقال عن ادعاءات أبي زيد أن النص القرآني ثمرة لتفاعل جدلي بين النص والواقع: تفضح الخلفية المرجعية للباحث، وتثبت بالمقابل هيمنة قَبْليات المعرفة وغياب كل شروط وإمكانيات انبعاث الفكر. إن اتكاء أبو زيد على الدراسات
(1) نفس المرجع (173).
(2)
نفس المرجع (173).
(3)
الحركات الإسلامية (150 - 151).
(4)
الحركات الإسلامية (150).
(5)
الحركات الإسلامية (151).
الألسنية عند جاكبسون وسوسير مع إعادة توظيفها لصالح ماركسوية هرمة وشائخة تظهر بصورة مضمرة في خطاب أبو زيد مرة، وعلنية مرات عديدة، عندما يتحدث عن جدلية العلاقة بين النص والواقع التي هي بمثابة صنم فكري لما يمل الفكر العربي المعاصر من عبادته. وهذا ما قاده إلى الابتعاد عن المفاهيم الحديثة وأقصد المنظومات الجمالية في عصر ما بعد الحداثة تحت وطأة إرادة الإيديولوجيا ببعدها السياسي المكشوف الحاضر بكل عريه في خطاب أبو زيد (1).
(1) الحركات الإسلامية (153).