الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكتاب (علل النحو) لأبي الحسن محمد بن عبد الله، المعروف بابن الوراق، والمتوفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة من الهجرة، وكتاب (شرح علل النحو) لأبي العباس أحمد بن محمد المهلبي من أعلام القرن الرابع الهجري، وكان معاصرًا لعلي بن أحمد المهلبي المتوفى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة من الهجرة، وكتاب (تقسيمات العوامل وعللها) لأبي القاسم سعيد بن سعيد الفارقي، المتوفى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة من الهجرة على أن أكثر هذه الكتب لم يصل إلينا.
ويتابع الدكتور مازن المبارك حديثه عن تطور العلة النحوية بعد القرن الرابع الهجري، ذاكرًا أنه لم يأتِ بعد القرن الرابع الهجري من زاد في العربية شيئًا على أهل هذا القرن، وأن ما ظهر بعد ذلك من كتب ومؤلفات في هذه العلوم لا يعدو أن يكون شرحًا أو تفصيلًا لها، أو اختصارًا وتهذيبًا، أو استدراكًا وتعليقًا عليها. لم يشذ عن ذلك إلا من تفرَّد برأي أو منهج كابن هشام الأنصاري صاحب (مغني اللبيب)، ثم أشار إلى بعض من تتابعوا على مر القرون ممن ضربوا في العلة النحوية بسهمٍ وافر.
أبرز العلماء المهتمين بالعلة النحوية في القرن الرابع الهجري
إن أبرز العلماء الذين اهتموا بالعلة النحوية في القرن الرابع وما تلاه من قرون لا يكاد يحصرهم عدٌّ، بيد أننا سنقصر حديثنا على سبعة من كبار علماء هذا القرن، وهم بحسب ترتيب وفياتهم: الزجاج، وابن السراج، والزجاجي، والسيرافي، والفارسي، والرماني، وابن جني.
أما الزجاج: فهو أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل، ولقب بالزجاج لأنه كان يخرط الزجاج في حداثته، وهو من علماء بغداد الذين غلبت عليهم النزعة
البصرية، وتوفي ببغداد في العام العاشر بعد الثلاثمائة من الهجرة، وكان يُعنى بالتعليل عناية فائقة، كانت محل إعجاب العلماء من بعده ومن تعليلاته:
أولًا: ما ذكره تلميذه أبو القاسم الزجاجي في كتابه الموسوم بـ (الإيضاح في علل النحو) في باب القول في الفعل والمصدر، أيهما مأخوذ من صاحبه، فقد حكى عنه انتصاره لمذهب البصريين فقال بعد عرضه عددًا من الأدلة التي تشهد للبصريين قال الزجاجي:"دليل آخر للبصريين، كان شيخنا الزجاج رحمه الله يستدل به قال -أي: الزجاج: لو كان المصدر بعد الفعل وكان مأخوذًا من الفعل؛ لوجب أن يكون لكل مصدر فعل قد أُخذ منه أي: قد أخذ هذا المصدر من ذلك الفعل، لا محيص عن ذلك ولا مهرب منه، فلما رأينا في كلام العرب مصادر كثيرة لا أفعال لها البتة مثل: العبودية، والرجولية، والبنوة، والأمومة، والأموة، وما أشبه ذلك مما يطول تعداده من المصادر التي لم تؤخذ من الأفعال، ورأينا في كلامها أيضًا مصادر جارية على غير ألفاظ أفعالها نحو: الكرامة، والعطاء، وما أشبه ذلك؛ علمنا أنه ليست الأفعال أصولًا للمصادر يعني: كما قال الكوفيون؛ إذ كانت المصادر توجد بغير أفعال، وعلمنا أن المصادر هي الأصول؛ فمنها ما أُخذ منه فعل، ومنها ما لم يُؤخذ منه فعل، وهذا بين واضح" انتهى.
ثانيًا: ما أورده ابن جني في (الخصائص) عن الزجاج من تعليله لرفع الفاعل ونصب المفعول قال: "قال أبو إسحاق -أي: الزجاج- في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلَّا عُكست الحال فكانت فرقًا أيضًا، يعني: هلَّا رفع المفعول ونصب الفاعل فكان الرفع هنا والنصب هناك فرقًا بين الفاعل والمفعول، قيل -يعني: في الجواب:
الذي فعلوه أحزم أي: أشد حزمًا، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة فرُفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون" انتهى.
وأما ابن السراج فهو أبو بكر محمد بن السري النحوي البغدادي، الذي غلبت عليه النزعة البصرية، والمتوفى في العام السادس عشر بعد الثلاثمائة من الهجرة، كان من أحدث تلاميذ المبرد سنًّا، ولكنه كان شديد الذكاء حاد الذهن، قال عنه (صاحب المدارس النحوية):"وكان يعنى عناية واسعة بعلل النحو ومقاييسه، وفيهما صنف كتاب (الأصول الكبير) يعني به كتاب (الأصول في النحو)، انتزعه من كتاب سيبويه وأضاف إليه إضافات بارعة، ويقال: إنه جعله تقاسيم على طريقة المناطقة، ولم يكتفِ فيه بآراء سيبويه، فقد ضمَّ إليه كثيرًا من آراء الأخفش الأوسط والكوفيين موازنًا ومقارنًا" انتهى. وقد سبق قول ابن السراج: "واعتلالات النحويين على ضربين: ضرب منها هو المؤدي إلى كلام العرب كقولنا: كل فاعل مرفوع، وضرب آخر يسمى علة العلة مثل أن يقولوا لم صار الفاعل مرفوعًا، والمفعول به منصوبًا
…
" إلى آخر ما قال، ونورد هنا مثالين من تعليلاته.
المثال الأول: يدلل على فعلية ليس مع عدم تصرفها تصرف الأفعال يعني: لأنه لا يأتي منها مثلًا المضارع والأمر واسم الفاعل، وبقية المشتقات، يقول في كتابه (الأصول في النحو): "فأما ليس فالدليل على أنها فعل، وإن كانت لا تتصرف تصرف الأفعال قولك: لست كما تقول: ضربت، ولستما كضربتما، ولسنا كضربنا، ولسن كضربن، ولستن كضربتن، وليسوا كضربوا، وليست أمة الله
ذاهبة كقولك: ضربت أمة الله زيدًا"، يعني يقول: إن الدليل على فعلية ليس أنها تسند إلى الضمائر على حد إسناد بقية الأفعال إلى الضمائر، كما تتصل بها نون التوكيد، وتتصل بها نون النسوة، وتتصل بها أيضًا تاء التأنيث الساكنة، قال: "وإنما امتنعت من التصرف؛ لأنك إذا قلت: كان دللت على مضى، وإذا قلت: يكون دللت على ما هو فيه وعلى ما لم يقع أي: على الحال وعلى الاستقبال، وإذا قلت: ليس زيد قائمًا الآن أو غدًا أدَّت ذلك المعنى الذي في يكون، فلما كانت تدل على ما يدل عليه المضارع؛ استغني عن المضارع فيها، ولذلك لم تبنَ بناء الأفعال التي هي من بنات الياء مثل باع وبات" انتهى.
والمثال الثاني: قاله الزجاجي في (الإيضاح في علل النحو) في الأدلة التي ذكرها للانتصار للبصريين في قضية أيهما الأصل في الاشتقاق الفعل أم المصدر، قال الزجاجي:"دليل آخر للبصريين كان أبو بكر بن السراج يستدل به قال: لو كانت المصادر مأخوذة من الأفعال جارية عليها؛ لوجب ألا تختلف كما لا تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين الجارية على أفعال نحو: ضارب ومضروب، وشاتم ومشتوم، ومكرم ومكرم، وما أشبه ذلك مما لا ينكسر، ورأينا المصادر مختلفها أكثر مما جاء منها على الفعل كقولنا: شُربًا وشَربًا ومَشْربًا وشَرَابًا، وعدل عن الحق عدْلًا وعُدُولًا وما أشبه ذلك، علمنا أنها غير جارية على الأفعال، وأن الأفعال ليست بأصولها" انتهى.
وأما الزجاجي فهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق من نهاوند، قدم بغداد وسمع من ابن السراج والأخفش، ولازم الزجاج فنُسب إليه، وسكن بدمشق، وانتفع الناس بعلمه حتى توفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة هجرية بدمشق، ومما قاله فيه الدكتور شوقي ضيف في مقدمة الكتاب الذي ألفه أبو القاسم الزجاجي
الموسوم بـ (الإيضاح في علل النحو) قال: "وقد جمع الزجاجي في هذا الكتاب العلل النحوية التي عرفت حتى عصره، سواء ما اتصل منها بالحدود وأحكام الإعراب، وما اتصل منها بالفروض والظنون الجدلية، ونثر في تضاعيف ذلك بعض آرائه غير متحيف -أي: غير متنقص أو ظالم- لآراء من سبقوه من البصريين والكوفيين والبغداديين، فهو يعرض آراءهم وعللهم في دقة وتحرٍّ شديد، وقد يتدخل ورائده الإنصاف، فيؤثر رأيًا على رأي، أو علة على علة، وقد يترك ذلك للقارئ ما دامت لم تستبن له الحجة الصحيحة التي يحكم على أساسها بين الطرفين المتعارضين"، انتهى.
ويقول أبو القاسم في مقدمة كتاب (الإيضاح) متحدثًا عن موضوع كتابه وسبب تأليفه: "وهذا كتاب أنشأناه في علل النحو خاصة، والاحتجاج له، وذكر أسراره، وكشف المستغلق من لطائفه وغوامضه دون الأصول؛ لأن الكتب المصنفة في الأصول كثيرة جدًّا، ولم أر كتابًا إلى هذه الغاية مفردًا في علل النحو، مستوعبًا فيه جميعها، وإنما يُذكر في الكتب بعقب الأصول الشيء اليسير، منها مع خلو أكثرها منها".
ولقد تحدثنا عن تقسيمه علل النحو إلى ثلاثة أنواع: تعليمية، وقياسية، وجدلية نظرية، وعرفنا أن العلل التعليمية: هي العلل الأولى التي يتوصل بها إلى تعلم كلام العرب، ويرى أستاذنا المرحوم الدكتور شوقي ضيف أن العلل التعليمية: هي التي يحتاجها الناشئة في تعلم النحو، أما المتخصصون فإنهم عليهم أن يتحملوا عبء دراسة جميع هذه الأنواع من العلل النحوية؛ إذ من الواجب أن يُعنى المتخصصون في النحو بدراسته في صورته القديمة، وكل ما داخلها من فلسفة العلة؛ حتى يتبينوا تطوره وما شُفع به هذا التطور من جهود عقلية خصبة، جعلت بعض المستشرقين يشيد بما تم لهذا العلم على أيدي أسلافنا من نضج وإكمال يحق للعرب أن يفخروا به.
وأما السيرافي فهو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، ولد بسيراف من بلاد فارس، وكان أبوه مجوسيًّا فأسلم، وسماه ابنه السيرافي عبد الله، وتوفي ببغداد سنة ثمان وستين وثلاثمائة من الهجرة، وهو أحد الأئمة المعروفين في النحو واللغة والفقه والكلام، وقد تناول علوم العربية ومهر فيها حتى أصبح من مشاهير أئمتها، وأصحاب الرأي فيها، ويمثل شرحه لكتاب سيبويه مصدرًا أساسيًّا من مصادر دراسة العلة النحوية عند النحاة حتى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ويقول عن شرحه لكتاب سيبويه صاحب (المدارس النحوية):"وكان السيرافي يتوسع في التعليل توسعًا أسعفه فيه عقله الجدلي الخصب، فليس هناك شيء علله النحاة إلا وتُذكر عللهم فيه، وتضاف إليها علل جديدة، وما لم يعللوه حاول جاهدًا أن يجد له علة، أو عللًا تسنده" انتهى.
علم آخر من هؤلاء الأعلام وهو الفارسي أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي أبًا، أما أمه فهي عربية سدوسية من سدوس شيبان، نشأ بفسا من أرض فارس، ثم ورد بغداد فأخذ النحو عن الزجاجي وابن السراج ومبرمان، وغيرهم، وتوفي بعد حياة حافلة بالدراسة والتأليف ببغداد سنة سبع وسبعين وثلاثمائة من الهجرة، قال عنه صاحب (المدارس النحوية):"وكان عقل أبي علي من الخصب بحيث ملأ نفس ابن جني تلميذه، حين ألمَّ بالموصل من جميع أقطارها، وهو يكثر من ذكر آرائه في كتابه (الخصائص) وغيره، حتى ليبدو كأنه كان كنزًا سائلًا بمسائل اللغة والنحو، وما يجري فيها من ضبط الأصول وضبط الأقيسة، والعلل"، انتهى.
وقد امتلأت نفس ابن جني إعجابًا بأستاذه أبي علي، وقدرته على انتزاع العلل، فيقول في (الخصائص): "وقلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي رحمه الله وقد أفضنا في ذكر أبي علي، ونُبل قدر، ونباوة محله: أحسب أن أبا علي
قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث جميع ما وقع لجميع أصحابنا، فأصغى أبو بكر إليه، ولم يتبشع هذا القول عليه" انتهى.
وقال ابن جني معبرًا عن شديد إعجابه بأقيسة شيخه وعلله قال: "ولله هو، وعليه رحمته، فما كان أقوى قياسه، وأشد بهذا العلم أنسه، فكأنه إنما كان مخلوقًا له، وكيف كان لا يكون كذلك، وقد أقام على هذه الطريقة مع جِلَّة أصحابها وأعيان شيوخها سبعين سنة، زائحة علله، ساقطة عنه كلفه، وجعله همه، وسَدَمه، لا يعتاقه عنه ولد، ولا يعارضه فيه متجر، ولا يسوم به مطلبًا، ولا يخدم به رئيسًا، إلا بأخرة، وقد حط من أثقاله، وألقى عصا ترحاله" انتهى.
وعن احتفاء أبي علي بالقياس يقول عنه تلميذه ابن جني: "قال لي أبو علي رحمه الله بحلب سنة ست وأربعين: أخطئ في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في مسألة واحدة في القياس". أما ابن جني: فهو أبو الفتح عثمان بن جني، وكان أبوه جني روميًّا يونانيًّا، وكان مملوكًا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي، ولد بالموصل وتلقى عن علمائها، وتوفي ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، يقول عنه سعيد الأفغاني في كتابه (في أصول النحو):"أما إذا وصلنا إلى ابن جني فقد تبوأنا ذروة القياس، لقد كان أعلى علماء العربية كعبًا في جميع عصورها، وأغوصهم عامة على أسرار العربية، وأنجحهم في الاهتداء إلى النظريات العامة فيها، وكتابه (الخصائص) لا يزال محط إعجاب علماء العرب والغرب على السواء".
ويرى الدكتور مازن المبارك أن ابن جني وقف أمام علل النحو وقفة طويلة يدرس ويصف، ويحلل ويصنف، فأتى بما لم يسبق إليه من قبل، وما لم يلحق فيه من بعد. إن اهتمامه بالعلة أمر لافت للأنظار، مثير للإعجاب، ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على العناوين التي تقرب من عشرين عنوانًا، والتي تضمنت بحوثًا عن
العلة في كتاب (الخصائص) بأجزائه الثلاثة؛ لنتبين مدى هذا الاهتمام الفائق وتلك العناية الرائعة بأمر العلة النحوية.
لقد كان هم أبي الفتح في كتاب (الخصائص) كما أوضح محقق الكتاب -طيب الله ثراه- كان همه إظهار حكمة العرب وسداد مقاصدهم فيما أَتَوا في لغتهم، وكان ذلك بإبداء العلل لسننهم، وخططهم في تأليف لسانهم؛ فأخذ نفسه في تقوية العلل التي تُنسب إلى أفعالهم، وتحمل عليهم، وهو ما يقوم به النحويون، وكان من دواعي ذلك وأسبابه ما اشتهر بين الناس من ضعف علل النحو، فهذا ابن فارس يقول:
مرت بنا هيفاء مجدولة
…
تركية تنمى لتركي
ترنو بطرف فاتر فاتن
…
أضعف من حجة نحوي
فغاية ابن جني -رحمه الله تعالى- إذن أن يُبين حكمة العرب في لغتهم، وأن يرد على من ضرب بعلل النحويين المثل في الضعف، ولذلك عقد في الكتاب بابًا خاصًّا عنوانه: باب في الرد على من اعتقد فساد علل النحويين؛ لضعفه هو في نفسه عن إحكام العلة، وذكر فيه أن سبب هذا الاعتقاد أنه لا يعرف أغراض القوم، فيرى لذلك أن ما أوردوه من العلة ضعيف واهٍ ساقط غير متعال، وهو يدافع عن العلة النحوية التي توصل إليها حُذاق النحويين، ويبين فائدتها، فيخصص بابًا عنوانه: باب في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها، وحملناه عليها، ويقول فيه:"اعلم أن هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة، وللنفس به مسكة وعصمة؛ لأن فيه تصحيح ما ندَّعيه على العرب من أنها أرادت كذا لكذا، وفعلت كذا لكذا، وهو أحزم لها، وأجمل بها، وأدلُّ على الحكمة المنسوبة إليها من أن تكون تكلفت ما تكلفته من استمرارها على وتيرة واحدة، وتقريها منهجًا واحدًا، تراعيه وتلاحظه، وتتحمل لذلك مشاقه، وكُلفه، وتعتذر من تقصير إن جرى وقتًا منها في شيء منه".
ثم هو يدعو إلى التعليل النحوي ويشجع عليه ويقول: "فكل من فُرق له عن علة صحيحة، وطريق نهجة كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره"، وهو يحدد الفروق الدقيقة بين العلة النحوية والعلل في العلوم الأخرى، فيذكر أن علل الحذاق المتقنين من النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنهم يُحيلون على الحس، ويحتجون بثقل الحال أو خفتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه، وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات؛ لوقوع الأحكام، ووجوه الحكمة فيها خفية عنا، غير ظاهرة لنا، ويوضح أن الشريعة إنما جاءت من عند الله تعالى، ومعلوم أنه سبحانه لا يفعل شيئًا إلا ووجه المصلحة والحكمة قائم فيه، وإن خفيت عنا أغراضه ومعانيه، وليس كذلك حال اللغة، ويذكر أنا قد نجد أيضًا في علل الفقه ما يضح أمره، ونعرف علته نحو: رجم الزاني إذا كان محصنًا، وحدِّه إذا كان غير محصن، وذلك لتحصين الفروج وارتفاع الشك في الأولاد والنسل، وزيد في حد المحصن على غيره لتعاظم جرمه، وجريرته على نفسه.
وكذلك إقادة القاتل بمن قتله لحقن الدماء، وكذلك إيجاب الله الحج على مستطيعه؛ لما في ذلك من تكليف المشقة ليستحق عليها المثوبة، وكذلك نظائر هذا كثيرة جدًّا؛ بيد أن ما كانت هذه حاله من علل الفقه فهو أمر قائم في النفوس قبل ورود الشريعة به، ثم يقول:"واعلم أنا مع ما شرحناه وعُنينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل الفقه، وإلحاقها بعلل الكلام، لا ندَّعي أنها تبلغ قدر علل المتكلمين، ولا عليها براهين المهندسين غير أنا نقول: إن علل النحويين على ضربين أحدهما: واجب لا بد منه، لأن النفس لا تطيق في معناه غيره، والآخر: ما يمكن تحمله إلا أنه على تجشم، واستكراه له"، انتهى.
هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.