الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قل عملها جدًّا، وكان الأكثر إهمالها. كما يبطله أن الحرف إذا رُكب مع حرف آخر خرج كل منهما عن حكمه، وثبت للمركب بالتركيب حكم آخر غير الحكم الذي كان لأجزائه التي رُكب منها. والقول الرابع: وهو أن عامل النصب هو أن المقدرة قول مردود كذلك؛ إذ يبطله أن أن لا تعمل مقدرة، وإنما تعمل ظاهرة، وإذا بطلت هذه الآراء الثلاثة؛ تعين القول الأول، وهو أن عامل النصب في المستثنى هو الفعل المتقدم بتقوية إلا، ويدل على صحة هذا القول أن أصل العمل يكون للفعل إلا أن الفعل لا يصل إلى المعمول بنفسه، وإنما يصل بإلا، فكان الفعل هو العامل لكن بواسطتها، ويشهد لصحة هذا القول وجود النظير، وهو عامل النصب في المفعول معه؛ فإنه الفعل المتقدم بواسطة الواو على الرأي الراجح من آراء النحويين.
وخلاصة ما سبق: أن السبر والتقسيم مسلك من مسالك العلة عند النحويين، وأن الأقسام المحتمل منها ما يصلح فيبقى، وما لا يصلح فينفى.
مسلك المناسبة
المسلك الخامس من مسالك العلة طبقًا لما ورد في (الاقتراح) هو المناسبة، وقد ذكر السيوطي أن المناسبة تسمى أيضًا الإخالة؛ لأن بها يُخال -أي: يظن- أن الوصف علة، ويسمى قياسها قياس علة. قال ابن الطيب في (الفيض):"قوله: الإخالة بالخاء المعجمة، كأنه مصدر أخاله أي: صيره خائلًا أي: ظانًا كما أشار إليه"، انتهى. ومعنى ما ذكره السيوطي وابن الطيب أن هذا المسلك طريقه غلبة الظن والإخالة، وأن المتكلم بالعلة قد سلك إلى الوصول إليها طريق القياس على الأصل، وقد غلب على ظنه أنها العلة للحكم في الفرع المسئول عنه، ومن هنا كان قياسها كما قال السيوطي قياس علة.
وقد عرف السيوطي تبعًا لأبي البركات الأنباري هذا القياس بأنه حملُ الفرع على الأصل بالعلة التي عُلِّق عليها الحكم في الأصل، ومثَّل له بحمل ما لم يُسمَّ فاعله، وهو النائب عن الفاعل في الرفع بعلة الإسناد، وبحمل المضارع يعني: عند خلوه من نوني التوكيد والنسوة على الاسم في الإعراب بعلة اعتوار أي: توارد المعاني عليه. وذكر الأنباري في الفصل الرابع عشر من (لمع الأدلة) أنه يُستدل على صحة العلة بشيئين: التأثير وشهادة الأصول، فأما التأثير فهو وجود الحكم لوجود العلة، وزواله لزوالها، وذلك مثل: أن يُدل على بناء الغايات كقبل وبعد على الضم باقتطاعها عن الإضافة، فإذا طولب المستدل بالدليل على صحة العلة قال: الدليل على صحتها التأثير، وهو وجود الحكم لوجودها، وهو البناء، وعدمه لعدمها. ألا ترى أنها قبل اقتطاعها -يعني: عن الإضافة- كانت معربة، فلما اقتطعت عن الإضافة صارت مبنية.
وأما شهادة الأصول بصحة العلة فمثل: أن يدل على بناء كيف، وأين، وأيان، ومتى؛ لتضمنها معنى الحرف، فإذا طولب المستدل بصحة هذه العلة قال: الدليل على صحة هذه العلة أن الأصول تشهد وتدل على أن كل اسم تضمن معنى الحرف؛ وجب أن يكون مبنيًّا، فإن قيل: ومن أين زعمتم أن الأصول تشهد أن كل اسم تضمن معنى الحرف وجب أن يُبنى؟ وقد أعربوا أيًّا مع تضمن معنى حرف الاستفهام كما تضمنت كيف وأخواتها؟ قيل: إنما بقوا أيًّا وحدها على إعرابها مع تضمن معنى الحرف؛ تنبيهًا على أن الأصل في الأسماء الإعراب، كما أنهم بقَّوا الفعل المضارع إذا اتصلت به نون التوكيد مع مشابهة الاسم الموجبة للإعراب على البناء، تنبيهًا على أن الأصل في الأفعال البناء، على أنهم قد قالوا: إنما أعربوها أي: أعربوا أيًّا حملًا على نظيرها ونقيضها، فنظيرها جزء، ونقيضها كل، وبنوا الفعل المضارع إذا اتصلت به نون التوكيد؛
لأن نون التوكيد أكدت فيه الفعلية، فردته إلى أصله وهو البناء على أن أيًّا جاءت شاذة في بابها، والشواذ لا تورد نقضًا على القواعد المطردة. ألا ترى أن الأصل في كل واوٍ تحركت وانفتح ما قبلها أن تُقلب ألفًا نحو: باب، ودار، وعصا، وقفا، والأصل فيها: بوب، ودور، وعصو، وقفو، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا.
ولا يجوز أن يورد -يعني: أن يدخل في هذا الباب- القود والحوكة أيضًا؛ لشذوذه في بابه، فكذلك هنا، وأورد السيوطي ما ذكره أبو البركات الأنباري في الفصل الحادي والعشرين من (لمع الأدلة) من حديث عن اختلاف العلماء في وجوب إبراز المستدل وجه المناسبة والإخالة، وإظهارها عند مطالبة الخصم بذلك، أو عدم وجوب ذلك قال الأنباري:"اعلم أن العلماء اختلفوا في ذلك" يعني: في إبراز الإخالة والمناسبة عند المطالبة، وأوضح الأنباري أن العلماء قد انقسموا إزاء ذلك قسمين: فذهب قوم إلى أنه لا يجب إبراز الإخالة، وذهب آخرون إلى وجوب إبرازها، ولكل حجته ودليله، وقد بدأ أبو البركات الأنباري بسوق حكم القائلين بعدم الوجوب، وحجتهم، فذكر أن قومًا قالوا: لا يجب أي: لا يجب على المستدل إبراز المناسبة عند مطالبة خصمه بذلك، كأن يستدل المستدل على جواز تقديم خبر كان عليها فيقول: هي -أي: كان- فعل متصرف، فجاز تقديمه -أي: تقديم الخبر- عليها قياسًا على سائر الأفعال المتصرفة أي: في جواز تقديم مفعولاتها عليها لقوتها بالتصرف.
فإذا طالبه الخصم بوجه الإخالة والمناسبة بين كان وباقي الأفعال المتصرفة حتى يسوغ هذا الحمل، فلا يجب عليه إبراز ذلك. واستُدلَّ على عدم وجوب ذلك بأن المستدل أتى بالدليل بأركانه التي أثبتها علماء أصول النحو، وهي الأصل،
والفرع، والعلة الجامعة، فلا يبقى عليه إلا الإتيان بوجه الشرط، وهو الإخالة، وليس على المستدل بيان الشرط؛ بل يجب على المعترض بيان عدم الإخالة التي هي الشرط لصحة القياس. وذلك بأن يأتي بما يمنع المناسبة بين الحكم والوصف، ولو كلفنا المستدل أن يذكر الأسئلة، لكلفناه أن يستقلَّ بالمناظرة وحده، وأن يورد الأسئلة ويجيب عنها، وذلك لا يجوز؛ لأنه إلزام بما لا يتوقف عليه القياس.
وذهب قوم آخرون إلى وجوب إبراز الإخالة والمناسبة بين الأصل والفرع، وحجتهم في ذلك أن الدليل إنما يكون دليلًا إذا ارتبط به الحكم وتعلق به، وإنما يكون مرتبطًا ومتعلقًا به إذا بان وجه الإخالة، قال أبو البركات الأنباري معقبًا على رأي القائلين بوجوب إبراز الإخالة بحجة أن عدم وجوبها يُزيل الارتباط بين الدليل والحكم:"وأجيب بوجود الارتباط -يعني: بين الدليل والحكم- فإنه قد صرح بالحكم، فصار -أي: الحكم- بمنزلة ما قامت عليه البينة بعد الدعوى، فأما المطالبة بوجه الإخالة والمناسبة فمنزلة عدالة الشهود، فلا يجب ذلك على المدعي أي: لأنه عليه إحضار الشهود لا القدح فيهم، ولكن على الخصم أن يقدح في الشهود أي: فإذا قدح الخصم في الشهود فعلى المدعي حينئذ تزكيتهم، وإظهار عدالتهم. فكذلك لا يجب على المستدل إبراز الإخالة، وإنما على المعترض أن يقدح". انتهى ما أورده الأنباري من اختلاف العلماء في وجوب إبراز المناسبة، أو عدم وجوب ذلك.
ونحن نلحظ أن الأنباري قد رجح في هذا الخلاف الرأي الذي صدر به المسألة، وهو رأي القائلين بعدم الوجوب، وختم الخلاف بالرد على حجة القائلين بالوجوب، ففندها، وأيَّد رأي مخالفيهم وما ذهب إليه هو الصواب.