الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فُعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، سنحت له، وخطرت بباله محتملة لذلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار. وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأتِ بها. قال الزجاجي: وهذا كلام مستقيم، وإنصاف من الخليل -رحمة الله عليه"، انتهى.
نشأة العلة النحوية في القرنين الأول والثاني
إن الحديث عن نشأة العلة النحوية يعني: الحديث عن نشأة قواعد اللغة العربية، فقد أجمع الرواة والمؤرخون على أن العلة النحوية رافقت نشأة النحو، ووُلدت مع ولادته. ومن ثَمَّ رأيناهم لا يفصلون بينهما، ويعدونهما منطلقًا واحدًا، وإن أكبر شاهد على هذا كتاب سيبويه، وهو أول كتاب في النحو وصل إلينا، فجميع ما أُلِّف قبله في هذا الفن لم يلق رعاية، ولم يصادف اهتمامًا فضاع واندثر قبل أن يصل إلينا منه شيء.
وقد شغل ذلك الكتاب العلماء قديمًا وحديثًا، فأقبلوا عليه مفتونين به يوضحون غرائبه، ويحلون مشكلاته، ويدرسون مسائله، ويشرحون شواهده، ويضعونه موضع التقدير والإجلال؛ حتى كان المبرد يقول لمن أراد أن يقرأه عليه:"هل ركبت البحر؟ "، تعظيمًا له وتقديرًا لما حواه بين دفتيه من جمع ما تفرق من أقوال المتقدمين من علماء القرن الثاني الهجري، الذين اعتمدوا في بناء آرائهم على مشافهة العرب الخلص في البوادي، كأبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة تسع وستين
من الهجرة، والذي ينسب إليه وضع بعض الأبواب الأساسية في علم النحو، والتكلم في مسائل التعليل والقياس، ويقول عنه محمد بن سلام الجمحي في (طبقات فحول الشعراء) في الصفحة الثانية عشرة:"كان أول من أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي، وإنما قال ذلك حين اضطرب لسان العرب، وغلبت السليقة، وكان سَرَاة الناس يلحنون؛ فوضع باب الفاعل، والمفعول، والمضاف، وحروف الجر، والرفع، والنصب، والجزم". انتهى.
وكالخليل بن أحمد الفراهيدي وهو أشد شيوخ سيبويه صلة به، ومحبة له، وأكثرهم أثرًا فيه، وقال عنه ابن جني في (الخصائص):"فانظر إلى قوة تصور الخليل إلى أن هجم به الظن على اليقين، فهو المعنيُّ بقوله: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع"، وقال عنه أبو بكر الزبيدي في (طبقات النحويين):"وهو الذي بسط النحو، ومد أطنابه، وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحِجاج فيه؛ حتى بلغ أقصى حدوده، وانتهى إلى أبعد غاياته". انتهى. وقال السيرافي في (أخبار النحويين البصريين) عن الخليل: "كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه". انتهى. والذي يعنينا هنا أن نشير إلى أمرين:
أولهما: أن العلة النحوية كانت فطرية في نفس العربي، شأنها في ذلك شأن لغته التي كان يتكلم بها بالسليقة العربية من غير تعمُّل أو تكلف، ولا أدلَّ على ذلك من أن أعرابيا كان إذا سُئل عن العلة أجاب، يقول ابن جني:"وأما ما روي لنا فكثير، منه ما حكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلًا من اليمن يقول: فلان لغوب أي: أحمق جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له -أي: قال له أبو عمرو: أتقول: جاءته كتابي، قال: نعم أليس بصحيفة".
قال ابن جني معلقًا: "أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته، وقد نظروا، وتدربوا، وقاسوا، وتصرفوا أن يسمعوا أعرابيًّا جافيًا غفلًا يعلل هذا الموضع بهذه العلة، ويحتج لتأنيث المذكر بما ذكره -يعني: بالحمل على المعنى- فلا يهتاجوا هم لمثله، ولا يسلكوا فيه طريقه، فيقولوا: فعلوا كذا لكذا، وصنعوا كذا لكذا، وقد شرع لهم العربي ذلك، ووقفهم على سمته وأَمّه". انتهى. يعني ابن جني أن العلة النحوية قد نشأت فطرية عند العرب الأقحاح، وأن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبه هؤلاء النحويون المتقدمون إليها، وما حملوها عليه؛ نتيجة لمشافهتهم للعرب ووقوفهم على طبائعهم وأوضاعهم.
والأمر الآخر الذي نشير إليه ونؤكد عليه: ما سبق أن ذكرناه من أن التعليل النحوي قد نشأ مرافقًا ومصاحبًا لنشأة قواعد العربية، كما أجمع عليه صفوة العلماء الأجلاء. وبناء على ذلك نرى أن بواكير التعليل قد نشأت مع وضع الأسس الأساسية للنحو العربي، أعني: مِن أول وضع الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- هذه الأسس قُبيل مقتله -رحمه الله تعالى- في السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، أو من أول وضع أبي الأسود الدؤلي لبعض الأبواب النحوية، بإشارة من الإمام علي رضي الله عنه، وكرم الله وجهه.
وعلى أية حال فلسنا هنا في معرض الحديث عن وضع علم النحو، أو عمن وضع علم النحو، لكنا نرى أن التعليل النحوي نشأ قرين وضع القواعد النحوية، أو قرين الاهتمام بالإعراب ومحاربة اللحن، ولكنه كان -كما قيل- كأي علم آخر يبدأ عفويًّا فطريًّا مختلطًا بغيره إلى أن تثبت جذوره في الأرض، ويستقل عن غيره، ويصبح علمًا قائمًا بذاته، وإلا كيف كان أبو الأسود أول من ضبط المصحف ووضع العربية، كما قال ابن حجر في (الإصابة)، وعلى أي
أساس كان هذا الضبط، اللهم إلا إذا كان على الوقوف على مواضع الكلمات، ومواقعها، ووظائفها، ومفاهيمها على قدر ما تيسر له. وكيف أرشد أبو الأسود ابنته إلى أنها إذا أرادت التعجب من حسن السماء أن تقول: ما أحسن السماءَ، وتفتح فاها، وكيف كان كما قيل قد وضع أبواب العطف، والنعت، والتعجب، والاستفهام وغيرها.
إن ذلك كله وهو قليل من كثير يشهد بوجود العلة النحوية مع هذه القواعد، غير أنها كانت كامنة مستترة في العقول، وإنما تظهر في وقت الحاجة إليها، أو السؤال عنها، كما علمنا مما حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء وأعرابي اليمن، ويمضي الزمن وتمضي معه مدرسة أبي الأسود الدؤلي، ومعه تلاميذه العظام من أمثال: نصر بن عاصم الليثي، وعنبسة الفيل المهري، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر العدواني من غير أن يحفظ لنا الزمان شيئًا من تراث هؤلاء الأعلام الأكابر، إلا بعض الشواهد الشعرية، أو القراءات القرآنية.
يقول الدكتور شوقي ضيف -رحمه الله تعالى-: "وكل من ذكرنا من تلاميذ أبي الأسود كانوا من قراء الذكر الحكيم، وكان يُؤخذ عنهم النقطان جميعًا، نقط الإعراب، ونقط الإعجام، وكان ذلك عملًا خطيرًا حقًّا، فقد أحاطوا لفظ القرآن الكريم بسياج يمنع اللحن فيه؛ مما جعل بعض القدماء يظن أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافًا منها، وهم إنما رسموا في دقة نقط الإعراب لا قواعده، كما رسموا نقط الحروف المعجمة من مثل: الباء والتاء والثاء والنون". انتهى.
بيد أن أول نحوي نجد عنده طلائع البحث الدقيق في مجال التعليل النحوي هو عبد الله بن إسحاق الحضرمي، المتوفى سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة، فهو
النحوي البصري الذي يُمثل نقطة تحول في تاريخ الدراسات النحوية، وفيه يقول ابن سلام:"كان أول من بعج النحو -أي: فتقه-، وفصل القول فيه، ومد القياس، وشرح العلل". انتهى. وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم، ففرع النحو وقاسه، وتكلم في الهمز حتى عُمل كتاب مما أملاه، وكان رئيس الناس وواحدهم، وتلا ابن إسحاق أهم تلاميذه وهو عيسى بن عمر الثقفي البصري، المتوفى سنة تسع وأربعين ومائة من الهجرة، وقد مضى على درب أستاذه مولعًا بالقياس والتعليل، لكنه كان إلى جانب هذا مولعًا كذلك بالغريب والتشادق، والتقعر في كلامه، وهو صاحب كتابي (الجامع) و (الإكمال)، وقد نوَّه عن فضلهما الخليل بقوله:
ذهب النحو جميعًا كله
…
غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع
…
فهما للناس شمس وقمر
وهما بابان صارا حكمة
…
وأراحا من قياس ونظر
وقد اندثرا ولم يصلنا منهما شيء، وذكر صاحب (المدارس النحوية) أن عيسى بن عمر كان مثل ابن أبي إسحاق يطعن على العرب الفصحاء إذا خالفوا القياس، وهو الذي مكَّن للنحو وقواعده التي اعتمد عليها تلميذه الخليل، ومن تلاه من البصريين؛ سواء في محاضراته وإملاءاته، أو في مصنفاته، وقد توفي تاركًا للخليل جهوده النحوية؛ كي يتم صرح النحو، ويكمل تشييده.
وننتقل من عيسى بن عمر إلى تلميذه الخليل بن أحمد، الذي وصف الدكتور مازن المبارك صاحب (النحو العربي)، وصف عصره بأنه ذروة البناء النحوي بما اتصف به من شمول وإحاطة وبراعة في استعمال القياس، وكان أعظم النحويين حظًّا، وأبعدهم أثرًا بما ترك من أثر رائع في كتاب سيبويه، وقد عزا الزبيدي عدم
تأليفه في النحو إلى الترفع بنفسه وبقدره، بعد أن سُبق إلى التأليف فيه، فكره أن يكون لمن تقدمه تاليًا، وعلى نظر من سبقه محتذيًا، واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره، ولطائف حكمته؛ فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه (الكتاب) الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده.
أما واسطة العقد ودُرة تاج العربية وإمام النحو والنحاة، فهو عمرو بن عثمان بن قنبر بفتح القاف أو قُنبر بضمها وسكون النون مع فتح الباء، وضبطه الزبيدي في (تاج العروس) مادة قنبر بضم ففتح فسكون، وكنيته أبو بِشر، وأبو الحسن، وأبو عثمان، ولقبه سيبويه، وهي كلمة فارسية تتكون من سيب بمعنى التفاح، وويه بمعنى الرائحة، فمعنى التركيب كما قيل: رائحة التفاح. ويعللون هذا التلقيب بأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان، وكان غاية في الجمال، وقيل؛ لأن من يلقاه كان لا يزال يشم منه رائحة التفاح.
وقد وصل كتاب سيبويه إلى درجة من النضج لم يصل إليها كتاب في النحو قبله، ولن يبلغها كتاب بعده، حتى قال أبو عثمان المازني:"من أراد أن يعمل كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحيِ مما أقدم عليه"، ولم يكتف سيبويه في (الكتاب) بجمع آراء الخليل وغيره من النحاة الأولين الذين شافهوا العرب الخلص فحسب، بل كان يناقش هذه الآراء بثاقب فكره وصائب رأيه، وقوة حجته، وغزارة مادته التي جمع الكثير منها عن طريق مشافهته العرب في البوادي، وقد حفل كتاب سيبويه بالمسموع من العرب، كما تكثر التعليلات فيه كثرة لافتة للنظر، فلا يكاد يترك حكمًا من غير تعليل، وهو لا يعلل فقط لما كثر في ألسنتهم، واستنبطت على أساسه القواعد؛ بل يعلل أيضًا لما يخرج على تلك
القواعد، كما قال (صاحب المدارس النحوية)، وكأنما لا يوجد أسلوب، ولا توجد قاعدة دون علة.
ونختم هذا العنصر بالحديث عن علم كبير من أعلام المدرسة الكوفية عاش في القرن الثاني الهجري، وكان له اهتمام بالغ بالتعليل النحوي باعتباره أهم أركان القياس، وهو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، المولود بالكوفة في سنة تسع عشرة ومائة من الهجرة، وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة من الهجرة، وقد قالوا عنه: إنه يُعدُّ إمام مدرسة الكوفة، فهو الذي وضع رسومها، ووطأ منهجها، وهو أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم وإليه يرجعون.
يقول عنه الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (مدرسة الكوفة): "وكان من تأثير العقل البصري فيه أن نزع منزع القياسيين في اعتماده واعتداده على القياس، ومغالاته فيه، حتى نسب إليه أنه قال:
إنما النحو قياس يتبع
…
وبه في كل أمر ينتفع
وكان من تأثير العقل الكوفي فيه أن احتذى خطوات الفراء في العناية بالروايات اللغوية المنقولة بسند صحيح، والقياس عليها في الوقت الذي كان البصريون يعدونها، أو يعدون كثيرًا منها شواذ؛ لأنها خرجت على أصولهم التي تُعنى -كما يزعمون- بالأغلب، حتى كان القائل البصري يقول: إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن، وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات، فيجعل ذلك أصلًا ويقيس عليه حتى أفسد النحو.
وكان القائل الآخر يقول: قدم علينا الكسائي بالبصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحوًا كثيرًا، ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمية، فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن؛ فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله"،
ويعلق الدكتور مهدي المخزومي على ما قال البصريون، مدافعًا عن الكسائي بقوله:"فاعتماد الكسائي على قوم وثق بهم وروايته عنهم، وهو ما لم يستسغه البصريون انعكس في نفوس البصريين في صورة إفساد للنحو، وليس هو إفسادًا له، ولكنه في الواقع خروج على ما ألفه البصريون". انتهى.
ويقول عن قياسه في موضع آخر: "ولكن قياسه يختلف عن قياس البصريين من حيث التطبيق، فبينما نجد البصريين يكونون أصلًا من الأصول بعد استقراء يقتنعون بصحة نتائجه، ويقيسون المسائل الجزئية عليه إذا توافر فيها علة ذلك الأصل؛ إذ نجد الكسائي يكتفي بالشاهد الواحد بسمعه من أعرابي يثق بفصاحته ليقيس عليه، وإن كان هذا الشاهد المسموع مما لا نظير له، أو مما يعدُّه البصريون شاذًّا لا يُعتدُّ به، وربما ضبطه البصريون ربما غمطوه ولحنوه؛ لأن مصادر سماعهم التي رسموها وقيدوا بها الدارسين لم يلتزم بها الكسائي، بل وسع دائرة مصادره حتى ألحق بها أعراب الحطمية، وأعراب سواد بغداد، وهم عند البصريين من غير أهل الفصاحة، وممن لا يجوز الأخذ عنهم. فاعتداد الكسائي وأخذه عنهم يُعد في نظرهم إفسادًا للغة وقواعدها".
ثم يقول: "وهذا الإفساد الذي اتهم البصريون به الكسائي إنما هو لإفساد أصولهم ومقرراتهم، أما كونه يمس النحو، فيحتاج إلى برهان، لا أظنهم استطاعوا أن يأتوا به" انتهى، ويسير الدكتور شوقي ضيف رحمه الله على درب الدكتور المخزومي فيذكر مدافعًا عن وجهة نظر الكسائي أنه من المؤكد أن الكسائي تلقن عن الخليل وسيبويه وعيسى بن عمر معرفة العلل والأقيسة، بل كان يؤمن بأن النحو إنما هو ضروب من القياس، وما يطوى فيه من علل وحجج تشده وتقيم أوده، وحقًّا إنه توسع في القياس فلم يقف به عند المستعمل الشائع على الألسنة، ولا عند أعراب البدو؛ بل مده ليشمل ما ينطق به العرب