الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع عشر
(تابع صور التعارض والترجيح)
الحكم إذا كان أحد القولين المتعارضين مرسلًا والآخر معللًا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
إن المجتهد الواحد قد يكون له في المسألة الواحدة قولان؛ لاختلاف نظره فيها، وتغير اجتهاده إزاءها، ولقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأبيها وأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والإخوة للأب والأم في الثلث، فقال له رجل:"إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال: تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم". وقد يكون للعالم الواحد قولان متعارضان في المسألة الواحدة في كتاب واحد من كتبه، أو في كتابين، وحينئذٍ يقف القارئ حائرًا، فلا يدري أيَّ القولين يأخذ وأي القولين يدع. وقد أفرد ابن جني -رحمه الله تعالى- بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين، وقد وضع في هذا الباب بعض القواعد التي يُمكن للقارئ أن يتعرف في ضوئها على ما ينبغي عليه الأخذ به وما يجب عليه أن يتركه، وما هو مخير بين أخذه وتركه، وذكر أن ذلك على أوجه:
أحدها: إذا كان أحد القولين مرسلًا أي: غير مقيد بالدليل، والآخر معللًا أي: مقيدًا بالدليل مصحوبًا بالعلة، أُخذ بالمعلل لقيام حجته، وترك المرسل لضعفه، وعدم قيام حجته. ووجب مع ذلك أن يتأول المرسل يعني: أن يصرف عن ظاهر معناه إلى ما يطابق معنى المعلل؛ لإزالة التضاد بين القولين.
ومن الأمثلة التي أوردها ابن جني على ذلك قول صاحب (الكتاب) أي: سيبويه في غير موضع في التاء من بنت وأخت: "إنها للتأنيث"، أي: ولم يذكر علة كونها للتأنيث، وقال أيضًا مع ذلك في باب ما ينصرف وما لا ينصرف:"إنها ليست للتأنيث"، واعتل لهذا القول أي: لأنها ليست للتأنيث بأن ما قبلها
ساكن، وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنًا، إلا أن يكون ألفًا كقناة وفتاة وحصاة، والباقي كله مفتوح كرطبة وعنبة وعلّامة ونسابة، قال -يعني سيبويه:"ولو سميت رجلًا ببنت وأخت لصرفته، وهذا واضح، فإذا ثبت هذا القول الثاني بما ذكرناه -وما زلنا مع عبارة ابن جني- وكانت التاء فيه إنما هي عنده على ما قاله بمنزلة تاء عفريت وملكوت؛ وجب أن يُحمل قوله فيها: إنها للتأنيث على المجاز، وأن يُتأول ولا يحمل القولان على التضاد" انتهى.
وخلاصة ما ذكر ابن جني في النص السابق أن لسيبويه في (الكتاب) نصين متعارضين في نوع التاء في كلمتي بنت وأخت، ففي غير موضع ذكر أن التاء فيهما للتأنيث، وستعرف أنه ذكر ذلك في ثلاثة أبواب في باب الإضافة أي: النسب إلى بنات الحرفين، وباب يُجمع فيه الاسم إن كان لمذكر أو مؤنث بالتاء، كما يُجمع ما كان آخره هاء التأنيث أي: باب جمع المؤنث السالم، وباب علل ما تجعله زائدًا من حروف الزوائد، وما تجعله من نفس الحرف، ولم يعلل كونها للتأنيث، وذكر مع ذلك أنها للإلحاق في باب ما ينصرف في المذكر البتة مما ليس في آخره حرف التأنيث، وفي باب الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل. وبالرجوع إلى كتاب سيبويه نجد أن سيبويه قد تناول الحديث عن كلمتي بنت وأخت في خمسة مواضع من (الكتاب) ذكر في ثلاثة منها أن التاء فيهما للتأنيث، وفي اثنين منها أنها للإلحاق:
الموضع الأول: في باب ما لا يجوز فيه من بنات الحرفين إلا الرد، وهو أحد أبواب الإضافة أي: النسب، قال: "وإذا أضفت أي: نسبت إلى أخت قلت: أخوي، هكذا ينبغي له أن يكون على القياس، وذا القياس قول الخليل من قِبل أنك لما جمعت بالتاء حذفت تاء التأنيث كما تحذف الهاء، ورددت إلى الأصل؛
فالإضافة أي: النسب تحذفه كما تحذف الهاء، وهي أَرَدُّ له إلى الأصل"، ثم قال في الباب الذي يليه: "وأما بنتٌ، فإنك تقول: بنوي من قِبل أن هذه التاء التي هي للتأنيث لا تثبت في الإضافة كما لا تثبت في الجمع بالتاء، وذلك لأنهم شبهوها بهاء التأنيث، فلما حذفوا، وكانت زيادة في الاسم كتاء سَنْبَتَة، وتاء عفريت، ولم تكن مضمومة إلى الاسم كالهاء؛ يدلك على ذلك سكون ما قبلها جعلناها بمنزلة ابن" انتهى.
وظاهر ما قال في هذين النصين بالنسبة لكلمة أخت أن التاء فيها للتأنيث، وأن النسب إليها من قبيل النسب إلى ما ورد من الأسماء على حرفين حذف ثالثهما؛ لأن أقل أبنية الاسم المجرد ثلاثة أحرف، ولذلك عند جمعها بالألف والتاء والنسب إليها كان القياس أن يردَّ إليها ما حُذف منها وهو اللام؛ لأن الجمع والنسب مما يُردُّ فيهما الأسماء إلى أصولها، بل إن النسب أقوى من الجمع بالألف والتاء من ردِّ اللام المحذوفة إلى أصلها، فكما تقول في الجمع: أخوات برد اللام المحذوفة وهي الواو، تقول في النسب: أخوي، وذلك هو القياس عند الخليل وسيبويه. وأما بالنسبة لكلمة بنت فقد جعل حكمها في النسب كحكم نظيرتها أخت، ذاكرًا مرة أن التاء فيها هي التاء التي للتأنيث، ومرة أخرى أنهم شبهوها بهاء التأنيث.
والموضع الثاني: قال: "هذا باب يُجمع فيه الاسم إن كان لمذكر أو مؤنث بالتاء، كما يُجمع ما كان آخره هاء التأنيث، وتلك الأسماء التي آخرها تاء التأنيث، فمن ذلك بنت إذا كان اسمًا لرجل، تقول: بنات من قِبَل أنها تاء التأنيث لا تثبت مع تاء الجمع، كما لا تثبت الهاء، فمن ثم صيرت مثلها، وكذلك هَنْت وأخت، لا تجاوز هذا فيها" انتهى.
والموضع الثالث: في باب علل ما تجعله زائدًا من حروف الزوائد، وما تجعله من نفس الحرف، قال:"وكذلك تاء أخت وبنت، وثنتين، وكلتا؛ لأنهن لحقن للتأنيث، وبُنِينَ بناء ما لا زيادة فيه من الثلاثة، كما بنيت سنبتة بناء جندلة" انتهى. وأما الموضعان اللذان ذكر سيبويه فيهما أن تاءهما للإلحاق فهما:
الموضع الأول: في باب ما ينصرف في المذكر البتة مما ليس في آخره حرف التأنيث، قال:"وإن سميت رجلًا ببنت وأخت صرفته؛ لأنك بنيت الاسم على هذه التاء، وألحقتها ببناء الثلاثة، كما ألحقوا سنبتة بالأربعة، ولو كانت كالهاء لما أسكنوا الحرف الذي قبلها؛ فإنما هذه التاء فيها كتاء عفريت، ولو كانت كألف التأنيث لم ينصرف في النكرة، وليست كالهاء لما ذكرت لك، وإنما هذه زيادة في الاسم بني عليها وانصرف في المعرفة، ولو أن الهاء التي في دجاجة كهذه التاء انصرف في المعرفة" انتهى.
والموضع الثاني: في باب الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل، قال:"فعلامة التأنيث إذا وصلته التاء، وإذا وقفت ألحقت الهاء، أرادوا أن يفرقوا بين هذه التاء والتاء التي هي من نفس الحرف نحو: تاء القَت، وما هو بمنزلة ما هو من نفس الحرف نحو: تاء سنبتة، وتاء عفريت؛ لأنهم أرادوا أن يلحقوهما ببناء قَحْطَبة، وقنديل. وكذلك التاء في بنت وأخت لأن الاسمين ألحقا بالتاء ببناء عُمْر وعِدْل، وفرقوا بينها وبين تاء المنطلقات؛ لأنها كأنها منفصلة من الأول، كما أن موت منفصل من حضر في حضرموت" انتهى.
وكان هذا مظهرًا من مظاهر العجب في كتاب سيبويه، وأوقع كثيرًا من النحاة في اضطراب، وهم يحاولون الوقوف على حقيقة التاء في الكلمتين المذكورتين في ضوء ما ذكر إمام النحاة سيبويه، حتى قال شيخنا المرحوم الشيخ محمد عبد
الخالق عضيمة -طيب الله ثراه- في كتابه القيم (فهارس كتاب سيبويه): "عنيت ببحث موضوع الإلحاق منذ عشرين سنة فكتبت عنه بحثًا ضافيًا شغل أربعين صفحة، أرسيت قواعده، وأوضحت أماراته.
ثم بعد هذا رأيت أبا الفتح أي: ابن جني في (المنصف) وابن سيده في (المخصص)، وابن يعيش وغيرهم يقولون: إن تاء بنت للإلحاق بجذع، وتاء أخت للإلحاق بقُفل، هالني الأمر؛ إذ لم أر إلحاق ثلاثي بثلاثي في غير هذا، ثم إن التاء في بنت وأخت تدل على التأنيث، وشأن حرف الإلحاق ألا يدل على معنى مطرد، قرأت كثيرًا في كتاب سيبويه فلم أهتدِ إلى شيء، ثم بعد سنوات أوقفتني المصادفة وحدها على حديث سيبويه عن ذلك في باب الوقف، من كان يخطر بباله أو يقع في ظنه أن يعرض سيبويه لمسألة من الإلحاق في الوقف، وما صلة باب الوقف بالإلحاق، شتان ما بينهما" انتهى كلام شيخنا -عليه رحمة الله.
ولذلك من العلماء من رأى أن التاء فيهما بدل من اللام المحذوفة، وأنها دالة على التأنيث؛ أخذًا بظاهر ما ورد في (الكتاب)، ومن هؤلاء المالقي المتوفى في السنة الثانية بعد السبعمائة من الهجرة، قال في كتابه (رصف المباني في شرح حروف المعاني):"وأما أخت وبنت وهنت، فذهب الأكثرون إلى أنها -أي: التاء- عوض من لام الكلمة، لأنها واو أو ياء في الأصل فأصلها أَخَوَة، وهَنَوَة، وبنوة، وأعلوها بالحذف كما أعلوا مذكرها، وذهب بعضهم إلى أنها علامة تأنيث، والصحيح أنها عوض من لام الكلمة التي هي واو في الأصل، كما تقدم، ولكن مع ذلك تدل على التأنيث بلفظها، ويخرج من مذهب سيبويه القولان، وظاهر مذهبه أنها بدل، ودالة على التأنيث" انتهى.
وذهب أكثر العلماء ومنهم ابن جني إلى أن مذهب سيبويه هو القول الثاني أي: أن التاء فيهما للإلحاق، ذكر ذلك في (الخصائص)، وفي (سر صناعة الإعراب)، وفي (المنصف)، كما ذكر أن أصل أخت أَخَوَة، وأصل بنت بنوة، وأن وزنهما في الأصل فَعَل، فنُقلوا إلى فُعْل وفِعْل، وألحقوهما بالتاء المبدلة من لامهما بوزن قفل، وحِلْس، فقالوا: أخت وبنت، وقال في (سر صناعة الإعراب):"وليست التاء فيهما بعلامة تأنيث، كما يظن من لا خبرة له بهذا الشأن؛ لسكون ما قبلها هذا مذهب سيبويه، وهو الصحيح وقد نص عليه في باب ما لا ينصرف فقال: لو سميت بهما رجلًا لصرفتهما معرفة، ولو كانت للتأنيث لما انصرف الاسم" انتهى.
وأوضح ابن جني أن وجه الجمع بين القولين الواردين في كتاب سيبويه أن هذه التاء، وإن لم تكن عنده للتأنيث فإنها لمَّا لم توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث؛ استجاز أن يقول فيها:"إنها للتأنيث"؛ على أن سيبويه قد تسمح في بعض ألفاظه في (الكتاب) فقال: "هما علامتا تأنيث" وإنما ذلك تجوز منه في اللفظ؛ لأنه أرسله غُفْلًا، وقد قيده وعلله في باب ما لا ينصرف، والأخذ بقوله المعلل أولى من الأخذ بقوله الغفل المرسل، ووجه تجوزه أنه لما كانت التاء لا تُبدل من الواو فيهما إلا مع المؤنث صارتا كأنهما علامتا تأنيث. ونذكر تفسيرًا لبعض الكلمات اللغوية التي وردت في نصوص (الكتاب) السابقة، فنقول: القَتُّ: الكذب، وقحطبة: عَلَم، والسنبتة: سوء الخلق، وسرعة الغضب، والمدة من الزمن، والهنت: كناية عن الشيء يُستفحش ذكره، والجندلة: واحدة الجندل، وهو الصخر العظيم، والعِدْل: من معانيه المثل والنظير.